ادريس الواغيش
الحوار المتمدن-العدد: 8382 - 2025 / 6 / 23 - 18:47
المحور:
الادب والفن
قلم: إدريس الواغيش
عندما تخطيتُ سور الجامع الكبير، وولجتُ أبواب "الْمْسِيدْ" أوّل مرّة في "أيْلَة" قريتي بأرياف تاونات، وأنا بعدُ صغير السنّ، جلست القرفصاء وقد كنا متعوّدين عليها في قرانا. بادَرني عمّي السّي عبد الرّحمن، رحمه الله، فقيه المسجد وإمامه بالسّؤال:
- ما اسمُك؟ وما اسمُ أبيك؟
سؤال لم يكن مُتوقّعًا، فعل ذلك معي أُسْوَةً بباقي أطفال القرية، وكأنه ليس عمّي، قريبي ولا ينتمي إلى عائلتي، وكأنه ليس أخًا لأبي. ربّما فعل ذلك لإبعاد شبهة وإثبات نزاهته، وإظهار موضوعية كاملة في التعامل مع المُلتحقين من الصّبيان الجُدُد. جَحظت عينيّ من الدّهشة، لأنّني كنت أنتظر منه كل الأسئلة، ولكنّني لم أكن أتوقع منه في الحقيقة مثل هذه الأسئلة، وأن يتصرّف معي كالغريب، وبهذه الحيادية "الناشفة". لم أستسغ تعامل فقيه المسجد، الذي هو عمّي، معي بتلك الطريقة، وأنا ابن أخيه، كأنه يراني لأول مرة، وأنا بالكاد تناولت "المسمن" و"خْرِينْكو" مع "غَلّاي دَاتَايْ"، والقهوة بالحليب في الصباح مع أولاده بدار جدّي، حيث تسكن معًا.
يا للعَجب، تلعثم لساني بداية، ولكنني سرعان ما استرجعت أنفاسي، لأنني كنت واثقا من نفسي، وقدمت له بسرعة كل جواباتي. ومع ذلك، بدأت أسمع دقات قلبي وأعدُّها عدًّا، كما لو أن قلبي اشتغل لتوه أول مرّة منذ أن خُلقت. وضع الفقيه، الذي هو عمّي، القلم في "الدّْوَايَة" ومسح ما فاض من قطرات "السّْمَاغْ" في شعري الأسود. بَسْمَل وحَمْدَل، وخَط بقلمه القصبيّ، المُمَيّز عن باقي الأقلام، كلمات باللون البُنيّ الغامق على لوحي الخشبيّ. قال لي بصوته الجَهوَريّ:
- اقرأ باسم ربك الذي خلق، إدريس بن عمر، هذا هو اسمك، احفظه جيدا، إيّاك أن تنساه...!!
كان الولد في زماننا يُلصق عادة باسم أبيه، وفي حالات قليلة، لم يكن لها من تفسير موضوعي أو علمي وأنثروبولوجي، يُلصق باسم أمّه. لم أكن أعرف لسذاجتي أو صغر سنّي أنّ أسئلته، كانت تمهيدا وإشارة مُبطنة إلى أن رجليّ لن تنجوا من "الفَلقة" مثل أرجُل كلّ أقراني، ولن تكونا في مأمَن من عصًا السَّفرجل الموضوع بجانبه على "هَيْدُورَة" الصّوف المُرَقّطة. استرجعت اللحظات من الذّيل بعد ذلك، ولم أدرك حقيقة الأمر إلا مُتأخرًا.
في أحيان كثيرة، كانت يُسراه ويُمناه وعصاه أشدُّ وطأة وإيلامًا على رجليّ من الأطفال الآخرين، حتى أنني كرهت أن يكون السّي عبد الرحمن عمّي رحمه الله. لم أكن أتصوّره خارج الكتاب بتلك القسوة، ولو أن نيّته كانت صادقة لوجه الله تعالى، وخالصة صافية في تعليمي، وأنّ حرصه كان شديدا على تحفظي سورًا من القرآن الكريم، قبل التحاقي بالمدرسة التي لم تكن بعيدة عنّا.
