أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فرحات - نهلة البيباوي… صرخة بيانو في وجه زمن القبح














المزيد.....

نهلة البيباوي… صرخة بيانو في وجه زمن القبح


محمد فرحات

الحوار المتمدن-العدد: 8436 - 2025 / 8 / 16 - 09:24
المحور: الادب والفن
    


هناك ليالٍ تمر في الذاكرة كالعابر الخفيف، وهناك ليالٍ تتحول إلى صفعة توقظك من غفوة طويلة. ليلة الجمعة، 15 أغسطس 2025، على مسرح مكتبة مصر الجديدة، كانت صفعة من النوع الثاني. صفعة بيانو، تقودها بيانست محترفة اسمها نهلة البيباوي، وقفت وسط فرقتها كما يقف قائد ثوري في ميدان مقاومة، تواجه بأوتار البيانو ما عجزت السياسة عن مواجهته: انحدار الذوق العام، وسيطرة الابتذال، وانتحار الجمال على يد مهرجانات الإسفاف.

نعيش في زمن تُسحق فيه الفنون الرفيعة تحت أقدام جحافل من الضوضاء المدعومة إعلاميًا، زمن تتباهى فيه شاشات التلفزيون ومواقع التواصل بـ"نجوم" بلا موهبة، بينما يختنق الفنانون الحقيقيون في الظل. زمن صار فيه العزف الراقي فعلاً شبه سري، يُمارس في قاعات مغلقة كأننا في مقاومة تحت الأرض، بينما الشوارع والساحات أسيرة الأغاني المعلبة، و"كلمات" تُشبه الشتائم أكثر مما تشبه الشعر.

نهلة البيباوي لم تكتفِ بالعزف؛ هي تعلن موقفًا. فمنذ سنوات وهي تربي جيلًا من العازفين، من أطفال لا تتجاوز أعمارهم الثامنة، إلى شباب بلغوا العشرين. لم تخرجهم من معاهد مغلقة، بل من مدرسة حقيقية للحس والذوق والنظام والانضباط. لكن الرقم الصادم هو أن 99% من هؤلاء تلاميذ مسيحيون مصريون. ليست صدفة. إنها شهادة إدانة لواقع ثقافي تم تديينه حتى العظم، وجرى فيه شيطنة الموسيقى، وتحويلها في نظر ملايين من المسلمين إلى "لهو محرم" أو "بدعة"، نتيجة عقود من الهيمنة السلفية والوهابية على التعليم والمنابر.

هذه الأمسية لم تكن فقط عزفًا موسيقيًا، بل كانت احتجاجًا حضاريًا على دولة قررت أن تترك الفنون تموت، وأن تترك الشارع نهبًا للسوقية. فالفنون ليست كماليات كما يحب أن يصورها الخطاب الشعبوي، بل هي تاج الهرم القيمي لأي أمة. حين تتدهور الفنون، فاعلم أن البنية الاجتماعية والسياسية قد تفسخت.

على الخشبة، كان المشهد شديد الرمزية: أطفال وشباب من خلفيات أرستقراطية تعليمية واجتماعية واضحة، تعلموا أن يقفوا في صفوف، وأن يصغوا لبعضهم، وأن يتنفسوا معًا قبل العزف. ذلك الانضباط، وذلك الاحترام المتبادل، هما النقيض المباشر لواقع الشارع الذي صار أسيرًا للفوضى والعنف اللفظي والجسدي.

نهلة البيباوي وطلابها هم صورة من المستقبل الذي يمكن أن يكون، لو امتلكت الدولة شجاعة أن تضع الفنون في قلب مشروعها الوطني، بدل أن تتركها هامشية، أو ترفع شعار دعمها في المهرجانات الرسمية بينما تدفنها حيّة في السياسات اليومية.

إن ما جرى على مسرح مكتبة مصر الجديدة ليس مجرد عرض موسيقي، بل هو بيان احتجاجي مكتوب بالنغم. نغمة تقول: لسنا أقل من شعوب العالم التي تحترم فنانيها. نغمة تصرخ: لسنا مجبرين أن نعيش في زمن البلطجة الفنية. نغمة تهمس: الجمال ليس رفاهية… الجمال ضرورة للبقاء.

