سعاد الراعي
الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 21:48
المحور:
الادب والفن
لم تكن صباحات نهر الألب تشبه سواها. هنا، حيث يتعانق الضباب الخفيف مع أشعة الشمس صباحًا، وتتسلل الحياة من بين أهداب الأشجار كشاعر يستفيق على قصيدة لم تُكتَب بعد. كنت أركض كعادتي، لا أطلب من هذا الطقس سوى أن يغسلني من ضجيج العالم، أن يترك على روحي أثر العشب النديّ والصمت الطافح بالهدوء، حيث تهب نسائم الصباح العذبة من بين أغصان الأشجار، فتداعب وجهي برقة الأم الحنون، وتنساب بين أنفاسي كأنها ترتيلة سرّية تبعث في الروح سكينة لا توصف.
الضفة كانت ساكنة، ساكنة كقلبٍ صابر، لا يعكر هدوءها سوى خطوات العدّائين وتحياتهم الخفيفة، تلك التي تشبه تعاويذ صداقة عابرة، لكنها تمنحك دفعة روحية لا يستهان بها. شعرت بنفسي أندمج في هذا الإيقاع، أركض بجسدٍ حاضر وعقلٍ تائه بين فروع الصفصاف وندى الصباح.
لكن شيء ما أوقفني.
كان الصوت أول ما اخترق جدار انسجامي... بكاء. لا، لم يكن مجرد نشيج عابر، بل صوت طفل صغير، هشّ، لا يزال يتعلم كيف يعبر عن ألمه.
تلفّتُّ حولي. لا أحد. الشاطئ خالٍ إلا من بعض المارّين، وكلهم يواصلون خطواتهم وكأن شيئًا لم يكن. لم يلتفت أحد. كأن البكاء لم يلامس آذانهم.
ترددت لحظة، ثم استأنفت الجري، لكن روحي لم تواصل معي. كانت عيني تبحثان، قلبي يصغي، وقدماي تقوداني لا إراديًا نحو الصوت، حتى وصلت إلى شجرة بلوط معمّرة، تقف بجذعها الملتوي كأنها أمّ أنهكتها السنون.
وهناك، خلفها، كانت هي...
طفلة صغيرة، بالكاد تتجاوز الرابعة، ترتجف بصمتٍ مرتبك، تمسح دموعها الصغيرة بكمّ ثوبها، وتنظر حولها بعينين تحملان من الرعب أكثر مما ينبغي لقلبٍ بهذا الصغر أن يحتمل.
اقتربتُ منها ببطء، وركعت أمامها. هامسة
"هالو يا حلوه، ما الامر...أين أمّكِ، صغيرتي؟"
رفعت رأسها نحوي، لم تنطق. فقط نظرت إليّ نظرة من اعتاد أن يختبئ من الصراخ، من الهجر، من الخوف.
حينها، فهمت.
ربما لم تكن هذه أول مرة تختبئ فيها، لكنّها المرة الأولى التي اختبأت فيها واكتشفت أن لا أحد عاد يبحث عنها.
رفعت كتفيها بحركةٍ واهنة، كأنها تقول: لا أعلم. كان في عينيها رجاء خفيّ أن أفهم صمتها. انحنيت قليلاً وسألتها بنبرة هادئة، لا تُخيف ولا تُقلق:
ــ ألم يكن بابا أو ماما معكِ؟
أومأت برأسها إيجابًا، ثم خطت نحوي بخجل وتردّد، وفي عينيها البريئتين سؤال خافت: هل أنتِ سيئة؟
ابتسمتُ. كيف لطفلة بهذا العمر أن تحمل هذا الحذر؟ تذكّرت في تلك اللحظة تحذيرات الكبار لأطفالهم من الغرباء، أولئك الذين يُختصر العالم فيهم بخطرٍ مجهول. فقلتُ لها، بنبرة حنونة كنسمة:
ــ بالطبع لا... أنا هنا فقط لأساعدكِ في العثور على ماما، سويّة.