خارج أسوار الكتاب، كانت شرذمة قليلة تناديني باسمي الحقيقي "إدريس" أو مقرُونًا باسم أبي "عُمر" رحمه الله. البنات وبعض نساء القرية كن ينادينني بلقب "الرّومي"، شماتة ونكاية بي أو لإغاظتي، وفي أحيان أخرى للبسط والمزاح معي. وفي أحيان كثيرة، كانت تستعمل في لحظات غضب عابر للوشاية بي أو تقديم شكاية بي، عندما يصدر منّي تصرُّف طائش، كأن أسرق العنب من دالية محروسة في الليل، أقتل ديكا أو دجاجة برمية حجر مُميتة في الصباح أو أدوس برجلي في الطريق على كتكوت صغير. كنت مُنحرفًا صغيرًا، ولذلك كثيرًا ما كنت أسمع جملا نابية، من قبيل: "هاد الفعلة ما يديرها غير الرّومي...".
وفي أحيان أخرى، يكون الكلام باللمز والغمز من أجل تصفية حسابات غرامية قديمة مع أهل فتاة في الدوّار، خوفا من ردود أفعالي الغاضبة والمُدمرة أحيانا، أعمد حينها إلى تدمير خُمّ الدّجاج أو نسف قنّ من أقنان دجاجات الجيران أو أعيثُ فسادا وإفسادًا في أحواض الفلفل والطماطم والخضر بعرصات الدوار.
وكم كنت أسمع في لحظات كثيرة أصواتا تناديني بـ :"الرّومي" من فوق سطوح المنازل أو في غابات الزيتون والبطم والأودية المقفرة صيفًا. وفي أحيان أخرى، من وراء ستار أو زارب شوكيّ يحمي عرصة. كان أصحاب هذه الأصوات المزعجة يختفون كالعفاريت خوفا من ردود أفعالي، وأبقى حائرًا يمتلكني الغضب، أغلي كما يغلي المرجل حين لا أرى منها أحدًا. فيما بعدُ، وقد كبرت قليلا، علمت من أمّي رحمها الله أن اللقب ليس مَسبّة ولا عيبًا أو مَنقصَة، ولذلك استأنست به تدريجيا، وتآلفت مسامع أذني معه. ولم أشعر، بعد ذلك في يوم من الأيام، أنه ضايق مسامعي. ولكن ما كان يُضايقني أكثر، هو أنني لم أكن أجد جوابا شافيًا أو تبريرًا موضوعيًّا، حين كان يسألني أساتذتي بعد التحاقي بالمدرسة عن معناه أو أصله.
لم تكن عينيّ خضراوين ولا زرقاوين كالنّصارى، ولا شعري أصفر اللون ولا أشقره مثل الإسكندنافيّين. ولما سألت كبار الناس وشيوخهم لاحقا، وقد وَعيت قليلا، تعدّدت أسباب التّسمية والمُسبّبات أمامي. لم أجد لهذا اللقب فيّ علامة، ولم أعرف حتى الآن من هو العفريت الذي كان وراء "تلقيبي" بذلك اللقب الأعجمي والغريب على ثقافتنا العربية والإسلامية. فيما بعد، وقد أصبحنا صديقين، بات كل واحد ينسبُه إلى نفسه. كثُرَت الأنسابُ، وتفرّق أصله بين العشائر والأقران في دروب "أيلة" ومسالكها.
هكذا وجدت نفسي مُرغمًا على حمل لقب غريب عنّي، لم أعرف كيف اهتدى إليه الشياطين من أصحابي، ولا من أين جاؤوا به. كان أغلبهم أطفالا قضوا أنصاف أعمارهم مثلي حُفاة، مُنغلقين على أنفسهم في قرية شبه منسية في جبال الرّيف، مُنعزلين عن منظومة إنسانية تعّجّ بالعرب والعجم، وفي كون فسيح يسكنه خليط من الأجناس والأعراق والقوميات من المحيط إلى المحيط.
