أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - كمال التاغوتي - الذكاء الاصطناعي: نحو صناعة أيقونة















المزيد.....

الذكاء الاصطناعي: نحو صناعة أيقونة


كمال التاغوتي

الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 16:25
المحور: قضايا ثقافية
    


تشهد تقنية "الذكاء الاصطناعي" هذه الأيام حضورا طاغيا في عالم الخطاب بجُلّ قطاعاته؛ وتتصدّر آلية الترهيب المشهدَ، شأنها في ذلك شأن تعاطي المجتمع مع كل ابتكار يساهم في تحويل بنيوي عميق. فرد الفعل هذا سلوك انتهجه الكائن البشري – ولا يزال – تجاه ما يصنعه وينتجه على مدى تاريخه الطويل وضمن مختلف التشكيلات الاجتماعية؛ ليثبت يوما بعد يوم انشداده إلى ما ترسب في جهازه النفسي والذهني من انفعالات وتصورات تجد جذورها في علاقته بآلهة يخلقها ثم سرعان ما يسلّم لها ويخلي لها فضاء التفكير والتدبير ليبرئ ذمته من كل فعل يحدثه.
ذاك ما يحدث اليوم – مثلما كان يحدث مع ولوج الآلة الحياة العملية – إذ تروّج أطراف مختلفة مشاربُها خطر "الذكاء الاصطناعي" على الإنسان في حله وترحاله، بدءا من عمله وصولا إلى عواطفه وخياله مرورا بتصوراته وملَكاته الذهنية. وعلى هذا النحو تُمنح هذه التقنية الجديدة استقلالا عن البشر وإرادتهم – كما مُنحت الآلهة قديما – وتتحوّل بموجب بلاغة الرّهاب إلى "نبت شيطاني" غريب عن الفعل البشري وفعاليته. ولبلاغة الرّهاب تلك تجلياتٌ ومظاهرُ يمكن حصرها في ثلاثة أساسية:

أما الأوّل فيتمثّل في الاستبدال، ذلك أن أباطرة الشركات الاحتكارية الكبرى "يبشّرون" (أو ينذرون) بعصر العطالة الشاملة، فـ"الذكاء الاصطناعي" وتطوره المتسارع سيسمح لقطاعات الإنتاج والخدمات وغيرها بالاستغناء كليا عن العمّال، عن القوى المنتجة البشرية، لتنهض التقنية الجديدة بالأعباء دون كلل ولا اعتراض. وبذلك يتمكّن البورجوازي – صاحب رأس المال-بتملّكه هذه الوسيلة من التخلص من عدوّه الطبقي دون خسائر. وما يطرحه هؤلاء البورجوازيون إنما يستندون فيه إلى مقولة "الحتمية التكنولوجية"، جاعلين من ابتكارٍ يكثّف طاقات الإنتاج والعمل، أعني تقنية "الذكاء الاصطناعي"، كيانا متعاليا مفارقا يحكم البشر انطلاقا من تلك العلب المخصصة لتطويره وإعادة إنتاجه، محيطين عمليات الإنتاج ذاتَها بهالة من الهيبة جاعلين الصراع بها ولها ليصطنعوا بذلك أولمب جديدا. ذاك ما صرّح به بيل غايتس على سبيل المثال لا الحصر، وهو وإن يكن كلامه في صيغة نبوءة فإنه يحجب حقيقة كونه لا يتنبّأ بل يصنع واقعا جديدا، فتكون نبوءته هذه – شأنه في ذلك شأن سدنة المعابد وكهانها – تبريرا لما تمارسه طبقته على الكادحين. فتسريح آلاف الموظفين والعمّال ليس سوى إذعان لمشيئة "التطوّر" التقني.

أما التجلّي الثاني فله صلة بما انتهينا إليه في الأوّل، أعني إكساب تقنية "الذكاء الاصطناعي" مشيئة تعلو فوق مشيئة البشر بل تسلبهم إياها. فبلاغة الرّهاب – في سياق ترسيخ سلطة هذه التقنية وتعميمها-تستدعي جهاز المفاهيم الكلامي (اللاهوت) وتفعّل مقولاته سعيا – عن قصد أو غير قصد – إلى "التطبيع" مع العجز؛ فكما روّج كهان المعابد الأثرية ضعف الكائن البشري وعجزه أمام قوّة الآلهة وقدرتها، يروّج هذا الخطاب صورة "الذكاء الاصطناعي" كُلّي القدرة على العالم وسيطرته على الإنسان – فردا وجماعات- وتحديد مصيره. فبتنا نسمع عبارات "التسخير" و "التسيير" و "الجبر"، وهي عبارات تكثّف آليات تعمل على محو الإرادة والقدرة على الفعل. أجل إن هذا الخطاب الصادر عن أطراف ذات مصالح مختلفة قد تكون غايته التنبيه والتحذير، بيد أنه يساهم على هذا النحو في تزييف الوعي بكنه هذه التقنية، مغرقا في مثالية تزيد المرء ضلالة إذا استقبلها دون نقد. فإذا كان المتحمّسون – ها أنا أقع في الشّرك ذاته – يُخرجون تقنية "الذكاء الاصطناعي" في صورة "إله" خيّر، "إله" النور، يُخرج المتوجّسون التقنية ذاتها في صورة "مارد"، "إله الظلام"، يتربّص بالمرء جسدا وعقلا ووجدانا ليسحقه ويفنيه فتخلو له الأرض ليرثها، ما ظهر منها وما بطُن. هكذا يُجرَّد الصراع ويتجوهر ليمسي صراعا بين قطبي "الإيمان" بهذا المنجز الجديد و"الكفر" به، غير أن الموقف منه – موجبا كان أو سالبا – لن يغيّر من "حتمية" الإذعان للمشيئة التقنية المتعالية والسير في درب تسطّره الشركات الاحتكارية لتخترق "الحياة" في مظاهرها جميعها. وليس للبشر عندئذ سوى سؤال "اللطف" في هذا القضاء، وما ذلك "اللطف" فيه إلا أداوت السيطرة والرقابة السياسية القمعية، بل إن أدوات الرقابة تلك منزّلةٌ تنزيلا من صميم التقنية ذاتها، أعني أن الأنظمة السياسية إنما توظّف "الذكاء الاصطناعي" في بسط نفوذها وتأبيد سيطرتها الطبقية بدعوى الحماية من آفاته. إنها تعيد إنتاج "نظام" القرابين المقدسة لاستعطاف إله أو تجنب سخطه وغضبه.

