حسيب شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 8379 - 2025 / 6 / 20 - 22:12
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
حياةٌ صعبةٌ في الماضي وفي الحاضر
Life is Difficult in the Past and in the Present
بقلم إناس شاكر خليل مفرج المفرجي (1927-2009)
ترجمة حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך ג’ עמ’ 589-586.
كيف قُتِل إبراهيم يوسف ألْطيف الدنفيّ؟
قليلةً ورديئة كانت أيّامي، ولم تصل إلى أيّام حيَوات آبائي، هكذا قال يعقوب لفرعونَ ملكِ مصرَ، إلّا أنّه قال ذلك حينما كان عمرُه مائةً وثلاثين سنةً؛ وأنا أقول هذا وأنا في منتصف عمري تقريبًا، ابن سبع وستّين سنةً فقط.
تقولُ بأنّني ما زلتُ شابًّا، وأنا أقول لك إنّي أشعر بأنّي أكبرُ سنًّا من أبينا يعقوب. مرض السكّريّ يهاجمُني بكلّ جبروته ويؤثّر على نظري. توقّفتُ عن نسخ الكتُب، لأنّي لا أرى جيّدًا حتّى في النهار.
ما علاجُ ذلك؟ أنت تسأل؛ قال لي الأطبّاءُ بوجوب إجراء عمليّة لكلتا العينين، وأنا أتساءَلُ : من أجل ماذا، ومن أجل مَن؟
تقولُ لي، لا يجب أن تيأس، وعليَّ المُضيّ في نسخ الكتب، ولن يحدثَ لي أيُّ شيء، إن خضعتُ للعمليّة هذه. إنّي لا أعرف؛ لستُ متأكّدًا. اُقتلني قتلًا لو كنتُ أعلمُ لماذا عليّ الاجتهاد لهذا الحدّ، من أجل نفسي بينما أرى مُجايليّ يغادرون هذه الدنيا الواحدُ تلوَ الآخر.
من يدري، ربّما سمعة أفضل.
هذا هو الوضع عندما يهجُم المرض. يتبيّن لك أنّ الحياةَ صعبةٌ. صحيح، يوجد تأمين وطنيّ، وأحيانًا يتوفّر دخل طارىء، وتستمرّ الحياة. مع كلّ هذا أعمل هنا وهنا، وهذا يُبقيني في هذه الدنيا.
لكن ما العمل، إنّ كلّ التشجيع من ذلك، يتبخّر عندما أتذكّر أنّ كلَّ الذين أحببتُ جدًّا مُجالسَتهم، بالرغم من أنّنا تحدّى بعضُنا البعض أحيانًا، قد أخذَهمُ الله منّا. يتسربلُني يأسٌ كهذا. أين تلك الساعات التي قضيتُها مع أخي خليل/إبراهيم، وأين هي تلك الأيّام التي أمضيْناها مع راضي وخضر الكاهن؟ هذا صحيح، كانت بينَنا خِلافات، ولكن أين تجدُ أُناسًا كهؤلاء؟
إنّي أربِط حياتي الصعبة اليومَ، حيث بصري آخذٌ بالانحسار، بحياة طفولتي القاسية، في الثلاثينيّات من القرن العشرين، كنتُ فتًى متمهّنًا مع خاليّ فهمي ووجيه، أسوق أحيانًا حِمارَ هذا وأحيانًا أُخرى حمارَ الآخر، كما ساعدتهما بأجْر قرشين ليوم عمَل، ببيع القُماش في قرى مِنطقتي نابلس وجِنين.
أنتَ تستطيعُ أن تتصوّرَ معنى أُجرةٍ لسدّ الرمق، قرشان في اليوم؟ ها كان عليّ كلَّ أسبوع استبدال كعْب من كعبَي حذائي لاهترائه بعد مشي كيلومترات كثيرة يوميًّا بين قرى المِنطقة.
كانت حياةُ تجّارِ القُماش السامريّين في نابلسَ عصيبةً جدًّا، أولئك الذين كانوا يبيعون متنقّلين من قرية لأخرى، وأولئك الذين فتحوا حانوتًا في نابلس. يجب ألّا ننسى أنّ سنواتِ الثلاثينيّات، ولا سيّما نصفها الثاني، كانت من أصعب السنوات التي عرفتها مدينة نابلس في كلّ تاريخها.
مجاعة في البلاد، بِطالة، لا مصدرَ رزق. إن حظيتُ يومًا ما وأكلتُ أكثرَ من شريحة خبز وكأس شاي، كان ذلك يوم عيد بالنسبة لي. كانت الناس تأخذ البِضاعة ولا تدفع. وكان باعة الشوارع أيضًا كخاليّ فهمي، رحمه اللهُ، ووجيه أمدّ الله بعمره، معرّضين لخطر دائم من سطْو اللصوص، وفي الحالات الجيّدة، كانت نفوسُهم غنيمةً بعد سرقة بضاعتِهم.
