أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - بغداد، حين تتكلم القصيدة بدمها














المزيد.....

بغداد، حين تتكلم القصيدة بدمها


سعاد الراعي

الحوار المتمدن-العدد: 8388 - 2025 / 6 / 29 - 20:13
المحور: الادب والفن
    


قراءة في قصيدة " بغداد" للشاعر طارق الحلفي

حين قرأت مجموعة القصائد التي تضمنها ديوان "امرأة من ماء البحر" للشاعر طارق الحلفي، الصادر عام 2007، وجدت نفسي أمام تجربة شعرية مترعة بحس مرهف يتدفق بمشاعر الحب والوفاء، لا للأشخاص فحسب، بل لكل ما يحلّق حوله في البر والبحر والفضاء. إنه شعر يأخذك من حيث لا تدري، يغمرك في عوالمه الرحبة، ويسحبك عبر هموم الوطن والغربة، مستندًا إلى تجربة ذاتية تجسّدت في تعدد الأمكنة والأزمنة، مما أضفى على القصائد بعدًا وجوديًّا يعمّقها ويثري معانيها، فيغدو القارئ شريكًا في هذا النسيج الشعري، وكأنه يرى نفسه مصورةً في لوحات تنبض بالحياة والانتماء والتجذر.
لست هنا بصدد استعراض الديوان بكامله، لكن قصيدة "بغداد" استوقفتني، إذ إنها ليست مجرد نص، بل مناجاة عاشق لحبيبته الأزلية، بغداد، التي تتجذر في وجدانه حتى الرمق الأخير.
ينساب الشاعر في مطلعها بنغمة حميمة، كأنه يهمس لحبيبته بفيض من الشوق والوجد. كل مقطع فيها ينبض بروح متفردة، حيث تتداخل الذات والآخر في نسيج متماسك، محاكاةٌ متقنةٌ وتناغمٌ خالٍ من النشاز، وكأن اللغة ذاتها تتهدّج تحت وطأة هذا العشق السرمدي. إن من يقرأها لا يملك إلا أن يستفيق من سباته، يتمايل بين الطرب والألم، بين الأمل والفجيعة.
تبدأ القصيدة من التيه، من البحث عن الطمأنينة في دفء الذكريات اليومية التي تتجلى بصورة خلّابة نابضة بالحركة والجمال.
لكنها ليست ذكريات ساكنة، بل حية، تمتزج بالخيال الإبداعي الواقعي، الذي يعكس تجربة الشاعر الذاتية. وتبرز في ثنايا القصيدة مفردة "عبثًا"، التي تتكرر كتعويذة، لكنها هنا تتخذ معنًى مغايرًا لمعناها القاموسي المعتاد. فحين تقترن بـ "دون"، تتحول إلى نقيضها، إذ تصبح إصرارًا قاطعًا على استحالة الفصل بين الأحداث والأثر المترتب عليها، وكأنها قسم غير قابل للنقض:

"عبثًا يأتي الصباح
دون أن أغسل في ضوئك يا عيني عيني
دون أن ألمس فوق الشفتين
زغب الجمر وأمطار الحنين
..............
عبثًا يبسم زهر الياسمين
دون أن يولد من همسك دفء الابتهال
............
عبثًا تصحو الحقول
دون أن تمسح بالقمح خطاك
دون أن أصعد نخل الآلهة
..........
عبثًا تعصف بي ريح الذبول
دون أن أكشف ما بي
دون أن أكتب في ذاكرة البدء وفوضى الآخرة
دون أن أحرق تاريخ القصيدة"
...........

