|
تعلم فن الكتابة (1)
محمد بركات
الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 04:49
المحور:
الادب والفن
هذه الصفحات مخصصة لمن يروم صقل موهبته الأدبية وإتقان صناعة الكلمة والأخذ بناصية صنعة الإنشاء. وأما الوسيلة إلى ذلك فقد اخترت قلماً من أوفر الكتاب براعة في فن اختيار الكلمة، وهو الأديب الراحل عبد الرحمن رأفت الباشا، والكتاب الذي نحن بصدده الآن هو كتابه الرائع (صور من حياة الصحابة). وسبب اختياري لهذا الكتاب هو غزارة مادته الأدبية حتى أنه لا يكاد يفلت سطر واحد من عدة كلمات بليغة، والسبب الآخر أنه كتاب معاصر يحمل مفردات معاصرة، ومن ثم يغدو من السهل على القارئ تناوله وهضمه والإستمتاع بأسلوبه القصصي الجميل. وقد أتبعتُ كل حلقة بالعبارات الأدبية البليغة التي وردت في الترجمة لكي يتضح الأمر للقارئ، ويمكن نسخها في ملف وورد وقرائتها من وقت لآخر والكتابة بها أيضاً حتى ينضج قلمه مع مرور الوقت. والله من وراء القصد.
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ
"اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ" [مِنْ دُعَاءِ الرَّسُول ﷺ لَهُ]
كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي عُمُرِ الْوَرْدِ حِينَ لَقَّنَتْهُ أُمُّهُ "الْغُمَيْصَاءُ" (١) الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَتْرَعَتْ (٢) فُؤَادَهُ الْغَضَّ بِحُبِّ نَبِيِّ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ … فَشُغِفَ أَنَسٌ بِهِ حُبًّا عَلَى السَّمَاعِ. وَلَا غَرْوَ، فَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانًا .. وَكَمْ تَمَنَّى الْغُلَامُ الصَّغِيرُ أَنْ يَمْضِي إِلَى نَبِيِّهِ فِي مَكَّةَ، أَوْ يَفِدَ الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ ﷺ عَلَيْهِمْ فِي "يَثْرِبَ" لِيَسْعَدَ بِرُؤْيَاهُ، وَيَهْنَأُ بِلُقْيَاهُ. * * * لَمْ يَمْضِ عَلَى ذَلِكَ طَوِيلُ وَقْتٍ حَتَّى سَرَى فِي "يَثْرِبَ" الْمَحْظُوظَةِ الْمَغْبُوطَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَصَاحِبَهُ الصِّدِّيقَ فِي طَرِيقِهِمَا إِلَيْهَا … فَغَمَرَتِ (٣) الْبَهْجَةُ كُلَّ بَيْتٍ، وَمَلَأتِ الْفَرْحَةُ كُلَّ قَلْبٍ .. وَتَعَلَّقَتِ الْعُيُونُ وَالْقُلُوبُ بِالطَّرِيقِ الْمَيْمُونِ (٤) الَّذِي يَحْمِلُ خُطَا النبي ﷺ وَصَاحِبِهِ إِلَى "يَثْرِبَ". * * * وَأَخَذَ الْفِتْيَانُ يُشِيعُونَ مَعَ إِشْرَاقَةِ كُلِّ صَبَاحٍ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ جَاءَ … فَكَانَ يَسْعَى إِلَيْهِ أَنَسٌ مَعَ السَّاعِينَ مِنَ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَرَى شَيْئًا فَيَعُودُ كَئِيبًا مَحْزُونًا. * * * وَفِي ذَاتِ صَبَاحٍ شَذِيِّ (١) الْأَنْدَاءِ، نَضِيرِ الرُّوَاءِ، هَتَفَ رِجَالٌ فِي "يَثْرِبَ": إِنَّ مُحَمَّدًا وَصَاحِبَهُ غَدَوَا قَرِيبَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَطَفِقَ الرِّجَالُ يَتَّجِهُونَ نَحْوَ الطَّرِيقِ الْمَيْمُونِ الَّذِي يَحْمِلُ إِلَيْهِمْ نَبِيَّ الْهُدَى وَالْخَيْرِ … وَمَضَوْا يَتَسَابَقُونَ إِلَيْهِ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، تَتَخَلَّلُهُمْ أَسْرَابٌ (٢) مِنْ صِغَارِ الْفِتْيَانِ تُزَغْرِدُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَرْحَةٌ تَعْمُرُ قُلُوبَهُمُ الصَّغِيرَةَ، وَتُتْرِعُ أَفْئِدَتَهُم الْفَتِيَّةَ … وَكَانَ فِي طَلِيعَةِ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ. * * * أَقْبَلَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَعَ صَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ، وَمَضَيَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجُمُوع الزَّاخِرَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالْوِلْدَانِ … أَمَّا النِّسْوَةُ الْمُخَدَّرَاتُ (٣)، وَالصَّبَايَا الصَّغِيرَاتُ فَقَدْ عَلَوْنَ سُطُوحَ الْمَنَازِلِ، وَجَعَلْنَ يَتَرَاءَيْنَ (٤) الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَيَقُلْنَ: أَيُّهُمْ هُوَ؟! … أَيُّهُمْ هُوَ؟!. فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمًا مَشْهُودًا … ظَلَّ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُهُ حَتَّى نَيَّفَ عَلَى الْمِائَةِ مِنْ عُمُرِهِ. * * * مَا كَادَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ يَسْتَقِرُّ بِالْمَدِينَةِ؛ حَتَّى جَاءَتْهُ "الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ" أُمُّ أَنَسٍ، وَكَانَ مَعَهَا غُلَامُهَا الصَّغِيرُ، وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهَا، وَذُؤَابَتاهُ (١) تَنُوسَانِ (٢) عَلَى جَبِينِهِ … ثُمَّ حَيَّتِ النَّبِيَّ ﵊ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ … لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَقَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لَا أَجِدُ مَا أُتْحِفُكَ بِهِ غَيْرَ ابْنِي هَذَا … فَخُذْهُ، فَلْيَخْدِمْكَ مَا شِئْتَ … فَهَشَّ النَّبِيُّ ﷺ لِلْفَتَى الصَّغِيرِ وَبَشَّ (٣)، وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَسَّ ذُؤَابَتَهُ بِأَنَامِلِهِ النَّدِيَّةِ، وَضَمَّهُ إِلَى أَهْلِهِ. * * * كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَوْ "أُنَيْسٌ" - كَمَا كَانُوا يُنَادُونَهُ تَدْلِيلًا - فِي الْعَاشِرَةِ مِنْ عُمُرِهِ يَوْمَ سَعِدَ بِخِدْمَةِ النَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَظَلَّ يَعِيشُ فِي كَنَفِهِ وَرِعَايَتِهِ إِلَى أَنْ لَحِقَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ بِالرَّفِيقِ الأعلى (٤). فَكَانَتْ مُدَّةُ صُحْبَتِهِ لَهُ عَشْرَ سَنَوَاتٍ كَامِلَاتٍ، نَهَلَ (٥) فِيهَا مِنْ هَدْيِهِ مَا زَكَّى بِهِ نَفْسَهُ، وَوَعَى مِنْ حَدِيثِهِ مَا مَلأَ بِهِ صَدْرَهُ، وَعَرَفَ مِنْ أَحْوَالِهِ وَأَخْبَارِهِ وَأَسْرَارِهِ وَشَمَائِلِهِ مَا لَمْ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ سِوَاهُ. * * * وَقَدْ لَقِيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ مِنْ كَرِيمٍ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَلَدٌ مِنْ وَالِدٍ … وَذَاقَ مِنْ نَبِيلِ شَمَائِلِهِ، وَجَلِيلِ خَصَائِلِهِ مَا تَغْبِطُهُ عَلَيْهِ الدُّنْيَا. فَلْنَتْرُكُ لِأَنَسٍ الْحَدِيثَ عَنْ بَعْضِ الصُّوَرِ الْوَضَّاءَةِ مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي لَقِيَهَا فِي رِحَابِ النَّبِيِّ السَّمْحِ (٢) الْكَرِيمِ ﷺ، فَهُوَ بِهَا أَدْرَى، وَعَلَى وَصْفِهَا أَقْوَى … قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَرْحَبِهِمْ (٣) صَدْرًا، وَأَوْفَرِهِمْ حَنَانًا … فَقَدْ أَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَخَرَجْتُ، وَقَصَدْتُ صِبْيَانًا يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ لأَلْعَبَ مَعَهُمْ وَلَمْ أَذْهَبْ إِلَى مَا أَمَرَنِي بِهِ، فَلَمَّا صِرْتُ (٤) إِلَيْهِمْ شَعَرْتُ بِإِنْسَانٍ يَقِفُ خَلْفِي، وَيَأْخُذُ بِثَوْبِي … فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْتَسِمُ وَيَقُولُ: (يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟). فَارْتَبَكْتُ وَقُلْتُ: نَعَمْ … إِنِّي ذَاهِبٌ الْآنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ … وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنَينَ، فَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ … وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟! * * * وَكَانَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِذَا نَادَى أَنَسًا صَغَّرَهُ (١) تَحَبُّبًا وَتَدْلِيلًا؛ فَتَارَةً يُنَادِيهِ يَا أُنَيْسُ، وَأُخْرَى يَا بُنَيَّ؟. وَكَانَ يُغْدِقُ عَلَيْهِ مِنْ نَصَائِحِهِ وَمَوَاعِظِهِ مَا مَلأَ قَلْبَهُ وَمَلَكَ لُبَّهُ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَهُ: (يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ … يَا بُنَيَّ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي … وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ … يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ). * * * عَاشَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ﵊ نَيِّفًا (٢) وَثَمَانِينَ عَامًا؛ مَلأَ خِلَالَهَا الصُّدُورَ عِلْمًا مِنْ عِلْمِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ ﷺ، وَأَتْرَعَ فِيهَا الْعُقُولَ فِقْهًا مِنْ فِقْهِ النُّبُوَّةِ … وَأَحْيَا فِيهَا الْقُلُوبَ بِمَا بَثَّهُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (٣) مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا أَذَاعَهُ فِي النَّاسِ مِنْ شَرِيفِ أَقْوَالِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ ﷺ وَجَلِيلِ أَفْعَالِهِ. وَقَدْ غَدَا أَنَسٌ عَلَى طُولِ هَذَا الْعُمُرِ الْمَدِيدِ مَرْجِعًا لِلْمُسْلِمِينَ، يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ كُلَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ، وَيُعَوِّلُونَ (١) عَلَيْهِ كُلَّمَا اسْتَغْلَقَ (٢) عَلَى أَفْهَامِهِمْ حُكْمٌ. مِنْ ذَلِكَ، أَنَّ بَعْضَ الْمُمَارِينَ فِي الدِّينِ جَعَلُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي ثُبُوتِ حَوْضِ النَّبي ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَأَلُوهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ما كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَعِيشَ حَتَّى أَرَى أَمْثَالَكُمْ يَتَمَارَوْنَ (٣) فِي الْحَوْضِ، لَقَدْ تَرَكْتُ عَجَائِزَ خَلْفِي مَا تُصَلِّي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا سَأَلَتِ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَهَا مِنْ حَوْضِ النَّبِيِّ ﵊. * * * وَلَقَدْ ظَلَّ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَعِيشُ مَعَ ذِكْرَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا امْتَدَّتْ بِهِ الْحَيَاةُ … فَكَانَ شَدِيدَ الْبَهْجَةِ بِيَوْمِ لِقَائِهِ، سَخِيَّ الدَّمْعَةِ عَلَى يَوْمِ فِرَاقِهِ، كَثِيرَ التَّرْدِيدِ لِكَلَامِهِ … حَرِيصًا عَلَى مُتَابَعَتِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، يُحِبُّ مَا أَحَبَّ، وَيَكْرَهُ مَا كَرِهَ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَيَّامِهِ يَوْمَانِ: يَوْمُ لِقَائِهِ مَعَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَيَوْمُ مُفَارَقَتِهِ لَهُ آخِرَ مَرَّةٍ. فَإِذَا ذَكَرَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ سَعِدَ بِهِ وَانْتَشَى (٤)، وَإِذَا خَطَرَ لَهُ الْيَوْمُ الثَّانِي انْتَحَبَ وَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ مِنَ النَّاسِ. وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﵊ يَوْمَ دَخَلَ عَلَيْنَا، وَرَأَيْتُهُ يَوْمَ قُبِضَ مِنَّا، فَلَمْ أَرَ يَوْمَيْنِ يُشْبِهَانِهِمَا. فَفِي يَوْمٍ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ … وَفِي الْيَوْمِ الَّذِي أَوْشَكَ فِيهِ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى جِوَارِ رَبِّهِ أَظْلَمَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ … وَكَانَ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَيْهِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ حِينَ كُشِفَتِ السِّتَارَةُ عَنْ حُجْرَتِهِ، فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ وُقُوفًا خَلْفَ بَكْرٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ كَادُوا أَنْ يَضْطَرِبُوا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنِ اثْبُتُوا. ثُمَّ تُوُفِّيَ الرَّسُولُ ﵊ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَمَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِهِ ﷺ حِينَ وَارَيْنَاهُ تُرَابَهُ. * * * وَلَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ … وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ لَهُ: (اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ) … وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دُعَاءَ نَبِيِّهِ ﵊، فَكَانَ أَنَسٌ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ مَالًا وَأَوْفَرَهُمْ ذُرِّيَّةً؛ حَتَّى إِنَّهُ رَأَى مِنْ أَوْلَادِهِ وَحَفَدَتِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْمِائَةِ. وَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِي عُمُرِهِ حَتَّى عَاشَ قَرْنًا كَامِلا … وَفَوْقَهُ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ. وَكَانَ أَنَسٌ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ شَدِيدَ الرَّجَاءِ لِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَقُولَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا خُوَيْدِمُكَ أُنَيْسٌ. * * * وَلَمَّا مَرِضَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَرَضَ الْمَوْتِ قَالَ لِأَهْلِهِ: لَقِّنُونِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ ظَلَّ يَقُولُهَا حَتَّى مَاتَ. وَقَدْ أَوْصَى بِعُصَيَّةٍ صَغِيرَةٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَنْ تُدْفَنَ مَعَهُ، فَوُضِعَتْ بَيْنَ جَنْبِهِ وَقَمِيصِهِ. * * * هَنِيئًا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَلَى مَا أَسْبَغَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ. فَقَدْ عَاشَ فِي كَنَفِ (١) الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ ﷺ عَشْرَ سَنَوَاتٍ كَامِلَاتٍ … وَكَانَ ثَالِثَ اثْنَيْنِ فِي رِوَايَةِ حَدِيثِهِ هُمَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَزَاهُ اللَّهُ هُوَ وَأُمَّهُ الْغُمَيْصَاءَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ. ____________________________________________
العبارات الأدبية • كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي عُمُرِ الْوَرْدِ حِينَ لَقَّنَتْهُ أُمُّهُ "الْغُمَيْصَاء الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَتْرَعَتْ فُؤَادَهُ الْغَضَّ بِحُبِّ نَبِيِّ الْإِسْلَامِ • فَشُغِفَ أَنَسٌ بِهِ حُبًّا عَلَى السَّمَاعِ • لِيَسْعَدَ بِرُؤْيَاهُ، وَيَهْنَأُ بِلُقْيَاهُ • فَغَمَرَتِ الْبَهْجَةُ كُلَّ بَيْتٍ، وَمَلَأتِ الْفَرْحَةُ كُلَّ قَلْبٍ • وَأَخَذَ الْفِتْيَانُ يُشِيعُونَ مَعَ إِشْرَاقَةِ كُلِّ صَبَاحٍ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ جَاءَ • وَفِي ذَاتِ صَبَاحٍ شَذِيِّ الْأَنْدَاءِ، نَضِيرِ الرُّوَاءِ، هَتَفَ رِجَالٌ • وَمَضَوْا يَتَسَابَقُونَ إِلَيْهِ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، تَتَخَلَّلُهُمْ أَسْرَابٌ مِنْ صِغَارِ الْفِتْيَانِ تُزَغْرِدُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَرْحَةٌ تَعْمُرُ قُلُوبَهُمُ الصَّغِيرَةَ، وَتُتْرِعُ أَفْئِدَتَهُم الْفَتِيَّةَ … • وَكَانَ فِي طَلِيعَةِ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ. • أَقْبَلَ الرَّسُولُ • وَمَضَيَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجُمُوع الزَّاخِرَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالْوِلْدَانِ … • أَمَّا النِّسْوَةُ الْمُخَدَّرَاتُ، وَالصَّبَايَا الصَّغِيرَاتُ فَقَدْ عَلَوْنَ سُطُوحَ الْمَنَازِلِ، وَجَعَلْنَ يَتَرَاءَيْنَ الرَّسُولَ • مَا كَادَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ يَسْتَقِرُّ بِالْمَدِينَةِ؛ حَتَّى جَاءَتْهُ "الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ" • لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَقَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لَا أَجِدُ مَا أُتْحِفُكَ بِهِ غَيْرَ ابْنِي هَذَا • فَهَشَّ النَّبِيُّ ﷺ لِلْفَتَى الصَّغِيرِ وَبَشَّ • وَظَلَّ يَعِيشُ فِي كَنَفِهِ إِلَى أَنْ لَحِقَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ بِالرَّفِيقِ الأعلى • وَقَدْ لَقِيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ مِنْ كَرِيمٍ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَلَدٌ مِنْ وَالِد • كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَرْحَبِهِمْ صَدْرًا، وَأَوْفَرِهِمْ حَنَانًا ٍ • وَكَانَ يُغْدِقُ عَلَيْهِ مِنْ نَصَائِحِهِ وَمَوَاعِظِهِ مَا مَلأَ قَلْبَهُ وَمَلَكَ لُبَّهُ. • عَاشَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ عَامًا • وَأَحْيَا فِيهَا الْقُلُوبَ بِمَا بَثَّهُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا أَذَاعَهُ فِي النَّاسِ مِنْ شَرِيفِ أَقْوَالِ الرَّسُولِ • وَقَدْ غَدَا أَنَسٌ عَلَى طُولِ هَذَا الْعُمُرِ الْمَدِيدِ مَرْجِعًا لِلْمُسْلِمِينَ، يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ كُلَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ، وَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ كُلَّمَا اسْتَغْلَقَ عَلَى أَفْهَامِهِمْ حُكْمٌ. • فَكَانَ شَدِيدَ الْبَهْجَةِ بِيَوْمِ لِقَائِهِ، سَخِيَّ الدَّمْعَةِ عَلَى يَوْمِ فِرَاقِهِ، كَثِيرَ التَّرْدِيدِ لِكَلَامِهِ • فَإِذَا ذَكَرَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ سَعِدَ بِهِ وَانْتَشَى (٤)، وَإِذَا خَطَرَ لَهُ الْيَوْمُ الثَّانِي انْتَحَبَ وَبَكَى • هَنِيئًا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَلَى مَا أَسْبَغَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ.
#محمد_بركات (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم (6)
-
التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم (5)
-
التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم (4)
-
التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم (3)
-
التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم (2)
-
التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم (1)
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للدكتور خزعل الماجدي (5)
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للسيد خزعل الماجدي (4)
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للسيد خزعل الماجدي (3)
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للسيد خزعل الماجدي (2)
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للسيد خزعل الماجدي (1)
-
المختار من كتاب (القصص القرآني ومتوازياته التوراتية) للسيد ف
...
-
المختار من كتاب (القصص القرآني ومتوازياته التوراتية) للسيد ف
...
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (6)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (5)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (4)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (3)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (2)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (1)
-
محادثات مع الله - الجزء الثالث (52) نيل دونالد والش
المزيد.....
-
-التربية-: إعادة جلسة امتحان اللغة العربية لطلبة قطاع غزة في
...
-
يوم في حياة صحيفة مكتوبة بخط اليد في بنغلاديش
-
محطة القطارات التاريخية بإسطنبول تخوض صراع البقاء وسط تطلعات
...
-
براءة متوحشة أو -أفيون الكرادلة- لمحمد الحباشة
-
مصر.. فيلم ضي يتناول مرض -الألبينو- بمشاركة محمد منير
-
أولريكة الخميس: الفنون الإسلامية جسر للتفاهم في متحف الآغا خ
...
-
من -الغريب- إلى الشاشة.. الرواية بين النص والصورة
-
محمد خسّاني.. رقصة الممثل الجزائري في كليب الرابور المغربي د
...
-
صناع فيلم -صوت هند رجب- يتحدثون لبي بي سي بعد الإشادة العالم
...
-
فيلم عن مقتل الطفلة هند رجب في غزة يلقى تصفيقاً حاراً استمر
...
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|