رفعت يدها الصغيرة ومسحت دموعها بكمّها، ثم حين وقفت قبالتي تمامًا، لمحت في زرقة عينيها الطفولية وهج طمأنينة خجول. أشارت بأصبعها نحو بقعة قريبة، كان العشب فيها لا يزال مثنيًّا تحت أثر أجساد جلست عليه منذ لحظات، وقالت:
ــ كنّا هنا... أنا، وماما، وأخي بَني، نتناول فطورنا.
ــ وأين هم الآن؟ لماذا أنت وحدك؟
أطرقت برأسها، ثم رفعت عينيها نحوي وقالت بصوت خافت ممزوج بشيء من الاعتياد المؤلم:
ــ ماما وبابا يتشاجران دائمًا. وفي البيت، حين أسمع صراخهم، أختبئ في دولاب الملابس... وهنا، عندما بدأ الشجار، لم أجد سوى هذه الشجرة لأختبئ خلفها. ماما طردت بابا، فذهب إلى البيت او، لا أدرى. ولا أعرف إلى أين ذهبت ماما مع بَني...
تجمّدتُ في مكاني. كيف يُثقل هذا الصراع اليومي قلب طفلة؟ كيف اعتادت الاختباء بدل أن تُحضن؟ ومع ذلك، تماسكتُ. وقفت قرب المكان الذي دلّتني عليه، وقلت بلطف:
ـ لا تقلقي، ماما ستعود قريبًا. فلنجلس هنا، حيث كنتِ معها، ومع بَني، ومع بابا.
ابتسمت ببراءة، وسبقتني إلى المكان. كانت قد هدأت قليلًا، وبدت ملامحها أكثر صفاءً. نظرت إليّ وسألت، قبل أن أسألها نفس السؤال:
ــ ما اسمك؟
فكّرتُ في اسم لا يُربكها، اسم فيه أنسٌ وقرب، فتذكّرت النحلة مايا، فقلت:
ــ اسمي مايا. وأنتِ؟
رفعت ذقنها وقالت بثقة طفولية:
ــ اسمي صوفيا.
يا له من اسمٍ جميل... صوفيا!
ــ هل بيتكم قريب من هنا؟
هزّت رأسها موافقة. شعرت براحة تسري في صدري، وربما شعرت هي أيضًا بنوعٍ من الأمان القريب. راودني شعور أن أمها، حين لم تجدها قربها، ربما ظنّت أنها عادت إلى البيت. لكن شيئًا في قلبي ظلّ يتساءل:
كيف لأم أن تترك طفلتها وحيدة في مكان مفتوح، لا تدري ما قد يأتي عليه من خوفٍ أو برودة أو بشر؟
جلستُ قرب صوفيا، والعشب لا يزال يحتفظ بحرارة من جلسوا قبلنا، كأنّه لم ينسَ أجسادهم بعد. كانت السماء تتسلل منها خيوط شمس خافتة، والهواء يحمل رائحة النهر التي امتزجت برائحة كريمة الحليب اليابسة على فم صوفيا.
راحت تعبث بأطراف ثوبها، وكأنها تخيط صمتها بخيوط من الطمأنينة الجديدة. أما أنا، فكنت أغرق في دوامة من التفكير:
ما العمل الآن؟ كيف أساعدها؟ لا أستطيع أن أتركها وحدها، ولا يمكنني أن أسلّمها لمجهول أكثر منها جهلاً به.
لكن الشرطة؟
كان مجرد التفكير في الاتصال بالشرطة كفيلاً بأن يبعث فيّ قلقًا غامضًا... لا أدري لماذا. ربما شيء ما في ملامح صوفيا، في ارتجاف صوتها وهي تتحدث عن "دولاب الملابس"، جعلني أشعر أن تدخل السلطات سيحوّل هذه البراءة إلى ملف، هذا الحدث إلى تقرير، وهذا الخوف إلى تحقيق روتيني، ربما يؤثر على مستقبل الطفلة.
أخرجت هاتفي لأطلب النصيحة من زوجي، ثم ترددت لكيلا أعكر طمأنينتها. نظرت إلىَّ صوفيا وكأنها تحاول قراءة افكاري، كانت قد بدأت ترسم بعصا صغيرة خطوطًا على تراب العشب، رسومات عبثية لبيت وشجرة ووجه يشبه أمها، دون أن تدري أنها تختزل المأساة في تراتيل الطفولة.
