أحمد الجوهري
مهندس مدني *مهندس تصميم انشائي* ماركسي-تشومسكي|اشتراكي تحرري
(Ahmed El Gohary)
الحوار المتمدن-العدد: 8344 - 2025 / 5 / 16 - 04:49
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الملخص
تعادُ اليوم قراءة نكبة 1948، التي تُروى في الغالب ككارثة إنسانية أو حادث جيوسياسي عابر، بوصفها نتيجة تاريخية حتمية تتأصل في منطق الرأسمالية الاستيطانية الإمبريالية. ومن خلال مرتكزات التحليل المادي التاريخي، يُنظر في هذه الدراسة إلى المشروع الصهيوني بوصفه حركة طبقية متجذرة في استراتيجيات الإمبريالية البريطانية ولاحقًا الأمريكية، تهدف بنيويًا إلى تهجير الطبقات العاملة الفلسطينية الأصلية. فبدلًا من اعتبار النكبة حدثًا مأساويًا منفردًا، يُحلَّلها هذا المقال كنتيجة لعملية تراكم بالاغتصاب امتدت لعقود، مُمكَّنةً بأنظمة استيلاء على الأراضي استعماريَّة، ونخب عربية كومبرادورية، وهياكل عمل عنصرية. كما يتحداها المقال السرديات الليبرالية–القومية والنُهج الدولة-مركزية في المقاومة، مُشددًا على دور الكفاح القاعدي والواعي طبقيًا. ومن خلال دمج التحليل الماركسي ونقد تشومسكي للإمبريالية والإيديولوجيا، يُستعاد للساحة الفلسطينية النكبة بوصفها موقع ألم هائل وإمكان ثوري دائم.
المقدمة: الكارثة كهيكل لا حلقة
«جئنا إلى أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.»
هذه الأسطورة التأسيسية للدولة الإسرائيلية هي في الوقت ذاته كذبة وسلاح. فقد أزالت ذكر وجود الشعب الفلسطيني، ونسترت الواقع الطبقي والمادي لمجتمعه. لم تكن النكبة انهيارًا عابرًا، أو نزوحًا عفويًّا، أو تداعيات عسكرية عرضية، بل إعادة هيكلة عنيفة للأرض والعمالة، منسَّقةً عبر الإمبريالية، والاستعمار الاستيطاني، والرأسمالية العرقية.
لفهم النكبة من منظار الماركسية–تشومسكية الاشتراكية التحررية، لا بد من مقاومة الميل الليبرالي للتسطيح أو التجريد أو التنزيه. في بساتين الزيتون، وقُرا الحجر، وأسواق المدن، نقرأ ليس رموزًا للفقدان فحسب، بل عقدًا من علاقات الإنتاج الاجتماعي التي انهارت بعنف. فالطرد القسري لأكثر من ٧٥٠ ألف فلسطيني، وتدمير أكثر من ٥٠٠ قرية، وتأسيس نظام استيطاني إثنيّ، لم تكن شذوذًا بل نتاج آلة استيطانية رأسمالية متأزمة في أوروبا، مدعومةً بمصالح جيوسياسية أنجلو–أمريكية.
لم يأتِ المشروع الصهيوني من فراغ، بل نشأ في رحم القومية البرجوازية الأوروبية، ونمى تحت حمايتها البريطانية، ثم تَسَلَّحَ بالرعاية الأمريكية. وظفّ الصهيونية الأرض وسخرها لإنتاج رأس المال، وأعاد تشكيل العمالة في هيكل عنصري، مخلفًا وراءه المجتمع الفلسطيني الأصلي.
وفي الجهة المقابلة، لم تكن الأنظمة العربية مدافعةً عن فلسطين، بل كانت نخبًا كومبرادورية تحافظ على سلطتها عبر التحالف مع الإمبريالية. فلا إيمان لها بالتحرر الطبقي، بل بحماية مصالحها البرجوازية من دون تحدي جذري.
يتوزع المقال على أربعة أجزاء رئيسية:
الجزء الأول: دراسة الظروف المادية في فلسطين قبل النكبة، وتركيب الطبقات والتحولات الصهيونية–البريطانية.
