محمد فرحات
الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 08:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعيش المجتمعات اليوم أزمة مزدوجة: أزمة في العدالة
الاجتماعية وأزمة في الحرية السياسية. وقد خبرت مصر، مثل كثير من الدول التي مرت بتحولات كبرى، هذا التوتر بين حاجتها إلى دولة قوية تحمي الفئات الأضعف وتضمن الاستقرار، وبين رغبة أبنائها في فضاء مفتوح للتعبير والمبادرة الفردية والاقتصادية. عبر عقود، تراوحت التجربة المصرية بين نموذجين متباينين: نموذج ليبرالي بدأ مع ثورة 1919 أرسى دعائم الحياة النيابية والحريات السياسية والاقتصاد الحر لكنه عانى من غياب واضح للعدالة الاجتماعية، ونموذج اشتراكي قومي صاعد مع ثورة يوليو 1952 ركز على توزيع الثروة وتحقيق شكل من أشكال المساواة لكن على حساب الحريات العامة والديمقراطية وتعدد الأصوات.
هذه التجارب المتراكمة أكدت أن الاعتماد على طرف واحد من المعادلة لم يعد كافيًا، وأن مصر والعالم العربي بحاجة إلى صيغة سياسية واقتصادية متوازنة تتجاوز هذا الاستقطاب التاريخي، صيغة تستند إلى الجمع بين مبادئ العدالة الاجتماعية والديمقراطية الليبرالية في إطار من الاقتصاد الحر المنضبط بمصالح الدولة العليا وقيمها الأخلاقية. المقصود هنا ليس مجرد توافق شكلي بين الأفكار بل مشروع وطني حقيقي يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين الفرد والدولة، بحيث تكون الدولة حارسة للحقوق لا مُصادرة لها، ومنظّمة للسوق لا محتكرة له، وضامنة لحرية الأديان والتعدد الفكري دون أن تنزلق إلى التفكك أو الفوضى.
العدالة الاجتماعية ليست ترفًا ولا شعارًا نظريًا بل شرط واقعي لاستقرار أي مجتمع حديث. غيابها يؤدي إما إلى انفجار اجتماعي أو إلى عزوف عام عن العمل والإنتاج. لكنها لا تعني بالضرورة العودة إلى الاقتصاد الموجّه أو سيطرة الدولة على كل شيء. يمكن لدولة حديثة أن توازن بين تشجيع القطاع الخاص وضمان حقوق الفئات الأفقر عبر نظام ضريبي تصاعدي عادل، واستثمار وطني في التعليم والصحة والخدمات الأساسية. وفي المقابل فإن الاقتصاد الحر حين يُترك بلا ضابط يتحول إلى مساحة لاستقواء الأقوياء على الضعفاء وتفكيك النسيج الاجتماعي. من هنا ضرورة وجود دور تنظيمي صارم للدولة يحفظ التوازن بين المنافسة وحماية الفئات الأضعف.
أما الحريات السياسية فتظل جوهر الدولة المدنية الحديثة. لا يمكن الحديث عن تقدم حقيقي إذا ظلت السلطة محتكرة للحكم دون تداول حقيقي أو إذا بقيت المعارضة محاصرة والأصوات المختلفة ممنوعة. الديمقراطية هنا ليست فقط مسألة انتخابات شكلية بل نظام متكامل يضمن فصل السلطات واستقلال القضاء وحرية الإعلام والنقابات والأحزاب والجمعيات الأهلية. وتجربة النظم التي مزجت بين الاستبداد والاقتصاد المفتوح أثبتت فشلها في النهاية لأنها تبني مجتمعات مريضة وعاجزة عن الاستمرار.
وفي هذا الإطار تبدو الدولة المدنية العلمانية بصيغتها الوطنية ضرورة عملية أكثر منها خيارًا أيديولوجيًا. العلمانية هنا ليست عداءً للدين بل احترام حقيقي له عبر إبعاده عن الصراعات السياسية وتوفير حرية ممارسة الشعائر للجميع دون تدخل أو تمييز. ولا يمكن بناء دولة قوية حديثة إذا ظلت السياسات مقيدة باعتبارات مذهبية أو طائفية.
يبقى أخيرًا أن هذا المشروع الوطني المتوازن لا ينجح إلا إذا وُجدت إرادة سياسية واضحة لصياغته وتنفيذه بشكل تدريجي وواقعي، بعيدًا عن القفزات أو الشعارات غير القابلة للتطبيق. المطلوب ليس دولة جديدة من فراغ بل تطوير عقل الدولة والمجتمع معًا ليؤمنا بأن الجمع بين العدل والحرية ليس مستحيلاً بل هو الشرط الوحيد لبقاء الوطن حيًا وقادرًا على الحياة في زمن متغير سريع الإيقاع.