كانتِ البضاعةُ في أغلب الحالات، تخُصّ أحد أثرياء نابلس، وعند سرقتها عرف التاجر أنّ موتَه أفضلُ من حياته، إن لم يشرح للتّاجر الثريّ في نابلس أين بضاعته.
يكفي أن أقُصّ لك عن الحادثة التي جرت للشيخ إبراهيم يوسف لطيف الدنفيّ رحمه الله، وابنه راضي رحل عنّا هذا الشهرَ، رحمه الله. كانت له حانوت قُماش في نابلس في العام 1939. ذات يوم، أتى إلى هناك عربيٌّ منتمٍ لإحدى العصابات الكثيرة التي سيطرت على نابلس، وعلى مناطقَ أُخرى في البلاد. طلب أقمشة كثيرة، وضّبها له إبراهيم يوسف لطيف الدنفيّ في قِطعة قُماش تسمّى بُقْجة ليسهلَ عليه حملُها على ظهره.
وعند حُلول وقت الدفع، قال هذا العربيُّ لإبراهيمَ، حسنًا، تمام، سجّل ديْني في الدفتر، إنّي من حيفا وعندما تأتي لحيفا سأدفع لك. عرف إبراهيم من تجربته أنّه إذا وافق على هذا العرض، فلن يرى ماله أبدا. أجاب الرجل حالًا: نحن التجّار قد مزّقنا دفاترَ الحِسابات. معنى هذه الإجابة واضح: اِدفع حالًا أو لا تأخد البضاعة.
ذَهِل ”المشتري“ عن جواب إبراهيم. لقد غضب جدًّا وقال: أنت تريد هذا، فليكن، اِحفظ لنفسك بضاعَتك، ولكنّي سأجد الفرصةَ ”لأستدّ“ منك.
ذات يوم، وصل إبراهيم يوسف ألطيف الدنفيّ إلى حيفا، من أجل التجارة وجبْي ديون من تجّار أُمناء في حيفا. يُقال إنّ الواقعة حصلت عند خروجه من السيّارة التي أقلّته، ولكنّي أعرف بجلاء أنّ ذلك حدث في مقهى في منحدر الكرمل. جلس إبراهيم هناك ليشرب القهوة مع أحد التجّار. وبالصدفة تواجد هناك ذاك العربيّ الذي أبقى البضاعة عنده.
وذلك الرجل رأى إبراهيم، تقدّم إليه وقال له: أتجرؤ بعد على المجيء إلى مدينتنا، ها إنّ موتَك أفضلُ من حياتك. اِستلّ من حِضْنه مسدّسًا معبّأً، وفرّغ كلَّ رصاصاتِه بجسم إبراهيم المتهاوي. عند وصول نبأ اغتيال إبراهيمَ الدنفيّ، عمّ الحِداد الشديدُ كلّ أبناء الطائفة.
حياة البائعين المتجوّلين بين قرى مِنطقة السامرة
من هنا تفهم، كم كانت حياة التجّار صعبةً، بالأخصّ أولئك الذين تجوّلوا مثلنا في طرق القرى. إذا قارنتُ بين خاليّ بصنعة التجارة، فإنّ خالي وجيه فاق خالي فهمي بخِبرته. بادىء ذي بدء، خالي وجيه كان يُعيّن لنفسه مِنطقة محدّدة لبيع بضاعته. لم يذهب قطّ أبعدَ من منطقة بيت دجن. مساره كان في القرى الواقعة شرقيّ نابلس - بلاطة،
عسكر، روجيب، بيت فوريك، عورته حتّى بيت دجَن.
في الواقع، تمكّن منَ اكتساب زبائنَ دائمين لأنّه كان مستقيمًا جدّا في تجارته، وأثار دومًا الشعورَ بأنّه يميل نحو الزبون. أحبّه المشترون جدّا. تحلّى بالأناة والصبر. كان يُبدي رأيَه عمّا ما الأفضل لك شراؤه، إن لم تُصرّ على شراء سِلعة منخفضة الجودة ورخيصة.
تقرّب دائمًا من المشتري، وهكذا حاز على ثقته. وكانت النتيجة، مجيئه كلّ أسبوع إلى التاجر الثريّ في نابلس ويأخذ منه أربع أو خمس لفّات من القُماش للبيع. هكذا أفلح في تجارته. عندما كان يأخذُني معه لمعاونته، كنت أحظى بـقرش واحد ”بَقْشيش“ أو قرشين إضافة للأُجرة اليوميّة، وكانت كما ذكرت، قرشين.