تلك الليلة، ولو عبرت سريعًا، كانت دليلًا أن المقاومة ممكنة، وأن البيانو قد يكون أحيانًا أكثر صدقًا من كل خطابات الإصلاح المزعومة. وربما، فقط ربما، تكون هذه الصرخة قد وجدت من يلتقطها، قبل أن يبتلعنا القبح نهائيا

إن المسؤولية عن هذا الانهيار الجمالي لا تقع على الشارع وحده، بل على مؤسسات الدولة ذاتها: وزارة الثقافة التي تحولت إلى مكتب بروتوكولات، وزارة التعليم التي قتلت حصص الموسيقى والفنون في المدارس، ووزارة الإعلام التي جعلت شاشاتها منابر لتسويق الجهل والابتذال. إن الإصلاح الحقيقي يبدأ بإعادة الفنون إلى قلب التعليم، وتحرير المسرح والموسيقى من قبضة البيروقراطية والرقابة العقيمة، ودعم الفنانين لا بالشعارات، بل بالموارد والبنية التحتية. بدون ذلك، ستظل أمسيات مثل ليلة نهلة البيباوي مجرد ومضات معزولة، تُضيء لحظة… ثم يخنقها الظلام من جديد.

الشهداء
٢٦ أغسطس ٢٠٢٥






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأكاديمي حينما يتحول لبوق أيديولوجي
- انحرافات خالد أبو الليل: كيف تحوّل -الباحث الشعبي- إلى بوقٍ ...
- شعبان يوسف يخلع عباءة النقد ليرتدي جلباب الرقيب المتقاعد
- زياد الرحباني: حين صار الفن موقفًا والصوت مانيفستو لا يساوم
- دولة نص كُم خير من عصابة بكُم
- بين الحلم الاشتراكي والحلم الليبرالي
- اكتبوه ميتًا: تمثلات القمع ومقاومة الحياة في سردية الطفولة ع ...
- جسد من حرير السماء: شعرية التقمص الصوفي في خطاب سعدني السلام ...
- الموظف الأخير
- برهامي والميثاق المقدّس: فتوى على مقاس الاحتلال
- كنافة على الهامش: عبث الواقع وسخرية الحلم – قراءة نقدية في ض ...
- من رجال الدين إلى دين الرجال: كيف تحوّل النص المقدّس إلى أدا ...
- لماذا صدمتنا صفحة شيخ الأزهر ببيان رثاء الحويني؟
- مأساة العصافير: قراءة اجتماعية ماركسية في بنية القمع الرمزي
- الميليشيا بديل الدولة: من الحلم الإسلامي إلى الوكالة الاستخب ...
- مسلسل -معاوية-
- حارس الكلمة الأخير
- -مرارًا وتكرارًا- جسور التجريبية والتراث بشعر خالد السنديوني ...
- الوجود والعدم عند مصطفى أبو حسين، قصة -ابن الجزمة- نموذجا.
- تحقيق الشفا للقاضي عياض: بين السخرية العلمية وتزوير التراث


المزيد.....




- إفران -جوهرة- الأطلس وبوابة السياحة الجبلية بالمغرب
- يمكنك التحدّث لا الغناء.. المشي السريع مفتاح لطول العمر
- هل يسهل الذكاء الاصطناعي دبلجة الأفلام والمسلسلات التلفزيوني ...
- فيلم جديد يرصد رحلة شنيد أوكونور واحتجاجاتها الجريئة
- وثائقي -لن نصمت-.. مقاومة تجارة السلاح البريطانية مع إسرائيل ...
- رحلة الأدب الفلسطيني: تحولات الخطاب والهوية بين الذاكرة والم ...
- ملتقى عالمي للغة العربية في معرض إسطنبول للكتاب على ضفاف الب ...
- لأول مرة في الشرق الأوسط: مهرجان -موسكو سيزونز- يصل إلى الكو ...
- شاهين تتسلم أوراق اعتماد رئيسة الممثلية الألمانية الجديدة لد ...
- الموسيقى.. ذراع المقاومة الإريترية وحنجرة الثورة


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فرحات - نهلة البيباوي… صرخة بيانو في وجه زمن القبح