هكذا تتماهى الدلالات، تنبعث كأطياف تتقاطع وتتشابك، تعمّق بعضها بعضًا، ثم تتشظى لتذهب إلى ما هو أبعد.
فالقميص ليس مجرد قماش، بل رماد نديّ فوق الصدر،
والحناء تتسامى لتصبح روحًا من الانبهار فوق اليدين،
والحقول تمسح خطوات الحبيبة بالقمح،
والنخل رمز للآلهة،
والثلج جمر الداء،
والموجة صهيل،
والدم حجر، في تناص دلالي متشابك يعيد تشكيل العالم بعيون الشاعر.
ولعل ما يختتم به الشاعر قصيدته يلخص كل ما سبق، حين يقول:

"فامنحيني لغة الفتح رؤى واقتربي
يا بهاء الله يا مفردة من رطب"

أما المقاطع الأخيرة، فتكتنز نبوءة عميقة تتجلى كصرخة في وجه الزمن، حيث يصف الشاعر ما آل إليه العراق، رغم أن القصيدة كُتبت قبل أكثر من عقد من صدور الديوان، لكنه تنبأ بحالٍ نعيشه اليوم، فيقول:
"عبثًا نقرأ للثالث ألف دفتر اللحن الجديد
............
"قسمات الناس ذات القسمات
وضجيج الموت يضحى
ثمراً للمعطيات"
...........

هنا، لا يعود الموت حدثًا مفجعًا منفصلًا، بل يتحول إلى ضجيج رتيب، مألوفٍ حدَّ القسوة، إلى أرقام تتراكم في سجلات النسيان، إلى مأساةٍ مستمرةٍ يتجاهلها العالم بلامبالاة مريعة.
إننا أمام نصٍّ لا يُقرأ مرة واحدة، بل يحتاج إلى تأملٍ وإمعانٍ وإعادة قراءة، نصٍّ يتطلب من القارئ أن يغوص في أعماقه، أن يتنفسه، أن يتماهى معه، ليشعر بأنه ليس مجرد قصيدة، بل نبضٌ حيٌّ، يختزل وجدان أمة بأكملها.



#سعاد_الراعي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ابن العمة* سلام عادل:
- قصة بعنوان، كرامة على حافة الوجع
- قصة بعنوان، شكرًا، لأنك لم تكوني سيئة.
- عقيدة الصدمة: الاقتصاد الكارثي كآلية للهيمنة المعولمة – قراء ...
- العراق والحلقة المكتملة من عقيدة الصدمة*: قراءة نقدية في تفك ...
- : قراءة تحليلية نقدية لكتاب: عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الك ...
- القسم الخامس: قراءة تحليلية نقدية لكتاب: عقيدة الصدمة: صعود ...
- قراءة تحليلية نقدية لكتاب: عقيدة الصدمة: صعود رأس مالية الكو ...
- قراءة تحليلية تفصيلية لكتاب: عقيدة الصدمة (2، 3)
- قراءة تحليلية تفصيلية لكتاب: عقيدة الصدمة (1)
- ظلّهُ في الذاكرة
- آريس… هدية النور الذي انبثق من صمت الانتظار
- قصة بعنوان -قربان الأم... صرخة في وجه الموت -
- قصة بعنوان: إن شاء الله، يا أستاذة
- قصة بعنوان -الدرس الاخير-
- قصة / حين يعبر الضوءــ خطوات تتحدى العتمة
- هدايا من عتمة الركام
- قصة بعنوان:- هدايا من عتمة الركام -
- قصة بعنوان -حين داعبت الشمس طفولتنا -
- قصة بعنوان وساطة بطعم الرماد


المزيد.....




- رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لكل التخصصات “تجاري، زراعي، ...
- بسبب شعارات مؤيدة لفلسطين خلال مهرجان -غلاستونبري-.. الشرطة ...
- العمارة العسكرية المغربية جماليات ضاربة في التاريخ ومهدها مد ...
- الجيوبولتكس: من نظريات -قلب الأرض- إلى مبادرات -الحزام والطر ...
- فيديو.. الفنانة الشهيرة بيونسيه تتعرض لموقف مرعب في الهواء
- بالأسم ورقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور الأول ...
- “استعلم عبر بوابة التعليم الفني” نتيجة الدبلومات الفنية برقم ...
- “صناعي – تجاري – زراعي – فندقي” رابط نتيجة الدبلومات الفنية ...
- إبراهيم البيومي غانم: تجديد الفكر لتشريح أزمة التبعية الثقاف ...
- بوابة التعليم الفني.. موعد إعلان نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ...


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - بغداد، حين تتكلم القصيدة بدمها