سألتها برقة:
ــ هل تتذكرين طريق البيت؟
هزّت رأسها مجددًا. عيناها هذه المرة كانتا أقل خوفًا، كأنها علّقت في وجهي أملًا جديدًا. فكّرتُ:
ربما أرافقها حتى البيت. فقط لأتأكّد أنها بخير. لن أتركها، ولن أُدخلها دهاليز البيروقراطية المقيتة.
مددت يدي إليها، فنهضت وأمسكت بي دون تردّد. كنا على وشك المغادرة، حين سمعت صراخًا خافتًا... صوت امرأة.
توقفنا. التفتُّ، وصوفيا تجمّدت، كأن الصوت اخترقها. كانت الصرخة تنبع من خلف الكثبان الرملية على بعد خطوات، ثم تلتها شهقة، فبكاء مكتوم.
اسرعتُ الخطى، وبقيت صوفيا خلفي، تركض بخطى متعثرة.
وما إن اجتزت الكثيب، حتى رأيت امرأة شاحبة الوجه، مبعثرة الهيئة، تحمل طفلًا رضيعًا بين ذراعيها وهي تجثو على الأرض، تصرخ باسمها
ــ صوفيا!
التفتَت الطفلة فورًا، صرخت من قلبها:
ــ مامااااا!
ركضت نحوها، والمرأة فتحت ذراعيها بلهفة الأم حين تلتقي الحياة بعد موت. ارتمت صوفيا في حضنها، وهما تبكيان دون أن تُقال كلمة.
وقفت متسمّرة، قلبي يئنّ، لا فرحًا فقط، بل بقلق دفين.
اقتربتُ، ببطء، وعيناي تحاولان قراءة ملامح تلك المرأة:
كانت منهكة، لكن عينيها كانتا ممتلئتين بشيء أشبه بالهشاشة الخجولة... أو الندم.
نظرت إليّ بامتنان لا صوت له، ثم همست وهي تضم طفلها الآخر إلى صدرها:
ــ ظننت أنها عادت إلى البيت...
ثم أطرقت، ولم تضف شيئًا.
في تلك اللحظة، لم أشأ أن أعاتبها، ولا أن أطلب تفسيرًا. فهمتُ كل شيء، أو على الأقل، ما يكفي لأصمت.
عدت بخطاي إلى الوراء، دون أن أستدير. كانت صوفيا لا تزال تلوّح لي، بعينين تغمرهما البراءة، وكأنها تقول:
شكرًا لك مايا لأنك لم تكوني سيئة.
وخلف صوفيا وأمها، تركتُ تلك البقعة محاطةً بدمعة صمتٍ ثقيل، يشبه ما بعد العاصفة. في قلبي كان امتنان صغير لأني وصلت في الوقت المناسب، ولأن صوتًا واحدًا ـ بكاءً صغيرًا ـ كان كافيًا ليهزّني من أعماقي.
وأنا أعبر طريق العودة على ضفة النهر، لم تغب عن بالي، بل حاصرتني صورة أولئك الأطفال الذين لا تأتي أمهاتهم، ولا يسمعون أسماءهم تُنادى وسط الخوف... أطفال غزة، الذين اعتادوا الصراخ ثم الصمت، والركض ثم الاختباء، والبكاء دون أن تسبقهم يدٌ حنونة أو تتبعهم نظرة أمٍّ خائفة.
صوفيا وُجدت، واحتضنتها أمها من جديد، أما أولئك الصغار في غزة، فقد انكسر حضن الأم تحت الركام، وغاب صوت الأب في لهب القصف، وأصبحت بقايا الشجرة التي يختبئون خلفها، آخر ما تبقّى لهم من معنى الطفولة.
في غزة، لا يكفي أن تعود الأم... لأنها في الغالب لن تعود.
ولا يكفي أن تصغي للبكاء... لأنّ البكاء هناك بلا انقطاع، بلا صدى، بلا مجيب.
فهل يسمع العالم صوفيا غزة؟؟؟
أم أن الطفولة عندهم مجزأة ولم تكن يومًا كافيةً لتوقظ ضمير أحد؟
**
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