|
سلام عادل: سيرة إنسانٍ يسبق الثورة (3) الكونفرنس الثاني للحزب 1956: انبثاق التحوّل العظيم
سعاد الراعي
كاتبة وناقدة
(زsuad Alraee)
الحوار المتمدن-العدد: 8426 - 2025 / 8 / 6 - 20:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الكونفرنس الثاني للحزب 1956: انبثاق التحوّل العظيم في قلب العاصفة السياسية التي عصفت بالعراق خلال خمسينيات القرن العشرين، لم يلمع اسم سلام عادل بوصفه رتبة حزبية أو مقامًا تنظيميًا فحسب، بل تجلّى كحضور استثنائي، حمل يقظة الضمير الوطني في طياته، ومضى لا كمجرّد حامل لشعار، بل كجسر حيّ بين الفكرة والإنسان، بين الحلم والفعل، بين الأرض والسماء. لم يكن شيوعيًا بالمعنى النمطي الذي يُكرّر خطابًا محفوظًا، بل كان إنسانًا صقلته التجربة، وعلّمه الصمت ما لم تقله المنابر، حتى غدا سكوته، في لحظات، أبلغ من هتافات الجموع. ويبدأ هذا الفصل من سيرته، حيث كانت ملامح التحوّل تُولد لا كقرارات تتلى على الورق، بل كحياةٍ تنبثق من تحت ركام القهر، كنبتةٍ خضراء تشقّ صدر الصخر اليابس، ترفض أن تموت. لم يكن سلام عادل قائدًا حزبيًا وحسب، بل كان روحًا تقاتل في معركتين: معركة ضد قسوة الواقع السياسي، ومعركة أعمق ضد ضمور الضمير في أزمنة الخوف والانكسار. كان ساهرًا على نقاء الغاية، كما يسهر المقاتل على خندق رفاقه في الليل الطويل.
"في ظل اعتقالات واعدامات لقيادات في الحزب" إضافة الى التعقيد الدولي. وفي ذلك المنعطف، تسلّم سلام عادل القيادة، مدركًا أن المطلوب لم يكن مجرّد إعادة ترتيب الصفوف، بل استعادة المعنى، وترميم الثقة المفقودة بين الحزب وجماهيره، بين العقيدة النضالية وهموم الإنسان اليومية، بين الثورة كفكرة، والحياة كنبض. انعقد الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي أيلول عام 1956، في لحظة بدت وكأنها على حافة التاريخ، لحظة مشحونة بالتوتّر المحلي في ذلك المؤتمر، نهض سلام عادل لا كمجرد إداري يرسم السياسات، بل كمُهندسٍ روحي يُعيد بثّ الحياة في العروق اليابسة. لم يكن يكتب البرامج فحسب، بل كان يبعث فيها حرارة الدم، ويغرس فيها وهج الإيمان، حتى تشرق من جديد. كان يرى في رفاقه لا أرقامًا ولا أدوات، بل أرواحًا نابضة تحمل على أكتافها تعب الفلاحين، وفي جباهها عرق العمّال، وفي عيونها حلم الفقراء بالعدل. ولهذا، كان يرفض أن يتحوّل الحزب إلى نادٍ نخبوي، مغلق، يتنصّل من جذوره، وينفصل عن الأرض التي أنجبته والناس الذين وهبوه معناه. نحو حزب يسكن الناس، لا يعبر فوق رؤوسهم في هذا الكونفرنس، تبلورت رؤية: أن الحزب ليس طليعة منعزلة في برج أيديولوجي، بل جزء لا يتجزأ من نبض الشارع، من لغة الخبز والماء، من وجع السكن وصرخة الحرية. لم تعد الشعارات الثورية وحدها كافية، بل بات المطلوب لغة جديدة، حقيقية، تعكس قلق الناس وتطلعاتهم. وسار سلام عادل بهذا التحوّل بعين بصيرة وضمير يقظ، مؤمنًا أن شيوعية بلا روح اجتماعية ليست إلا طقسًا أجوف، بلا حياة. دعا إلى تجديد القواعد، لا بهوس الإزاحة، بل بروح البعث، وإلى تفعيل المنظمات الديمقراطية، وفتح النوافذ للتيارات الوطنية الأخرى، لا من باب المجاملة، بل من إيمان راسخ بأن التنوع إثراء لا تهديد. وفي كل ذلك، كان