الجزء الثاني: الصهيونية كمشروع قومي برجوازي يستولي على الأرض ويجند العمالة ويكرس الرأسمالية العرقية.
الجزء الثالث: حرب 1947–1948 كذروة مخططة للتشريد المنظم.
الجزء الرابع: ما بعد النكبة—الشتات الفلسطيني، أشكال المقاومة، وسؤال العودة ضمن أفق ثوري.
هذه روايةٌ لا تتصنّع الحياد؛ فالحياد أمام العنف الاستعماري مشاركة فيه. هذا تاريخٌ طرفيٌ في خدمة الطبقات المضطهدة، لا في خدمة أي علمانيّة حكومية أو بيروقراطية.
القسم الأول: فلسطين قبل النكبة – الطبقة والأرض والإمبريالية
1.1 النسيج الاجتماعي لفلسطين ما قبل النكبة
قبل القرن العشرين، لم تكن فلسطين أرضًا خاوية، بل مجتمعًا معقدًا تحت حكم عثماني، يعتمد على الزراعة الحصاد، والحرف، والتجارة المحلية. سيطر كبار الملاك—غالبًا من النخب الحضرية أو المقتدرين الغائبين—على الأراضي، في حين كان الفلاحون وصغار المزارعين والعمال الحضريين يحتفظون بروابط متينة بأراضيهم وبُنى تعاون اجتماعي تُعزّز قدرة الاستمرار.
1.2 رسوخ الإمبريالية المبكر: الانتداب البريطاني واستراتيجية الصهيونية
هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ثم الانتداب البريطاني (1920–1948)، شكّلا منعطفًا حاسمًا. لم تُقدَّم “إعلان بلفور” (1917) كإحسان إنساني، بل كأداة إمبريالية لإنشاء موطئ استعمار استيطاني. هيأت الإدارة البريطانية الصفقات العقارية والهجرة الصهيونية، غالبًا على حساب السكان الأصليين.
هذه السياسات هدّمت أنماط الملكية التقليدية، وشرّدت فلاحين قسرًا، فكانت مثالًا على “التراكم البدائي” عند ماركس: الاستيلاء العنيف على الموارد اللازمة لتوسع رأسمالي جديد.
1.3 التركيب الطبقي والتناقضات
دخلت طلائع المستوطنين الصهاينة، من بورجوازية أوروبية وصغرى برجوازية، فأسسوا الكيبوتسات والمدن الصناعية والمستعمرات الزراعية بنمط إنتاج رأسمالي غريب. وهُجر الفلسطينيون إلى سوق عمل عنصري مقسّم، حيث سعت السياسات الصهيونية إلى احتكار اليد العاملة اليهودية، واستبعاد الفلسطينيين من وظائف الزراعة والبناء الرئيسية. تفاقمت التناقضات الطبقية داخليًّا، وبين المجتمعين الفلسطيني والصهيوني.
1.4 حدود القومية البرجوازية العربية
في المقابل، لم تكن الأنظمة العربية—مصر، وشرق الأردن، وسوريا، ولبنان—ثوريةً أو مناهضةً للاحتلال الحقيقي. فقد انخرطت نخبها الكومبرادورية في حماية مصالحها الإمبريالية، مدغدغة مشاعر القومية في الخطاب الشكلي لكنها عاجزة عن الثورة ضد الصهيونية كظاهرة طبقية استعمارية. هذا الفراغ الثوري مهد الطريق للنكبة كحل أخير للصراع على الأرض والطبقات.
القسم الثاني: الصهيونية كمشروع قومي برجوازي — الأرض والعمل والرأسمالية العرقية
2.1 الجذور البرجوازية للصهيونية ووظيفتها الاستعمارية
ولدت الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر كحركة قومية برجوازية، متأثرة بمعاداة السامية الأوروبية وفشل الاندماج، ومرتبطة بتوسع رأس المال. لم يكن هدفها مأوى لليهود، بل إيجاد بنى رأس مالية استيطانية ستفرض نفسها على أرض فلسطين. هذا هو الاستعمار الاستيطاني الحقيقي: استئصال السكان الأصليين لإفساح المجال لبناء اقتصاد عنصري رأسمالي.
