محمد فرحات
الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 14:49
المحور:
الادب والفن
النص الذي بين أيدينا هو مقطوعة نثرية شديدة الثراء، تشتبك مع أسئلة الوجود والهوية والجنون، وتحمل بصمات سرد شعري صوفي، من توقيع الأديب والشاعر العالمي سعدني السلاموني، الذي يجيد المزج بين الواقع والخيال، وبين الميتافيزيقي واليومي، عبر رموز مركّبة وسرد متدفق يتجاوز المنطق التقليدي إلى رؤى أكثر انفتاحًا وتعددًا.
وإلى عزيزي القارئ أقدم النص كاملًا، وهو جزء من رواية الشاعر الكبير "ما بين الحياة والموت" تحت النشر، يليه دراسة متكاملة.
"١"
"وفجأة ظهر لي الوحي في المرآة، مددت يدي إليه وأخرجته، فوجدته نسخة مني، وأنا نسخة منه، ولا أعرف من الأصل حتى وقتنا هذا!
ولكن أن يعيش الإنسان بجسدين، فهذا مرهق جدًا نفسيًا وماديًا.
فأنا أحب الله، والأديان عامة، وأحب الهدوء والسلام والراحة والنوم، وعاشق للصوفية الإنسانية.
وهو عاشق للنساء والخمور والحرية، ولا يرى في العالم إلا هو، ولا يطيق النوم، ويسافر إلى نهاية الكواكب والأكوان في جزء من الدقيقة.
ومع السنين تصادقنا، وعشقته عشقًا، ولكن كانت هناك مشكلة أبدية بيني وبينه، حين أدخل عليه غرفته لأطمئن على وجوده، أجده يخونني مع عشيقتي!
أطردهم من الشقة في غضب، وفي نهاية الليل يأتي لي سكران وفاقد توازنه، وأثوابه ممزقة، أضمه إلى صدري ضمة الأم لطفلها، وأضعه على السرير وأقول له: "نتفاهم صباحًا".
وفي اليوم الثاني خرج بمظاهرة، وكل الناس خرجت وراءه. وجاء في نهاية الليل سكران، ووراءه شبكات أمنية عالمية لا تُحصى ولا تُعدّ تراقبه.
لطمت الخدود وأنا أصرخ فيه: "مالي أنا بالسياسة والأمن والمظاهرات؟!"
وفجأة تلبسته روح العالم العراقي الكبير الحسن ابن الهيثم، الهيثم توأم روحه كما يظن.
أقول له: "يا سلاموني"، فيقول: "سلاموني مين؟ أنا الحسن ابن الهيثم، أنا روح حسن، وحسن روحي!".
وفجأة طار على القلم وراح يكتب... وفجأة مات الحاكم بأمر الله!
قلت: "أطلع أعيش الحياة"،
لقيت الحياة سجن، والسجن حياة،
بصيت بعيني بعيد،
لقيت ملك الموت شايل كفن من حرير السماء، وعشرين ملك جايين وراه،
قال: "جاهز وحدوه"،
قلت: "جاهز وحدّنا، أدخل جوه جسمي، هات الروح بالراحة، وحصلني"،
توكلنا على الله... توكلنا على الله.
مرهق هذا الجسد، خاصة حين تعيش به في وطن مثل مصر أو الوطن العربي.
من هنا قررت أن أتخلص منه، أو أتخلص من جسدي أنا شخصيًا، وأرتاح للأبد، خاصة أنني لا أعرف من أين جاء هذا الجسد العبقري! هل جاء من رحم جسدي الآدمي؟ أم رحم جسدي الإنساني؟ أم رحم جسد السماء؟
والأدهش أن العلماء الأغبياء الوحوش صنعوا له مصحّات حتى يصفوهم جسديًا، وهو العبقرية بعينها أو عين العبقرية.
وفجأة، وأنا أفكر في هذا، جاءت طرقات شديدة كادت أن تطيح بباب شقتي.
– مين؟
– مين؟
– افتح يا جبان، يا عربيد، يا بتاع النسوان،
ياللي دايمًا تطوح، لا همك رمضان ولا غير رمضان،
– مين؟؟ مين؟؟
– افتح يا قليل التربية، يا عديم الدين!
