عفيف قاووق
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 12:44
المحور:
قضايا ثقافية
رواية "خَوَاء" للأديب الشاعر راضي علوش صدرت سنة 2023 عن دار ناريمان للنشر، رواية تنتمي بحق إلى الأدب الواقعي، لما تناولته من قضايا واقعنا الخلافية وإشكاليات لا تزال مثارة في مجتمعنا اللبناني. تميزت باسلوب سردي رشيق لا يخلو من ومضات شعريّة، فضلاً عن حوارات مقتضبة بين شخوصها لتبيان الرؤى والتباينات التي لا تخفى على أحد في مجتمعنا.
لقد وفق الكاتب باختيار كلمة "خَوَاء" عنوانا لروايته، كوننا في الحقيقة نعيش ونلمس هذا الخواء في أكثر من مفصل ومحطة من محطات حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة.
إنه الخواء بعينه لافتقادنا لحراك سياسي مجتمعي فاعل ومؤثر للتخلص من حالة الركود التي تحاصرنا.
إنه الخواء، لا بل الإحباط بكل ما للكمة من معنى، من خلال حواجز المحسوبيات والمحاصصة التي تقطع الطريق على أصحاب الكفاءة والضمائر الحيّة لتفسح المجال أمام الأزلام وكتبة التقارير.
إنه الخواء الثقافي الذي بموجبه، وخوفًا من الملاحقة او تلفيق التُهم، اعتكف الكثيرمن المثقفين عن ممارسة دورهم في بث حركة الوعي لدى الجمهور، ومن لم يعتكف منهم تحول إلى بوق من أبواق القوى النافذة.
إنّه الخواء الناتج عن غياب القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة .
بالعودة إلى الرواية فإنها تطرقت إلى عدة قضايا منها: الفساد الإداري المستشري، الخلل في النظام التربوي، نظام الأحوال الشخصية، وصولا إلى النظام السياسي والخلل الذي يعتريه.
بإشارات ذات دلالة أظهرت الرواية كيف أنّ الفساد واللجوء إلى تقديم الرشاوى أصبحا بمثابة ثقافة يعتنقها أصحاب المصالح لتمرير صفقاتهم، والتغطية على ارتكاباتهم. وهذا ما لجأ إليه المتمول عاطف في زيارته المفاجئة للموظف ماجد ومبادرته بالقول: "عربون صداقتي ستجده في هذا المغلف، ولا تعتبر ذلك رشوة بل إكرامية مقابل أن تغض النظر عن بعض المخالفات التي أوردتها في تقريرك الرقابي".
كذلك تلفت الرواية إلى تلك الفوضى الإدارية التي تعصف بالإدارة العامة، والخلل في الموازين وتقدم المحسوبيات على الكفاءة بعد أن "أصبح الفيصل الأساس في ذلك ما يحظى به الموظف من قربةٍ لدى هذا الزعيم السياسيّ أو ذاك. لقد استحالت الإدارة إلى مجموعة مزارع على رأس كل منها وزير يرعاها، ويحميها من التابعين لخصومه السياسييّن" (9).
يعيد الكاتب التذكير بالخلل البنيوي للنظام السياسيّ اللبناني وللمكاسب التي حققها أمراء الحرب على حساب الوطن واستثمارهم النفعي لاتفاق الطائف الذي حوّلهم من أمراء حرب إلى أمراء طوائف، "إن البنية السياسية التي أرساها اتّفاق الطائف لا تعدو كونها شركة أسسها فرقاء الحرب الأهليّة الذين اتفقوا على تقاسم الحصص والمغانم (116).
هي شركة بكل ما للكلمة من معنى امتدت أذرعها لتطال القطاع التربوي الرسمي وتعمل على تهميشه وتهشيمه لصالح مؤسساتها التربوية الخاصة. ومن أبرز ضحايا هذه السياسة ما لحق بالجامعة اللبنانية التي يفترض ان تكون جامعة لكل أبناء الوطن وموحدة لهم، لكن الشره الذي سيطر على السياسيين المتنفذين أدى إلى أن "وضعت اليد على كليّة الحقوق بالتلازم مع المحاصصة في السيطرة على كليّات الجامعة اللبنانيّة من قبل الأطراف السياسيّة. فتحولت هذه الكلّيات إلى محميّات حزبيّة طائفية ومذهبيّة" (124).
تشير الرواية إلى تراجع دور المدرسة الرسميّة لحساب المدارس الخاصة ذات الطابع الطائفي والمذهبي، والتي تمارس استغلال المواطن وابتزازه بأبشع الطرق عن طريق الزيادات المتكررة في الأقساط المدرسية غير عابئة بأحوال الأهلين وأوضاعهم المعيشية (44). وهنا نسأل مع الكاتب، "لماذا تمسك المدرسة الخاصّة بزمام التعليم في الوقت الذي تُهمَّش فيه المدرسة الرسمية التي ينبغي أن تكون لها الصدارة باعتبارها المدرسة الوطنية الجامعة لكل أبناء الوطن".(45).
