مصطفى حقي
الحوار المتمدن-العدد: 1809 - 2007 / 1 / 28 - 07:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
( لمحة عن الكاتب علي الدشتي وأعماله في مقدمة مقالنا- معجزة القرآن) الحوار المتمدن تاريخ 10/12/2006 )
15- أما الفرس فقد منوا بالهزيمة . وكانت هزائمهم المتوالية في القادسية في العام 15/636أو 16/637 وفي النهوند في العام 21/642 مخجلة ومؤلمة إلى درجة تبهت إزائها هزائمهم أمام الاسكندر أو المغول. ويبيّن سجل الكوارث الضخم في التاريخ الفارسي مقدار ما يمكن أن يكون عليه بلد من الهشاشة حين يفتقر إلى الملك أو الزعيم المقتدر وإلى رجال الدولة والقادة العسكريين الأخيار . ففي مثل هذه الأحوال كان أن هُزِمت فارس أمام قوّات قليلة العدد والدّة من العرب غير المدرّبين . فاستسلمت مدينة بعد مدينة وإيالة إثر إيالة . مُقِرَّةً بشروط العرب في الإسلام أو دفع الجزية والمكانة المتدنية . وقد أسلم بعضهم تفادياً لدفع الجزية ، وبعضهم الآخر فراراً من ظلم الموبذان الزرادشتيين . فكل ما يحتاجه المرء ليغدو مسلماً هو النطق بالشهادتين ، شهادة أن لاإله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله . وشيئاً فشيئاً ، وبالسيف غالباً ، حظيت ديانة الإسلام البسيطة بالقبول العام .
ومما يتّفق مع طابع الفرس القومي أنهم يتزلّفون بعد الفتح إلى فاتحيهم , مظهرين لهم الطاعة ، والخدمة ، وواضعين عقولهم ومعارفهم في تصرف هؤلاء السادة الجدد . وهكذا كان أن تعلموا لغة العرب وتبنّوا آدابهم وطرائقهم . بل إنّ الفرس من نظّم النحو والصرف العربيين . ولم تكن ثمة حدود لتذللهم بغية استخدام الفاتحين لهم . وقد فاقوا العرب في حماسهم للإسلام واحتقارهم لعقائدهم وعوائدهم السابقة . فلم يكتفوا بتمجيد أمّة العرب وأبطالها بل حاولوا إثبات أنّ العرب وحدهم أصل الفروسية ، والسخاء ، والسيادة . ووصفوا الشعر البدويّ والأمثال السخيفة من عهود الجاهلية بأنها جواهر الحكمة ودرر المعرفة وأصول السلوك . وقنعوا بأن يكونوا موالي لقبائل العرب وخدماً وأذناباً لهذا الأمير أو ذاك ، وافتخروا بتزويج بناتهم لأبناء العرب واتّخاذ اسماء عربية يتّسمون بها .
وسرعان ما راحت العقول الفارسية تفعل فعلها في ميادين الفقه ، والشريعة ، والحديث، والأدب العربي . فقد كتب الفرس حوالي 70% من الأعمال التي تتناول أموراً إسلامية . ومع أنّ الخوف كان الدافع وراء إسلام أول من أسلموا من الفرس ، فإنه لم يمضِ جيل أو جيلان حتى بزّ الفرس العرب في إسلامهم .
لقد بلغ من حذق الفرس في تقرّبهم من الطبقة الحاكمة الجديدة وتسرّبهم إليها بالتزلّف والمداهنة أنّ وزيراً مشهوراً قد نُقِل عنه أنه لم يكن ينظر في مرآة قطّ خشية أن يرى فيه أعجمياً . وكان الفرس في البداية قد أطاعوا الحكام العرب وقاموا على خدمتهم طمعاً بأن يغدوا هم الحكام على المدى البعيد ورغبةً في نيل حصّتهم من الأسلاب والغنائم في هذه الأثناء . غير أن هويتهم راحت تشتبه عليهم بمرور السنين . وفي القرنين الثالث هجري/التاسع ميلادي والرابع الهجري/ العاشر الميلادي كان من الفرس من لا يولي قوميته أية أهمية أو قيمة ويتصور أنّ الحجاز المصدر الوحيد لما أعطاه الله للبشرية من نِعَم .
