علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 8392 - 2025 / 7 / 3 - 13:56
المحور:
الادب والفن
بيت من الشعر الجاهلي ، كلّما قرأته أدهشني ، لما فيه من الدقة و الغرابة و البراعة ، و الحكمة ، و قوة الملاحظة و الإدراك الفلسفي ( المدرسة الجشتالتية الألمانيّة ) ، و جودة التعبير ، و التوظيف اللغوي الموحي بشرف اللفظ و المعنى معا .
مِكَرٍّ، مِفَرٍّ، مُقْبِلٍ ، مُدْبِرٍ ، مَعًا كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَيْلُ مِنْ عَلِ
كلّما قرأت هذا البيت من معلّقة الشاعر الجاهلي امرؤ القيس ، في وصف فرسه سرعة فرسه ، تبادر إلى ذهني السؤال التالي : هل كان امرؤ القيس على اطّلاع بقوانين علم الفيزياء ؟ كيف استطاع امرؤ القيس المزج بين اللغة و البلاغة و العلم ؟ كيف استطاع أن المزج بيان العاطفة و العقل في سياق بلاغي واحد ؟ إلى أيّ مدى كان الشاعر يمتلك القدرة على دقة الملاحظة و براعة التصوير في بيئته الصحراويّة ؟ ربّما لو عاد امرؤ القيس بجسده و روحه و سألناه هذا السؤال : هل كنت - أيّها الملك الكندي الضليل - على اطّلاع على قانون السرعة في الفيزياء ، في وصفك لسرعة فرسك و تشبيهه بالصخر الضخم المكوّر ( جلمود) المندفع من علٍ ؟ لله درّك أيها الشاعر الفحل ، لقد وقفت و استوقفتَ ، وبكيت و استبكيت و ذكّرت و استذكرت و نزلت و استنزلت و اشتقت إلى الحبيب و الديار . للّه درّك ، من شاعر عاشق للحبيب ، وفيّ له . ربّما ، سيفاجئنا بحقيقة لم نكن على علم بها . ربّما قال لنا بنبرة يقينيّة : و ما تظنّون هذا الذي تسمّونه في قاموسكم العلمي ( الفيزياء ) ؟ إنّ الشاعر لا يختلف عن المشتغل بها . فإذا كان للفيزيائيّ مخبر علميّ ، فيه يلاحظ و يفترض و يجرّب و يستنتج و يستدلّ و يستقريء بعقله المجرّد من الظنون ، لا تعدمه العاطفة ، ليخلص للنظريّة ، فإن للشاعر مخبره هو الطبيعة و الخبرة و الملاحظة و التجربة الشعريّة ليخلص أيضا للصورة البيانيّة و قد نضجت و أينعت و أشرقت في أبهى زيّها البلاغي ، و قد امتزجت في مائها العاطفة بالعقل . فسيّان بين الشاعر و الفيزيائي .
لقد كنّى عن السرعة الفائقة لفرسه ، بصورة جلمود صخر مندفع من أعلى . و الجلمود هو صخر ضخم ، متكوّر أو حصيرة كبيرة من الصخر في علم الجيولوجيا ، يقاس عادة بحجم حبيبات التربة أو هو حبيبات كبيرة جدا من الصخر لا يمكن تحريكها بسهولة . و قد سبقه بيت آخر في وصف فرسه :
و قد أغتدي و الطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل
لم يشبّه امرؤ القيس فرسه بـ ( حجر صغير مثلا ) يتدحرج من علوّ ، لأنّه كان يعلم أنّ القانون الفيزيائي ، أو نظرية الفيزياء ، تقول أنّ سرعة الجسم الساقط من أعلى تتناسب مع كتلته . فكلّما كانت كتلة الجسم الساقط ضخمة ، كانت السرعة أكثر . ( العلاقة بين كتلة الجسم و سرعته ) . كلّما زاد الوزن زادت السرعة و قلّ الوقت ) . فالكتلة النسبية – زيادة الكتلة بزيادة سرعة الجسم ) . و إذا كان البلاغيّون يصنّفون هذا الأسلوب في خانة الكناية عن السرعة الفائقة [ مكرّ ، مفرّ ، مقبل ، مدبر ( معا ) ] و التشبيه ( كجلمود صخر ) ، فإن الشاعر قد مزج بين علم البلاغة و علم الفيزياء . فأسلوب التشبيه ظاهر في البيت ( المشبّه ( الفرس ) و المشبه به ( جلمود صخر) و أدة التشبيه ( الكاف ) و وجه الشبه ( السرعة الفائقة ) . أمّا الكناية فقد وردت في قوله : [ مكرّ ، مفرّ ، مقبل ، مدبر ( معا ) ] . نلاحظ أنّ لفظة( معا ) هي التي أعطت للبيت عنصر الكناية . أما نظيرتها في علم الفيزياء فهي كالتالي : [ الكتلة ( جلمود صخر ، هيكل + حطّه السيل من عل ، الكرّ و الفرّ والإقبال و الإدبار ( معا ) و قيد الأوابد = كناية عن السرعة الفائقة للفرس .
