|
نظريات القصة القصيرة/ 6* الواقعية والرواة في قصص توبياس وولف القصيرة / سانتياغو رودريغيز غيريرو-ستراتشان
محمد نجيب السعد
الحوار المتمدن-العدد: 8317 - 2025 / 4 / 19 - 14:02
المحور:
الادب والفن
تُعتبر التقليلية الأدبية رد فعل واقعي نقدي على تجاوزات ما بعد الحداثة. بدأت التقليلية الأدبية في الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي، وحظيت بتأييد نقدي مع صدور عدد من مجلة غرانتا عام 1983، ضم أعمالاً لبعض الكُتّاب التقليليين ، والذي حظي بردود فعل نقدية واسعة. ربط البعض التقليلية ، مدحاً أو قدحاً ، بضآلة الرؤية وبساطة الإسلوب وأنها تمثل إنعكاساً للحالة المجزأة والمُغتربة للفرد في القرن العشرين". أنها تركز على تصوير عالم أدبي صغير. كانت التقليلية رد فعل على ما بعد الحداثة، إذ أصبح من غير المعقول العودة إلى واقعية القرن التاسع عشر بعد ما فعله أدب ما بعد الحداثة. كما يشير ستيفان كولي بابا، أحد أهم الباحثين في هذا المجال، فإن "الكتاب التقليلين شبوا في عالمٍ كان قد شكلته رؤى ما بعد الحداثة". لم ينظروا قط إلى الأدب على أنه مجرد سرد للحياة المعاصرة. لقد إبتعدوا عن ما بعد الحداثة بسبب حساسيتهم وفهمهم المتناقض للحياة. ومع ذلك، لا يمكن إزالة بصمة ما بعد الحداثة تمامًا. تصف آن ماري كارلسون التقليلية بأنه تقويض للواقعية المُحاكية ، وهي نقطة يتفق عليها معظم النقاد. تنطلق ماري كارلسون في فرضيتها من مقالة لفريدريك بارثيلمي "الإعتراف بالخطأ: كاتب تقليلي مدان يُفصح عن الحقيقة"، المنشور في مجلة نيويورك تايمز لعرض الكتب . تلاحظ ماري كارلسون أن الواقعية التقليلية تمنح هذه القصص شكل الفيلم أو تأثيره . وفقًا لكارلسون، فإن شبه التقليلية الشديد للحياة يؤدي إلى ما تسميه "الواقعية المفرطة". تبدو التقليلية واقعية بشكل مفرط بسبب بنيتها ومحتواها وأيديولوجيتها . إن تحولها عن الواقعية "التقليدية" يجعل من التقليلية "نوعًا من الخيال الطليعي التجريبي، الذي يسعى لإيجاد وسائل تعبير جديدة تتجاوز الواقعية التقليدية وقصة ما بعد الحداثة. يعتقد معظم النقاد أن التقليلية نشأت من قصة ما بعد الحداثة ، حيث تبنى الكتاب التقليليون أساليب ما بعد الحداثة وتأثروا بطريقة تفكيرها. وقد أدى هجوم الكُتّاب التقليليين على الواقعية إلى ظهور قصة تبدو مفرطة في واقعيتها وتتضمن عناصر غريبة وتشعر القاريء بالغرابة أو الإنزعاج .ورغم هذا الهجوم إلا أن أعمالهم لم تخلوا تماماً من الواقعية. يقول فيرهوفن في هذا الصدد إن تقنيات التقليليين ليست "عزوفاً متعمداً عن الواقعية الشكلية والتقليد المُحاكي للحقيقة، بل هي بالأحرى فعل إكتشاف - إكتشاف في عملية كتابة قصصهم" . في الوقت الحاضر، لا توجد مجموعة كبيرة من الكتابات النقدية حول واقعية أواخر القرن العشرين. يهدف هذا المقال إلى سد النقص في هذا المجال من الدراسة. ورغم إدراكي التام أن هذا البحث محدود النطاق، وأنه لا يمثل سوى مقاربة أولية لبحث أوسع نطاقًا عن التقليلية ، إلا أن هدفه هو إستكشاف طبيعة الواقعية في القصص القصيرة الأمريكية في أواخر القرن العشرين. يركز