|
قصة بعنوان: إن شاء الله، يا أستاذة
سعاد الراعي
الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 20:09
المحور:
الادب والفن
كانت أوقاتها في المعهد تنتظم بانتظام الدقائق على عقارب الزمن؛ تحضر إلى محاضراتها حين تدق ساعتها وتغادر فور انتهائها، إلا ما استثنته الاجتماعات الإدارية الدورية والأنشطة التعليمية التي تفرض حضورًا كاملاً. وفي أول أيام العام الدراسي، بعد عطلة صيفية امتدت كفسحة تأمل بين ضفتي الروح، قررت أن تسبق محاضرتها بساعة كاملة؛ علّها تلملم أنفاسها قبل أن تواجه وجوه الطلبة الجدد. توجهت نحو غرفة الإدارة لتوثيق حضورها حسب مقتضى النظام، لكن العميد استوقفها بلطف وأشار إليها أن تتبعه إلى مكتبه، مبديًا رغبته في مناقشة أمر يتعلق بأحد الطلبة. رغم استغرابها من هذا الاستدعاء المبكر، فإنها لم تبدِ اعتراضًا؛ فما يزال اليوم وليدًا، والطلاب وجوه جديدة لم تألفهم بعد. اكتفت بالقول: – إن شاء الله خير. ابتسم العميد، وكأن في ابتسامته عزاءً خفياً، وقال: – نعم، كل الخير بإذن الله، وكما عهدناك دومًا: الصعب أمامك يسير، والمعقد بين يديك يلين. ثم جلس مستندًا إلى ظهر كرسيه، وأخبرها ببساطته المعهودة – أحد الطلاب يرفض حضور محاضرتك... لأنه يرى أنكِ غير محجبة. رفعت حاجبيها بدهشة، وقالت بصوت حائر: – ولكن... المعهد يضم العديد من الزميلات والعاملات غير المحجبات، وأضافت مبتسمة: بل إن نائبة العميد نفسها، وأشارت اليه، ليست محجبة أجابها بهدوء: – أعلم ذلك، وقد أوضحت له أننا لا نفرض زيًّا موحدًا، ولا نُخضع القوانين لأهواء الأفراد. ومع هذا، أصرّ على موقفه، وذكر اسمك تحديدًا. ربما لأنه لم يسبق له حضور محاضرة لك. تنهّدت عميقًا، كأنها تحاول أن تلفظ معها كل ذلك العبث الذي يتسرّب إلى جدران المعرفة. تمتمت بمرارة: – الحجاب... الحجاب... كل يوم أسمع صراخ شيوخ ومفتين، خطباء المسجد القريب من بيتي. لا يكفون عن الشتائم والوعيد ضد كل امرأة لم تخضع لمقاييس دينهم الخاص، يحرّضون الأزواج والشباب البسطاء ضد النساء، بأقسى العبارات وأقذرها سوقية، حتى يُخيّل للسامع أن العالم لا يتسع إلا لكلمتين: يا أبيض، يا أسود... يا حلال، يا حرام! وان المرأة هي اس المشاكل في عالمهم. سكتت لحظة، قبل أن تعود إلى رباطة جأشها قائلة: – أشكرك على إحاطتي بالأمر. أرغب أن أجتمع بالطالب بعد انتهاء محاضرتي، في المكتب... لعلني أفهم مشكلته عن قرب. خرجت من مكتب العميد، وحولها ظلال الأسئلة تتهامس؛ هل كان عليها أن تخوض معركة أخرى في سبيل حرية الفكر، أم يكفيها أنها واقفة هناك، بكرامتها، تقرع أبواب الوعي في زمن غلّفت فيه الأرواح بالخوف والجهل؟ بعد انتهاء المحاضرة، قصد الطالب مكتب الأستاذة، فتلقته بابتسامة دافئة رغم أنه لم يكلّف نفسه عناء إلقاء التحية. دعته إلى الجلوس... وسألته، بهدوئها الذي اعتادته روحها: ــ بلغني أنك تمتنع عن حضور محاضراتي بدعوى أنني غير محجبة، أهذا صحيح؟ أجاب الطالب، مختصرًا كلماته: ــ نعم. تأملته لحظة، ثم تابعت بنبرة هادئة ولكنها تحمل عمق التساؤل: ــ ولكنك تجلس في قاعة واحدة مع زميلات لسن جميعهن محجبات، أليس كذلك؟ أجابها بنفس الجمود: ــ نعم، غير أنني سمعت أنك تتحدثين عن الحرية الفكرية والعقل، وأنك علمانية ملحدة. ابتسمت ابتسامة خفيفة، لا سخرية فيها ولا مرارة، بل حكمة امرأة أدركت تناقضات الحياة، وقالت: ــ إذن ليست المسألة مسألة حجاب فحسب، بل تتعلق بالحرية والعقل، او ربما هي موقف شخصي؟ ... يبدو أننا أمام عدة محاور للمشكلة، يتوجب علينا التوقف عند كل منها بتؤدة. ما رأيك؟ تردد الطالب، وارتبك؛ كان في عينيه شيء من الحيرة، وفي أطرافه ارتباك لم يحسن إخفاءه. وقبل أن يجيبها، التفتت الأستاذة وقد لمحَت الفراش يمر قرب باب القاعة، فنادته بنبرة دافئة: ــ يا عم صالح، لو تكرمت... اثنين شاي باللبن، بارك الله فيك. ثم التفتت إليه وقالت مبتسمة: ــ يبدو أن حوارنا سيطول، فلنتهيأ له. استأنفت بلطف: ــ بالمناسبة، لم أتشرف بمعرفة اسمك. ردّ الشاب، محاولًا ترتيب أنفاسه: ــ عبد القادر اليافعي. ابتسمت بتودد صادق وقالت: ــ تشرفنا يا عبد القادر... فلنبدأ إذن بالحجاب، ما رأيك؟ هزّ رأسه موافقًا، فاسترسلت تسأله: ــ هل أنت ضد كل النساء غير المحجبات؟ أجاب بتأنٍ: ــ لا، ليس جميعهن، ففيهن المؤمنات. رفعت حاجبيها قليلًا، مستفهمة: ــ حسنًا، وكيف تميز إيمانهن؟ أجاب، مترددًا، وكأنما يستدعي صورة ذهنية رسمها في أعماقه: ــ المؤمنة خجولة، هادئة، لا ترفع بصرها... وغالبًا ما تكون محجبة. ابتسمت الأستاذة بحكمة العارف، وقالت بنبرة عميقة تحمل قدراً من العتاب الهادئ: ــ لكن، يا عبد القادر، ما ذكرته كله لا يعدو كونه سلوكًا اجتماعيًا خالصًا، حتى الحجاب ذاته، سلوك اجتماعي مقصده الحشمة والحياء... سلوكٌ يتشكل في قلب التربية والموروث الاجتماعي للفرد، وليس عبادة مستقلة بذاتها، مَنْ ارادت ارتدائه فلها، ومَنْ لا، فلا يحق لنا ان نرميها في النار ونصفها بأقسى العبارات. ساد بينهما صمت قصير، كأنما المكان يحتبس أنفاسه، فيما كانت الأفكار تتقاطر في ذهن عبد القادر، تطرق بحدة أسوار معتقداته. قال بصوت يتهدّج بين اليقين والتحدي: ــ أليس الحجاب فرضًا قطعيًا؟ أولم يرد في القرآن: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)؟ رمقته بنظرة يختلط فيها الصبر بالحزم، وقالت: ــ نعم، وردت الآية. لكن ألا تعلم أن الجيوب هي فتحة الصدر؟ وأن" ليضربن" تعني تعديل هيئة اللباس بما يصون، لا أن تُفرض طبقات من القماش دون وعي أو بصيرة؟ الدين ليس قيدًا يُصاغ على هوى من يشاء، ولا قالبًا جامدًا تتوارثه الألسن دون أن يمر بالقلب والعقل. ابتسم ساخرًا: ــ أهو الدين كما ترغبين؟ وفق الأهواء؟ ردّت بصوت متزن يحمل دفء الإيمان وصرامة الفكرة: ــ لا، بل هو دين يُؤخذ بعقلٍ نيّر، لا بعاطفة مضللة. أولم يقل سبحانه "اقرأ"؟ لم يقل: اتبع وقلّد، بل اقرأ، افهم، تدبّر... الإيمان دعوة للعقل قبل أن يكون تقليدًا أعمى. تململ في مقعده وقال بتوجس: ــ ولكن بهذه الطريقة يضيع الدين... نظرت إليه بعينٍ تتقد بثقة المعرفة: ــ لا يضيع الدين بمن يسعى لفهمه، بل يضيع حين يُسلَّم للجهلاء، حين تُستقى أحكامه من أفواه كل من هبّ ودبّ. أما من يجتهد بمنهج وبصيرة، فإنه يقترب لا يبتعد. ألم تقرأ: "فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"؟ اقرأ القرآن الحي بقلبك كما تقرؤه بعينك، دع قلبك دليلك لا قلوب المتجمدين الذين يرون في الدين مظاهر، ويغفلون عن جوهر الرحمة والهداية. سألته فجأة، بابتسامة مشاكسة تخبّئ شفقة: ــ هل تحفظ من القرآن شيئًا؟ وأعني شيئًا يتجاوز السور القصيرة... تلعثم، ثم استجمع ذاكرته المتواضعة وقال: ــ نعم... آية الحجاب: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن..." شجّعته: ــ أحسنت، أكمل الآية... نظر في الفراغ قليلًا، ثم قال باعتذار: ــ لا أذكر... فأكملت له، بصوت امتزج فيه الحنان باليقين: ــ "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين..."، أتدري؟ الغاية من إدناء الجلباب لم تكن عبادة شكلية، بل حماية من أذى اجتماعي، ولذا لم يرد ذكره في أركان الإسلام الكبرى. فالعبادات لا تُقاس بظاهرها بل بمقاصدها. قال بحدة خافتة: ــ لكن الشرائع فرضته... هزت رأسها وقالت بهدوء الواثق: ــ الشرائع اجتهادات بشرية، قابلة للأخذ والرد، ولذا هم يختلفون، بل يكفّر بعضهم بعضًا. سمعت ذات مرة جدالاً محتدمًا بين رجلين حول هيئة لباس الرجل: أحدهم يرى أن يرتفع الثوب عن الكعب شبرًا، والآخر يصر على خمسة عشر سنتيمترًا! بالله عليك، هل اختُزل الدين في خمار وثوب؟ الإيمان عماده القلب، وأركانه الخلق، وثمرته العمل. اعتدل في جلسته، كأنّ ما سمعه بعثر شيئًا بداخله وأعاد ترتيبه. قال بنبرة متحدية: ــ الدين جاء ليُطاع، لا لِيُفلسَف، والحجاب وجوبٌ لا مجال فيه لتلك التأويلات. أجابته بثقة: ــ ومن قال لكِ إن الحجاب مجرد قطعة قماش تغلّف الجسد؟ الحجاب ينمو في الروح قبل الجسد. قال، بعد تردد: ــ لكن... هذا ضياع وتحلل، والحرية قد تؤول إلى انفلات، والعقل يضل إن لم يُقيده الشرع. ابتسمت، وفي عينيها ضوء يشبه الفجر: ــ بل هو الجمود على ظاهر النصوص دون فهمها. الحرية نورُ العقل حين يهتدي بالله وبكتابه. قال تعالى: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟" والحرية الحقة أن نؤمن لأننا اخترنا، لا لأننا أُكرِهنا. أما التكفير الذي يعتليه خطباء المنابر صباح مساء، فهو ما يُضل ويؤدي الى الفتنة، لا الحرية. اقرأ إن شئت: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..." سألها وقد بدأ فكره يتأرجح بين ما اعتاده وما يسمعه: ــ يعني، هل العقل فوق النص المقدّس؟ أجابته بثبات: ــ العقل خادم النص ومصباح فهمه، لا خصمه. والله تعالى يأمر عباده بالتدبر والتفكر قبل الاتباع، لا العكس: (قل هذه سبيلي ادعوا الى الله على بصيرة)، (افلا تعقلون)، (فتدبروا يا اولي الالباب). فيا عبد القادر، الإيمان بحاجة إلى التدبر والتبصر والحوار. نظر إليها مستفهمًا: ــ هل تخصصتِ في أصول الدين؟ ابتسمت قائلة: ــ لا، وأنت تعرف تخصصي. لكن فهم الدين ودراسته ليست حكرًا على جنسٍ أو جماعةٍ دون غيرها. ساد بينهما صمت... لكنه لم يكن صمت الختام، بل بداية تفكر. قالت وهي تنهض: ــ أنا دائمًا متوفرة إن رغبت بمواصلة الحوار، وأتمنى أن أراك في القاعة مع بقية الطلاب غدًا. أجابها بهدوء: ــ إن شاء الله، يا أستاذة **
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة بعنوان -الدرس الاخير-
-
قصة / حين يعبر الضوءــ خطوات تتحدى العتمة
-
هدايا من عتمة الركام
-
قصة بعنوان:- هدايا من عتمة الركام -
-
قصة بعنوان -حين داعبت الشمس طفولتنا -
-
قصة بعنوان وساطة بطعم الرماد
-
- سهام الفتى عادل السليطة-
-
النخلة العمة وأبناؤها الأشقياء
-
انبثاق الحياة من سكون الفن!
-
إبرة لخيط الذكريات
-
قصة :-لظى في خاصرة الطفولة-
-
في حضرة الأم ووداعها.
-
بين غربتين
-
الخيانة الزوجية: أبعادها، دوافعها، وسبل التعامل معها
-
التبني كخيار انساني
المزيد.....
-
شاركت في -باب الحارة- و-هولاكو-.. الموت يغيب فنانة سورية شهي
...
-
هل تنجو الجامعات الأميركية من تجميد التمويل الحكومي الضخم؟
-
كوكب الشرق والمغرب.. حكاية عشق لا تنتهي
-
مهرجان الفيلم العربي في برلين: ماض استعماري يشغل بال صناع ال
...
-
شاركت في -باب الحارة- و-ليالي روكسي-.. وفاة الفنانة السورية
...
-
ارتفاع شعبية فرقة -آي يولاه- البشكيرية في روسيا وخارجها (فيد
...
-
معرض الكتاب العربي العاشر في صور.. ثقافة تقاوم الدمار الإسرا
...
-
سينمائيو ذي قار يردون على هدم دور السينما بإقامة مهرجان للأ
...
-
بحضور رسمي إماراتي.. افتتاح معرض -أم الأمة- في متحف -تريتياك
...
-
مسلسل مصري شهير يشارك في مهرجان أمريكي عالمي
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|