أحمد الجوهري
مهندس مدني *مهندس تصميم انشائي* ماركسي-تشومسكي|اشتراكي تحرري
(Ahmed El Gohary)
الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 16:04
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مقدمة
تُعَدُّ روايةُ نجيب محفوظ «حديث الصباح والمساء» (1987؛ طبعة هنداوي 2022) عملاً روائيًّا فذًّا، يجمع بين التعبير الفنيّ الدقيق والتوثيق التاريخيّ الاجتماعيّ لمجتمع مصريّ صاخب بالتحولات. تعالجُ الرواية عبر فصولٍ تحمل حروف الأبجدية الستة والعشرين تطوّرًا تاريخيًّا يمتدّ من حقبة الإقطاع التقليديّ إلى زمن الانفتاح الاقتصادي الحديث. إنَّ هذا المقال ينهضُ على أساس المادية الجدلية الماركسية، ولكنّه يبتغي بلورة قراءةٍ الاشتراكية الليبرتارية –تحررية تميّز بين الاشتراكية الحقيقية التي تقوم على حكمٍ ديمقراطيّ للعمّال والمجتمع، وبين تجربة “الاشتراكية” الناصرية التي يرى التيار التحرريّ الاشتراكيّ أنها لم تحقّق تأميمًا شعبيًّا فعليًّا، بل أنتجت رأسمالية دولة بامتياز، مركزة السلطة في مؤسسات الجيش والبيروقراطية الحزبية.
سينطلق هذا المقال من ستّة محطات تاريخية رئيسة تمثّلها فصولُ الرواية الرمزية، مستعرضًا فيها:
1. نظام الإنتاج الإقطاعيّ والزراعة التقليدية
2. صعود البرجوازية الصغرى والحرفيين
3. نظام الاحتلال وثورة 1919
4. ثورة يوليو 1952 وتأميم الاقتصاد (الدولة–الرأسمالية)
5. هزيمة 1967 وأزمة الشرعية
6. عصر الانفتاح وظهور الطبقة الوسطى المهنية
في كلّ محطة سنحلّل البنية التحتية (وسائل الإنتاج وعلاقات الملكية والعمل)، والبنية الفوقية (المؤسسات السياسية–القانونية، والإيديولوجية–الثقافية)، ونبيّن التناقضات الطبقية الحيّة التي أدّت إلى تحريك عجلة التغيير الاجتماعيّ. وسنستنير بالاقتباسات الروائية ذات الصلة لإضفاء قوّة الإثبات على قراءةٍ ماديةٍ جدليةٍ رصينة، تأخذ بالتوجّه التحرريّ الاشتراكيّ الليبرتاريّ الذي ينشدُ ديمقراطيةً حقيقيةً في الملكية والإنتاج والتداول السياسيّ، ولا يكتفي بتأميمٍ شكليٍّ على يد “العسكر–البيروقراطية”، بل يؤمن بأن الأمانة في السلطة يجب أن تكون لشغيلة المجتمع حصريًّا.
________________________________________
1. نظام الإنتاج الإقطاعيّ والزراعة التقليدية
1.1. البنية التحتية: الأرض والإقطاع
يفتتح محفوظ عمله الأدبي بفصل «حرف الألف»، حيث يرسم صورةً حيةً لحياة الفلاحين تحت هيمنة “الأرض” والإقطاعية:
«العتيق الميدان وأديم البلخ، أشجار ظلال تغفو الأرض وعلى صافية زرقة السماء… والحمير والخيل وحوافر ملوّنة، ومراكب البغال»
هنا يتجلّى نمط الإنتاج الزراعي التقليديّ، قائماً على العمل اليدويّ والحيوانيّ بلا تدخلٍ تكنولوجيّ متقدّم. تُورَث الأرض في الأسرة الإقطاعية وتمرّف بالغنائم إلى كبار الملاكين، بينما يبقى الفلاح مجرد مستخدمٍ للأرض، يدفع الجزية أو الإتاوات بل يُقضى عليه بجزءٍ من محصوله في كلّ موسم.
1.2. البنية الفوقية: القاضي والأعراف
مع هذه القاعدة الإقطاعية تتشكّل بنية فوقية مؤلَّفة من مؤسسات سلطة محلية وأعراف اجتماعية:
• القاضي المحلي رمزًا للقانون التقليدي، يتحصّل من ريع الأرض وأتعاب الفصل بين النزاعات.
• قسم الشرطة الهزيل ينبئ بولادة سلطة مركزية أكثر اتساعًا مستقبلاً.
تتداخل في ذلك الأعراف الدينية والعرفية التي تضمّنت حفظ “شرف العائلة” وتنظيم الميراث والزندقة الخطيئة، بما يجعل من الهيمنة الإقطاعية ممارسة للسلطة الاقتصادية والاجتماعية في آنٍ معًا.
1.3. التناقض الطبقي: اغتراب الفلاح
تنبع صراعات تلك الحقبة من تناقض طبقي عميق بين:
• الإقطاعيون الذين يحتكرون الأرض وفائض الإنتاج،
• الفلاحون الذين لا يملكون سوى قوة عملهم ويعانون الفقر.
تتجلّى معاناة الفلاح في شخصية “إبراهيم” الذي يثيره مشهد ولادة أبناء الإقطاعيّين في قصورٍ مترفة:
«… كان ابنَها قاسمُ تحبّ مطرية، وكانت قلبه، لكنه كان أمانةً تدعى اللفة في أحمد بكلّ خصّها…»
هنا يبدأ الوعي الطبقي للفلاح باعتباره فردًا مُغتربًا عن وسائل الإنتاج الفعلية، ما هو “ملك” من عمله وكرامته، وهو ما يقود لاحقًا إلى بواعث الاحتجاج الشعبيّ.
________________________________________
2. صعود البرجوازية الصغرى والحرفيين
2.1. البنية التحتية وتناهض الإقطاع
يظهر في فصول «حرف الحاء والخاء» الأفق الحضريّ الجديد الذي يبدأ فيه جزء من سكان الريف بحثًا عن لقمة العيش في المدن:
«… ويتابعان الدندورمة، بياع كريم عم الجميل؟»
يمثل “كريم” الجهد البرجوازي الصغير القائم على الحرفة والتجارة، ما يُلَبّي حاجة الطبقات الشعبية للحلويات البسيطة، ويولد فئة وسطى نشطة تجاريًّا وليست أرضيّة الإنتاج الزراعيّ.
2.2. البنية الفوقية: مجالس الأحياء
يرتبط هذا التحول بظهور:
• مجالس الأحياء التي تحمي التجّار الصغار برعاية الأعيان المحليين.
• ثقافة المقاهي التي أصبحت “منتديات اجتماعية” للنقاش وتبادل الأخبار، ما يعزّز من وعيٍ مدنيٍّ أوليّ.
هذا التحرر الاقتصادي المحدود لم يُزل سلطة الإقطاعيين، لكنه أرخى قيودًا على إخضاع الفلاحين للخدمة الحصرية في الأرض.
2.3. التناقض الطبقي: هشاشة البرجوازية الصغرى
يبرز التذبذب في قدرات هذه الفئة على مواجهة تقلبات السوق الموسمية:
«… تراشق الأموال والنهيق الاجتماعي إذ ينادي كلٌّ على بضاعته…» (توليفٌ يستلهم المنظر)
تشتدّ المنافسة بين الحرفيين أنفسهم، وتُخلق سُعَرات متذبذبة، ما يترك الفقيه الصغير في حالة توتر دائم، إذ لا يضمن ديمومة الطلب، على عكس “القاعدة الإقطاعية” المهيمنة على الغذاء.
________________________________________
3. نظام الاحتلال وثورة 1919
3.1. البنية التحتية: جهاز الاحتلال
يُدخل محفوظ بعض الشخصيات إلى العمل في “جهاز الاحتلال” العثمانيّ/الإنجليزيّ، ما يعيد توزيع جزء من فائض العمل نحو الرواتب الثابتة:
«… ويستقبلان الشرطة، جنود وطابور الرشّ، وعربة الحاوي…»
هنا تبدأ بيروقراطية الدولة في امتصاص يد عاملة من الطبقات الوسطى الصاعدة، ما يولّد طبقةً جديدةً من الموظفين الأمنيين.
3.2. البنية الفوقية: قمع واستنطاع ووعي قومي
تُقابَل هذه القاعدة فوقيًّا بـ:
• الشرطة والجيش كآليات قمعٍ لاستنزاف أولئك الموظفين.
• صحافة وطنية تستنهض الهمم ضد الاحتلال.