هذا المقال، الذي يتناول ثلاث قصص قصيرة - " الليلة المعنية "، و" الرُشد"، و"ميلر الآخر" من مجموعة " الليلة المعنية " - على دور الرواة في قصص توبياس وولف القصيرة، وعلى إستخدامه للصوت السردي، الذي ييبن الإستخدام التقليلي لإستراتيجيات السرد. بصفته كاتبًا تقليلياً ، يهتم توبياس وولف بإختزال العالم الأدبي إلى أقصى صورة ممكنة . أن عالمه، كما هو الحال في قصص ريموند كارفر، مجرد من المواقف البطولية واللحظات الدرامية . يدل إستخدام الكاتب للرواة على مفهومه للعلاقة بين الواقع والأدب. من خلال وجهة نظر الراوي، يدرك القراء حقيقة الفضاء الأدبي الذي تخلقه القصة القصيرة. تُعدّ الأصوات السردية مفاتيح لديناميكيات العالم الأدبي للقصص القصيرة، فهي تُمثل أدوات الكاتب لتقديم تصوير واقعي للمجتمع. ومع ذلك، فقد تأثر هذا النوع الجديد من الواقعية تأثرًا كبيرًا بأعراف الحداثة وما بعد الحداثة. كما يُشير ستيفان كولي بابا: ... لا يتطلب الفن التقليلي موقفاً أخلاقيًا... ويبدو أن المبدأ الأساسي للتقليلية هو تحديدًا هذا الشرط المتمثل في تجريد العمل من إصدار الأحكام وعدم إستدراج القراء لفعل ذلك ؛ فهي تزيل أي إشارة واضحة إلى وجود نية للعمل للتأثير على القارئ... أن كاتب القصة القصيرة التقليلي لايقول الأشياء أو يفسرها لأنه قد يختار نقل رؤية للحياة تكون فيها الأشياء المحسوسة، وإن لم تُذكر ، ذات قيمة وأهمية. إن غياب إصدار الأحكام ورفض تقديم التفسيرات وإعتماد أسلوبٍ مُختصر هي بلا شك السمات الرئيسية للأسلوب التقليلي ، والتي يجب مراعاتها عند تحليل القصص القصيرة التقليلية. قد يُصدر الكاتب أحكامًا أحيانًا، ولكن في أغلب الأحيان، فأن الراوي هو ون يُعبر عن آرائه. في الواقع، يكون الراوي المتحدث المُصرّح له في السرد، ومن خلال وجهة نظره يرى القراء العالم ويتوصلون إلى المعنى النهائي للقصة. تتمثل إستراتيجية الكاتب التقليلي في ترك الأمور غير مُعلنة. وبالتالي، قد يُشير الراوي أو يُلمّح بشكل خفي إلى شيء غير مُعلن في القصة، ولكنه قد يكون له معنى حاسم في بنيتها العامة. لا يعمل الراوي كقناع للكاتب ولا يُمنح مسؤولية الكتابة وبالتالي، يُصبح دوره إشكاليًا. فهو يمتلك سلطة سردية، لكن رؤيته للعالم المحيط ليست شاملة. وجهة نظره جزئية ومُقطعة . تماشيًا مع طبيعة القصة القصيرة، لا يحاول الراوي تقديم صورة كاملة عن العالم. ولا يفترض أن للوجود معنى. في مقابلة له قال توبياس وولف عن طبيعة وأصول القصة: " تلك المسافة بين ماتظنه سببك/أسبابك للقيام بما تفعله والواقع الغامض لما تفعله هي تربة القصة الخصبة. هذه هي بالضبط البيئة التي يعمل فيها كُتّاب القصة." يبدو أن وولف يضع القصة في منطقة غامضة بين الواقع والرغبة، بين الفنتازيا والواقع، قريبة جدًا من نظرية ناثانيال هوثورن عن الأرضية المحايدة للقصة. على هذا النحو، يجب على كاتب القصة القصيرة مراعاة كل من الواقع والخيال. إذا انجذب السرد بشكل مفرط نحو أحد هذين القطبين، فمن المؤكد أنه سيفقد بعض سماته. إذا كان واقعيًا أكثر من اللازم فقد يعطي إنطباعًا بأنه فيلم وثائقي؛ وإذا كان خياليًا أكثر من اللازم فقد يفتقد الإحساس بالواقع. في الحالة الأخيرة، لم تعد وظيفة "كما لو كان حقيقيًا" التي برزت في فترة الرومانسية المتأخرة ، مثلاً في قصص هيرمان ملفيل القصيرة، تلعب دورًا. وهكذا، يجري الحفاظ على العقد السردي بين الكاتب والقارئ من خلال وهم الواقع الذي يُخلق في القصة. في هذه المقابلة، يُصرّ وولف على الطبيعة التقليلية للقصة القصيرة: " أعتقد أن العديد من الكُتّاب يقعون في فخ الكتابة بأهداف ثابتة، فيعاملون القصة كمعادلة رياضية تحتاج إلى حل في النهاية. لكن تشيخوف يُقدّم نموذجًا آخر للحسم أو الحل، إذ يقترح أن يكون إحساسها بالحل حاضرًا طوال العمل، وليس فقط في النهاية. كل قصة قوية تُعطي شعورًا بالحتمية في جميع أجزائها، ومع ذلك لا تُغلق أو لاتنتهي عند الكلمة الأخيرة.. بل على العكس، تستمر القصة الجيدة حية، تاركةً مجالاً للتوقعات يدوم طويلًا."
يجب على القارئ أن يُكمّل ما يُسكته الراوي. أن ما تركه الراوي يُشير أو يُلمّح إلى أن هناك بعض جوانب القصة التي يجب على القارئ حلّها بنفسه. هذا النقص في الحل يُلزم القارئ بالبحث عن الحلقات المفقودة ويُجبره على تقديم نهاية القصة. لذا، يجب على الراوي أن يُوازن بعناية بين ما يقوله وما يُغفله. في مقدمة كتابه عن القصة القصيرة الأمريكية المعاصرة (1994)، يُصرح وولف بإهتمامه بالقصص التي لا تنتمي إلى ما بعد الحداثة، أي القصص التي لا " تهتم بإستكشاف طبيعتها القصصية ، ولا تُبالي، إن لم تكن مُعادية، لإهتمامات القصة القصيرة التقليدية في الشخصية والتطور الدرامي والسياق الإجتماعي". ويُعرب عن تفضيله ... ...لقصص عن أشخاص عاشوا حياةً جيدة أو سيئة ، لكنهم مقنعون جداً بحيث يشعر القاريء ببعض العلاقة معهم . هذا الشعور بالصلة هو ما يجعل القصص مهمةً لنا. فالمتعة التي نستشعرها في الذكاء والبراعة التقنية سرعان ما تتلاشى في غياب أي مشهد إنساني واضح. يجب أن نشعر بأن القصة تفعل شيئاً بنا ، تشعرنا بالصدمة أو الغضب ، وأننا ضعفاء وقد نتعرض لخطر الحزن والتغيير. تلك هي القصص التي تبقى في ذاكرتنا، لدرجة أنها تصبح جزء من الذاكرة نفسها. يهتم وولف بمعنى القصة وجانبها الأخلاقي أكثر من إهتمامه بجوانبها التقنية، ولا عجب أنه صُنِّف كاتبًا أخلاقيًا. يرى برايان هانلي أن "توبياس وولف يرى أن قصصه "فضولية" أكثر منها تعليمية". يرى وولف أن القصة القصيرة ليست فلسفة مجردة متجسدة في مجموعة من تقنيات السرد البارعة . يجب أن تحتوي القصص على شخصيات مألوفة وحبكة تتناول التجربة الإنسانية. يهتم وولف بالقصص القصيرة ذات الهدف الأخلاقي والتي تتناول التجربة الإنسانية التي يعيشها الناس العاديون في ظروف عادية. بناءً على هذه الإهتمامات، يكتب وولف نوعًا من القصص قد يكون مناسبًا للقارئ المعاصر الذي يواجه تحديات المجتمع الحديث. يعتقد وولف أن التجربة الفنية للقصة القصيرة يمكن أن تتمتع بقوة تحويلية: "أعتقد أننا نتغير كلما رأينا شيئاً جميلاً أو وجدانياً جداً صاغه صاحبه بشكل بارع يشعرنا بكرم الحياة". ولكي يجعل قصته ذات مصداقية، يلجأ وولف إلى سلسلة من تقنيات السرد، من