سعاد الراعي
كاتبة وناقدة
(Suad Alraee)
الحوار المتمدن-العدد: 8437 - 2025 / 8 / 17 - 20:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الفصل الخامس: الفصل قبل الأخير من الأسطورة
الصفحات ما قبل الأخيرة هي مرآة كربلاء حزبية، سياسية، إنسانية ـ فيها سلام عادل يقف على بوابة الجلجلة، مصلوبًا على مبادئه، عارفًا أن الطعنة ستأتي لا من العدو وحده، بل من الرفيق الذي خانه، من الصوت والضمير حين دلهم عليه.
"هل كانت الثورة بحاجة إلى دمك يا سلام، كي تعود من موتها؟ أم أن موتك كان هو النبض الأخير قبل السكتة النهائية؟"
نقف الآن أمام هذه الصفحات من كتاب "سلام عادل: سيرة مناضل – الجزء الثاني"، حيث تخرج الحكاية من إطار التحليل السياسي لتدخل محراب الشهادة. هنا لا نقرأ عن رجل يقاوم الموت، بل عن مناضلٍ يعرف أن الساعة قد دقّت، فيقف لها كما يقف المحاربون في عتبة التاريخ، مشدود الرأس، مشبع الضمير.
ـــ 8 شباط... تاريخ يُكتَب بالدم، لا بالحبر
تبدأ هذه الصفحات بتفاصيل الانقلاب الأسود في 8 شباط 1963، ذلك اليوم الذي أُقفلت فيه أبواب الحلم، وفُتحت أبواب السجون والمشانق وقصر النهاية. يظهر سلام عادل وسط هذا الزلزال كمن يحمل روحه في كفّه، ويصر على البقاء في قلب المعركة، لا لأنّه يجهل المصير، بل لأنّه لا يريد أن يخذل التاريخ.
الانقلاب لم يكن مفاجئًا له، فقد حذّر مرارًا من "حلف الرجعية والقومية المتطرفة"، وكتب بألم عن تراجع حلفائه، وانكفاء بعض القيادات، واختراق التنظيم العسكري. لكنه لم يهرب، بل صمد حتى اللحظة الأخيرة، في مقره، بين الرفاق، بين الأوراق المحترقة والهواء المسموم بالخيانة.
ـــ ساعة السقوط: الرفيق الأخير في ساحة المعركة
حين وقعت الواقعة، لم يتوارَ سلام عادل كما فعل كثيرون. لم يتنكّر لتنظيمه ولا تخلّى عن واجبه، بل أدار الصراع كما يدير قائد معركة خاسرة، لكن بشرف المنتصر. في وثائق الحزب ورسائل الرفاق نقرأ صورة رجلٍ عجز عن إنقاذ التنظيم، لكنه أنقذ الكرامة.
حين اعتُقل، لم يكن مُفاجَأ. كان كما في لحظة انتظار جلجامش للموت: يعرف أنه آتٍ، لكنه يريد أن يقول كلمته الأخيرة بصمت، ولكن بكرامة تُفجِّر الضمائر.
ـــ قصر النهاية... صليب العصر الجمهوري
إذا أردنا أن نختبر معدن الرجال، فلننظر إليهم حين يكونون على حافة الموت، في قعر الزنازين، لا سلاح لهم سوى الإيمان، ولا درع لهم إلا المبدأ. هناك، في ظلام قصر النهاية، تجلّت أعظم لحظات سلام عادل، لا كقائدٍ حزبي، بل كإنسان تجلّى في أقصى صوره إشراقًا وسموًا. كانت زنازين التعذيب محرقة للجسد، لكنها كانت منبرًا لروحه التي بقيت تصدح بالحقيقة، تردّ على الصراخ بالصمت، وعلى الشتيمة بالكرامة، وعلى الألم بالثبات.
