أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نجيب السعد - وداعاً للسلاح وعناقيد الغضب : تقليلية همنغواي وتكثيرية شتاينبيك















المزيد.....


وداعاً للسلاح وعناقيد الغضب : تقليلية همنغواي وتكثيرية شتاينبيك


محمد نجيب السعد

الحوار المتمدن-العدد: 6471 - 2020 / 1 / 22 - 22:08
المحور: الادب والفن
    


يبدو جون شتاينبيك وإرنست همنغواي ، على الرغم من أنهما عاصرا بعضهما الأخر، مختلفين كثيراً. رغم أن فارق العمر بينهما لا يتجاوز السنتين ونصف السنة ، الا أن همنغواي بدأ في تحقيق شهرته في العشرينات من القرن الماضي ، في حين حقق شتاينبيك ذلك في الثلاثينيات. يتمتع كلا الكاتبين بشخصيتين معقدتين .همنغواي كان شاباً ضخماً مفتول العضلات ويميل الى العنف في هواياته، على النقيض من شتاينبيك الهاديء الوديع . كتب همنغواي عن العزلة بشكل عام ، في حين كتب شتاينبيك عن آمال الفرد كجزء من الأسرة والمجتمع. ومع ذلك ، كان لشتاينبيك وهمنغواي الكثير من القواسم المشتركة. على سبيل المثال ، جاءوا من بلدة صغيرة ومن عوائل تنتمي للطبقة الوسطى مع أفكار دينية قوية نسبيا. ثانياً ، كلاهما تمردا على هذه الخلفية كجزء من التمرد العام في تلك الفترة ضد حياة القرية والبلدات الصغيرة ، وضد معايير السلوك البيوريتانية-الفيكتورية المتشددة . لكن في ثلاثينيات القرن الماضي ، ظهرت أفكار جديدة ، خاصة الجمعية، كنقيض للفردانية في الحياة التقليدية الأميركية .لم يظهر الكاتبان أي ميل نحو السياسة في أعمالهم ، لكن بعض أعمالهما ، خاصة في منتصف الثلاثينيات ، وصفت بالراديكالية والماركسية وحتى الشيوعية.تأثر شتاينبيك وهيمنغواي بالكساد الأقتصادي وأثاره السياسية والأجتماعية والأقتصادية في فترة الثلاثينيات وظهر ذلك جلياً في أعمالهما التي وضعتهما في مواجهة مباشرة مع التطرف الأميركي. نتيجة لذلك كتب الرجلان روايات أظهرت تعاطفا عظيما مع الفقراء واحتقار قوي للأغنياء والمؤسسة ، وأثارت الكثير من الشكوك حول المشكلات الاجتماعية والسياسية ، وكذلك أظهر الكاتبان سخرية واضحة بقدرة الحكومة على حل مشاكل الاضطهاد والفقر ، ومن ناحية أخرى ، قدرة الحزب الشيوعي في أحداث التغيير المطلوب.
في الكتابات النقدية الأمريكية أستخدم مصطلح التقليلية، الذي ظهر في أواخر خمسينيات القرن الماضي، للأشارة الى جمالية معينة والى أسلوب مميز في الفن. الا أن استخداماته تعددت بعد ذلك التاريخ. في السياقات الأدبية ، يستخدم المصطلح اليوم للأشارة الى أسلوب سائد في القصة المعاصرة ، وبالتحديد لدى مجموعة معينة من المؤلفين ولدوا في الفترة 1935-1950 من أمثال ريموند كارفر وآن بيتي و ريتشارد فورد و ماري روبيسون . يتم الآن استخدام مصطلح التقليلية كفئة أسلوبية تضم أولئك الكتاب .بصفة عامة ، فإن السمات المميزة لهذا الأسلوب تعتبر صوتًا سرديا عاديا ًينشغل بتفاصيل الحياة اليومية ومجموعة من الشخصيات يوحدها (إن لم يكن هناك شيء آخر) نوع من العجز وأخيرا الأفتقار الى السلوكيات الأجتماعية والأخلاقية السائدة في المجتمع.. تُعتبر القصة تقليلية اليوم عندما تخلق عند قرائها حالة من عدم اليقين والإحباط وعدم الدقة. لذلك فإن المصطلح يبدو فضفاضاً وقد يطبق على نحو غير واضح.