سلوكه هو الدليل، إذ تجلّى فيه ما نادى به، فصار قدوة حيّة لا خطيبًا يُصفّق له. لقد أصرّ على أن تكون وثيقة المؤتمر مرآة للوحدة لا للفرقة، وللأمل لا للمرارة، وثيقة تعترف بالقصور لا لتبرير الخنوع، بل لتشعل جذوة الإصلاح. لقد بدا، في كل خطوة من خطوات هذا التحوّل، لا كزعيم سياسي فحسب، بل كضمير جماعي يتجسد في إنسان، يرى في كل رفيق ليس مجرد ركن من التنظيم، بل حاملًا لجمرة الحلم وماء المستقبل. سلام عادل في تشرين 1956: حين صار العراق قلبًا عربيًا نابضًا لم يكن العدوان الثلاثي على مصر في أواخر أكتوبر 1956 مجرد صدمة سياسية في المنطقة، بل كان جرحًا في القلب العربي لكل حرّ، ونداءً أخلاقيًا لمسؤولية تتجاوز الجغرافيا. وقد كان سلام عادل أول من لبى هذا النداء لا بمنشور فقط، بل بوجدانٍ مشتبكٍ مع آلام الأمة. في تلك الأيام، لم يكن الرفيق سلام يتعامل مع مصر بوصفها "دولة شقيقة"، بل كأنها أمّ مجروحة، كأن الكرامة العراقية قد دُهست على تراب السويس، وكأنّ نَفَسه الثوري لا يكتمل إلا إذا امتزج بأنين الشعوب المقهورة. فهو لم يدعُ إلى الانتفاضة بدافع المكاسب الحزبية أو السبق الثوري، بل فعل ذلك بدافع الضمير الأخلاقي العميق الذي لا يعرف الحياد في وجه الظلم. لقد شعر، كابن صادق للعراق، أن ما يحدث في مصر يحدث في النجف، وفي الموصل، وفي أحياء بغداد الفقيرة. أصدر الحزب بقيادته بيانًا يدعو إلى إضراب عام تضامنًا مع مصر، لكن خلف البيان، كان هناك إنسانٌ يتوجع، يبكي في صمت، ويشعر أن كل طلقة تُطلق على بورسعيد تصيبه هو في صدره. قائد يسير مع الجماهير لا أمامها في كل مدينة عراقية خرجت مظاهرة أو إضراب تضامني، كانت روح سلام عادل ترفرف معها. لم يكن يُمسك بزمام القرار من مكتب حزبي بارد، بل كان يزرع ثقته في رفاقه، يترك لهم حرية الخلق، يؤمن بقدرتهم على تحويل الألم إلى فعل، والغضب إلى وعي. لم يتردد في بناء قيادة ميدانية موحدة تضم ممثلي مختلف الأحزاب الوطنية، مما يظهر أنه كان يرى في الوحدة الوطنية إنسانية أسمى من الانتصار الفئوي. سلام عادل لم يكن يخوض معركة كارهًا لأعدائه فقط، بل محبًا لأشقائه. لقد جسّد جوهر التضامن الإنساني حين لا يعود الظلم محليًا، بل حين يُصبح الشعور بالعدالة موقفًا كونيًا يتجاوز الحدود. وهنا تتجلى إنسانيته في أوضح صورها: ثائرًا لا يكره لأن في قلبه مكانًا للحب، ولكنه لا يسكت لأن قلبه لا يحتمل الجُرح. الإضرابات لم تكن أوامر حزبية... بل صرخة من قاع الوجدان حين عمّت الإضرابات أحياء العراق، من كليات الطلبة إلى سوق القصابين في الموصل، لم تكن بفعل آلة حزبية عمياء، بل بفعل كرامة شعب استنهضها رجل مؤمن بأن الشرف لا يقبل القسمة، وبأن الحريّة لا تخص شعبًا دون آخر. وسلام عادل، في هذه اللحظة، لم يبعث الحياة في جسد الانتفاضة فقط، بل نفخ الروح في مفهوم "الإنسان العربي الحر"، وكتب بدمه أن التضامن ليس ترفًا نضاليًا، بل واجبًا أخلاقيًا. الرفيق الذي أحبّ أمّته كأمّه سلام عادل لم يطلق الشعارات كمنظر، بل عاشها. لم يقل "نحن مع مصر" بل شعر أن ما يُدافع عنه عبد الناصر، هو ذاته ما حلم به سلام حين كان يعلّم أبناء الديوانية الرسم والمسرح: أن يكون الإنسان حرًّا، كريمًا، قادرًا على