لقد برع الشعراء العرب في العصر الجاهلي في وصف مظاهر الطبيعة المتحركة و الجامدة ، وصف الفيافي و الأطلال و الليل و الكواكب و النجوم و المعارك و غيرها من ألوان الحياة اليومية .
ما يلفت النظر في هذا البيت القيسي ( نسبة إلى امريء القيس ) ، هو دقّة اختيار الألفاط الدالة على الزمن ، أي لحظة حدوث الفعل . ( مكرّ ، مفرّ ، مقبل ، مدبر ، معا )
فالفعل ( كرّ ) ، ثلاثي لازم متعدٍّ بحرف ، كررت ، أكرّ ، يكرّ ، مصدر كرور ، و اسم المفعول مكرور . و الكرّ على العدو هجوم و حمل عليه للقضاء عليه ، و من معانيه المتداولة قولنا : على كرّ الدهور ، أيّ على مرّ الأيام . و معنى مكرّ ، الخيول التي تكون خفيفة الحركة و قادرة على التحرّر ، كما نقول فرس ، فرس مكرّ ، أيّ يتميّز بالسرعة و السهولة في الحركة و التحرّر و الانقضاض على العدو . و من معاني الكر عند أهلنا بالعراق ، أنّه مكيال يساوي اثنا عشر وسقا ، أيّ سبع مائة و عشرون صاعا ، و الصاع عند الحنفيّة 2340 كغ ، و عند الجمهور 1468.8كغ .
أمّا الاسم ( مفرّ ) فمشتق من الفعل الثلاثي فرّ ( فرر ) . و منه الفرار من خطر داهم أو الانسحاب . و علاقة ( الكرّ و الفرّ ) بالخيل يفسّر استخدام الخيل لنظام الكرّ و الفرّ . و قد وصفه والتر كانون (1) في 1915 م بقوله : ( الحيوانات تتفاعل للخطر بطريقة استنفاذ عام للجهاز العصبي ، ممّا يجعل الحيوان مستعدّا للقتال أو الهروب . ) . و نظريّة الكرّ و الفرّ قائمة على عقيدة تكتيكية لاستخدام الهجمات المفاجئة القصيرة ، و الانسحاب قبل تمكّن العدو من الردّ بقوّة والمناورة باستمرار ، و هدفها إضعاف العدو ببطء . و قد تمّ التعرّف على هذه الاستجابة ، فيما بعد ، ( بأنّها المرحلة الأولى لحالة التعوّد العامة التي تنظّم استجابات الإجهاد في الحيوانات الفقرية و بعض الكائنات الأخرى ) . و قد عرف عرب الجاهلية تكتيك " الكرّ و الفرّ " بلا نظام أو قاعدة أو هدف . فقد كان القتال يبدأ بالمبارزة بين أبطال القبيلتين المتخاصمتين و حسمت الكثير من الحروب بين العديد من القبائل . و قد استخدم النبيّ محمد صلى الله عليه و سلم و بعض الصحابة أسلوب الكر ( الهجوم ) و الفر ( الانسحاب ) ، و هو أسلوب قتالي يعتمد على المفاجأة و المناورة لتشتيت العدو و إضعافه ، تم توجيه ضربة قاضية له .
و اسم الفاعل ( مقبل) من الفعل الثلاثي قبل و مزيده ، و هو وصف شخص أو شيء قادم أو متّجه نحو مكان أو شخص ، و يمكن أن يعني أيضا شخصا يهتم بشيء أو يتوجّه إليه .
الفعل أقبل ، القادم ، المتقدّم ، المُقدِم على الشيء بنفسه . ( مدبر ) مشتق من الفعل الثلاثي ( دبر) الذي له معان متعدّدة في لغة الضاد منها على سبيل المثال : دبر الأمر ، جعله خلفه و المدبر ، هو العبد التي تُعلَق حريته على حياة سيّده ، كأن يقال له : أنت حر دبر حياتي ، أيّ بعد حياتي ، و لذا سُمِيَّ مدبرا .
و هي أفعال تدل على المطابقة في معناها ، أيّ المعنى و عكسه كما هو شائع في علم البلاغة و المحسّنات البلاغية . لكن ، هنا ، ليس الشاعر بصدد البديع والتحسين و التنميق اللفطي ، بل هو في معرض رسم خط زمانيّ معيّن ، و تدفق إحساس عارم بنوعيّة اللحظة المعاشة . و هو إحساس نابع من زخم المعركة الدائرة رحاها . إنّ توظيف لفظة ( معا ) هو الذي أعطى لمعنى السرعة دلالتها ما فوق المنطق و العقل . فإنّ الشعاع في مساره لا يمكنه ( علميا ) أن يأخذ مسار الانطلاق و العودة في آن واحد ، و في اللحظة نفسها ، حتى و لو اصطدم و انكسر بحاجز غير نافذ .