بينها الصوت السردي ووجهة النظر اللذان يلعبان دورًا بارزًا. يخلق الرواة وجهة النظر التي تُروى منها القصة، مقدمين معلومات مختارة عن أنفسهم وعن القصة والشخصيات، ومُرسين المسافة العاطفية بين القارئ والشخصيات. يُشارك الراوي القارئ علاقته العاطفية بشخصيات القصة. تتمثل إستراتيجية وولف الأساسية في اللجوء إلى راوٍ مستقل عن أحداث القصة، يروي لحظة من حياة الشخصيات. ومع تقدم أحداث القصة، تتولى إحدى الشخصيات دور الراوي وتُكمل سردها. هذا هو حال قصص قصيرة مثل "الرُشد" و"ميلر الآخر" و"الليلة المعنية"، التي تُجسّد هذا الإطار السردي. أن "الرُشد" هي قصة رجل مجنون مجهول الاسم في المستشفى، تزوره إبنته أبريل، برفقة زوجته الثانية كلير. تُقدّم القصة للقارئ لمحة عن العلاقة الصعبة بين إبنته من زواجه الأول وزوجة أبيها. بعد زيارتهما، وأثناء إنتظارهما لركوب الحافلة، تستذكر المرأتان لحظاتٍ مُحدّدة من ماضيهما. تتذكران رفض أبريل الأولي لزوجة أبيها، وكيف تفاهما وتعاونا مع بعض لاحقًا. القصة قليلة الحركة.يُفضّل وولف تصوير أحداث القصة كما تراها الشخصيات . فهو يخلق إطارًا سرديًا يُبدّل فيه وجهة نظر الشخصيات مع وجهة نظر الراوي. تُروى القصة بشكل مُختصر من قِبل راوٍ بضمير الغائب،لا يلعب دوراً فاعلاً فيها . ومع ذلك، يُزوّد الراوي القارئ بجميع المعلومات عن حياة المرأتين. حالما يتعرّف القارئ على الشخصيات وحياتهما، يتوقف الراوي عن تقديم هذه المعلومات . ويحل حوارٌ بين كلير وأبريل محل ذلك الدور الذي يلعبه الراوي. يلي الحوار تذكّر كلير لحياتها مع زوجها الأول. ثم يُوسّع الراوي المجهول قصة كلير . من المهم ملاحظة أن التغيير في الصوت ليس مفاجئًا: أولًا، هناك إنتقالٌ من الراوي بضمير الغائب إلى الحوار بين الشخصيتين، ثم هناك إنتقالٌ ثانٍ سلس نحو سرد كلير لزواجها الأول. لم يكن التدخل الأخير للراوي بضمير الغائب بريئًا. هذه المرة، يعرف الراوي المزيد عن أفكار كلير ومشاعرها، ويُقدّم المزيد من المعلومات عنها. يُعلّق الراوي على علاقة كلير بزوجها الأول، وعلى علاقة أبريل العاطفية بشابّ تنظر إليه زوجة أبيها بعين الريبة. ونظرًا لعدم الثقة المتبادلة بينهما، لا تستطيع أبريل التواصل مع زوجة أبيها. في نهاية القصة، يمرّ الراوي بضمير الغائب بتحول عاطفي، ويتخلى عن موقفه الأول الإنعزالي ليدخل في أعماق مشاعر الشخصيات . يُوازي التحول الأخير من أسلوب كلير غير المباشر الحر إلى سرد الراوي إنخراط الأخير المتزايد في القصة. أن هذا الإنتقال من الأسلوب المباشر إلى أسلوب حر غير مباشر يُحوّل الراوي إلى متحدث باسم الشخصية. ورغم أن هذا الإنتقال لا يبدو تغييرًا كبيراً في أسلوب السرد، إلا أن تأثيره قوي جدًا من حيث الموقف العاطفي للراوي، إذ يبدو أقرب إلى الشخصيات والقراء. ويكون أكثر تفاعلاً عاطفياً في نهاية القصة منه في بدايتها. علاوة على ذلك، فإن إستخدام الأسلوب الحر غير المباشر يُتيح لوولف خاتمة غير مكتملة. فالراوي لا يملك الكلمة الأخيرة؛ بل يفتح مجالًا واسعًا من التأويلات . يؤكد وولف نفسه غرضه الواعي من اللجوء إلى هذه الإستراتيجية الأدبية: "من الأمور التي أجدها مُريحة في تشيخوف هي مدى ثقته بقارئه في تجاوز حدود المسموح لهم به والتعاون معه في صنع قصصه." أن قصة "ميلر الآخر" مثالٌ مثيرٌ للإهتمام على أهمية صوت الراوي بالنسبة لوولف في بناء القصص القصيرة.