حسيب شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 01:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مَن يريدُ الكذِبَ فليُبعدْ شهادتَه
قصّة الكاهن شفيق ابن الكاهن الأكبر يعقوب شفيق الحفتاويّ 1945–
The One WhoWants to Lie Will Distance his Testimony
The Story of Shafīq the Son of the High Priest Jacob Shafīq 1899-1987
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון 2021, כרך ב’ עמ’ 566- 569.
تمَيّزُ التلاميذ السامريّين
لا أعرِف بالضبط سببَ إعفاءِ التلاميذ السامريّين في المدارس العربيّة في نابلسَ، من دراسة القرآن، كتاب المسلمين المقدّس، لكنّني موقِن من أنّ حالتي أسهمت في ذلك إلى حدّ كبير.
تُعيدني هذه القصّة إلى أيّام صِباي، التي تبدو بعد هذه الفترة جدّ سعيدة، إلّا أنّني أعرِف الآن بلا ريبَ، أنّها كانت غيرَ سهلة لوالدينا اللذين كانا مشغوليْن فكرًا وعملًا بكيفيّة توفير الطعام لنا. وأعلم أيضًا أنّه لو تيسّر لهما لاهتمّا بمنحنا أكثر من التعليم العامّ الحكوميّ.
كان والدي، الكاهن الأكبر يعقوب بن شفيق، يقُصّ علينا عن أيّام طفولته، حين إقامة مدرسة سامريّة خاصّة لأبناء السامريّين في الحيّ السامريّ القديم في نابلس. علّم فيها المعلّمون الكهنة السامريّون، أبو الحسن بن يعقوب، عمّ أبي، وإبراهيم بن خضر. كما علّم في المدرسة معلّم عربيّ موضوعَي الحساب والدراسات العامّة. والنساء، وللدقّة البنات، كنّ يتعلّمن التوراة على يد الكاهن الشابّ عِمران إسحاق. وقد قامت بتعليم الخياطة والتطريز عربيّة مسيحيّة باسم أم حنانيا (في الأصل: حننيه). أَسّسَ تلك المدرسةَ المُحسن الأمريكيّ وارن، وقد أُغلقت عشيّة الحرب العالميّة الأولى.
في العشرينيّات والثلاثينيّات من القرن العشرين، أقام قسمُ التربية التابع للإدارة الصهيونيّة، مدرسةً كهذه أيضًا وقد أُغلقت بسبب عدم توفّر الميزانيّة وانعدام الأمن على الطرقات إلى نابلس وداخلها. هل يبدو هذا مألوفًا لكم؟ ألا تروْن، لا جديدَ تحتَ الشمس.
ما يبدو جديدًا، مع ذلك، الواقع أنّه ابتداءً من أواخر عشرينيّات القرن العشرين، اندمج أطفال السامريّين في نظام التعليم العامّ وبدؤوا يتعلّمون في المدارس العربيّة، بالإضافة إلى الإطار الدائم لتعليم التقاليد والدين، قبل الدراسات العامّة وبعدَها.
أولادٌ سامريّون يتعلّمون القرآن
إنّ أحدَ موضوعات الدراسة المركزيّة في المدارس الابتدائيّة في نابلس، كان، بالطبع، تعليم الإسلام والقراءة في القرآن الكريم. حُجّاج وشيوخ مسلمون مُلتَحون، ومُعتمِرو العمائم، مارسوا عملهم بهيبة القدسيّة، وحاولوا بنجاح غير ضئيل، تذويتَ تلك الهيبة في قلوب تلامذتهم.
نجح المعلّمون في عملهم بالنسبة لأبناء العائلات المسلمة، غالبيّة سكّان نابلس، ولكن ليس بخصوص التلاميذ السامريّين، أو تلاميذ العائلات المسيحيّة القليلة في نابلس.
وقع الحادث في عامي الدراسيّ الأخير، في المدرسة الابتدائيّة باسم عادل زعيتر، التي ما زالت قائمةً وفاعلةً حتّى اليوم بجِوار الحيّ السامريّ الجديد في المدينة، عند النزول من الحيّ في الشارع الرئيسيّ إلى السوق وساحة المدينة، وتقع هذه المدرسة في الجهة اليمنى، والمقبرة الإسلاميّة الكبيرة تفصل بينها وبين الحيّ. هناك قضيتُ أيّام طفولتي كتلميذ سامريّ وحيد، في صفّ كلّ تلاميذه مسلمون.
المعلّم الشيخُ فيّاض
معلّم الدين الإسلامي والقراءة في القرآن الكريم، كان الشيخ فيّاض. لا أذكر اسمه الكامل، لأننا أيضًا كنّا نهمس باسمه الشخصيّ بهلع شديد. لقد أرعبَ جميعَ التلاميذ، وقد وصل موقفه المتجاهل كلّ مرّة أرقامًا قياسيّة عندما كان الأمر يخُصّني.
اِشتهر لكونه حاجًّا، وأكثر من الحديث لنا عن زيارته الوحيدة لمدينتهمِ المقدّسة، مكّة. ولمّا كان يحدّثنا عن ذلك كانت عيناه تلمعان، كأنّ نارًا كانت تخرج منهما؛ كان التلاميذ يتحرّكون قليلًا في أماكنهم بلا راحة خوفًا من خدْش حماسته. وكلّ من فعل ذلك كان حكمه واحدا: ضربات مبرّحة بالمسطرة على أطراف الأصابع.