2.2 الاستيلاء على الأرض والتراكم البدائي
أسست وكالات مثل “الصندوق القومي اليهودي” وشركة “تنمية الأراضي” صفقات شراء أرض ممنهجة، بدفعات بريطانية أحيانًا، وأحيانًا عبر ضغوط اقتصادية وقانونية. كان ذلك حلقة أخرى في تراكم بدائي عنيف، نقلت ملكية الأرض من قبضة الإنتاج المجتمعي الفلسطيني إلى أيدي رأس المال الصهيوني.
2.3 تجزئة العمل والرأسمالية العرقية
سعت الأيديولوجيا الصهيونية لاحتكار “العمل اليهودي”، فاستُبعد الفلسطينيون من قطاعات حيوية كالزراعة والبناء. أنتج ذلك طبقة عاملة فلسطينية هامشية ومرتهنة لأسواق عمل استخدمت كقوة ضغط لضبط الأجور وشروط العمل، بينما ترسخت بورجوازية صهيونية قائمة على ملكية وسائل الإنتاج.
2.4 الاستعمار الاستيطاني وجهاز الدولة
لم تبقَ الصهيونية مجرد حركة؛ بل تحولت إلى جهاز دولة، أسست قوانينًا وجيوشًا وبيروقراطيات لضمان بقاء الاستيلاء وتعزيزه. حظي هذا النظام بالرعاية الإمبريالية—بريطانية أولًا، وأمريكية لاحقًا—مما أكسبه صلابةً في مواجهة المقاومة الفلسطينية.
2.5 التناقضات داخل الصهيونية والمجتمع الاستيطاني
لم يكن المجتمع الاستيطاني خاليًا من التوترات. فقد نشأت نزاعات بين إرث الكيبوتس الاشتراكي ومصالح البرجوازية، ونقاشات حول العلاقة مع الفلسطينيين، وصراعات أيديولوجية. لكن المنطق المركزي للهيمنة الإقليمية الرأسمالية والإثنية بقي سائدًا، فمهّد الأرضية لنهاية فلسطين الأصلية عام 1948.
القسم الثالث: حرب 1947–1948 — الذروة المخططة للتغريب
3.1 انهيار الإمبريالية وطموحات الاستيطان
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، تراجع النفوذ البريطاني، بينما تكشّفت طموحات الصهاينة بعد الهولوكوست والرعاية الأمريكية المتنامية. سمح الفراغ الذي تركه الانسحاب البريطاني للصهيونية بتعزيز مكاسبها الإقليمية، مدعومةً بمصالح إمبريالية في مواجهة الاشتراكية السوفيتية.
3.2 التسلح والتطهير العرقي المنظم
لم تكن الحرب اندلاعًا عشوائيًّا، بل حملة تطهير عرقي مدروسة. خلقت “خطة داليت” خريطة للطرد القسري والتدمير الممنهج للقُرى—من دير ياسين إلى الرملة واللد—كدليل على منطق الاستيطان: إنهاء الوجود الفلسطيني للحؤول دون رجوعه.
3.3 تفتت المجتمع الفلسطيني والمقاومة المبعثرة
ساهمت التناقضات الطبقية داخل المجتمع الفلسطيني—فلاحون، حضريون، نخبة بيروقراطية مرتبطة بالدول العربية—في إحكام الحصار على المقاومة. غابت قيادة عاملية أو نقابية حقيقية، فظلت المواجهة محلية وعرضة للتغلب عليها عسكريًّا وسياسيًّا.
3.4 اللاجئون: طبقة بروليتارية مشردة
أفرزت النكبة أكثر من ٧٠٠ ألف لاجئ فلسطيني، تجذّروا في مخيمات اللجوء. صارت هذه الطبقة البروليتارية المشردة نموذجًا للرهان الإمبريالي: تشتيت الطبقات العاملة الفلسطينية، وزرع الإحباط، وإخضاعهم لشروط بائسة تحد من قدرتهم على التنظيم الثوري.