أما التجلي الثالث فيتمثّل في شك يحاول أصحابه دكّ صروح العلم ومنجزاته، قديمها وحديثها. فما تروّجه بعض الأوساط "الأكاديمية" من حديث عن كائنات فضائية ذات قدرات تكنولوجية عالية هي المسؤولة عن انبثاق التقنيات الحديثة بما فيها تقنية "الذكاء الاصطناعي"؛ ووفق ما يطرحه هؤلاء ما كان للبشر أن يخترع ويبتكر تلك الحضارات العظيمة لولا تلقيه "الوحي" من تلكم الكائنات. فالبشر أعجز من أن يبلغوا بعقولهم القاصرة هذا المستوى من "التقدّم"، وأن يجترحوا هذه "المعجزات" التقنية الباهرة. إنها آلية التعجيز ذاتها، ولكنها توظّف لتحويل التقنية الدقيقة المعاصرة إلى معارف وعلوم تنجز في كنف السرية، إنها لغنوصية في لبوس جديد تكرّس – وإن لم يكن ذلك هدفها – الاحتكار؛ بل إنّ "علم الأسرار" الحديث وليد تاريخي للرأسمالية الاحتكارية، فهو مظهر من مظاهرها ضمن التشكيلة الخطابية الحديثة. أجل تستبدل "الغنوصية الجديدة" الكائن الفضائي بالإله والصحون الطائرة بالملائكة المجنحة وتعليم البشر بالوحي والإلهام ... وهلم جرا، إلا أنها تعيد إنتاج آليات التفكير ذاتها لتنتج وعيا زائفا يذهل عن استغلال الشركات الاحتكارية هذه الهواجس للتوسع من جهة وصرف البحث العلمي عن حاجات الناس الواقعية من جهة أخرى وإذكاء أوار الصراع بين الدول من جهة ثالثة.

هكذا ترسم أطراف مختلفة وجه تقنية "الذكاء الاصطناعي"، وجها ذا ثلاثة أبعاد: "بشر" بديل و"إله" قدير و"وحي" سري دخيل؛ فيكفّ عن كونه أداة/وسيلة ليستوي غاية لا بد من بلوغها وقدرا لا مناص من الرضا به بخيره وشره. ومن ثمة يطرح على التفكير النقدي التاريخي والتقدمي الثوري سؤال مواجهة تزييف الوعي هذا ومصادرة الإرادة في التحرر؛ وذلك لا يتأتى إلا إذا أعيدت هذه التقنية – وغيرها من التقنيات – إلى الأرض، وتنزّل في حركة التاريخ، لينجح العمال مرة في تحويل "الذكاء الاصطناعي" إلى فضاء للنضال والتحرر؛ فكما نجحت الطبقة العالمة في تحطيم "أيقونة" الآلة إبان ظهورها فجعلوها في صالحهم، سينجحون في قلب السحر على الساحر أن يحوّلوا هذه التقنية إلى مساعد على تطوير أشكال النضال من أجل الانعتاق وصياغة عالم أفضل.



#كمال_التاغوتي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحْزانُ إسْماعِيلَ
- شهريار الجسد المقهور (مقاربة لمسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم)
- فخْرُ البِيضانِ على الحُمْرانِ
- وَرْدٌ يَقِظ
- بِنْتٌ فِي المَيْدَانِ
- أُفُول
- أرَاكِ
- نَزِيفٌ
- البِشارَة: وصايا حسن الصّبّاح إلى أبنائه المؤمنين
- ضَابِطُ تَلْمُود
- مدينة البرتقال
- شِراع
- ثَرْوَةُ صَاحِبِ القِطَارِ
- لوْحةٌ
- وطن
- مجد الشهيد
- ابْتِهَــال
- جنازَة
- رُؤْيَــا
- رسالة الغفران (منقّحة)


المزيد.....




- إسرائيل تعلن عن أول وفاة جراء الهجوم الإيراني
- إصابة نائب تركي باعتداءات على نشطاء -قافلة الصمود- في مصر
- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجارات في طهران.. واشتعال ني ...
- مسؤول إيراني لـCNN: سنستهدف قواعد أي دولة ستدافع عن إسرائيل ...
- شاهد.. دمار واسع في تل أبيب خلفه الهجوم الإيراني
- -التايمز-: إسرائيل لم تبلغ بريطانيا بنيتها ضرب إيران لأنها ل ...
- خبير طاقة مصري يكشف أسوأ سيناريو بعد الضربة الإسرائيلية للمن ...
- الحرس الثوري الإيراني: الضربات الصاروخية استهدفت 150 موقعا إ ...
- خبير عسكري مصري يكشف سبب قوة تأثير صواريخ إيران فرط الصوتية ...
- وزير خارجية الإمارات يجري اتصالات موسعة مع عدة دول لتجنب الت ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - كمال التاغوتي - الذكاء الاصطناعي: نحو صناعة أيقونة