يقول الناقد التونسي توفيق قريرة (2) ، أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسيّة ، في مقالة له بالقدس العربي بعنوان : " مقبل مدبر معا " (3) ، نُشرت بتاريخ 23 ديسمبر 2024 :
" لفظة ( معا ) التي جاءت لبيان كيفية الإقبال و الإدبار هي التي أربكت المعنى المعتاد "
و يقول أيضا :
" ليس من المقبول وليس من ( المعقول ) أن ترى شخصا مقبلا و مدبرا في الآن نفسه "
ثم يضيف :
( أنا حين أرى و لا أتكلّم أدرك وحدي المشهد ، و لكنّي حين أصفه باللغة أبنيه لي و لغيري . الرؤية و الإبصار شيء أحاديّ لا يتقاسم ، و لكنّه حين يُبنى باللغة يصبح موضوع تشارك )
و قد أضاف عجز البيت ( جلمود صخر حطّه السيل من علٍ ) معنى أكثر عمقا و وضوحا و قوّة لحركة الفرس على وجه المشابهة . فتشبيهه بـ ( جلمود ) و هو صخر ضخم متكوّر أو حبيبات كبيرة جدا من الصخور في علم الجيولوجيا ، أكّد قوةّ الإبصار و الملاحظة و دقّة التعبير عند الشاعر في صدر البيت . ..
براعة امرؤ القيس في رسم هذه اللوحة الفيزيائيّة في قالب بلاغي مدهش ، تدلّ على أنّ الشعر العربي في العصر الجاهلي ، و كذلك في العصرين الأموي و العباسي ، قد بلغ ذروة التعبير عن أعماق النفس ، بل قد سبق التحليل النفسي في القرن المنصرم . فرويد و غيره . و لولا توظيف كلمة ( معا ) ، ما أخذ هذا البيت هذا الزخم كلّه ، و لكانت سرعة فرس امريء القيس عادية لا تختلف عن سرعة الأفراس الأخرى ، سواء انتصرت أو انهزمت .
الذكاء النابع من التجربة الشعريّة و الملاحظة العميقة للأشياء و التعبير الدقيق و براعة توظيف الألفاظ و حملها على سياقها البلاغي ، كلّ هذه الأوصاف و القدرات ، تدلّ على أسبقيّة الشاعر العربي قبل الإسلام ( العصر الجاهلي ) . و السؤال الذي بقي عالقا ، و بات يؤرّقني : هل كان الشاعر امرؤ القيس مطّلعا على القانون الفيزيائي : ( السرعة تتناسب مع الكتلة ) ؟ .
و إذا كان الجسم الساقط خاضع أو تتحكم فيه أو تؤثر فيه الجاذبيّة الأرضية ، فإن فرس امريء القيس ، له جاذبيّة من نوع آخر .
لم يكن الشاعر امرؤ القيس بعيدا عن منطق الفيزياء ، و هو يصف فرسه بجلمود ( صخر ضخم متكوّر ) ساقط سقوطا حرا من علٍ أيّ من ذروة قمّة عاليّة ، ليمثّل للمتلقي مشهد السرعة الفائقة لفرسه في عمليّة الكرّ و الفرّ ، و الإقبال و الإدبار ( معا ) . و لم يكن مشهد ( الفرّ ) و ( الإدبار) ، سوى عمليّة التفاف على العدو ، و تزوّد بقوّة ( الإقبال ) و ( الكرّ ) على العدوّ .
و لمّا كان إبداع الشاعر و عبقريته اللغوية و البيانيّة مبنيّة على الخبرة و التجربة و الملاحظة و الإبصار و البصيرة و الفرضيات ، كذلك العالم الفيزيائي يأخذ مادته الفيزيائيّة من الطبيعة المرئيّة و اللامرئيّة ، من المشاهدة ( الإبصار) ، و الغوص في الماورائيّات ( الميتافيزيقا ) ، بالأدوات نفسها . هناك ، ماهو مشترك ما بين الشاعر و عالم الفيزياء ، بين الشاعر المشتغل بالخيال الأدبي و الفيزيائي المشتغل بالخيال العلمي . و لم يكن الشعر خال من اللمحة العلميّة ، و لا كان العلم خال من الخيال .
لقد برع الشعراء العرب في وصف الخيل و التغنّي بها في حضرة السلم ، و في أتون المعارك و الغزوات ، كوصف أبي الطيب المتنبي لها في معركة الحدث الخالدة :
أتوك يجرّون الحديد كأنّما *** سروا بجياد ما لهنّ قوائم
و قوله أيضا مفتخرا بنفسه في بلاط سيف الدولة :
فالخيل و الليل و الليل و البيداء تعرفني ** والسيف و الرمح و القرطاس و القلم
و وصف حسّان بن ثابت لخيول الصحابة ، في ملحمة فتح مكّة :
عدمنا خيلنا إن لم تروها *** تثير النقع موعدها كداء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
(1) - والتر كانون ( 1871 - 1945 م ) – فيزيولوجي أمريكي . اشتهر في كتابه التغيّرات الجسدية في الألم و الجوع و الخوف و الغضب ( 1929 )
لمتلازمة الاستجابات الفسيولوجية للكائن الحي الذي يواجه موقفا يثير الخوف أو الألم أو الغضب .
(2)- توفيق قريرة ، أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية
(3) - مقال بالقدس العربي - 23 ديسمبر 202 4 م .
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