علاء الدين حسو
كاتب وإعلامي
(Alaaddin Husso)
الحوار المتمدن-العدد: 8362 - 2025 / 6 / 3 - 16:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
النمودج الثاني_ التجربة الناصرية
عند الحديث عن التجربة الناصرية، غالبًا ما تُستحضر في سياق مقارنات مع تجارب أخرى وتحولات سياسية معاصرة، مثل التحول الأخير في سوريا. لكن الهدف هنا ليس مناقشة إيجابيات أو سلبيات تجربة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولا تقييم إشكالياتها التاريخية، بل التركيز على دروسها فيما يتعلق بآليات بناء القاعدة الشعبية وكسب الشرعية، وإمكانية الاستفادة من هذه الدروس أو فهم حدود تطبيقها في سياقات مختلفة ومعاصرة مثل الحالة السورية الراهنة.
تتمحور التجربة الناصرية حول قدرة عبد الناصر على قيادة مصر خلال مرحلة زمنية حرجة تميزت بالتحرر من الاستعمار والسعي لبناء دولة وطنية قوية. استطاع، من خلال قيادة حركة الضباط الأحرار عام 1952 التي أنهت الحكم الملكي، أن يكتسب شرعية أولية واسعة، لم تعتمد فقط على دعم الشعب المصري، بل امتدت لتلامس تطلعات شعوب المنطقة والعالم، بفضل خطابه القومي ونشاطاته الإقليمية والدولية المناهضة للاستعمار. هذه الشرعية الشعبية الأولية كانت العنصر الأساسي الذي استند إليه في نجاحاته اللاحقة، حيث ارتبطت بقضايا كبرى مثل القضية الفلسطينية والوحدة العربية، مما عزز مكانته كزعيم ذي كاريزما وتأثير واسع.
إذا ما أردنا استخلاص دروس من آليات بناء القاعدة الشعبية في التجربة الناصرية ومقارنتها بالوضع السوري الحالي، يمكن التركيز على مفهوم القاعدة الشعبية نفسها كمنبع للشرعية. في سوريا، جاء التحول الأخير بقيادة أحمد الشرع ومجموعة من الضباط في سياق ثورة شعبية ممتدة، وتلا ذلك عملية عسكرية أدت إلى تغيير نظام الحكم. وقد اكتسبت القيادة الجديدة دعمًا شعبيًا أوليًا واسعًا بطريقة قد تبدو مشابهة إلى حد ما للشرعية الأولية التي اكتسبها عبد الناصر بعد تحركه العسكري الذي استند إلى استياء شعبي قائم. لكن من الضروري التأكيد على أن السياقات التاريخية، وطبيعة التحديات، والظروف الاجتماعية والسياسية المعاصرة تختلف اختلافًا كبيرًا. فما كان فعالًا في بناء الشرعية والحفاظ على القاعدة الشعبية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي قد لا يكون كذلك اليوم، نظرًا للتغيرات الجذرية في الديناميكيات الداخلية والخارجية.
ما هي القاعدة الشعبية؟
القاعدة الشعبية هي العنصر الأساسي الذي يمنح الشرعية لأي قيادة سياسية ويضمن استدامتها. تشير إلى دعم الشعب وثقته في القائد أو النظام الحاكم، ويتجلى ذلك من خلال التأييد الجماهيري الواسع، المشاركة السياسية (حتى لو كانت موجهة أو مقيدة)، أو التماهي مع الأهداف والرؤى الوطنية أو القومية التي يقدمها القائد. في سياق التجربة الناصرية، يمكن تفصيل كيفية بناء عبد الناصر لهذه القاعدة الشعبية، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية تطبيق هذه الدروس أو التباين معها في سياقات أخرى مثل التجربة السورية الحديثة.
مقارنة مع التجربة السورية الحديثة:
عند مقارنة آليات بناء القاعدة الشعبية في النموذج الناصري مع السياق السوري الحديث، تبرز اختلافات جوهرية وتحديات هائلة تواجه القيادة الجديدة في دمشق:
في سوريا الحديثة، جاء التغيير بعد ثورة شعبية استمرت لأكثر من عقد من الزمن ضد نظام استبدادي وقمعي للغاية، وتخلل هذه الفترة صراع مسلح مدمر. قيادة أحمد الشرع جاءت كنتيجة لعملية عسكرية سريعة أطاحت بنظام الأسد المنهك. الشرعية الأولية المكتسبة هنا تنبع بشكل أساسي من الإطاحة بنظام مكروه ومن وعد بإنهاء سنوات الصراع والمعاناة. هذا يختلف عن شرعية ناصر الأولية التي بنت على آمال التحرر والاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة. التحدي الأكبر أمام القيادة السورية الجديدة هو تحويل هذا الدعم الأولي القائم على الإغاثة من نظام سابق إلى قاعدة شعبية مستدامة مبنية على الثقة بالإنجازات المستقبلية.