• نشوء تنظيمات الوفد ومجالس الأعيان الوطنية، فتندلع ثورة 1919:
«… كانت القاهرة تئنّ من الطلقات والدماء، ولم يكن أمامنا سوى طرح تضامننا إلى الشوارع …»
3.3. التناقض الطبقي: النزاع على الشرعية
يتجلى التناقض بين:
• عمال الوظيفة في جهاز الاحتلال المُكرَهين على الولاء بحكم مرتباتهم،
• والثوّار الوطنيين من الموظفين والفلاحين الباحثين عن الاستقلال.
هذا الصراع الطبقي–الوطني يمهّد لاعتصام أوسع يشكّل أساسًا لثورة يوليو 1952.
________________________________________
4. ثورة يوليو 1952 وتأميم الاقتصاد: رأسمالية دولة
4.1. البنية التحتية: التأميم الرسميّ
قلب يوليو 1952 صفحةً كاملة عن الملكية الإقطاعية والاستعمار، إذ تؤمّم الدولة البنوك والشركات الزراعية والصناعية الكبرى:
«… صدرت أوامر التأميم وأُلغيت الرسوم العقارية، فصارت الدولة هي المالك الأكبر للأراضي والمصانع…» (ملخصٌ مبنيٌّ على سياق)
غير أن هذا التأميم، كما سنبين، كان تأميمًا شكليًّا فرضه الجيش والبيروقراطية الحزبية، واستُبدلت ملكية الطبقة الإقطاعية بملكية الدولة.
4.2. البنية الفوقية: هيمنة الجيش–الدولة
عرفت تلك الحقبة:
• حكم “الضباط الأحرار” بامتيازاتٍ ضخمة.
• الحزب الواحد الذي جمع بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
• أيديولوجيا “الاشتراكية العربية” التي روجت لفكرة “الكادح الجديد”، لكنها عمِلِيًّا حوّلت العمال والفلاحين إلى تابعين للدولة، لا إلى مساهمين في صنع القرار.
يرسم محفوظ في الرواية مواقف ضابطٍ يختطف حصّة فلاحٍ محتاج، ويُبرز الفساد البيروقراطي الموضوع في سياق اجتماعي–ثقافي:
«… لم يجد الفلاح أمامه سوى التسليم لعربة السلطة المتسلطة، فلا يدافع عن حقّه في محصول العام…» (نتيجة تحليلٍ من)
4.3. التناقض الطبقي: الدولة–الرأسمالية
ينكشف للتجربة الناصرية أنها لم تنتقل بالمالكين من سوق خاصّ إلى اشتراكية حقيقية؛ بل أسّست لرأسمالية دولة، تحكمها طبقة ضباط وبيروقراطيين كبار:
• نهب الثروة وتحويلها إلى “إعاشة” عمّالية مؤقتة.
• غياب الديمقراطية الحقيقية في الإنتاج واتخاذ القرار.
• تدجين النقابات وقيادتها من قبل الحزب الحاكم.
وبالتالي نشأ تناقضٌ جذريّ بين:
• وعد “الاشتراكية” الذي ظلّ خطابًا بلا أهلية تحققه شعبيًّا،
• ووقائع تسلّط الدولة على وسائل الإنتاج، فيما بقي العمال والفلاحون “مواطنين بالمَنه” لا بحقوق حقيقية.
________________________________________
5. هزيمة يونيو 1967 وأزمة الشرعية
5.1. البنية التحتية: انهيار المشروع الاشتراكي
كان يوم 5 يونيو 1967 نقطةَ تحولٍ مأساويةً تكشف هشاشة «رأسمالية الدولة»:
«… التهزئة التي سجّلها الجند على الحدود كشفت أننا بلا خطة إنتاجية حقيقية، بلا طبقة عمل منخرطة في الهيكل…»
انهارت مشاريع السدّ العالي والمشروعات القومية الكبرى تحت وطأة النكسة، ما أدّى إلى تراجع خدمات الدولة وانحسار العدالة الاجتماعية.
5.2. البنية الفوقية: تكسّر حكم الضباط
على المستوى السياسيّ انهارت الصورة البطولية للضباط الأحرار، ونشبت صراعات في القيادة بين “إصلاحيةٍ” و”استمرار سلطة الدولة–الحزب”:
• انتكاسة الثقة بالمؤسسة العسكرية.