ميلر جنديٌّ، يستلم رسالةً تُعلن وفاة والدته، وتمنحه وحدته إذنًا بالعودة إلى المنزل لحضور مراسيم الجنازة .في الوحد العسكرية نفسها يوجد جنديٌّ آخر يحمل الاسم نفسه تماماً . تكمن مفارقة القصة في أن ميلر يعتقد أن الرقيب الأول قد سلمه عن طريق الخطأ الرسالة التي كانت مُوجهة إلى "ميلر الآخر". لا يذكر ميلر شيئًا عن الإرباك الذي يعتقد أن الرقيب قد أحدثه عندما أعطاه الرسالة؛ بدلاً من ذلك، يُفكّر في والدته. كانت علاقتهما متوترة منذ زواجها من مُعلّم الأحياء في المدرسة الثانوية. خاب أمل ميلر، فقرر الإنضمام إلى الجيش، مُدركًا أن والدته ستُعارض قراره. خلال الأشهر الأولى، إعتادت أن تُرسل له رسائل أسبوعية، كانت تعود إليها غير مفتوحة . في النهاية، تخلّت عن أي نوع من التواصل مع إبنها. عندما عاد ميلر إلى المنزل، أدرك أن الرقيب الأول لم يُخطئ بتسليمه الرسالة. لقد تُوفيت والدته بالفعل، وتمكّن من الوصول في الوقت المُناسب لجنازتها. تُروى قصة وولف بصيغة المضارع، وهي إستراتيجية تُعطي إنطباعًا بأن القصة تدور في حاضر أبدي، مما يُضفي جوًا من الإنفصال واللامُبالاة. يُخلق الصوت والزمن السرديان جوًا من الغربة يُجسّد وضع ميلر بشكلٍ كافٍ. للوهلة الأولى، تبدو القصة وكأنها تنتمي إلى نوع من الحكايات الفنتازية تعرف بالشبيه . لكن مع تتابع الأحداث، يدرك القارئ أنه لا مكان للفنتازيا في القصة . في الواقع، محور القصة الرئيسي هو رفض ميلر للواقع. يتجلى برود ميلر العاطفي بوضوح في الراوي بضمير الغائب الذي يروي القصة. يراقب الراوي الأحداث من منظور بعيد، وربما متعالي . في نهاية القصة، عندما يعود ميلر إلى منزله، يحدث تغيير خفي في إستراتيجية السرد: يدرك القارئ تدريجيًا أن القصة لا يرويها الراوي بضمير الغائب، بل ميلر نفسه، الذي يدوّن أفكاره: " قد تكون أمورك على ما يرام، ثم في يوم من الأيام، دون ذنب منك، قد يتسرب شيء ما إلى مجرى دمك ويدمر جزءًا من دماغك. سيتركك هكذا. وإن لم يحدث ذلك الآن ومرة واحدة، فمن المؤكد أنه سيحدث ببطء لاحقًا. تلك كانت النهاية التي كانتَ مُقدّرة لك ." لا يدوم هذا التحول السردي طويلًا. في الفقرة التالية، يُعيدُ تحولٌ جديدٌ في صوت الراوي الراوي بضمير الغائب. كان هذا الخللُ القصير كافيًا لإلقاء نظرةٍ مباشرةٍ على أفكار ميلر. إن إنفصال ميلر النفسي يجعل صوت الراوي إشكالياً . لو كان ميلر قد قبل منذ البداية أن الرسالة مُوجّهة إليه لا إلى ميلر الآخر، وأن خبر الوفاة يُشير إلى والدته لا إلى والدة رفيقته، لما كان هناك حاجةٌ إلى أن يُقدّم وولف صوتين سرديين، صوت ميلر والراوي. ولدهشة القارئ الكبيرة (وهذه أيضًا ذروة القصة)، إتضح أن صوت الراوي وصوت ميلر هما صوتٌ واحدٌ. يتوافق إستخدام هذين الصوتين السرديين المختلفين مع هدف وولف في عرض العمليات النفسية لعقل قريب من الفصام من خلال تقنية السرد. تشير الإختلافات في صوت السرد، أولًا، إلى إغتراب عن الشخصية، وثانيًا، إلى ضعف في الموقف العاطفي.