قول (لا). ولهذا لم يُضبط يومًا في ارتباكٍ وطني أو عاطفي، لأنه لم يكن يلعب دور القائد، بل كان يعيش دور الإنسان. سلام عادل في انتفاضة 1956: حين يصبح القائد ضمير أمة في انتفاضة تشرين عام 1956، لم يكن سلام عادل مجرد قائد شيوعي يمسك بزمام التنظيم، بل كان تجلّيًا نادرًا لضميرٍ إنساني يتغلغل في نبض الشارع، ويتنفس الألم الجمعي كما لو كان دمه يسيل من جراح الآخرين. لم يكن يوجّه الجماهير من علٍ، بل يسير معهم في الدرب ذاته، يحمل الحلم لا الهتاف، ويقود بالحبّ لا بالزجر، بالصدق لا بالزهو. لم يكن يتطلع إلى المجد لنفسه، بل إلى كرامةٍ تعمّ شعبه، حرية تُنقذ الإنسان من الذلّ، لا تُقدَّم قرابين لمجدٍ أجوف. في تلك اللحظة المفصلية من التاريخ، حين كان الوطن يئنُّ تحت قبضة الطغيان، تجلّى سلام عادل لا كخطيبٍ يملأ الميادين بشعاراتٍ جاهزة، بل كإنسانٍ يضيء الدرب بنضاله، ويمنح المعنى العميق للثورة: أن تُعيد للإنسان قيمته، أن توقظه من قهره، ليقف، رافع الرأس، نقيّ القلب، شريف السلوك، متقدًا بمحبةٍ لا تنطفئ، حاضرًا في معركة كل مظلوم، مهما كان اسمه أو لونه أو انتماؤه. لقد آمن أن جوهر الثورة ليس في هدم عروش المستبدين فحسب، بل في بناء إنسانٍ لا يركع، لا يستسلم، ولا ينسى أن الحرية تبدأ من الداخل. وبهذا الإيمان، رسم سلام عادل صورة الثائر الحقيقي: لا ذاك الذي تغريه السلطة، ولا الذي يُسلم روحه للعنف الأعمى، بل من تسوقه أخلاقه لا أهواؤه، ويقوده حلم يتجاوز ذاته إلى مصير شعبٍ بأكمله. سلام عادل لم يكن صدى لعقيدة، بل نبوءة لإنسان جديد. كان ضميرًا حيًّا ينبض باسم الجماعة، يسير مع الناس لا أمامهم ولا فوقهم، وكان كل ما فيه يقول: الثورة الحقة، هي تلك التي تنبع من محبة الإنسان، وتثمر كرامةً للناس جميعًا. تتتبع هذه الصفحات وقائع انتفاضة تشرين المجيدة، وما أعقبها من عصيانٍ مسلح في قضاء الحيّ، وتكشف النقاب عن الدروس العميقة التي أفرزتها تلك الانتفاضة، والتي شكّلت منعطفًا سياسيًا وفكريًا حاسمًا في مسيرة الحزب الشيوعي العراقي. وقد توّج سلام عادل هذه المرحلة برسالة داخلية، نقض فيها النزعات الفوضوية نحو الاغتيال، وبيّن فيها أن الثورة، إن هي انزلقت في مستنقع العنف الأعمى، فقدت روحها ومعناها، لتنتهي هذه المرحلة بتأسيس جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، كمشروع وطني وحدوي يفتح الباب أمام آفاق جديدة للنضال المشترك. لا يظهر سلام عادل في هذه الصفحات كمنظّر سياسي عابر، أو سكرتير حزب يخطط للمرحلة القادمة، بل يتجلّى كضمير حيّ، وقلبٍ نابض بالمسؤولية الأخلاقية. نراه يواجه تيارات العنف داخل حزبه بحزم نادر، ويكتب بصدق لا يخلو من الألم: إن الثورات لا تُبنى على الدماء العبثية، بل على وعيٍ حي، وتنظيم صلب، وموقف أخلاقي لا يهادن. هنا، نراه وقد بلغ ذروة إنسانيته، يذود عن نقاء الثورة كما يُذاد عن شرفٍ عتيق، مؤمنًا بأن الكرامة لا تُستردُّ بالثأر، بل بالعدل. في رواية انتفاضة الحيّ، لا يطلّ سلام عادل علينا كبطل عسكري يفرض هيبته على الناس، بل كإنسانٍ نذر قلبه لهمس الجماهير. يتفقد الفلاحين، يُصغي للنساء المهمشات، يُصوغ من آلامهم برنامجًا للنضال، ويغرس أقدامه في تراب الأحياء