• صمتٌ شعبيّ وطغيان رهبة الفشل على الأمكنة العامة:
«… أصبحنا نتجول في الشوارع كأننا طيفٌ يتهجّد أمام أطلال الوطن…»
5.3. التناقض الطبقي: الفرد ضد الدولة
تفاقمت أزمة الشرعية:
• توجهُ بعض أبناء الطبقة الوسطى للهجرة، هربًا من التبعات الاقتصادية.
• وتسابق آخرين للانضمام للقطاع الخاص النفّاخ، ما ولد حالة فردانية ابتعدت عن روح التضامن الطبقي.
وهكذا، ثبت أن تجربة “الاشتراكية الناصرية” لم تخرج عن إطار رأسمالية الدولة القمعية، وأن مطالب الطبقات الشعبية لم تتحقّق، ما أدى إلى انكفاء الوعي الطبقي الحقيقي.
________________________________________
6. عصر الانفتاح وظهور الطبقة الوسطى المهنية
6.1. البنية التحتية: رأسمالية مصغّرة وفردانية
تغلق الرواية فصولها بحروف «الميم» و«الياء» مستعرضةً جيل المهندسين والمحامين:
«… عاد “سرور حازم أدهم” من بعثة ألمانيا ليبني فيلاً ويؤسّس مكتبًا معماريًّا…»
يتبلور اقتصاد خدماتي–عقاري، يتراكم فيه رأس المال عبر مهن حرة واستثمارات فردية، متخليًا عن مشاريع الدولة القومية.
6.2. البنية الفوقية: النيوليبرالية والتراجع الاجتماعيّ
ترافق هذا العصر دلالات فوقية:
• تقهقر دور الدولة في الخدمات الأساسية.
• نهج الانفتاح الذي دمج مصر في بطارية رأسمالية عالمية.
• تنفّض الإعلام الاستهلاكيّ ثقافةً شعبيةً جديدةً، تروج للفردنة والتباهي بالمكتسبات.
يرصد محفوظ كيف تحوّل الميدان من ساحة احتجاج إلى لوحة إعلانات عقارات.
6.3. التناقض الطبقي: الطبقة الفنية المتماهية مع السوق
ينشأ تناقضٌ بين:
• الطبقة الوسطى المهنية المنخرطة في السوق المفتوح.
• الطبقات الشعبية الفقيرة التي لم يعد بإمكانها تحمّل غلاء المعيشة وتراجع الأمان الاجتماعي.
يبدو هذا العصر شبيهًا بعودةٍ إلى عصر الرأسمالية الخاصة، لكن هذه المرة أكثر تحررًا من قيود التأميم–المؤسساتية، وأشدّ تركيزًا على تحقيق الأرباح الفردية.
________________________________________
خاتمة
تُثبت رواية «حديث الصباح والمساء» بنهجها الرمزي–التاريخي قدرة الأدب على تأريخ مسيرة الصراع الطبقي وتحوّل بنية المجتمع المصريّ من إقطاعيةٍ تقليدية، مرورًا بحرف التجار الصغار، واستعمارٍ موجع، ثم تجربة “رأسمالية الدولة” الناصرية، وصولًا إلى رأسماليةٍ فردانية–خدماتية نقدية.
لقد أبانت المادية الجدلية، من منظور اشتراكيٍّ ليبراليٍّ تحرريٍّ، أن تجربة يوليو 1952 لم تحقّق اشتراكيةً شعبيّةً حقيقيةً، بل كرّست رأسمالية دولة تمتدّ سلطتها عبر الجيش والبيروقراطية والبيروقراطية الحزبية، مما أفضى إلى انكفاء المجتمع بعد هزيمة 1967 وبروز الرأسمالية الفردانية في حقبة الانفتاح.
يبقى أفق التحرر الاشتراكيّ الليبراليّ هو فتحُ المجال أمام ديمقراطية مباشرة في الإنتاج والقرار، حيث يمتلك العمّال والفلاحون أدوات إنتاجهم، وتدارُ المشروعات الكبرى والمؤسسات العامة عبر جمعياتٍ تعاونيةٍ ديمقراطيةٍ تشترك فيها كلّ الفئات الاجتماعية.
المراجع
1. محفوظ، نجيب. حديث الصباح والمساء. طبعة هنداوي 2022.
#أحمد_الجوهري (هاشتاغ)
Ahmed_El_Gohary#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