– حافتح بعد ما أصلي ركعتين، أنا تحت الدش، حانشف جسمي وطالع طالع...
– جسمك معانا، ما تنشفوش!
اتخضيت، لما لقيتهم شايلين جسمي، وكان سكران طينة، لابس فردة جزمة قديمة، ومضيع فردة، وبيقول:
"افتح ياد، دخلني!"
قلت: "أدخلك فين؟!
والمصحف يا جماعة، دا مش هو جسمي،
حتى شوفوا البطايق، حتلاقوا اسمه غير اسمي،
هو عنده خمسة وتلاتين سنة، أنا عندي خمسين،
يبقى جسمي منين؟!
رميتوا جسم على إمبارح، وأدى جسم، يبقوا جسمين،
أوكلهم منين؟!
دا مش جسمي!!"
من هنا قررت أن أدفنه، وأتخلص منه في كل قصائدي، حتى كتبت ديوانًا تحت اسم (مش هو دا جسمي)، خاصة حين هاتفني قسم الشرطة وهو يقول: "تعال استلم جسمك اللي عامل لي فيها ثوري"،
ووجدته منهارًا، وخاسس، ولحم على عظم.
صرخت فيهم: "دا مش جسمي، ادفنوه، وأنا حاطلب من ربنا يديني جسم جديد، وأكتب عليه اسم غير اسمي".
ومنذ هذا اليوم، وأنا أدعو الله أن يبدل جسدي بجسد يحمل موهبة عادية، مثل كل المبدعين، حتى لا يقضي على حياتي الجسدية الآدمية.
وعز وجل لا يستجيب.
فنظرت إلى السماء وأنا أقول: "لماذا لم يستجب الله عز وجل إلى دعائي؟!"
نظر لي وهو يقول: "الوقت فات، أيام وتكون بين يدي الله".
وفي نهاية عمري، اكتشفت أن كل إنسان على الكرة الأرضية يعيش بجسدين:
– منهم من يدرك هذا الجسد، ويعيش معه في سلام،
– ومنهم من يطوّعه للعلم أو الإبداع،
– ومنهم من يعيش معه في صراع،
– ومنهم من لا يدركه، ويعيش عمره بالجسد الواحد حتى نهاية عمره، وهو لا يعلم أنه يمتلك جسدًا آخر."
**
"٢"
وفي ما يلي تحليل تفصيلي للمقطوعة من حيث المضمون الفني، والبنية الجمالية، ورمزية القرين في بعدها المحلي والعالمي:
أولًا: المعادل الرمزي – الجسد والقرين كمرآة مزدوجة
يتخذ النص من صورة الجسد المزدوج أو "القرين" منطلقًا رئيسيًا للتماهي بين الذات والآخر، بين الرغبة والضمير، بين الروح والمادة.
يقول:
> "فجأة ظهر لي الوحي في المرآة، مددت يدي إليه وأخرجته، فوجدته نسخة مني، وأنا نسخة منه".
وهنا تحضر المرآة كأداة للكشف، مثلما ظهرت في نصوص المتصوفة مثل النفري وابن عربي، وكأنها قناة اتصال بين مستويين من الوجود.
هذا القرين الذي "يعشق النساء والخمور والحرية"، بينما المتكلم "يحب الله، والأديان، والصوفية"، يرمز إلى الانقسام الكياني في الإنسان بين الدافع الحيواني والنزوع الروحي، في تقابل واضح مع ثنائية الهو والأنا العليا في التحليل النفسي الفرويدي.
ثانيًا: من المحلية إلى الكونية – الجسد بين مصر والعالم
ينتقل السرد من الإطار الشخصي إلى مساحة أشمل حين يقول:
> "مرهق هذا الجسد، خاصة حين تعيش به في وطن مثل مصر أو الوطن العربي".
هذا الانتقال يُظهر كيف يصبح الجسد في الوطن العربي مرآة لعذابات الكينونة الإنسانية، فالمعاناة هنا ليست فقط روحية أو فلسفية، بل سياسية ومادية أيضًا: أمن، مظاهرات، قمع، شرطة، عبث وجودي.