يعيد الكاتب التذكير باختلاف النظرة إلى القضايا الكبرى، والتي بدأت منذ تواجد المقاومة الفلسطينية على ارضنا وانقسام اللبنانيين في ما بينهم، وهذا ما قالته "جنان" في حوارها مع ماجد: "أنتم فتحتم الأبواب لإسرائيل، وأوجدتم لها الذرائع والمبرّرات لتقوم بإعتداءاتها. لقد ساندتم الفلسطينيين في التسلّيح وفي القيام بعمليات عسكريّة". وعلى الرغم من تأييدنا للحق الفلسطيني فإنّ هذا لا يسوغ لنا التنكّر لحقّنا في الحفاظ على أرضنا ومقدراتنا. فالسلاح الفلسطيني لا يجدي نفعا خارج فلسطين، كما انه هو السبب في حدوث إشكالية كبرى ذات طابع أمني وسياسيّ ووطنيّ عام، إذ يشكل عامل انقسام بين اللبنانيين بين مؤيد ومُعارض" (27). دون ان تنسى جنان التذكير بالمقولة الرائجة لدى قسم كبير من اللبنانيين وهي "ما أسرعنا في مناصرة قضايا الآخرين دون المرور بالوطن اللبناني والاهتمام بمشكلاته وقضاياه" (28).
فيما يشبه النقد للحياة السياسيّة في لبنان يُلخص ماجد قراءته لها بالقول: "لا أظن أنّ اللبنانيين قادرون على بناء دولة فعليّة في ظل خلل في بنانا السياسية والاجتماعيّة، فلكل فريق من الأفرقاء معاييره الخاصة (52). أيضا هناك فرق شاسع بين التسوية والميثاق. التسوية لا ترقى إلى مستوى الميثاق إلّا إذا وحّدت بين أبناء الوطن في إطار جامع يلغي الفوارق القائمة بينهم (68).
كان للحملات الانتخابية والخطابات التحريضية المعتمدة فيها مساحة لا بأس بها، حيث إن خطاب كل مرشح من المرشحين يتوجه إلى طائفة بعينها أو إلى منطقة بعينها، وهذا يدل على غياب الخطاب الوطني الجامع.(60). وبدلا من ان تكون الانتخابات من أهم وسائل العمل الديمقراطي، إلّا انها للأسف تحولت إلى لعبة يمارسها الكبار في سبيل السيطرة والتحكّم والاستغلال. ولم يفت الكاتب الإشارة إلى ضرورة العمل على تعديل قانون سن الإنتخاب فليس من باب العدل أن من يبلغ الثامنة عشرة من العمر ويتمتع بالأهلية القانونية ألا يمنح حق الانتخاب (140).
في موضع آخر تتطرق الرواية إلى مسالة قوانين الأحوال الشخصية والزواج المختلط. فبعد ان نشأت علاقة حب بين ماجد المسلم وصديقته المسيحية جنان وتصميمهما على الزواج الذي قوبل برفض تام من أهلها وإجبارها على من آخر السفر معه إلى بلاد الاغتراب، في حين كان الرفض من قبل أهله اقل وطأة، وإن أحتمل في طياته تحذيراً من فشل مثل تلك العلاقة. تقول ام ماجد لابنها: "اللي بياخذ من غير ملتو بموت بعلتو" (31). وتقدم الرواية حلاًّ لهذه المعضلة يكمن في اعتماد العلمنة التي تفصل بين الدين والدولة، وهي البوّابة العريضة التي يدخل منها المواطنون جميعهم إلى رحاب الدولة المدنيّة الجامعة"(89). فليس من سبيل سوى التمرد على القوانين الظالمة البالية التي تتعارض مع قوانين الإنسان الطبيعية. فالفكر الحر الذي ينبغي أن نحظى به يدفعنا في اتجاه مغاير للاتّجاه الذي يحرص الأهل على سلوكه (38).
وفي ما يشبه الدعوة من قبل الكاتب للمنتديات الثقافية المنتشرة بكثرة في وطننا إلى أن تقوم بدورها الحقيقي والمنتج في سبيل الوصول إلى التغيير المبتغى في الوطن، يؤكّد الكاتب الدور الذي يؤدّيه الفكر والأدب، والذي لا يمكن إغفاله، في التمهيد لأي تغيير مُرتجى شريطة معرفة كيفية توظيفه، وهذا ما حصل في الثورة الفرنسيّة وغيرها من الثورات.
ولكون الكاتب جنوبيّ الهوى والانتماء، فإنّه لا يزال يؤمن بانّ في الخيارات الصعبة لا بد من تغليب خيار المقاومة الذي يشكل وجه الحريّة المتوهّج (119). ولهذا كانت نصيحته لصديقته جنان بأن تستثمر في الجنوب وتساهم في تنميته، وفاءً لأرض تستحق النماء واستشرافّا للمستقبل. منتقدا في الوقت عينه ما نلحظه من مظاهر البناء والعمران في المناطق المختلفة، لأنها لا تملأ ذاك الخواء، ولأنها لا تستند إلى رؤية سليمة وأسس متينة (75).
ختاما لقد قدّم لنا الأستاذ راضي علوش رواية تحفز القارئ على التمعن في ما هو قائم، وفي ما يجب أن يكون، كي لا ينتهي بنا الأمر مثلما انتهى بماجد الذي لم يحظَ بالترقية التي يستحقها بعد ان حرمها منه المتسلقون والمتزلفون، ليكون قراره الاستقالة والهجرة، وليعمل في خدمة جنان، راعياً لمصلحتها في بلاد الاغتراب.
#عفيف_قاووق (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