أولًا: "قصر النهاية"... البداية التي كتبتها الشهادة
منذ اللحظة الأولى لاعتقاله، كما ورد في شهادات عدد من رفيقاته ورفاقه ، تعامل سلام عادل مع الألم لا بوصفه خصمًا، بل بوصفه امتحانًا. في شهادة/ زكية شاكر، التي وثّقت جحيم قصر النهاية، تصفه قائلة: "كنت معصوبة العينين ومربوطة اليدين، لكنّي ميزت أنين سلام عادل وهو يهمس: (هنا التجربة، أيها الرفاق)" (ص. 183).
كان سلام عادل يغنّي للثورة والكرامة بينما تُجلد أضلاعه، ويطلق كلماته كما تُطلق الطيور في سماء الليل، لا لكي يُسمع الجلاد، بل ليُطَمئن الرفاق أن الحقيقة ما زالت حيةً، وأن صوتها لا يُخنق، حتى حين يُعلّق صاحبه من المعصمين.
ثانيًا: البطولة الهادئة – حين تغدو الأبوة صمتًا، والوطن طفلك الأكبر
في دهاليز العذاب، حيث تُجلد الأرواح قبل الأجساد، وقفت/ روضة، المناضلة الأسيرة، تزحف نحو صدى الصوت الذي لطالما كان بوصلة الثورة في قلب الحزب. همست وهي بالكاد تميّز الظلال خلف العصابة التي تشدّ على عينيها:
"أنا روضة... هل عرفتني يا رفيق؟"
فردّ عليها بصوت خافت، متعب لكنه ثابت كالجبل:
"نعم."
ثم قالت له، وفي صدرها رجفة لا تشبه الخوف، بل تشبه الشفقة على قلب الأب:
"علي... ابنك معنا هنا في القصر، هل تريد أن تراه؟" جلاديه لم يعرفوا انه ابنه
وهنا، في لحظة اختزلت مأساة التاريخ كله، هزّ سلام عادل رأسه نفيًا. لم يصرخ، لم يبكِ، لم يسأل عن حال الطفل بعمر العامين، الذي كان قطعة من فؤاده، بل قال:
"هسّه وقت علي؟! … بلّغي الجميع ان استطعتِ... أوقفوا الخيانة. كل من قدّم شيئًا للعدو، يجب أن يتوقف فورًا. ابذلوا كل ما تستطيعون في هذا الاتجاه."
أي قامة تلك التي وقفت أمام جراحها لتمنع نزيف المبادئ؟ أي قلب ذاك الذي يُطفئ نداء الأبوة كي يُشعل نداء الوطن؟ لم يكن سلام عادل، في تلك اللحظة، رجلًا يرى بطفله البريء ملاذًا أخيرًا في ظلام القهر، بل كان أبًا لفكرة، لشعب، لحزب أراد له أن يبقى حيًا، حتى لو مات هو وحتى لو لم يحظَ بلمحة من عيني صغيره.
لم يفكر بضعفه، ولا بنجاةٍ شخصية، ولا بعينَي طفله البريء في المعتقل الذي كان ينادي غير أمه بـ "ماما" لأن تلك الأم اضطرت للرحيل... ولم يفكر بأن ذلك الطفل كان ثمرة قلبه، وكان يحبه ويخاف عليه أكثر من نفسه. لكنه في لحظةٍ واحدة، بصوتٍ خافتٍ كصلاة، قدّم الحزب على الدم، والكرامة على الحنان، والموقف على العاطفة.
إنها بطولة لا ضجيج فيها... بطولة من يسحق أنينه تحت قدمي المبدأ، ليقول للتاريخ: "لم أُخلق لأعيش لطفلي، بل لأصنع له وطنًا لا يُعتقل فيه الآباء."
ثالثًا: الكرامة في حضرة الوحشية – صموده أثناء المواجهة (ص. 187–190)
حين اقتيد إلى غرفة التحقيق، مكبّل الرجلين، معصوب العينين، وعليه آثار التعذيب، طلب فقط كرسياً ليجلس عليه – لا استرحامًا، بل استقامة في الجلوس قبل المواجهة. وحين نزعوا وثاقه، لم يتوسّل، ولم يطلب شيئًا سوى الماء، فرفضوا. وحين عرض أحدهم عليه سيجارة، رفضها باحتقار، كأنما يقول: "أي كرامة تبقى لمن يبيع جسده مقابل رماد؟"
كان حديثه مع جلاديه درسًا في العقيدة، وحين قالوا له:
"لماذا قاومت الانقلاب؟"
أجابهم بثبات:
"لأن الانقلاب فاشي، أسوأ من أي دكتاتورية..." (ص. 190).