للمقارنة، مع خالي فهمي، رحمه الله، كانت القصّة مغايرةً تمامًا وأصعب بكثير، بكثير. لو كان يبيع نصف لفّة في الأُسبوع لاحتفلنا بذلك. لو باع بليرتين لأقمنا حفلة. أوّلًا، هو لم يتقيّد ببُعد معيّن، باع في كلّ القرى التي حول نابلس وحتّى مِنطقة جنين.
قلتُ باع، أخطأتُ. كنّا هناك في جميع القرى، لكن لم نبِع دائمًا. كنّا نغادر نابلس في الساعة السادسة صباحًا ونعود أحيانًا عند منتصف الليل، ولم يتحلَّ بالأناة والصبر أيضا. وإذا كان شخص ما يساومه، كان خالي فهمي يفقِد صبرَه للتوّ ويطرده قائلًا- روح يا عمّي، هذه البضاعة ليست للبيع.
في الكثير من الأحيان، كنّا نمشي في الطُرق ساعاتٍ وساعات. ذات يوم، قرّر خالي إيجادَ مشترين جُددًا في قرية سيلة الظهر الواقعة إلى الشمال الغربيّ من نابلس، في الطريق إلى جنين بجهة الطريق اليسرى وأنت قادم من نابلس، بعيدًا جدًّا من نابلس، مسافة ثماني ساعات مشي على الأقدام باتّجاه واحد.
هل تظُنّ أنّي لم أمشِ! إنّك مُخطىء، لقد مشيتُ ومشيت. آنذاك كنتُ ابنَ ستّة عشرَ ربيعًا، بكامل عُنفُواني. وما هي ثماني ساعات من المشي؟ كنّا نتوقّف في الطريق لنشرب من ماء الينابيع، ونتناول شريحة يابسة من الخبز. وصلنا إلى القرية في آخرِ المطاف. قمنا بدورة واحدة ولم نبع شيئا. ثمّ قمنا بجولة في مركز القرية، لا شيء أيضا. ذهبنا من بيتٍ لآخرَ، عبثًا، بلا أيّة نتيجة.
يومٌ آخرُ بلا أُجرة وبلا خبز
أخيرًا يئِس خالي فهمي. يا إناس، تعالَ نبحث عن حظِّنا في قرية سبسطية (السامرة سابقًا)، قال لي. وافقتُ، هل كان لي خِيار آخر؟ لا. بعد ثماني ساعات مشي لم تتبقّ لك قوّة للجدال، ومَن أنا وما أنا لأُجادل خالي فهمي؟
سألْنا سكّانًا من القرية عن الطريق الأقصر لسبسطية. قالوا لنا: اِذهبوا في طريق وادي شطابة. أتعرف هذا الوادي؟ إنّه ضيّق، طويل ومليء بالخوف الشديد. إنّك تظنُ في كلّ لحظة أنّ لصوصًا سيُهاجمونك.
خالي لم يهتمّ بذلك. أنا ارتجفتُ كورقة في مهبّ الريح. أخيرًا، بعد ثلاث ساعات مشي وراءَ الحمار المحمّل بالبضاعة التي لم تُبَع، وصلنا سبسطية. أوشكتِ الشمس على الغروب، وحلّ الظلام. في الظلام لا مشترين، الكلّ ينام مبكّرًا في هذه القرية.
لم يبقَ لدينا أيّ خِيار سوى مواصلةِ السير، ولكن الآنَ إلى البيت. سرنا وسرنا وسرنا، ومشينا ومشينا ومشينا. لقد شكا وتذمّر خالي فهمي، لأنّه لم يستطع بيعَ شيء، وأنا قاسيتُ وتألمّتُ من ذلك ومن المشي المنهِك. في الساعة الثانية صباحًا وصلتُ البيت.
رُح سمِّ هذا بيتًا. وجبة باردة حتّى ما كانت تنتظرني. أُمّي التي اِستيقظتْ فجأةً فتحت الباب لي، دسّت بيدي شريحة خبز يابس وكأسًا من الشاي وكظمت، عليّ على الأقلّ، شِكاياتها عن يوم جوع آخرَ مرّ بعائلتنا.
إذن، أتفهمُ أم لا؟ ليأتِ خالاي وأخي لينظروا كيف نعيش اليومَ. إنّنا نتدبّر أمورَنا، مهما كان الوضع. ولكن بدلًا من حياة القِلّة والعَوَز أعيش اليوم حياة المرض، إذن، هل هذه الحياة تستحقّ العيش؟
#حسيب_شحادة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