عندما كان يدخل الصّفّ، كان الصمتٌ العميق مخيّمًا، لا أحدَ يفتح فاه بدون إذن. عند دخول الشيخ للغرفة وعند خروجه منها كنّا نقف منتصبين ومنتظرين إعطاء الإذن بالجلوس، أو الخروج للهو في الساحة.
ذات يوم، تجرّأ أحدُ التلاميذ ورفع إصبعه كأنّه يطلب طرحَ سؤال. هزّ الشيخُ رأسَه وأشرق وجهُه نحو السائل وقال: اِسأل يا بنيَّ، لا تخف. وقف التلميذ، كما يجب على كلّ سائل، وسأل الشيخَ فيّاض: لماذا يا حضرة الشيخ أُمرنا نحن المسلمين بالصلاة خمس مرّات في اليوم، في حين أنّ الكفّار [كلّ التلاميذ عرفوا من المقصود] يصلّون لإلههم مرّتين أو ثلاثا؟
أحسنتَ في سؤالك! ردّ الشيخ فيّاض على التلميذ، الذي تورّدت وجنتاه فخرًا من إطراء الشيخ - حقًّا لقد فرض الله علينا الصلاة له خمس مرّات في اليوم، كعدد أركان ديننا، ولكن علينا أن نُزجي الشكر لحكمة وفِطنة نبيّنا محمّد، رسول الله، فبفضله نصلّي خمس مرّات في اليوم فقط.
هنا، بدأ الشيخ فيّاض بسرد قصّته الطريفة، في البداية أمر الله مؤمنيه بالصلاة خمسين مرّة في اليوم. هكذا فرض الله بواسطة محمّد رسوله. ماذا فعل نبيّنا؟ سأل الشيخ فيّاض سامعيه، تلاميذ صفّي وكلّهم آذان مُصغية - أرسل واستدعى موسى بن عِمران وأمره بالذهاب إلى الله، والطلب منه باسم رسوله، أن يقلّل عدد الصلوات، إذ إن كرّس المسلم وقته للصلاة خمسين مرّة كلَّ يوم، فكيف سيجد وقتًا للعمل وإعالة أُسرته. نعم، في الواقع، يهتمّ الله بالمأكل والملبس، ولكن لا بدّ من العمل.
ذهب موسى بن عِمران بأمر نبيّنا إلى الله وأبلغه ما أمره محمّد. استجاب الله لطلب نبيّنا وخفض عدد الصلوات من خمسين لخمس وأربعين. عاد موسى وبلّغ محمّدًا بذلك. عاود محمّد وأرسله لخفض آخرَ في عدد الصلوات. استجاب الله مرّة أخرى وخصم خمس صلوات، أي أربعين صلاةً في اليوم.
هنا بدأت رحلة طويلة من محاولات متكرّرة من الإقناع (إغراءات) ونبيّنا محمّد يحشد حكمته الطبيعيّة وبصيرته بإسماع حججه - تابع الشيخ فيّاض في قصّته- وعاد موسى لمحمّد وبجَعبته خصم خمس صلوات إضافيّة. وعلى هذا المنوال نقص عدد الصلوات من أربعين لخمس وثلاثين فثلاثين فخمس وعشرين فعشرين فخمس عشرة فعشر، إلى أن استجاب الله لطلب محمّد ووافق على أن يكون عدد الصلوات، كعدد خمسة أركان الدين الإسلاميّ - قصّ الشيخ فيّاض بفخر عظيم إزاءَ حكمة محمّد.
وقف تلميذ آخرُ وسأل الشيخ فيّاض: سيّدي الشيخ، لماذا بعث نبيّنا موسى بن عِمران إلى الله، إذ كان بإمكانه أن يفعل ذلك بنفسه؟
لقد طرحتَ سؤالًا ذكيًّا! قال الشيخ للتلميذ المتحمّس - كانت لنبيّنا أشغال أهمّ لإشغال الله بها من المساومة حول عدد الصلوات، لذلك أرسل موسى بن عمران لهذه المهمّة.
موسى عاش ألفيْن وخمسَمائة سنة قبل محمّد
في هذه اللحظة لم أقوَ بعد على كبْح جِماحي، رفعتُ إصبعي ووقفت بإذن الشيخ فيّاض: اِسأل يا ابني، مع أنّك لست ابنَ دين الحقّ بعد!
ليسمح لي سيّدي الشيخ - رفعتُ صوتي- كيف أرسل محمّدٌ موسى بن عِمران، فمن المعروف أنّ موسى بن عمران قد عاش ألفيْن وخمسمائة سنة قبل محمّد؟
اِغتاظ الشيخ فيّاض جدًّا من سؤالي، وطالب التلاميذ بألّا يصدّقوا كلامَ الكافر الذي سينال عقابه على سؤاله الوقح.
في اليوم ذاته، بذل الشيخ فيّاض جهدًا (غَلَّب حاله) وأتى إلى بيتنا ليشكوني أمامَ أبي الكاهن يعقوب بن شفيق. ضحك أبي عند سَماع شكوى الشيخ وأسرع في تهدئته بفنجان قهوة يعلوه بخاره (طالع هُبّالُه).
كيف تقول كلامًا كهذا بحضور تلميذ سامريّ، يدرس يوميًّا توراة موسى؟ سأل والدي الشيخَ. إنّك تستطيع قولَ ذلك للتلاميذ المسلمين الذين لا يعرفون توراة موسى.
القاعدة تقول: من يريد الكذِب - فليُبعدْ شهادته - قال أبي للشيخ.
#حسيب_شحادة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