3.5 الدولة الاستعمارية المستمرة واستمرار التناقضات
أسست حرب 1948 الدولة الصهيونية على ركام النظام الاجتماعي الفلسطيني. وتستمر التناقضات التي ولدت النكبة—دعم الإمبريالية، استغلال الأرض، تشتت العاملين—في سياسة الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني حتى اليوم.
القسم الرابع: ما بعد النكبة — الشتات والمقاومة وسؤال العودة
4.1 الشتات الفلسطيني كبروليتاريا موزعة
لم تنتهِ النكبة بانتهاء الأعمال العسكرية، بل استمر أثرها في مخيمات اللجوء في لبنان والأردن وسوريا وغيرها، حيث عاشت الأجيال في ظروف قهرية، محرومةً من وسائل الإنتاج ومن حقوق المواطنة، لكنها في الوقت نفسه منخرطة في صراعات سياسية واجتماعية تولّد وعيًا ثوريًا.
4.2 حركات المقاومة والإمكانات النقابية الثورية
رغم القمع والتشتت، تطوّرت أشكال عديدة للمقاومة—مسلحةً ومدنيةً وثقافيةً—ومثلّت، من وجهة نظر الاشتراكية التحررية التشومسكية الماركسية، تجليات التناقض بين الهيمنة الإمبريالية والفاعلية البروليتارية. فاللجان الشعبية، والانتفاضات، ولجان العمال، تُعيد رسم فضاءات بديلة للمقاومة خارج الإطار القومي–الدولتي.
4.3 قضية حق العودة: آفاق ثورية مقابل إصلاحية
ينطوي حق العودة على دعوى طبقية، لا إنسانية فحسب: فهو استعادة لوسائل الإنتاج والكيان المجتمعي. في حين تُعوّض الحلول الإصلاحية—حل الدولتين أو الحكم الذاتي المحدود—بشرعية استمرار الاستيطان، يشترط الأفق الثوري تفكيك الهياكل الاستعمارية وتحرير الأرض والإنسان معًا.
4.4 التضامن الدولي والإمبريالية والنضال الطبقي العالمي
لا تُفهم النكبة بمعزل عن الصراع الطبقي العالمي. يدعم الإمبريالية الأمريكية إسرائيل بوصفها حليفًا استراتيجيًّا في مواجهة المنافسات العالمية، في حين يُحرِّر التضامن الدولي الحركة الفلسطينية من العزلة، متجاوزًا شعارات القانون الدولي إلى شبكة كفاح طبقي مشتركة مع شعوب العالم المضطهدة.
4.5 الخاتمة: نحو مستقبل نقابي وثوري
تُعيد قراءتنا المادية التاريخية للنكبة إنتاجها كواقع هيكلي لا زال يساهم في الخضوع الاستيطاني والطبقي الفلسطيني. إن المسار الثوري المنشود مبنيٌّ على نقابات ديمقراطية وسلطات عمالية محلية، قادرة على تفكيك الدولة الاستعمارية وبناء مجتمع تحرري يعمل على أساس التضامن والمساواة الطبقية.
المراجع
Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. Paris: François Maspero, 1963.
Harvey, David. The New Imperialism. Oxford: Oxford University Press, 2003.
Khalidi, Rashid. Palestinian Identity: The Construction of Modern National Consciousness. New York: Columbia University Press, 1997.
Marx, Karl. Capital: A Critique of Political Economy. Volume I. Translated by Samuel Moore and Edward Aveling. London: Penguin Books, 1990.
Pappé, Ilan. The Ethnic Cleansing of Palestine. Oxford: Oneworld Publications, 2006.
Said, Edward W. Orientalism. New York: Pantheon Books, 1979.
Wolfe, Patrick. “Settler Colonialism and the Elimination of the Native.” Journal of Genocide Research 8, no. 4 (2006): 387–409.
Chomsky, Noam. Hegemony´-or-Survival: America’s Quest for Global Dominance. New York: Holt, 2003.
#أحمد_الجوهري (هاشتاغ)
Ahmed_El_Gohary#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