الشهداء
يوليو ٢٠٢٥
تعيش المجتمعات اليوم أزمة مزدوجة: أزمة في العدالة
الاجتماعية وأزمة في الحرية السياسية. وقد خبرت مصر، مثل كثير من الدول التي مرت بتحولات كبرى، هذا التوتر بين حاجتها إلى دولة قوية تحمي الفئات الأضعف وتضمن الاستقرار، وبين رغبة أبنائها في فضاء مفتوح للتعبير والمبادرة الفردية والاقتصادية. عبر عقود، تراوحت التجربة المصرية بين نموذجين متباينين: نموذج ليبرالي بدأ مع ثورة 1919 أرسى دعائم الحياة النيابية والحريات السياسية والاقتصاد الحر لكنه عانى من غياب واضح للعدالة الاجتماعية، ونموذج اشتراكي قومي صاعد مع ثورة يوليو 1952 ركز على توزيع الثروة وتحقيق شكل من أشكال المساواة لكن على حساب الحريات العامة والديمقراطية وتعدد الأصوات.
هذه التجارب المتراكمة أكدت أن الاعتماد على طرف واحد من المعادلة لم يعد كافيًا، وأن مصر والعالم العربي بحاجة إلى صيغة سياسية واقتصادية متوازنة تتجاوز هذا الاستقطاب التاريخي، صيغة تستند إلى الجمع بين مبادئ العدالة الاجتماعية والديمقراطية الليبرالية في إطار من الاقتصاد الحر المنضبط بمصالح الدولة العليا وقيمها الأخلاقية. المقصود هنا ليس مجرد توافق شكلي بين الأفكار بل مشروع وطني حقيقي يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين الفرد والدولة، بحيث تكون الدولة حارسة للحقوق لا مُصادرة لها، ومنظّمة للسوق لا محتكرة له، وضامنة لحرية الأديان والتعدد الفكري دون أن تنزلق إلى التفكك أو الفوضى.
العدالة الاجتماعية ليست ترفًا ولا شعارًا نظريًا بل شرط واقعي لاستقرار أي مجتمع حديث. غيابها يؤدي إما إلى انفجار اجتماعي أو إلى عزوف عام عن العمل والإنتاج. لكنها لا تعني بالضرورة العودة إلى الاقتصاد الموجّه أو سيطرة الدولة على كل شيء. يمكن لدولة حديثة أن توازن بين تشجيع القطاع الخاص وضمان حقوق الفئات الأفقر عبر نظام ضريبي تصاعدي عادل، واستثمار وطني في التعليم والصحة والخدمات الأساسية. وفي المقابل فإن الاقتصاد الحر حين يُترك بلا ضابط يتحول إلى مساحة لاستقواء الأقوياء على الضعفاء وتفكيك النسيج الاجتماعي. من هنا ضرورة وجود دور تنظيمي صارم للدولة يحفظ التوازن بين المنافسة وحماية الفئات الأضعف.
أما الحريات السياسية فتظل جوهر الدولة المدنية الحديثة. لا يمكن الحديث عن تقدم حقيقي إذا ظلت السلطة محتكرة للحكم دون تداول حقيقي أو إذا بقيت المعارضة محاصرة والأصوات المختلفة ممنوعة. الديمقراطية هنا ليست فقط مسألة انتخابات شكلية بل نظام متكامل يضمن فصل السلطات واستقلال القضاء وحرية الإعلام والنقابات والأحزاب والجمعيات الأهلية. وتجربة النظم التي مزجت بين الاستبداد والاقتصاد المفتوح أثبتت فشلها في النهاية لأنها تبني مجتمعات مريضة وعاجزة عن الاستمرار.
وفي هذا الإطار تبدو الدولة المدنية العلمانية بصيغتها الوطنية ضرورة عملية أكثر منها خيارًا أيديولوجيًا. العلمانية هنا ليست عداءً للدين بل احترام حقيقي له عبر إبعاده عن الصراعات السياسية وتوفير حرية ممارسة الشعائر للجميع دون تدخل أو تمييز. ولا يمكن بناء دولة قوية حديثة إذا ظلت السياسات مقيدة باعتبارات مذهبية أو طائفية.
يبقى أخيرًا أن هذا المشروع الوطني المتوازن لا ينجح إلا إذا وُجدت إرادة سياسية واضحة لصياغته وتنفيذه بشكل تدريجي وواقعي، بعيدًا عن القفزات أو الشعارات غير القابلة للتطبيق. المطلوب ليس دولة جديدة من فراغ بل تطوير عقل الدولة والمجتمع معًا ليؤمنا بأن الجمع بين العدل والحرية ليس مستحيلاً بل هو الشرط الوحيد لبقاء الوطن حيًا وقادرًا على الحياة في زمن متغير سريع الإيقاع.
الشهداء
يوليو ٢٠٢٥
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