أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعاد الراعي - سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، -الجزء الثاني-















المزيد.....

سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، -الجزء الثاني-


سعاد الراعي
كاتبة وناقدة

(Suad Alraee)


الحوار المتمدن-العدد: 8432 - 2025 / 8 / 12 - 19:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المقدمة
في دروب النضال القاسية، حيث تتشابك خيوط الألم بالأمل، وتغدو الحقيقة نارًا تحرق الزيف، ومرآةً تفضح الخداع، يبرز من بين رماد القهر رجالٌ لا تشبههم العصور، ولا تسعهم كتب السير، فيكونون فصلًا نادرًا من التاريخ، وضميرًا حيًّا للأمة. هكذا كان سلام عادل.
لم يكن سلام عادل قائد حزبي، أو سكرتيرًا لحزب شيوعي طموح فقط، بل كان تجسيدًا نادرًا لنموذج المناضل الإنسان، الذي اتّحد فيه الفكر بالشجاعة، والإيمان بالتغيير بصبر العاشق، والعقل النابه بالقلب النقي. في ظل صراعات السياسة وتموجات الأحداث، ظل وفيًّا لمبادئه، مستمسكًا بحق الجماهير في الحرية والعدالة والكرامة.
في هذا الدراسة، التي تتخذ من كتاب " سلام عادل سيرة مناضل الجزء الثاني"* منطلقًا، نُطلّ على مرحلة مفصلية من التاريخ العراقي الحديث تبدأ بعد ثورة تموز 1958، نُلامس عبرها الأعماق المعتمة للعبة السلطة، والتقاطعات المتشابكة بين الآمال الثورية ومصائد الانحراف، بين الحلم الوطني وتكالب المصالح الضيقة.
غير أن غاية هذا العمل لا تقتصر على تأريخ الوقائع السياسية فحسب، بل تتطلع إلى الغوص في جوهر التجربة الإنسانية لهذا الرجل الاستثنائي. كيف كان سلام عادل ينظر إلى العالم؟ ما نوع الصراع الداخلي الذي خاضه وهو يحاول الموازنة بين الإخلاص الحزبي واليقظة الوطنية؟ ما الذي جعله يتقدم الصفوف دائمًا، رافضًا الانحناء، ومصرًّا على خوض المعركة حتى الرمق الأخير؟
سنقرأ في هذه الصفحات عن مواقف لا تُنسى، وعذابات تُروى لأول مرة، وعن قرارات صيغت بدم القلب، لا بدهاء السياسيين. سنتأمل في خطاباته، رسائله، لقاءاته المصيرية، وتحليلاته التي استشرفت مستقبل البلاد والعباد، وكيف رفض سلام عادل أن يكون شاهد زور على انحراف الثورة أو متواطئًا مع سياسة إقصاء الرفاق وتكميم الجماهير.
هذه دراسة إنسانية في سيرة رجلٍ أدرك منذ البدء أن النضال طريق محفوف بالعذابات، وأن من يخوضه بضمير حيّ سيُدفع ثمنًا غاليًا من جسده وراحته ووجوده كله، ومع ذلك مضى، لأن ما كان يُراهن عليه لم يكن سلطةً أو مجدًا شخصيًا، بل وعدًا قطعَه للأرض والناس والتاريخ.
سلام عادل ليس سيرة تُقرأ، بل رسالة تُتوارث، وموقف يُستلهم، وإننا إذ نقف على عتبة هذا المشروع، إنما نأمل أن نُعيد له بعضًا من الاعتبار، لا بالتأبين، بل بالفهم، لا بالتمجيد، بل بالتأمل العميق في جدلية الفكر والممارسة، الإنسان والمبدأ، النضال والخذلان.
سلامٌ عليك، أيها العادل في زمن الظلم، أيها الشجاع في حضرة الخوف، أيها الباقي رغم الغياب.
الفصل الاول: بين السياسة والإنسان: سلام عادل في وجه العاصفة
ما ترويه الصفحات الأولى في الجزء الثاني للكتاب* من احداث ما بعد المؤامرات الثلاثة، ليس مجرد صراع حزبي بين الشيوعيين والسلطة، ولا خلافًا آيديولوجيًا بين "سلام عادل" وعبد الكريم قاسم، بل هو انكشاف للمأساة الكبرى التي طالما أنهكت جسد العراق: مأساة التردد في اتخاذ القرار، والتضحية بالحلفاء، والخوف من الجماهير إذا ما وعَت قوتها.
في كل سطر نلمس ذلك التناقض المرير: بين زعيم الثورة (قاسم) يشيطن العمل الحزبي، و"سلام عادل" يصر على الحوار، وعلى إشراك الحزب في بناء الجمهورية لا في تقويضها.
سلام، كما تكشفه تلك السجالات العاصفة، لم يكن مجرد سياسي يبحث عن حصة في الحكم، بل رجل يرى في الحياة الحزبية جوهر الديمقراطية، وفي تحشيد الجماهير درعًا للثورة. كان يدرك أن ما يُراد للحزب الشيوعي هو الإقصاء والتجويف، ومع ذلك ينهض لا كمن يقاتل من أجل حزب، بل كمن يحرس فكرة الحرية من خيانة السلطة لها.
