|
زمن بلا باب - سياحة في (باب الدروازة) للروائي علي لفتة سعيد
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8416 - 2025 / 7 / 27 - 19:22
المحور:
الادب والفن
أولا: مقدمة لابد منها في العام الماضي، أهداني صديقي الكاتب المبدع علي لفتة سعيد، مشكورًا، عددًا من مجاميعه الإبداعية: قصصًا قصيرة، ودراسات أدبية، وبعضًا من رواياته. وفي حينها، كتبت مقالًا أدبيًا حول إحدى قصصه، وكانت القصة تحمل مغزى جميلًا وفكرة فلسفية لافتة، وهو ما شدّني إليها كثيرًا، كوني أميل بشدة إلى القضايا الفلسفية، وخصوصًا تلك التي عالجها الروائي الكبير دوستويفسكي، في جُل أعماله، والتي تركت في نفسي أثرًا عميقًا. ومن ضمن اعترافاتي الخاصة، أنني لا أميل كثيرًا إلى الرواية العراقية، وهذا ربما يُعدّ نقطة ضعف في ذائقتي، أو أمرًا آخر أحتفظ بتفسيره لنفسي. والحق أنني لم أقرأ سوى ما لا يزيد على عشرين رواية عراقية، أو أكثر قليلًا، طوال مسيرتي في القراءة والاطلاع. ربما يعود ذلك إلى أن كثيرًا من تلك الروايات ــ بحسب انطباعي الشخصي ــ تفتقر إلى العمق الفلسفي، أو لأسباب أخرى لا أرغب في الإفصاح عنها، فهي مما أعدّه جزءًا من خصوصيتي. لذلك من باب الخجل من اصدقائي المبدعين، يكون لزاما علي، ومن باب أخلاقي أيضا، أضطر إلى قراءة روايات لبعض ممن اهداني عمل روائي، وينتظر مني ابداء رأيي بكتابة مقال من مقالاتي الادبية البسيطة، وليس لي على أحد فضل، انما أعبّر عن كتاباتي البسيطة، وأنا أقوم بالكتابة من هنا وهناك، لا تتجاوز حدود الابداع. في الأسبوع الماضي، قد انتهيت من قراءة رواية "باب الدروازة" للكاتب علي لفتة سعيد، وقررت أن أدوّن انطباعاتي عنها. لكنني شعرت بشيء من التردد. من أين أبدأ؟ وكيف أنتهي؟ وكيف أكتب بما يليق بهذا العمل؟. لهذا، آثرت ألّا أستعجل في كتابة رأيي، حرصًا مني على أن أمنح الرواية ما تستحقه من تأمل وتمعّن، الا أني كتبت بعض الاسطر كمسودة. ثم إن الكاتب علي لفتة سعيد ليس مجرد روائي فحسب، بل ناقد أدبي بارع، وله باع طويل في هذا الحقل الإبداعي. وهذا ما زاد من ترددي، إذ وجدتني أقول لنفسي: لا يصحّ أن أكتب شيئًا إلا إذا كان يليق بذائقته، ويحترم قامته الأدبية. لذا، تأنّيت قليلًا، حتى تتبلور رؤيتي، ويأتي النص الذي أكتبه عنها على قدر ما أثارته الرواية في نفسي من أفكار وأسئلة. علاوة على ذلك، فأنا لم أطرح نفسي يومًا كناقد أكاديمي متخصص أو بارع في حقل النقد، بقدر ما أعبّر عن وجهة نظري الشخصية في أي عمل أقرؤه. قد أصيب أحيانًا، وقد لا ألامس الحقيقة في جوانب أخرى. وربما أُصيب من زاوية، وأُخفق من زاوية مختلفة. فكل ما أقدمه هو انطباع قارئ منحاز للصدق، يحاول أن يرى الجمال بطريقته، دون ادعاء امتلاك الحقيقة الكاملة. ثانيا: انطباعاتي حول رواية "باب الدروازة" "كان ذلك في صيف 1978، حين وطأت قدماه أرض العاصمة بغداد.. ". هكذا يبدأ الروائي علي لفتة سعيد، أحداث روايته، أو بالأحرى تبدأ الرواية مسيرتها، دون مقدمات استعراضية، أو مقدمات تمهيدية، تشدّ القارئ، كأنها تريد الإمساك بالقارئ من لحظة دخوله الأولى إلى العالم الذي تنسجه، دون أن تمنحه فرصة للتأمل او الاستجمام الفكري. بل تسحبك إلى الداخل، مباشرة حيث الصبي "خلاوي" ينتقل من جنوب العراق إلى بغداد، ليس بصفته فاعلًا في هذا الانتقال، بل مغلوبا على أمره: مكانيًا ونفسيًا. لا يملك القرار والشجاعة، لكنه يملك الحيرة، وتلك الحيرة هي التي تشكّل احداث الرواية بالكامل. كل شيء في الرواية يبدو مألوفًا من فرط بساطته، لكنه مشحون بالتوتر الصامت. المشهد ليس غرائبيًا، ولا محكومًا بحدث درامي صادم، بل هو تراكم يوميات خانٍ قديم تقطنه عائلات متباينة الطبائع، من مشارب اجتماعية وعقائدية متعددة. ومع ذلك، فإن الحكاية لا تتفتت وسط هذا التعدد، بل تتماسك عبر خيط خفي من الشعور العام بالاختناق. الرطوبة، الحوارات العابرة، التفاصيل المعيشية، كلها ليست زينة للزمن السردي، بل هي الزمن نفسه. الرواية تصور للقارئ اللامرئي في الحياة اليومية: الهواجس، القلق الاجتماعي، الفجوة بين الداخل والخارج، الخوف من المدينة بوصفها سلطة، والحنين إلى القرية بوصفها أمًا حنون. والكاتب لا يكتفي بوصف هذا التوتر، بل يتركه