الشعبية لا كغريب، بل كواحد من أبنائها. لم يكن طاغية متنكرًا في زي ثائر، بل كان المثقف العضوي الذي بشّر به غرامشي***، لكنه كان أكثر إنسانية، وأقل نرجسية، وأشد تواضعًا من كلّ وصف نظري. أما درسه الأعظم، فكان ذاك الذي كتبه بصلابته لا بقلمه: أن لا مكان للانتقام في ثورةٍ تؤمن بالعدالة. وحين وقف ليواجه تيار الاغتيالات داخل حزبه، لم يتردد في أن يصدح بالحقيقة، قائلاً: "إن الانتصار على العدو لا يتحقق بتقليد سلوكه الوحشي". كانت كلماته هذه أكثر من مجرّد توجيه حزبي، بل كانت صرخة ضمير، وخارطة طريق لما ينبغي أن تكون عليه ثورات المستضعفين: ثورات نقيّة، تشتق مشروعيتها من عدالتها، لا من حجم جراحها. تأسيس جبهة الاتحاد الوطني: الحلم بوطن لا تقطعه الحراب وفي ختام هذه المرحلة، تطل علينا صورة القائد الذي لا يكلّ من الحلم. ففي العام 1957، كان سلام عادل من أبرز مهندسي جبهة الاتحاد الوطني، واضعًا نصب عينيه وحدة القوى الوطنية في مواجهة الاستعمار والتبعية. لقد فهم أن معركة التغيير لا تُخاض بالانعزال أو بالوصاية، بل بالائتلاف والإيمان بالآخر. إنه القائد الذي لم يكن يؤمن فقط بحزبه، بل بقدرة الوطن على أن يتسع للجميع جبهة الاتحاد الوطني: حين نضج الحلم على جمر التجربة لم يكن تأسيس جبهة الاتحاد الوطني فعلًا سياسياً عابرًا، ولا تحالفًا بين قوى متنافرة تُجمعها الضرورة وتُفرّقها الطموحات، بل كان تتويجًا مؤلمًا لتجارب متراكمة من الانكسارات والانتصارات، من خيبات أمل تشظّت في الميادين، ومن إيمان عنيد ظلّ يشتعل تحت رماد القمع والصمت. في قلب هذه اللحظة، كان صوت سلام عادل حاضرًا، لا كزعيم يلوّح بالتعليمات، بل كإنسان جمعته التجربة الطويلة بجراح الجماهير وأحلامها. لقد كان يؤمن أن الحزب الحقيقي لا يحيا في الأبراج النظرية ولا في مكاتب النخبة، بل في عَرق العامل القَلِق، وفي أسئلة الفلاح البسيط، وفي وجع الشاب الذي يتمرد على هامش الوطن. حين طُرحت الأهداف الكبرى للجبهة: من حلّ المجلس النيابي، إلى الانسحاب من حلف بغداد، إلى إطلاق الحريات وإلغاء الإدارة العرفية، لم تكن تلك طروحات نخبويّة صمّاء، بل كلمات مُستلّة من قلب الشارع، كأنها أخيرًا منحت اللغة لآهات الصامتين. ورغم الحماسة، لم يُخدع سلام عادل ببريق اللحظة. كان يرى أن الجبهة، بكل ما فيها من رمزية عظيمة، لم تكن كافية لتلبية أشواق الكادحين والمهمّشين، لكنها مع ذلك شكّلت أول معبر يُطل منه العراق على احتمالات إنسانية جديدة، على أفق يكون فيه للكرامة موطئ قدم، وللعدالة معنى غير مستعار. التحضير لثورة 14 تموز: القصيدة التي كُتبت بالصمت لم يكن سلام عادل كاتبَ بيانات فحسب، بل شاعر السرّية ومهندس اللحظات التي تسبق الانفجار. كان يعي أن الثورة لا تُولد من نوبة غضب، بل تنمو مثل حبة قمح صامتة في أرض الامل، وتُروى بتضحيات الذين لا تُكتب أسماؤهم. كان يعلم أن الانتفاضة لا تصنعها الكلمات، بل تُولد من الصبر، ومن البناء الصامت، ومن الإيمان بأن الإنسان هو قلب الفكرة، لا أداتها فقط. في ليلة الرابع عشر من تموز، لم يكن يهتف في الميادين، بل جلس في غرفة بسيطة مع رفيقه جمال الحيدري، يراجع تفاصيل البيان الأول للثورة. لم تكن الورقة مجرد حبر، بل وعدٌ مكتوب بدمٍ وتاريخ، يُمهّد عبور شعب من ظلمات الاستعباد إلى فجر جمهوريتهم. ثم، مع بزوغ الصباح، رآه رفاقه في الشارع، بوجهه المكشوف، بسترةٍ عادية وبنطالٍ لا يُخفي هوية ولا يتنكّر، متحديًا رعب السرّية التي علّمته طقوسها القاسية. قالت نزيهة الدليمي إنه خاطبها بثقةٍ وهدوء قائلا: "أرسلتُ برقية باسم اللجنة المركزية مهنئة بانتصار الثورة." ثم أضاف، بصوت لا يخلو من الحكمة المتوجّسة: "لا تكونوا سلبيين، لا ترفعوا شعاراتنا بعد، فالمعركة لم تنتهِ، وهناك قوى أخرى في الشارع..." في تلك اللحظة، لم يكن سلام عادل يركب موجة النصر، بل كان يقيس الحلم بمسطرة الواقع، ويزن الكلمات بميزان المرحلة، فالقائد الذي يرى أبعد من عينيه، يعرف أن الفرح الذي لا تُمسكه الحكمة سرعان ما يتحوّل إلى كارثة. من الجبهة إلى الثورة: الإنسان بوصلته الأسمى إذا كانت جبهة الاتحاد قد جمعت الأطراف المختلفة على أرضية التحرر، فإن سلام عادل أراد للثورة أن تكون أكثر من حدث، أرادها أن تكون ولادة جديدة للكرامة العراقية، لا مجرد سقوط عرش. لم يسعَ إلى تصفية الحسابات ولا إلى جرّ البلاد إلى مستنقع الصراعات الأيديولوجية. كان ينظر إلى الثورة كفرصة أخيرة للارتقاء بالوطن من فوضى الشعارات إلى نظام يحفظ للإنسان جوهره. وبين سطور أفعاله، نقرأ لغة لا تخلو من حزن، ذلك الحزن النبيل الذي يسكن قلوب الحكماء، حين يدركون أن الثورة إن لم تُحمَ بالتنظيم، وبالإدراك الأخلاقي العميق، ستضيع بين أيدي الحاقدين. سلام عادل، في كل ما فعله، لم يكن رجل حزب فحسب، بل تجسيدًا نادرًا لإنسان يربط الفكرة بالحياة، ويجعل من السياسة امتدادًا للعدالة، لا بديلاً عنها. لم يكن يعدّ للوصول إلى كرسي، بل كان ينسج طريقًا للجماهير كي تجلس أخيرًا على عرش الوطن. لقد آمن أن "الثورة لا تكون في البيانات، بل في النوايا، وفي القدرة على كظم الغضب لحظة النصر، كما يُكظم الحزن في لحظة الهزيمة." تحليل للجوانب الإنسانية والاجتماعية في قيادته: • الضمير الأخلاقي: يتجلى في رفضه للعنف غير المنضبط، وفي حرصه على ألا يتحول الحزب إلى أداة انتقام. * الإنصات للناس: سلام عادل كان صوتًا لأولئك الذين لا صوت لهم، يترجم معاناتهم إلى برامج نضال، ويؤمن بقدرتهم على التغيير. * القيادة بالتواضع: لم يسعَ إلى مجد شخصي، بل إلى عدالة جماعية. كان يرى في الثورة مسؤولية، لا سلطة. * الرؤية العميقة: لم تكن مواقفه ردود فعل وقتية، بل تعبيرًا عن رؤية استراتيجية تحترم الواقع وتطمح لتغييره برؤية أخلاقية. * تواضعه الجمّ: لم يكن ليعزو لنفسه فضلَ انتصار، بل كان يقول إن الإنجاز من صنع "الحزب"، من صنع "الرفاق"، حتى لو كان هو من صاغ الخطة ووجّه التنفيذ. * حنوّه على الشباب: اهتمامه بالكادر الجديد، تعليمه المبادئ التنظيمية، تكريس ثقافة المحضر والانضباط، كلّها إشارات إلى قائد يرى في كل رفيق مشروع زعيم، وفي كل شاب بذرة ثورة. * حسّه الإنساني العميق: تظهر في التفاصيل الصغيرة: في رعايته لعائلته، في استذكاره للمناضلين البسطاء، في انحيازه لعمال الريف والجنود البسطاء، بل حتى في لغة رسائله، التي لم تخنها العاطفة رغم قسوة المرحلة. بين السياسة والتاريخ: النهر الذي لا يجف حين تتجلى بصيرة سلام