اولا ـ البعد الإنساني: في صمت الألم وغضب الأمل
ربما لا يقول النص صراحة، لكن بين السطور نقرأ وجعًا مرًا: سلام عادل ليس غاضبًا لأنه حُرِم من السلطة، بل لأنه خُدِع في "الرفاق". أن يُترك وحيدًا في وجه المؤامرة، أن يُنقل له موقف قاسم بغير حقيقته ومشوّهًا على لسان عامر عبد الله، أن يُخدع بوعود التعاون معهم... كل هذا ليس مجرد أحداث سياسية، بل جراح في الروح، جراح في صدق الإيمان بالرفاق، في جدوى التضحية، وفي أخلاق الثورة.
سلام لم يُقِم في برج تنظيري، بل ظلّ قريبًا من التنظيمات، من النقابات، من المظاهرات، من وجوه الجماهير التي رفعته بآمالها. نقرأ في هذه الصفحات رجلاً يتوجع بصمت حين يخونه الحلفاء، ويغضب بشرف حين يُداس على كرامة الحزب، ويصرخ بلا صوت حين يرى زيف الخطاب الثوري.
تكشف هذه الصفحات من الكتاب عن لحظة الانكسار الأولى في مسيرة الحزب الشيوعي بعد ثورة تموز1958، اللحظة التي قررت فيها السلطة ـ ممثلة بعبد الكريم قاسم ـ أن "الأحزاب رجس"، وأن الجماهير لا تحتاج إلى تنظيم بل إلى زعيم أوحد. وتجلّى الموقف البطولي لسلام عادل في تمسّكه بـ "الحقيقة" لا بالمواقع، وفي رفضه التجميد والانحناء لعاصفة التهميش.
لكنّ الحزب نفسه لم يكن على قلب رجل واحد. وتأتي هذه الصفحات لتقدّم نقدًا داخليًا جريئًا، يظهر صراعات القيادة، وتلك الخطايا التكتيكية التي مهدت للكارثة الكبرى لاحقًا. في ذلك، يتحول الكتاب من سجل توثيقي إلى مرآة للخيبات الموصولة، ولحكمة نضجت في أتون النار. وهنا تكمن أهمية هذه الصفحات بكونها تُعرّي لحظة الافتراق بين ما ينبغي أن تكون عليه الثورة وما آلت إليه، بين القيم والمصالح، بين الميثاق والخيانة. وسلام عادل في هذا السياق لم يكن مجرد ضحية ولا نبيًا منزّهًا، بل مناضلًا يرى أبعد مما يراه الزمن، فيدفع ثمن بصيرته عزلةً وخيانة ودمًا.
هذه الصفحات تشهد وتقول لنا أيضًا: لم يُقتل سلام عادل على يد البعث فقط، بل مات مراتٍ ومرات قبلها في صمت رفاقه، في تردد حزبه، في جمود حليفٍ أعماه الغرور.
ثانيا ـ دمعة التاريخ على كتف الثورة
ما بين الصفحات نقرأ تاريخًا لا يرويه المنتصرون، بل تُرويه دمعة رجل يقف وسط الرماد محاولًا أن ينتشل شعلة الحقيقة من بين الركام. سلام عادل، في هذه الصفحات، هو: ذلك الرفيق الذي لم يرضَ بأن يتحوّل الحزب إلى ديكور، أو أن تتحول الثورة إلى زينة لكرسي الحاكم. كان يحمل في قلبه جمهورية حلم بها الفلاح والعامل، فإذا بها تُداس بأقدام المؤامرة. في وطنٍ صار فيه الحليف خائنًا، والثورة مقصلةً، والحزب بيتًا مُحترقًا تُشعل فيه النيران من الداخل.
ثالثا ـ سلام عادل بين "الكتلة اليمينية" والانقضاض الداخلي: حين ينهار البيت من داخله
تُطالعنا هذه الصفحات بكشف بالغ الأهمية عن الخطر الذي لم يأتِ من السلطة وحدها، بل من داخل الحزب ذاته. تظهر "الكتلة الانتهازية الاستسلامية" كقنبلة مزروعة في قلب الجسد الحزبي، و"سلام عادل" في مواجهتها ليس فقط بوصفه سكرتيرًا عامًا، بل كضميرٍ جريح يرى انكسار الفكرة بيد من حملوها.
في وصف المواجهة مع هذه الكتلة، يَبرز سلام عادل بوصفه قائدًا لا يساوم على المبادئ، لكنه أيضًا رجلٌ تتنازعه الشكوك والخذلان والتعب النبيل. لم يكن نزاعًا تنظيميًا فحسب، بل معركة أخلاقية حول جوهر الالتزام، حول من باع الحزب تحت الطاولة، ومن لبس قناع الثورية ليخفي في داخله بذور الانهيار.
سلام لم يكن من صنف القادة الذين يتكئون على صلاحياتهم القيادية، بل كان يخوض كل معركة بالموقف، لا بالموقع. يتألم حين يرى رفاقه وقد صاروا مرسال خانع لسلطة قاسم، ويفجع حين يسمع الأصوات المرتجفة في الحزب تطالب بالصمت وتبرر الهزيمة بالتكتيك

الفصل الثاني: أحداث كركوك: الدم المسكوت عنه... وضمير سلام اليقظ
في صفحات كركوك تتساقط ورقة التوت عن عورة الخطاب السياسي، وتُستدعى الحقيقة المجردة، وقد شُج رأسها بعنف. كان سلام عادل ـ بخلاف من أرادوا التسطيح أو التبرير أو حتى الإنكار ـ صوت الضمير الجريء، لا ليتنصل من المسؤولية، بل ليضع إصبعه على موضع الجرح دون مواربة.
"لا شيء آذى الشيوعيين كما آذتهم أحداث كركوك" (ص56)،
جملة قصيرة قالها، ولكنها مشحونة بالأسى النبيل، فيها من الحزن أكثر مما فيها من الاتهام. سلام لا يلجأ إلى لغة الإدانة الفظة، بل يستدعي الحزن كقيمة إنسانية، والاعتراف كخطوة ضرورية للتطهير السياسي والأخلاقي.
نراه يواجه ـ دون مواربة ـ "حقيقة التحول المأساوي في علاقة الحزب بالجماهير"، ويدعو إلى التمييز بين "الذنب السياسي" و"الانحراف الأخلاقي"، معتبرًا أن التعتيم على الأخطاء هو شكل من الخيانة الصامتة للمبادئ ذاتها.
سلام لا يُدين فقط من تورطوا بالفعل، بل يُدين البنية التي سمحت بالسكوت عنه، والتبرير له. وهذه نزعة أخلاقية نادرة في سياق سياسي آنذاك، كان يقدّس الولاء الأعمى.
إن أكثر ما يلفت في موقفه من أحداث كركوك، هو حزنه العميق على "تشويه صورة الحزب" أمام الجماهير (ص57)، وهذا الحزن لم يكن نابعًا من حرص على "الصورة"، بل من إدراكه أن الثقة السياسية تُبنى على أخلاق لا على شعارات.
ـــ اجتماع اللجنة المركزية في تموز1959 إثر احداث كركوك: الشجاعة النقدية والنزاهة الثورية
حين اجتمعت اللجنة المركزية، كانت الأجواء مشبعة برائحة الخوف والتردد والتوتر. وهنا تتجلى بطولية، من نوع خاص، لسلام عادل: بطولة في مواجهة الذات، لا العدو. تلك البطولة التي لا يملكها إلا من تمرّس في جلد النفس قبل جلد الخصم.
في مداولات الاجتماع، سطع نجم سلام ليس بسلطته التنظيمية، بل بقدرته المذهلة على تحويل الجرح إلى درس، والفشل إلى محطة لإعادة التقييم. حين قال بوضوح:
"لقد آن الأوان لنراجع ذواتنا قبل أن نحاسب الآخرين...(ص62) ،
كان يزرع بذور ثقافة سياسية جديدة، تتجاوز الخطابة إلى نقد الذات المنهجي. لم يدافع عن "المركز" ولم يتخفَّ خلف "الظروف الموضوعية"، بل حمل على كتفيه وزر المرحلة كلها، وتحمل ما لا يقدر عليه إلا الكبار.
وقد رفض التبريرات التي ساقها البعض لتبرئة ساحة الحزب من المسؤولية عن "العنف غير المنضبط"، مُصرًا على أن الثورة، لكي تكون ثورة حقيقية، يجب أن تكون أخلاقية إنسانية قبل أن تكون سياسية.
في تقييمه لمسار الحزب، كشف عن خلل العلاقة بين المركز والمحيط، بين القيادة والجماهير، ودعا إلى ضرورة استعادة الثقة عبر "إصلاح داخلي حقيقي"، وليس عبر خطب تعبئة.
ـــ الجوانب الإنسانية والاجتماعية في شخصية سلام عادل
ما بين السطور، في طريقة حديثه، في ترتيب أولوياته، في طريقته بالتعبير عن الألم والقلق والخطأ، يبرز سلام عادل كإنسان استثنائي، مثقف بمشاعره كما هو بعقله.
أ. توجعه من موت الأبرياء، حتى إن لم يكونوا من "جماعته"، هو دليل على أنه لم يتماهَ مع السلطة ليبرر الدم، بل ظل قلبه نابضًا بفكرة العدالة كقيمة تتجاوز المواقف.
ب. اهتمامه بأثر القرارات السياسية على النسيج الاجتماعي، وعلى مستقبل البلاد، وليس فقط على مصلحة الحزب الضيقة، يبرهن على أنه كان يرى الوطن أوسع من أي تنظيم.
ج. كان يسعى في أعماقه إلى بناء دولة إنسانية، لا دولة شعارات. وكانت عينه دومًا على الجرح الذي يتسع إن تُرك دون اعتراف، ودون تطهير.
إن ما يكشفه هذا الفصل من سيرة سلام عادل لا يقل أهمية عن أي "بطولة ميدانية"، بل لعله أعظم: بطولة الحقيقة، في زمن الأكاذيب، وبطولة الإنسان، في زمن التجاوز.
لقد ترك لنا سلام نموذجًا نادرًا للقيادة الأخلاقية، التي لا تُخفي ضعفها، بل تعترف به لتتجاوزه. وكان يمكنه، كما فعل كثيرون، أن يتماهى مع السياق، أن يُبرر كالأخرين، أن يصمت، لكنه اختار الطريق الأصعب: أن يظل إنسانًا، حتى وهو في اعلى مراكز القرار.
فلئن خسر الحزب في كركوك "معركة إعلامية"، وربما سياسية، فإن سلام عادل ربح ـ هناك ـ تاج النزاهة الأخلاقية، وهي تاج لا يمنحه التاريخ إلا للقلائل.