يتسرّب من خلال اللغة، التي تبدو واقعية في ظاهرها، لكنها محمّلة بإيقاع خفي من الأسى والتأمل؛ وهذه الرؤية يمتاز بها علي لفتة سعيد على ما يبدو. من جانب آخر، ما يميز الطرح السردي أنه لا ينزلق إلى الغنائية، رغم قابليته العالية لأن يتحول إلى نواحٍ داخلي، وتقلبات نفسية. كما أنه لا يقع في فخ التقرير السياسي، رغم أن خلفية الأحداث تنتمي لزمن مضطرب: بداية صعود البعث، التحولات الفكرية، الخوف من السلطة. هذه العناصر كلها حاضرة، ولكنها لا تطغى على التجربة الإنسانية. الشخصية الرئيسية لا تمثل فكرة، ولا تتحول إلى رمز، بل تبقى كما هي: فتى مأخوذ بدهشة المكان، تتغير رؤيته تدريجيًا دون أن يتغيّر هو بالضرورة، بمعنى آخر ينسجم بالتدريج. "يعتقد خلاوي بعد سماعه للكثير من الحكايات أن الآلهة التي كانت في عصور غابرة يمكن لها أن تعود.." ص: 94 من الرواية.. مثل هذه التي اسميها أنا بـ "ضربات" كثيرة، ولديّ عليها تعليقات، لكن الظرف لا يسمح هنا، لربما في وقت لاحق. لذا، لا تتعمد الرواية تقديم إجابات، ولا تسعى إلى تقديم دروس أخلاقية. بل تكتفي بأن تُري كيف يتحرك الفرد داخل مكان مزدحم، كيف يصطدم بلهجات مختلفة (فلغة القرية هي ليست كلغة المدينة: فثمة تفاوت واضح)، بمفاهيم متضاربة، بأناس لا يمكن تصنيفهم بوضوح، وكيف يصبح الصمت أحيانًا وسيلة للنجاة. الكاتب لا يعظ، بل يراقب. وهو ما يجعل العمل مقنعًا في تلقائيته، صادقًا دون جهد للإقناع. النتيجة: إنّ "باب الدروازة" ليست رواية أحداث كبيرة، لكنها رواية شعور ظاهر. الشعور بالغربة، والانفصال، والقلق الطبقي، والاختلاف الثقافي. إنها تكتب ما لا يُكتب غالبًا في الروايات: التجربة الداخلية لطفل في مواجهة مدينة غريبة، ومحاولة فهم كل شيء بنظرة مترددة لا تدّعي الفهم الكامل. وهذا بالضبط ما يجعلها رواية تستحق التأمل، لأنها تتقن الصمت بين الجمل، كما تتقن الحكاية نفسها. وبالتالي الكاتب عالج القضية بموضوعية، وبحذاقة وتدبر ابداعي، حيث اجاد الروائي لعبة الايقاع، وسرد الحكاية بحرفية عالية.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
-
الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
-
قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
-
المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
-
صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
-
المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
-
قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
-
الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
-
المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
-
فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
-
حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
-
التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق
...
-
أين نحن من الوجود؟
-
التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
-
تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
-
مَن هم القرآنيون؟
-
التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
-
لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
-
خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
-
نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
المزيد.....
-
لبنان: الحزن يخيم على مراسم جنازة زياد الرحباني بحضور والدته
...
-
ترامب يتهم الفنانة بلا دليل.. ما حقيقة حصول بيونسيه على أموا
...
-
-تاريخ استعماري-.. تصريحات وزير هندي تثير الجدل بشأن تحدث ال
...
-
فلسفة الذم والشتائم في الأدب.. كيف تحوّل الذم إلى غرض شعري؟
...
-
فيديو.. أول ظهور للفنانة فيروز في مراسم تشييع زياد الرحباني
...
-
التجويع يواصل الفتك بسكان غزة ومنظمات دولية تحذر من -مسرحية
...
-
-أصداء الطوفان-.. حين تصير الكلمة بندقية
-
رفاعة الطهطاوي (1801-1873): مُعلّم الأمة وعميد النهضة
-
فنانون بلجيكيون: لا نريد أن نربي أطفالنا في عالم يموت فيه ال
...
-
المسرح الجامعي بالدار البيضاء.. ذاكرة تهجس بالحداثة والتجريب
...
المزيد.....
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|