ولعلّ هذا أن يفسر كيف أمكن للخرافة والخوارق والمعجزات أن تنمو بتلك السرعة الفائقة . فالفرس ما كانوا ليصدقوا بهذه السرعة لو أمكنهم أن يروا أوضاع مكة والمدينة على حقيقتها في السنوات الثلاث عشرة الأولى والسنوات العشرة الأخيرة من رسالة النبي محمد .
ومن الأمثلة على سرعة تصديق الفرس وسذاجتهم ، ما نجده لدى محمد باقر مجلسي ( 1037/1627-1110/1699)، المجتهد المرجع في الفقه والشريعة لدى الشيعة، وقاضي قضاة إيران آخر العهد الصفوي ، وصاحب كتاب بحار الأنوار . فمما يقوله المجلسي أنّ الإمامين الحسن والحسين سألا جدهما النبي هدية العيد . فقال النبي إنّ الصبيين يلبسان في العادة ثياباً ملونة بخلاف الثياب البيض التي جاء بها جبريل . فأحضر جبريل من السماء طستاً وإبريقاً وقال للصبيين إنهما ما إن يقولا أيّة ألوان يريدان حتى يملأ الطست بسائل يغمر فيه كلُّ منهما ثوبه فيخرج مصطبغاً باللون الذي أراده . فاختار الإمام الحسن الأخضر واختار الإمام الحسين الأحمر . وبينما كان الثوبان يصطبغان ، راح جبريل يبكي . فسأله النبي عن سبب بكائه في يومٍ سعد به الأولاد . فقال جبريل إن اختيار الحسن اللون الأخضر معناه أنه سيقتل بسمّ يحيل جسمه أخضر ، وإن اختيار الحسين اللون الأحمر معناه أنه سيقتل وتصطبغ الأرض بدمائه .
ومما تجدر ملاحظته أنّ هذه القصة السخيفة ترد أيضاً في كتاب نقطة الكاف للكاتب البابّي ميرزا جاني الكاشاني . فمن الواضح أنّ خرافات الشيعة الموروثة ظلت حيّة في عقول أتباع البابية ، الذين ادّعوا الإصلاح وتأسيس دين جديد . ومن المعروف أن محمداً وصحابته قد عاشوا في فقر مدقع في السنة الأولى بعد الهجرة وحتى غزوة النخلة . فقلّة قليلة من الصحابة هي التي كانت لديها الملكة التجارية لدى عبد الرحمن بن عوف ، الذي ما إن وصل المدينة حتى نزل إلى سوقها فباع واشترى وجنى المكاسب . وقد وجد آخرون عملاً في مزارع النخيل لدى اليهود فتُرِك لهم عزق الأرض وحفرهم الآبار لجهلهم المطبق بالزراعة . أما النبي نفسه فلم يتخذ لنفسه عملاً وعاش على الإحسان . وكثيراً ما كان يمضي إلى فراشه لم يذق من الطعام سوى بضع حبّات من التمر تسكّن جوعه ، أو دون أن يأكل شيئاً أي شيء . وأنا لا أذكر هذه الحقيقة لأحطّ من شأن النبي ، فهي تثبت ، على العكس من ذلك ، عظمة مأثرته. فهو لم يترك للفقر وقلّة الحيلة أن تردّه عن عزمه إقامة سيطرته على جزيرة العرب . وسجلات التاريخ لا تعرف سوى قلّة قليلة من الرجال العصاميين من هذا العيار .
وما تثبته حوادث الزمن هو أنّ محمداً كان بشراً مثل بقية البشر ولم يتلقّ عوناً من أية قوةٍ فوق الطبيعة أو فوق البشر . وإذا كانت معركة بدر قد انتهت بالنصر ، فذلك يعود إلى شجاعة المسلمين وثباتهم وإلى تهاون القرشيين وتراخيهم . وإذا كانت معركة اُحد قد انتهت بالهزيمة ، فذلك يعود إلى ترك خطّة محمد . ولو كان من المقرّر والمقدّر مسبقاً أن يعين الله المسلمين على الدوام ، لما كان ثمة حاجة لغزوات المسلمين ، أو لحفر الخندق حول المدينة ، أو لمذبحة بني قريظة . وبالنظر إلى الآية 13 من سورة السجدة ، ( ولو شئنا لآتينا كلَّ نَفْسٍ هداها) فإننا نجد أنه كان أقرب إلى المنطق لو أنّ الله بثّ نور الإسلام في قلوب الكافرين والمنافقين جميعاً .