الفصل الثالث ـ العودة من موسكو – قلبٌ يحترق وجبينٌ لا ينحني
كانت عودة سلام عادل من موسكو في عام 1962، عودة الضمير الثوري إلى ساحةٍ تكدّست فيها الغيوم، وانطفأت فيها بعض المشاعل، وغابت عن دروبها البوصلة. عاد لا كمسافرٍ أنهكه التعب والغربة، بل كمقاتلٍ مزّقته الأسئلة الكبرى، وهو يحمل على كتفيه عبء الحقيقة الثقيلة، وسؤال الوطن المؤلم: إلى أين نمضي؟
كان سلام عادل يدرك، بنباهته الفذة وبصيرته التي لا تغفو، أن الانحراف قد تسلل إلى بعض مفاصل الحزب، وأن الأصوات النشاز بدأت تعلو فوق نغمة المبادئ. لم يَعُد أمامه سوى أن يفتح النوافذ ليدخل الهواء النقي، ويزيح ما تراكم من دخان المجاملة التنظيمية والتسويات القاتلة.
عاد من موسكو مشتعلاً برؤيةٍ نقديةٍ صافية، تأتلف فيها حرارة الانتماء العقائدي مع برودة العقل المتزن، وكان قلبه لا يزال نابضًا بهمّ الجماهير، يئنّ تحت وطأة ما رآه من خطرٍ يُحدق بالحزب، لا من الخارج فحسب، بل من داخله أيضًا.
وحين خطّ قلمه رسالته الشهيرة إلى سكرتارية اللجنة المركزية في 7 آب 1962، لم يكن يكتب بمداد الحبر فقط، بل بدم القلب وبصوت الضمير. طالب بمراجعة صادقة وجذرية للوثائق والمواقف، لا مساومة فيها، ولا تغليف للخطأ تحت عباءة الشعارات. كانت دعوته كالمشرط بيد طبيبٍ لا يطلب إلا إنقاذ الجسد من التسمم، وإنْ تألم.
وحين واجه أعاصير الانقسام وغيوم الخديعة، لم يرفع الراية البيضاء، بل رفع راية الوعي، وكتب، وهو في قلب النيران، رسالته إلى اللجنة المركزية في 21 آب، لا كمن يهذي على حافة السقوط، بل كمعلمٍ يزرع في تلاميذه روح الاستقامة. قاوم الانحراف بالتقرير، وردّ على الفوضى بالتنظيم، وأشعل شموع الشفافية في ليلٍ كان تتسرب فيه العتمة إلى سماء الحزب.
كان سلام عادل، في تلك اللحظات، لا يقاتل من أجل موقعٍ في التنظيم، بل من أجل أن يبقى للحياة النضالية معناها الانساني، وألا يُسرق الحلم من بين أيدي المناضلين الصادقين.
هكذا عاد سلام... وعينه على الجذور، لا الأغصان، وعلى الروح لا القشرة. عاد ليقول: "لا خلاص إلا بالصدق، ولا نهوض إلا على أنقاض المجاملة والمحاباة"، فمن لا يُواجه الحقيقة، وإن كانت مرّة، سيكون هو ذاته مرارة التاريخ القادمة.
اولا ـ موقفه من الكتلة الانتهازية... بين الحزم الإيديولوجي والنُبل الإنساني
في محاضر اجتماعات اللجنة المركزية (10/8/1962 وما بعده)، يتجلى موقف سلام عادل الحاسم تجاه الكتلة الانتهازية، التي تزعمتها شخصيات بارزة مثل عامر عبد الله وآخرين. وقد أصرَّ سلام عادل على أن الانحراف الفكري والتنظيمي لا يُواجه بالتواطؤ، بل بالمحاسبة المبنية على المبادئ. غير أن هذا الحزم لم يكن قاسيًا، بل اتخذ شكلًا إنسانيًا راقيًا؛ حيث أصرّ على أن يكون النقد ذاتيًا وثوريًا لا عقابيًا، وأن يكون الهدف من التطهير استعادة نقاء الحزب لا الانتقام من خصومه.
سلام عادل كان يدرك أن الخطر الأكبر ليس في الأفراد فقط، بل في الظلال التي يسمح بها الحزب أن تخيم عليه. ولذلك خاض معركته الفكرية والتنظيمية بأدوات الحوار والوثيقة والتاريخ.
ثانيا ـ بلاغة السيرة وبلاغة الموقف
تكمن جمالية هذا الجزء من السيرة لا في الأحداث وحدها، بل في لغة الوثائق والمواقف، التي تكشف عن قائد يملك قدرة بلاغية فذة في التعبير عن الأفكار العميقة بعبارات موجزة، لكن حادة كالسيف. ففي محضر 21/8/1962 (ص. 318)، يؤكد سلام عادل على ضرورة "العودة إلى الشعب"، لا بوصفه شعارًا، بل بوصلة فكرية، يُقاس بها صدق التوجه.
وبين طيّات الرسائل والملاحظات والاجتماعات، تظهر لغة سلام عادل كلغة تُخاطب الضمير لا المصلحة، العقل لا الغريزة، وتلك هي سمة القادة التاريخيين.