يشير صوتا السرد، بضمير الغائب والمخاطب، إلى أن الراوي لا يشارك في القصة، إلا أن المفارقة الكبرى في القصة تكمن في أن الراوي هو ميلر نفسه، وأن إنفصال الأول يُترجم إلى غربة ذهنية وإنفصال داخلي لدى الثاني. تقدم قصة وولف الثالثة، "الليلة المعنية"، إستراتيجية سردية أكثر تعقيدًا، تعتمد بشكل كبير على التحولات في أصوات السرد. وهي تتألف من قصتين مترابطتين. الأولى هي قصة فرانسيس وشقيقها فرانك، اللذين دمّر والدهما حياتهما، والثانية هي قصة مايك بولينغن، صديق فرانك، الذي حوّله فرانك إلى بطل لحياة حزينة للغاية. في القصة الأولى، يعود الماضي بشكل متكرر . كان والد فرانك، رجلاً عنيفًا ومتسلطًا، يُسيء معاملة إبنه جسديًا، بينما كانت إبنته فرانسيس تحميه بقوة من سلوك والده العدواني. خاضعًا لشخصية والده، إعتاد فرانك تكرار قصة والده عن قرار أب بالتضحية بحياة إبنه لإنقاذ قطار مليء بالغرباء. ضغطت فرانسيس على شقيقها لرفض هذه القيم الأخلاقية غير الإنسانية وجعلته يقول إنه سيختار إنقاذ شخص يهتم لأمره بدلًا من حشد من الناس لا يعرفهم ، في إشارة غير مباشرة إلى ما فعلته على مر السنين من أجل شقيقها. يروي راوٍ مجهول الهوية قصة طفولة فرانسيس وفرانك، وهو راوٍ خارجي غير مشارك بشكل مباشر في الأحداث، بينما يروي فرانك قصة مايك بولينغن. وبما أن فرانك هو الراوي، فهناك إختلافات معينة بين قصة الإطار وقصة مايك. على الرغم من أن كلا القصتين يرويهما راوٍ خارجي، إلا أن الأولى تفتقر إلى التداخل الأخلاقي والعاطفي: إذ تُروى حياة فرانك وفرانسيس بأسلوب حر غير مباشر يعكس أفكار فرانسيس. أما في قصة مايك، فلا يشارك الراوي في القصة. ولا ينبع موقف الراوي العاطفي من وجهة نظره السردية، بل من إختياره المتحيز للأحداث. يُسلط فرانك الضوء على التفاصيل التي يعتقد أنها أكثر فعالية في إثارة تعاطف القارئ. في النهاية، يكمن الموقف العاطفي للراوي في إختيار وعرض الأحداث. يُبرز الراوي بعض أحداث حياة مايك ويتجاهل أخرى. حتى أخته فرانسيس تعترض على إختياره الشخصي. في هذه الحالة، الراوي، وإن كان خارج القصة، إلا أنه ليس موضوعيًا، إذ يميل إلى إضفاء طابع عاطفي على حياة مايك. يدرك القارئ إختلاف درجة التداخل السردي في كلتا القصتين. يميل القارئ إلى الثقة أكثر بقصة فرانسيس وفرانك، والتي، على الرغم من إعادة سردها من قِبل راوٍ مجهول، تبدو أكثر موثوقيةً لأنها أكثر موضوعية. يستخدم الراوي الخارجي المجهول أسلوب الكلام الحر غير المباشر ، مما يخلق إنطباعًا بأنه قريب من الشخصيات ومطلع على أفكارهم. على العكس من ذلك، في قصة مايك، يعرف القارئ الراوي، ويبدو أن هذا يعزز مصداقيته كراوي قصص.ومع ذلك، فإن التدخل العاطفي الواضح للراوي يمنع القارئ من معرفة الأفكار الحقيقية للبطل. وبالتالي، يشعر القارئ بالريبة تجاه ما يقوله الراوي. وفي الختام، يلعب رواة هذه القصص الثلاث دورًا أساسيًا في إستراتيجيات وولف السردية. فالصوت السردي يفتح أو يغلق محور السرد، والذي بدوره يؤثر على الأحداث المختارة وديناميكيات وجهة النظر. تعتمد موثوقية الرواة على إتحاد صوت السرد ووجهة النظر.