عادل الإستراتيجية في: * وقف شامخاً في وجه محاولات اختراق الحزب بالتفرد، وأصرّ على الإبقاء على الروح الجماعية في القيادة. * ساهم في ترسيخ حضور الحزب في صفوف الجيش، مؤسساً لتنظيم عسكري داخله، إيماناً منه بأن الطريق إلى التغيير لا يُعبد بالكلام بل بالفعل، لا بالانتظار بل بالاقتحام. ـ شخصية تتجاوز الحياة: بين الجرح والكبرياء المحور الأهم في هذه الصفحات يتعلّق بثورة تموز 1958 ودور الحزب فيها، وما تلاها من مؤامرات ومحاولات شق الصف الوطني. إلا أن ما يبقى طاغياً على هذه التفاصيل، هو سلام عادل الإنسان: * صبره في المحنة، حكمته في اللحظة العاصفة. * إصراره على وحدة الحزب، ورفضه الانزلاق إلى الصراعات الشخصية، حتى وهو يرى حوله من يتكالبون على المواقع والمغانم. * وقوفه ضد الفساد الفكري والانحراف التنظيمي، حتى وهو يعلم أن ذلك سيكلفه حياته، كما حدث لاحقاً في مجزرة قصر النهاية. في هذه الصفحات، نرى سلام عادل لا كزعيم سياسي فقط، بل كأسطورة إنسانية تُشع من بين السطور. هو القائد الذي سار في دروب النار، لا ليحترق، بل ليضيء الطريق لغيره. هو الذي واجه الاغتيال والتعذيب والنفي، دون أن يتنازل عن مبدئه، أو يشهر سيفًا على خصم أعزل. . حين يتحول الصراع السياسي إلى اختبار أخلاقي: سلام عادل في مواجهة المؤامرات 1. مؤامرة عبد السلام عارف: نزق الطموح وغطرسة الفرد في مواجهة حلم الجماعة كان سلام عادل يرى في عبد السلام عارف رجلاً مضطربًا، مدفوعًا بغرائز السلطة لا ببصيرة الثورة. ففي اجتماعات الحزب، وصفه بأنه "شخص متعجرف، لا علاقة له بالأوساط التقدمية، لا يحمل من الوعي إلا حنينًا أهوج للوحدة الفورية". لكن الملفت في موقف سلام عادل، لم يكن تشخيصه السياسي وحده، بل حرصه العميق على تحصين الحزب من الانجراف في صراع شخصي. لم ينحدر إلى كراهية، ولا انزلق إلى خطاب التشهير. بل ظلّ ممسكًا بلغة "التحليل لا الانفعال"، مدركًا أن النضال ليس انتقامًا من الأفراد، بل مواجهة للبُنى الفاسدة. هو لم يصف عارف بأنه "عدو شخصي"، بل رأى فيه تجسيدًا لتيار مضاد لمشروع العدالة الاجتماعية، وهذا ما جعله يصر على فصل المسألة السياسية عن الشخصنة، وهذا موقف قلّ أن يُحفظ في خضم الدم والخيانات. 2. مؤامرة الكيلاني: حين يُستدعى الشيطان ليخنق الثورة في خضم الحديث عن مؤامرة الكيلاني، ينقل الكتاب مقطعًا من محاكمة تعكس حجم التواطؤ والدناءة، حين قال الكيلاني: "سأفعل كل شيء مع الشيطان إن لزم الأمر… حتى نقضي عليهم". وفي هذا المشهد المقيت، كان موقف سلام عادل يبرز بمثابة الضدّ النقيّ من هذا الانحطاط الأخلاقي. لم يواجه دعاة الانقلاب بالكراهية وحدها، بل بالثقة في الجماهير. لم يطالب بتصفيات، بل بنشر الوعي. لم يرَ في المؤامرة مناسبة للثأر، بل فرصة جديدة لاختبار صمود الروح الثورية. لقد كانت تلك اللحظة واحدة من المحكّات التي تكشف كيف يكون القائد حاملًا للقضية، لا حارسًا لسلطة. وهو حين أدرك حجم الغدر الذي يُحاك، لم يتراجع إلى السراديب، بل دعا إلى التحشيد الشعبي السلمي والتثقيف الجماهيري. 