ثالثا ـ البعد الإنساني في شخصية سلام عادل
سلام عادل لم يكن زعيمًا حزبيًا بالمعنى التقليدي، بل كان ضميرًا أخلاقيًا حيًّا. من يقرأ تفاصيل مواقفه بعد عودته من موسكو، يلمس تعاطفه الإنساني مع الجماهير، حرصه على مستقبل الرفاق، قلقه النبيل من الانقسام، وعزيمته الصلبة في مواجهة التردد والانتهازية.
أ‌. في كل محضر، في كل تقرير، يظهر سلام عادل كإنسانٍ يؤلمه انحراف رفيق، كما يؤلمه جرح الوطن. لم يكن يكره خصومه، بل كان يكره ما يجعلهم خصومًا: الخيانة، التبرير، الغرور، والهروب من النقد الذاتي.
ب‌. نراه يتألم بصمت حين يُحجم أقرب رفاقه عن المواجهة.
ت‌. نلمح في رسائله المختصرة شوقًا إلى بيت لا يعرف الاستقرار.
ث‌. نسمع في نقده للكتلة، لا صوت القاضي، بل دمعة الأخ الذي يرى بيته يُحرق من الداخل.
سلام عادل لم يكن مجرّد سكرتير لحزب، بل حامل لواء الحقيقة في زمن المساومات.
قراءتنا لهذا الجزء من سيرته تفضي بنا إلى إدراك أن ما ميّزه لم يكن صرامته وحدها، بل إنسانيته التي لم تساوم، ولغته التي لم تخن الفكرة.
لقد كان يعرف أن الانهيار لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل، وأن الحفاظ على جوهر الحزب لا يكون إلا بتطهيره من الداخل أولاً.
سلام عادل... رجل لم تمنحه الحياة وقتًا كافيًا، لكنه في زمنه القصير ترك أثرًا سيبقى ما بقي الحلم بعراقٍ حرّ وعادل ونقيّ.
يتبع
***