ترتكز الواقعية على موثوقية الرواة، والتي بدورها مدعومة بصوت سردي يجب أن يكون غير مزعج وغير شخصي قدر الإمكان. تلجأ قصص وولف بشكل رئيسي إلى أصوات سردية غير شخصية. في الحالات التي يكون فيها الراوي منغمسًا جدًا في الأحداث التي يرويها، تتعرض موثوقيته والعمل الواقعي للخطر.إن تلاعب وولف الدقيق بوجهة النظر وصوت السرد يخلق قصة قصيرة واقعية، تجمع بين الواقع الخارجي للأحداث والواقع الداخلي الذاتي لأفكار الشخصيات العميقة. لم تعد واقعية وولف الجديدة واقعية القرن التاسع عشر البحتة، بل أسلوبًا أكثر دقةً، مُصفّىً بجماليات الحداثة وما بعد الحداثة.
* فاتني أن أذكر أنني بدأت في ترجمة مقالات تعنى بنظريات القصة القصيرة وهذه واحدة منها وسبقتها ست من شقيقاتها وسأحاول أن أنشر واحدة يومياً . عنوان المقالة SANTIAGO RODRÍGUEZ GUERRERO-STRACHAN/ REALISM AND NARRATORS IN TOBIAS WOLFF’S SHORT STORIES
#محمد_نجيب_السعد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نادين كورديمر ومضات اليراع
-
نهج معرفي للقصصية
-
تشارلز مَي : نقد القصة القصيرة في الولايات المتحدة الأميركية
-
لويزا ماريا غونزاليس رودريغيز التناص والكولاج في قصص بارثيلم
...
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
-
التقليلية في الشعر : مقدمة تعريفية
-
القصة المايكرو
-
قصص همنغواي القصيرة /3:
-
حروف سوداء فوق صفحات بيض: أدب سكان استراليا الأصليون
-
التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-5
-
قصص همنغواي القصيرة/2
-
قصص همنغواي القصيرة /1
-
التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-4
-
التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-3
-
وداعاً للسلاح وعناقيد الغضب : تقليلية همنغواي وتكثيرية شتاين
...
-
التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-1
-
هل الأكثر يعني أكثر أم الأقل يعني الأكثر : بين التقليلية و ا
...
-
رسائل إليوت الى إميلي هيل تكشف عن لوعة حب كبيرة
-
لماذا ما زلنا نقرأ إرنست همنغواي؟
-
صور الحرب عند همنغواي
المزيد.....
-
تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة
...
-
الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد
...
-
من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع
...
-
أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
-
السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
-
هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش
...
-
التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
-
الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
-
تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير
...
-
سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي
...
المزيد.....
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|