3. مؤامرة الشواف: عندما يُرفع السلاح بوجه الشعب في مارس 1959، تمرّد عبد الوهاب الشواف، ورفع السلاح في الموصل بإيعاز ودعم من قوى خارجية. حين سُئل سلام عادل عن هذه المؤامرة، أجاب في مقابلة صحفية بما يكشف عمق رؤيته الوطنية: "مؤامرة الخائن الشواف كانت حلقة من سلسلة المؤامرات الاستعمارية... لكنها فشلت لأن ثورة 14 تموز جاءت ساحقة، مدعومة بجماهير الشعب منذ لحظاتها الأولى". هذه العبارة ليست تحليلًا سياسيًا فقط، بل صيغة وجدانية لنُبل الإيمان بالشعب. لقد أدرك أن الدبابات قد تخرس الأصوات مؤقتًا، لكن الجماهير حين تنهض، تُخرس الدبابات ذاتها. كان يرى في خيانة الشواف محاولة اغتيال للإنسان العراقي قبل الجمهورية. الاختلاف مع عبد الكريم قاسم: حين يلتقي الحذر بالحلم لم يكن التباين بين سلام عادل والزعيم عبد الكريم قاسم صراعًا على سلطة أو تنازعًا على مكاسب، بل كان اختلافًا في الرؤية، وتباينًا في فهم طبيعة المرحلة التاريخية، بين من يراها فرصة لتأسيس دولة المؤسسات، ومن يتوجّس من تعدد القوى السياسية بوصفها تهديدًا لوحدة القرار. آمن سلام عادل أن القرار الوطني لا يُؤمَّمُ بالعزل والإقصاء، بل يُبنى بالشراكة والاعتراف المتبادل، وأن ادعاء الانفراد، مهما حمل من نوايا وطنية، يفضي في نهاية المطاف إلى العزلة، ثم إلى الاستبداد، مهما كان ثوبه مدنيًّا أو عسكريًّا. ولم يكن موقفه هذا ترفًا فكريًا، بل رؤية متكاملة عبّر عنها في وثيقة داخلية للحزب، عُرفت لاحقًا باسم "البرنامج المرحلي"، قدّم فيها تصورًا شجاعًا ومتبصرًا لدولة مدنية ديمقراطية، تقطع مع ماضي الإقطاع السياسي والاجتماعي، وتكسر هيمنة العسكر على الحياة الوطنية، وتؤسس لعراقٍ متعدّد القوميات، متصالحٍ مع ذاته، عادلٍ في توزيع الحقوق، قائمٍ على حرية الرأي لا على سطوة الانفراد. كان حلمه أكبر من الخصام، وموقفه أسمى من ردود الفعل. لم يدعُ لإسقاط عبد الكريم قاسم، بل دعا إلى ترميم العلاقة بين الحاكم والجماهير، معتبرًا أن الحزب ليس أداة ضغط ولا عصا معارضة، بل مرآة صافية تعكس تطلعات الشعب، وتنأى عن الانفعال والهيمنة. وحين بدأ قاسم يضيق ذرعًا بالحزب، وينزاح نحو الانغلاق السياسي، لم يواجهه سلام عادل بالغضب ولا بالتشهير، بل بفضيلة نادرة في العمل السياسي: العتب النبيل. كتب إليه مذكرة هادئة، تخلو من تهجّم، ومفعمة بروح المسؤولية، خاطب فيها الحاكم بوصفه شريكًا في الوطن، لا خصمًا في الميدان. لقد التقى في تلك اللحظة حذرُ الحكيم مع حلم المناضل، ليصوغ موقفًا لا يُنسى: موقفًا لا يطعن ولا يُهادن، لا يُنافق ولا يُخاصم، بل يؤمن أن تصويب المسار لا يكون بتكسير الجسور، بل ببنائها على أساس الاحترام والوضوح. الأبعاد الإنسانية والاجتماعية في شخصية سلام عادل أثناء العاصفة في مواجهته لتلك المؤامرات، لم يتخذ سلام عادل دور "القائد المتسلط" أو "المنقذ البطولي"، بل ظلّ وفيًا لصورة المناضل الأخلاقي، الذي يعتبر النصر الحقيقي هو حماية الناس، وكرامتهم، وأحلامهم، لا كسب المواقع. كان سلام إنسانًا أكثر من كونه زعيمًا. • حين استُفزّ لم ينتقم. • حين خُذل لم ييأس. • حين طُعن، لم يردّ الطعنة، بل سلّ سلاح الوعي الجماهيري. لقد خاض سلام عادل صراعًا ثلاثيًا مع الغدر، دون أن يفقد إنسانيته. وكأنما أراد أن يقول للعراق كله: "نحن لا ننتصر لأننا نكره أعداءنا، بل لأننا نحب شعبنا أكثر."