رابعا: أنسنة الصمود – لغة القلب وسط الحديد والنار
سلام عادل لم يكن صخرةً صمّاء، بل روحًا حيّة نابضة. كان يسمع أنين رفاقه، يهمس لهم، يواسيهم، يوصيهم، يربطهم بالحياة كما يربطهم بالفكرة. حتى وهو في أشد حالات الإعياء، كان ذا حضور، لا يُقاس بالصوت بل بالأثر، لا يُقاس بالحركة بل بالمغزى.
في كل ما ذُكر من شهادات الرفاق، لم يظهر سلام عادل غاضبًا أو ناقمًا أو متبرمًا، بل متسامٍ على الألم، كأنما كان يرى في الجلاد مأساة إنسانية، لا عدوًا شخصيًا.
خامسا: حين يُصبح الألم بلاغةً، ويغدو الصمت ثورة
سلام عادل، في قصر النهاية، لم يكن أسيرًا يُساق إلى حتفه، بل شهيدًا يسير إلى مجده. من تحت السياط، صعد صوته الإنساني كدعاء العاشق، ومن عمق الزنزانة، خرج نوره هاديًا لرفاقه. لم تُجبره المهانة على الهوان، ولم تُطفئ النيران وهج إيمانه.
إننا لا نقرأ سيرة سلام عادل لنتألم معه، بل لنتطهر من الخوف، ولنؤمن أن البطولة ليست في الألقاب، بل في الثبات، وأن الإنسان، حين يكون حاملًا لفكرة نبيلة، يكون أقوى من الحديد، وأبقى من السجّان.
تأخذنا الصفحات إلى ما بعد الاعتقال، إلى دهاليز قصر النهاية، حيث يتحوّل الإنسان إلى رقم، والمناضل إلى جسد مشوّه. لم يقدّم لنا النص وصفًا مباشرًا لتعذيبه، لكن روايات الشهود وشهادات التاريخ حية في خلفية هذه السطور.
تعذيب سلام عادل لم يكن جسديًا فحسب، بل كان خريطة من الصمود والألم، بل كان محاولة لاغتيال الفكرة التي يمثلها. أرادوا كسره، لا انتزاع معلومات منه، بل كسر رمزه، تشويه صورته أمام رفاقه. فقئت عيناه، قطعت أذناه، مزقت عضلات ساقيه، دُقّت أضلاعه، وقُطعت أظافره واطرافه، وشُقّ لسانه، وأُفرغ من الدم، جسده مثخن بالجراح لان آلة قاسية بدائية تنكّبت مهمتها الوحشية عليه وحده. لكنه لم يوقّع، لم يصرخ، لم يكتب تراجعًا.
أيّ قلبٍ كان يحمله هذا الرجل، ليتحمّل ما عجزت عنه الجبال؟
أيّ ضمير ذاك الذي لم يساوم حتى في اللحظة التي لا يراك فيها إلا الله؟
"الانكسار الأعظم ليس في الجسد، بل حين تتنازل عن مبدئك"
وهنا تكمن المأساة الأعظم: لم يكن الحرس القومي وحدهم من قتلوا سلام عادل، بل الخذلان الجماعي، التراجع، التسويات، الصمت، التنكر، أولئك الذين اختاروا النجاة على حساب الرفقة، والحياد على حساب الصدق.
هذه الصفحات تقول ما لا يُقال صراحة: أنّ الرفيق الذي قضى في القصر كان يقف هناك نيابةً عن الذين خانوا، عن الذين صمتوا، عن الذين فرّوا.
يتبع الفصل السادس
***
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
Suad_Alraee#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