بن سالم الوكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 06:55
المحور:
كتابات ساخرة
في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه المصالح، تبقى بعض العادات ضاربة بجذورها في الأرض، عصية على التغيير، مهما تغيرت الوجوه واللغات. من بين تلك العادات، يبرز الكرم العربي كقيمة ثابتة، لا تهتز أمام ثراء السائل أو فقره، ولا تميز بين من جاء ماشيا أو ممتطيا صهوة سيارة فاخرة من طراز "رنج روفر". في الشرق الأوسط، العطاء لا يقاس بمظهر المتلقي، بل بنية المعطي.
وقد لا نجد مثالا أكثر إثارة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي جاب المنطقة ذات يوم، لا بصفة المنقذ أو الداعم، بل، وكما يقول البعض، كمن يمد يده في صمت. في مشهد يعكس تداخل السياسة بالواقع الشعبي، بات من الصعب التفريق بين من جاء ليمنح ومن جاء ليأخذ. وبينما اعتاد العالم أن يرى ترامب يرفع شعار "أمريكا أولا"، بدت جولاته في الشرق الأوسط وكأنها تحمل عنوانا مختلفا: "أنا أيضا أستحق نصيبي".
قد يبدو هذا الطرح ساخرا، وربما كذلك، لكنه يستند إلى مشهد مألوف في المنطقة، حيث يستوي الغني والفقير عند باب الصدقة. في مجتمعاتنا، يتصدر المتسولون المشهد، لا كعبء اجتماعي فحسب، بل كرمز حي لتناقضات الحياة. إنهم رواة الحكايات الصامتة، المنسوجة من فقر وحاجة، ومن خيبات لا تروى على شاشات الأخبار.
لكن عندما يدخل لاعب عالمي مثل ترامب على هذا الخط، تكتسب القصة بعدا آخر. هل جاء فعلا ليسأل، أم ليقايض؟ هل كان يبحث عن دعم سياسي، استثمارات، صفقات أسلحة، أم مجرد دفعة مالية رمزية لتمويل أبراجه التي تلوح في الأفق؟ قد لا نعرف الحقيقة أبدا، ولكن رمزية حضوره كمتلق في أرض العطاء لا يمكن تجاهلها.
يقول المثل العربي: "اللي تبلى بالتسول، يقصد الديار الكبيرة". وحقا، لا توجد "ديار" أكبر من الشرق الأوسط حين يتعلق الأمر بالثروات، أو بالأحلام المعلقة في الهواء. من النفط إلى النفوذ، من العقود السياسية إلى المساعدات العسكرية، كل شيء هنا يقاس بالكرم... أو بقدرة الضيف على الطلب.
وبين صدقة تعطى بسخاء، وجزية يلمح لها البعض من باب التهويل والتشويه، تظل الحقيقة ضبابية. ليس كل من يمد يده متسولا، وليس كل من يعطي كريما. أحيانا، يكون العطاء مشروطا، موجها، أو حتى استثمارا مقنعا.
ورغم كل هذا، يبقى للشرق الأوسط سحره الخاص. هو أرض المفارقات، حيث يختلط البترول بالدموع، والسياسة بالولائم، والضيوف بالمتسولين. وهنا، قد نجد ترامب، أو من يشبهه، يعود مرارا، لا فقط طمعا بما في الجيوب، بل إعجابا بما في النفوس من طيبة قد تفوق التصور.
فهل سيخلع ترامب عباءة "المتسول" ليصبح أحد رموز الكرم؟ أم سيظل عالقا في صورة من يطلب دون أن يعطي؟ المستقبل كفيل بالإجابة. لكن المؤكد أن الشرق الأوسط سيظل كما كان: موئلا لكل من أرهقته الطرق، ومفتوحا لكل قادم، سواء أتى بيد فارغة أو بحقيبة مليئة بالأوراق.
أهلا بالمتسولين، وأهلا بالزعماء. في هذه البقعة من العالم، الكل مرحب به... بشرط أن يتقن فن التظاهر بالحاجة، أو فن التلاعب بالعطاء.
#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