يتبع في الجزء الثاني من كتاب سلام عادل سيرة مناضل* ** ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *"كتاب سلام عادل سيرة مناضل تأليف ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد" من جزئين، الطبعة الأولى 2001 دار المدى للثقافة والنشر
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
زsuad_Alraee#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قربان الأم... صرخة في وجه الموت
-
الخطوط المشتركة بين غرو وكلاين فيما يتعلق بفلسفة العار وعقيد
...
-
عندما يكون الفكر ثالثهم!
-
سلام عادل: سيرة إنسانٍ سبق الثورة (2) قراءة إنسانية في ملامح
...
-
سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة. قراءة إنسانية لسيرة بطل
-
على حافة الأبوة... حين بكى الجليد-
-
الهروب من الماضي: قراءة في رواية «بين غربتين» لسعاد الراعي د
...
-
نرجسية الأديب والناقد: الوجه الخفي للتسلط في الحقل الثقافي
-
جمعة عبد الله: معاناة بين قهرين في رواية -بين غربتين- سعاد ا
...
-
عرض لرواية بين غربتين للكاتبة سعاد الراعي،
-
قصة .عندما يكون الفكر ثالثهم!
-
بغداد، حين تتكلم القصيدة بدمها
-
ابن العمة* سلام عادل:
-
قصة بعنوان، كرامة على حافة الوجع
-
قصة بعنوان، شكرًا، لأنك لم تكوني سيئة.
-
عقيدة الصدمة: الاقتصاد الكارثي كآلية للهيمنة المعولمة – قراء
...
-
العراق والحلقة المكتملة من عقيدة الصدمة*: قراءة نقدية في تفك
...
-
: قراءة تحليلية نقدية لكتاب: عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الك
...
-
القسم الخامس: قراءة تحليلية نقدية لكتاب: عقيدة الصدمة: صعود
...
-
قراءة تحليلية نقدية لكتاب: عقيدة الصدمة: صعود رأس مالية الكو
...
المزيد.....
-
السيدة الأولى للعراق تأخذ كاميرا CNN بجولة في منزل طفولتها..
...
-
التهريب عبر القنال الإنجليزي.. تحقيق لبي بي سي يكشف عن عصابة
...
-
هل يرضخ حزب الله لقرار حكومة لبنان بنزع سلاحه؟ وما خياراته؟
...
-
زوجة رئيس كوريا الجنوبية المعزول تمثل للتحقيق في قضايا فساد
...
-
لماذا إعادة احتلال قطاع غزة -فخ إستراتيجي-؟ خبير عسكري يجيب
...
-
غزة.. صوت الجوع يصرخ من عظام الطفلة مريم
-
صحيفة إسبانية: الكارثة الإنسانية في السودان تتفاقم في ظل انت
...
-
تفاصيل لخطة احتلال غزة ومئات القادة الإسرائيليين السابقين يح
...
-
عضو بالكنيست يدعو لإزالة قبر الشهيد عز الدين القسام من حيفا
...
-
-فخ جديد-.. مصادر: رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حذّر نتنياهو
...
المزيد.....
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|