بينما واجه ناصر تحديات داخلية، لم تكن مصر تعاني من ذات العمق والترسخ في الانقسامات الاجتماعية والطائفية والإثنية والمناطقية التي تمزق النسيج الاجتماعي السوري بعد سنوات الحرب. الشرعية الشعبية في سوريا لا يمكن بناؤها بخطاب قومي عروبي أحادي بالضرورة (كما فعل ناصر)، بل تحتاج إلى خطاب وطني جامع يعترف بالتنوع ويطمئن كافة المكونات السورية على حقوقها ومستقبلها، مع التركيز على قضايا محلية ملحة تشمل الجميع مثل عودة اللاجئين والنازحين، تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية، وتوفير الأمن والخدمات الأساسية. القضايا الكبرى (مثل القضية الفلسطينية) قد تكون مهمة وجزءًا من الهوية، لكنها لن تكون كافية لوحدها لبناء تماسك داخلي كما كان الحال في عصر ناصر.
واجه ناصر تحديات اقتصادية مرتبطة بالتبعية والتنمية، وتعامل معها بسياسات كبرى مثل الإصلاح الزراعي والتأميم. في سوريا اليوم، الوضع الاقتصادي كارثي؛ بنية تحتية مدمرة على نطاق واسع، اقتصاد منهك، اعتماد على المساعدات الخارجية، عقوبات دولية، وحاجة هائلة لإعادة الإعمار والتعافي. آليات بناء القاعدة الشعبية عبر "الإصلاحات الاقتصادية الجذرية" قد تتطلب في سوريا التركيز على التعافي السريع، توفير فرص العمل، محاربة الفقر المدقع، وضمان توزيع عادل للموارد (إن وجدت)، وهي تحديات مختلفة كليًا عن سياق الخمسينيات والستينيات وتتطلب مقاربات مختلفة تمامًا.
استفاد ناصر ببراعة من سياق الحرب الباردة الثنائية القطبية للمناورة بين القوتين العظميين وكسب الدعم لمشروعه. السياق الدولي اليوم أكثر تعقيدًا وتشتتًا، وتواجه سوريا تدخلات مباشرة من قوى إقليمية ودولية متعددة المصالح والمتضاربة (إيران، روسيا، تركيا، الولايات المتحدة، دول عربية مختلفة، إلخ). هذا التعقيد يحد بشكل كبير من قدرة القيادة الجديدة على المناورة وقد يفرض أجندات خارجية تتعارض مع بناء قاعدة شعبية داخلية متينة ومستقلة القرار.
اعتمد ناصر بشكل كبير على الإذاعة كوسيلة مركزية وموجهة للوصول إلى الجماهير ونشر خطابه. اليوم، وسائل التواصل الاجتماعي خلقت بيئة إعلامية لا مركزية، سريعة الانتشار، يصعب السيطرة عليها، ومليئة بالمعلومات المتدفقة (الصحيحة والمضللة). هذا يتطلب استراتيجيات تواصل مختلفة جذريًا تعتمد على الشفافية، التواصل المباشر والتفاعلي، ومواجهة المعلومات المضللة بسرعة، وهو تحد لم يكن موجودًا على هذا النطاق في عصر ناصر. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تعكس الانقسامات وتعمقها إذا لم تُدار بحكمة.
أسس ناصر تنظيمات حزبية مركزية تهدف إلى تعبئة الجماهير وتوجيهها ضمن إطار الدولة القوية المركزية. في سوريا، وبعد عقود من الحكم المركزي الاستبدادي الذي دمر مؤسسات المجتمع المدني والسياسي المستقلة، فإن بناء قاعدة شعبية مستدامة يتطلب بناء مؤسسات سياسية ومدنية جامعة وتشاركية حقيقية، تتيح تمثيلًا واسعًا لمختلف شرائح المجتمع ومناطقه، وتعتمد على اللامركزية في اتخاذ القرارات وإدارة الشؤون المحلية حيثما أمكن. هذا النمط المؤسسي يختلف جوهريًا عن نموذج التنظيم المركزي الناصري، وهو ضروري لكسب الثقة وإعادة بناء العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم على أسس جديدة.
تصوري:
تقدم التجربة الناصرية دروسًا قيمة حول آليات بناء القاعدة الشعبية واستخدام أدوات مثل الخطاب، السياسات الاقتصادية، والإعلام لكسب التأييد. ومع ذلك، فإن محاولة تطبيق هذه الدروس بشكل مباشر على السياق السوري الحديث ستكون مضللة وغير فعالة بسبب الفروقات الهائلة في الظروف والتحديات. بينما يمكن للقيادة السورية الجديدة أن تتعلم من أهمية التواصل المباشر، والاستجابة لتطلعات الشعب، وربط الشرعية بالإنجازات الملموسة، إلا أن طبيعة هذه التحديات (الانقسامات الداخلية، الوضع الاقتصادي الكارثي، تعقيد المشهد الدولي، ودور الإعلام الحديث) تتطلب مقاربات وأدوات مختلفة تمامًا. بناء القاعدة الشعبية في سوريا اليوم يتطلب مسارًا فريدًا يركز على المصالحة، إعادة بناء الثقة عبر المؤسسات الشاملة واللامركزية، وتلبية الاحتياجات الأساسية في ظل واقع بالغ التعقيد، لا مجرد استنساخ نماذج تاريخية وإن كانت ناجحة في سياقها.
#علاء_الدين_حسو (هاشتاغ)
Alaaddin_Husso#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