الجسد هنا ليس قالبًا بيولوجيًا فقط، بل حقلًا تتصارع فيه القوى الروحية والسياسية والاجتماعية. يشبه هذا الطرح ما قدّمه "كافكا" في أدب العبث، أو ما تجلّى عند "بيكيت" في مسرح اللامعقول.
ثالثًا: توظيف الخيال – الخروج عن الزمن والمكان
السلاموني يكتب خيالًا وجوديًا بصيغة متفجّرة:
> "تلبسته روح الحسن ابن الهيثم"،
"فجأة مات الحاكم بأمر الله"،
"جاء ملك الموت شايل كفن من حرير السماء".
هذه التداخلات تمثل ما يسميه الناقد "بول ريكور" بـ الزمن السردي المُضاعف، حيث الماضي والأسطورة والحاضر يذوبون في خطاب رؤيوي واحد.
استخدام شخصية الحسن ابن الهيثم ليس اعتباطيًا، بل هو رمز للعلم والعبقرية والرؤية، كأن القرين يحمل وعيًا مفرطًا بعالم لا يحتمل الوعي، ويكون مصيره – كما في النص – الانهيار والمطاردة والموت.
رابعًا: البناء الفني – خطاب اعترافي/مونولوغي يتجاوز الذات
يتخذ النص شكل الاعتراف الصوفي، لكنه يتقاطع مع الدراما النفسية في الأدب الحديث:
الحوارات المتقطعة: "– مين؟ – افتح يا جبان..."
السخرية الوجودية: "دا مش جسمي، حتى شوفوا البطايق"،
التداخل بين الواقعي والهلوسي: "جسمك معانا، ما تنشفوش".
> كلها علامات تذكرنا بأدب فرانز كافكا أو فوكو في "تاريخ الجنون"، حيث يُعاقب الجسد لأنه عبقري، وتُصنع له "مصحات" فقط لأنه يرفض النمط العادي.
خامسًا: الخاتمة – تأمل وجودي يفضي إلى قانون فلسفي
ينهي الكاتب بقانونٍ تأمليّ:
> "كل إنسان على الأرض يعيش بجسدين"،
ويُقسّم البشر إلى:
1. من يدرك جسده الآخر.
2. من يعيش في سلام معه.
3. من يطوّعه للإبداع.
4. من يعيش في صراع.
5. من لا يدركه أبدًا.
وهنا يبلغ النص ذروته الفلسفية، فالفرد لا يُعرّف بجسده الواحد، بل بتعدديته الكيانية، وهو ما يتقاطع مع مقولات "دولوز" و"غواتاري" في مفهوم "الجسد بلا أعضاء" (Body without organs) حيث الكينونة تُبنى على التعدد والتحول لا على الثبات والجوهر.
سادسًا: السلاموني وتفرد المعالجة في السياق العربي
في الأدب العربي، ظهرت فكرة القرين أو التوأم الظليّ في:
"موسم الهجرة إلى الشمال" (الطيب صالح)،
"الخبز الحافي" (محمد شكري)،
"الضوء الأزرق" (حسن نجمي)،
لكن السلاموني يتفرّد بأنه لا يجعل من القرين مجرد آخر مضاد، بل امتدادًا وجوديًا داخليًا، ويُسقط عليه أزمنة التاريخ والفكر العربي (الحسن بن الهيثم – الحاكم بأمر الله)، ويتعامل معه باعتباره مرآة للكينونة في صراعها مع السلطة والعالم والنفس.
تُعدّ هذه المقطوعة نموذجًا نادرًا في الأدب العربي المعاصر، إذ تُنتج من خلال "القرين" خطابًا فلسفيًا وجوديًا عميقًا، متشبعًا بالصوفية، ومشحونًا بالسخرية السياسية والاجتماعية، ومفتوحًا على تأويلات لا حصر لها، ضمن بناء لغوي مكثف، ومفاصل درامية حادة.
إنها سيرة روحية موازية، تأخذ من الشعر حريته، ومن الرواية عمقها، ومن التصوف صفاءه، لتصوغ سؤالًا مؤرقًا:
هل نحن جسد واحد؟
أم أن كل مبدع، كما قال السلاموني، هو "جسد عبقري لا يحتمله الوطن"؟
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