وحين استسلم يهود بني قينقاع بعد أسبوعين من المحاصرة وقطع الماء والطعام عنهم , كان في نيّة محمد قتلهم جميعاً . لكنّ حليفهم القديم عبد الله بن أبيّ احتجّ وألحّ على النبي كثيراً أن يرجع عن نيته . ويقال إن إلحاح بن أبيّ أغضب النبيّ حتى رأوا لوجهه ظلاً . لكن النبيّ , بعد أن نظر في الأمر عن كثب وتأمل في تعهد عبد الله بن أبيّ أن يظلّ على حمايته بني قينقاع وتهديده بالمخالفة العلنية , غيّر رأيه وقرّر ألا يقتلهم ورضي بأن يجليهم عن المدينة في ثلاثة أيّام .
هذه الحوادث وسواها مما يشابهها وتورده سير النبي وتواريخ نشأة الإسلام هي دليل قاطع على أن ما من قوّة فوق الطبيعة تفعل فعلها . فحوادث حياة محمد كحوادث أي زمان ومكان ، تحدّدها أسبابٌ وعلل طبيعية . ومثل هذا الأمر لا يقلل من شأن النبي ، بل يجعل عظمة فكره وقوة شخصيته أشدّ بروزاً بكثير .
غير أن البشر ، للأسف ، ليس من عادتهم ، وليس في قدرتهم كما يبدو ، أن يتحرّوا عن أسباب الحوادث ويتحققوا منها . وملكة الخيال جاهزة على الدوام لأن تفسّر الأشياء باختراع آلهة وراءها . فالشعوب البدائية لا تقدر, لجهلها , أن تفسر الرعد والبرق إلا على أنهما صوت ولمع لكائن قهّار يغضب لعصيانهم أوامره وأحكامه . أما البشر العاقلون والمتعلمون فقد أهملوا علاقات السبب والنتيجة , وفضلوا على ذلك إقحام التدّخل الإلهي حتى في حوادث تافهة . وقد افترضوا أنّ الإله لقادر المتحكم بهذا الكون اللانهائي هو كائن يشبههم . وبذلك أمكن لهؤلاء أن يصدّقوا أنّ المهيمن على هذا الكون اللانهائي قد أرسل ثياباً من السماء هدية للحسن والحسين ، وأن ملاكه الرسول قد صبغ الثوبين بالأحمر والأخضر ثم بكى .
والحال أنّ بحار الأنوار لمحمد باقر مجلسي ليس استثناءً . وهو ليس الكتاب الوحيد الذي يقول إنّ سمكة اسمها كركرة بن صرصرة بن غرغرة قد أخبرت عليّاً بن أبي طالب أين يعبر الفرات قبل صفين .
فهناك المئات من مثل هذه الكتب متداولة في إيران ، ومنها حلية المتّقين [ كتاب بالفارسية لمحمد باقر مجلسي ] وجنّات القلوب ، وأنوار النعماني ، ومرصد العباد
[ للشيخ نجم الدين داية(توفي 624/1256)، من مشاهير المتصوفة] وقصص الأنبياء للديرومي وقصص العلماء للتنكبني. ويكفي واحد من هذه الكتب لتسميم عقول أمة بأسرها وإيذاء قدرتها على التفكير . فتجارة المعجزات تقوم على الإتجار بعقارٍ يجرّد البشر من عقولهم .
غير أنّ البشر يعلمون ما أنجزه محمد في سيرته النبوية . ويعلمون أيضاً أنه كان يجوع مثلهم ، ويأكل مثلهم ، ويقضي الحاجات التي يقضونها ، ويستشعر الغرائز التي يستشعرونها . أما إضفاء الغموض والتعمية على شخصية وإحاطتها بضروب الألغاز فلا يزيده شرفاً وكرامة ولا يأتي على البشرية بأيّ خير .
( من كتاب : 23 عاماً دراسة في الممارسة النبوية المحمدية )
( الكاتـــب : علي الدشتي وترجمة ثائر ديب إصدار رابطة العقلانيين العرب )
#مصطفى_حقي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