الغريب أنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن طباع الرّوم في قريتي "أيلة"، ولا أشكالهم وصفاتهم، ولا كنت أنا روميّ الملامح والصّفات، ولا أحمل منهم أيّ صفة أو علامة، فلا أنا كنت أشقر الشعر ولا أزرق العينين، ومع ذلك اختاروا لي أن أحمل لقب "الرّومي". وكنتُ بدوري مُجبرًا على حمله طوعًا أو كرها، ولو أنّني تحمّلت في البداية أعباءه وتبعاته بكل سلبياتها وإيجابياتها. خصوصا وأنني في البداية، لم أكن أعرف إن كان يحمل بين طياته شميلة وفضيلة أو شتيمة ونقيصة.
حدث في إحدى المرّات، أنّ أحد جيراننا من الشباب المُلتحقين بالرّوم، كان يحكي عن طريفة حصلت له مع مُشغّله بفرنسا. وكان هذا الشاب من الجيل الأول الذي هاجر إلى فرنسا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، والفرنساويّين كنا نُسميهم في الدّوّار عادة "النّصراني" أو "الرّومي". جاءت أمه متأخرة، ولم تلتقط من القصة كاملة سوى الرّومي. قالت له ببراءة، ولم تعلم بكل ما حصل من أصل الحكاية: "هاد الشي كامل خرج من إدريس دْعْمَار..؟!" اعتقدت المسكينة أن "الرّومي" الذي يحكي عنه ابنها هو "الرّومي" الذي يُجاورهم في السكن، وليس المُشغّل لابنها الفرنسي. ضحكنا معًا ببراءة أهل القرى، وأوضح لها ابنها أنه يتحدث عن النصراني الفرنسي، وليس عن الرّومي التاوناتي.
لم يكن أحد يجرُؤ في القرية على شيئين: الهرُوب من قدره أو النجاة من حمل لقب في صغره، اختاره له أقرانه من الأطفال أو المحيطين به. لم تكن لنا خيارات كثيرة في حياتنا، ألقاب عديدة سادت بيننا في "المْسِيد" والمدرسة، ثم بادَت وانقرضت هذه الألقاب حين كبرنا، وانصرف كل واحد إلى مساره في دنياه.
كل واحد فينا انحاز إلى طريقه، رُسم له أو اختاره وطار إلى جهة معلومة أو مجهولة. كل أطفال القرية كانوا يحملون معهم ألقابًا غصبًا عنهم، تُصاحبهم رغم أنفهم طيلة فترة عمرية تطول أو تقصر. هذه الألقاب كانت ترتبط عادة بالصحة، الطول، القصر والشكل، وقد ترجع أصولها إلى نسب العائلة أو صفة وعيب خُلقي في الطفل، الأبُ أو الأمّ، الجدّ أو الجدّة.
لم يسلم أحد من لقب كُنّيَ به إلى جانب اسمه العائلي، ولم تكن لنا في الحقيقة أسماء عائلية، كان الجميع متساويا أمام لا زمة "بن"، وكنت أنا مثلهم وواحد منهم: إدريس بن عمر، قبل أن يلصق بي لقب "الرّومي". ولم يكن هذا "الرّومي"، هو اللقب الوحيد الذي حملته في سنوات صبايَ ومُراهقتي، كل مرحلة عُمرية أو دراسية كانت لها خصائصها وألقابها، ولكنه اللقب الوحيد الذي صمَد من بين كل تلك الألقاب التي توشّحتُ بحملها في طفولتي، وفي مراهقتي أمام التحوُّلات العُمرية والمراحل الدراسية. وهو الذي قاوم دون سواه أعاصير الزمن وصعوبته التي عشناها، وتعايشنا معها رغما عن أنوفنا. وحين كبُرت، نسيتُه كما نسيَه الجميع. لكن، وأنا أنبش بين ملفاتي القديمة، استرجعت ملامح طفل صغير كنتُه، وإذا بي أجد "الرّومي" مدفونا بين أوراقي المنسية...!!
#ادريس_الواغيش (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