#سعاد_الراعي (هاشتاغ)       Suad_Alraee#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة،(4) قراءة إنسانية لسيرة ب ...
- جدلية المقدّس والخراب في قصيدة -أقنعة المكائد- للشاعر طارق ا ...
- سلام عادل: سيرة إنسانٍ يسبق الثورة (3) الكونفرنس الثاني للحز ...
- قربان الأم... صرخة في وجه الموت
- الخطوط المشتركة بين غرو وكلاين فيما يتعلق بفلسفة العار وعقيد ...
- عندما يكون الفكر ثالثهم!
- سلام عادل: سيرة إنسانٍ سبق الثورة (2) قراءة إنسانية في ملامح ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة. قراءة إنسانية لسيرة بطل
- على حافة الأبوة... حين بكى الجليد-
- الهروب من الماضي: قراءة في رواية «بين غربتين» لسعاد الراعي د ...
- نرجسية الأديب والناقد: الوجه الخفي للتسلط في الحقل الثقافي
- جمعة عبد الله: معاناة بين قهرين في رواية -بين غربتين- سعاد ا ...
- عرض لرواية بين غربتين للكاتبة سعاد الراعي،
- قصة .عندما يكون الفكر ثالثهم!
- بغداد، حين تتكلم القصيدة بدمها
- ابن العمة* سلام عادل:
- قصة بعنوان، كرامة على حافة الوجع
- قصة بعنوان، شكرًا، لأنك لم تكوني سيئة.
- عقيدة الصدمة: الاقتصاد الكارثي كآلية للهيمنة المعولمة – قراء ...
- العراق والحلقة المكتملة من عقيدة الصدمة*: قراءة نقدية في تفك ...


المزيد.....




- رغم اتفاق آذار التاريخي.. مقتل جندي وتوترات متزايدة بين القو ...
- بعد اتفاق أرمينيا وأذربيجان.. مخاوف في إيران من تغييرات جيوس ...
- ترامب يصعّد هجومه على رئيس الاحتياطي الفدرالي: تهديد بملاحقة ...
- حرائق الغابات تهدد القرى في البرتغال وسط ارتفاع شديد في درجة ...
- الاتحاد الأوروبي و26 دولة تطالب بالتحرك -لإنهاء الجوع- في غز ...
- اتفاق أردني سوري أميركي لدعم وقف إطلاق النار في السويداء
- كيف تفاعل مغردون مع إنكار نتنياهو مجاعة غزة؟
- تحذيرات من مجاعة كارثية بغزة و27 دولة تدعو لإجراءات عاجلة
- رصدته كاميرا.. سائق يوجه ألفاظا نابية ضد مسلمين أمام مسجد بأ ...
- خاتم جورجينا: لمَ كل هذا الهوس؟


المزيد.....

- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعاد الراعي - سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، -الجزء الثاني-