فقدت التقليلية ، كفئة أدبية ، في أستخداماتها الحالية تقريبًا كل معانيها الأصلية وغدت مجرد مصطلح مظلوي( من مظلة) عصري ، والذي يستخدم في كثير من الأحيان للوصف وللتشويه. على الرغم من أن التقليلية كحركة ليس لديها بياناً تأسيسياً أو مدرسة أو سلسلة مبادئ موجهة ، إلا أنها تتمتع بشيء مهم وموحد أيضاً ، الا وهو رعاية مجلة النيويوركرNew Yorker ، بالأضافة الى دوريات أخرى ، على سبيل المثال، مجلة الأسكواير Esquire .
يمثل مصطلح التقليلية الذي روجت له مجلة النيويوركر كأسلوب للكتابة وكحركة فنية فكرتين مختلفتين. في مقدمة كتابه المعنون ظاهرة الأدراك Phenomenology of Perception يعرف الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي الظواهر بأنها دراسة الجواهر ، "الفلسفة التي تعيد الجوهر إلى الوجود ، ولا تتوقع التوصل إلى فهم للإنسان والعالم من أي نقطة انطلاق بخلاف وقائع الأنسان والعالم ... إنها تحاول إعطاء وصف مباشر لتجربتنا كما هي ، دون الأخذ في الاعتبار أصلها النفسي والتفسيرات الطارئة التي يمكن للعالم أو المؤرخ أو عالم الاجتماع تقديمها " يمثل هذا التعريف ، في الواقع ، حجر الزاوية في حركة التقليلية في الفنون البصرية. فكرة أن هناك حاجة للعودة إلى "الأشياء نفسها" ، وتحديد ، إذا كان ذلك ممكناً ، "ذلك العالم الذي يسبق المعرفة ؛ والتي تتحدث المعرفة عنه دائمًا ،" تلك الفكرة أدت ، بداية من منتصف الستينيات ، إلى نشوء فن بصري تميز بالبساطة والحرفية و"الفراغ" العام. تم تحقيق هذا الفراغ من خلال استخدام الأسطح غير المتقطعة والأنتاج الواسع ؛ كان الهدف هو أن تكون علامة الفنان واضحة بأقل قدر ممكن. في معارض هذه الأعمال ، ضمت كل غرفة عملاً واحداً ؛ كان الهدف هو مواجهة المشاهد بحقيقة الشيء المعروض ولا شيء غير ذلك ، في محاولة لجعله أكثر وعياً بفهمه الفوري للشيء المعروض. من الجوانب المهمة للفن التقليلي هو مفهوم دوشامب Duchamp للأشياء الجاهزة" والأشياء التي يعثر عليها و يحورها الفنان ثم تقدم على أنها فن ، وكان جزءًا من الدافع وراء ذلك هو إنكار وجود قيم الفن المطلق ، وإنكار أنه كان من الممكن تعريف ما هو فن وما هو غير فن. ومن العوامل المحفزة الأخرى هو الرغبة في أثارة الأهتمام قدر الإمكان بـالأشياء "المبتذلة والمشتركة واليومية" والتي ، كما تشير باربرا روز ، أصبحت مهمة للغاية بالنسبة للفنانين التقليلين الشباب في الستينيات باعتبارها الطريقة الأكثر مباشرة لإحداث ثورة في تصورات الناس الأكثر شيوعًا ورسوخاً للأشياء من حولهم. بالمقارنة مع مع تقليلية النيويوركر،لقد أصبح اهتمام هؤلاء الكتاب بالموضوعات الدنيوية مجرد كليشيهات ، لكن النقاد الأدبيين يرتكبون خطأً ، عندما يفترضون أنه لا يمكن أن يكون هناك بين المؤلفين التقليلين عدد كبير من الطرق التي يتم التعامل بها مع هذا " اليومي". يمكن للكتابة التقليلية ، حتى عند نفس الكاتب أحياناً، أن تتراوح بين تفاهات وارهول وأناقة جورج سيغال. أخيرًا - في كل أشكال النشاط التقليلي ، كان التكرار دائمًا أداة مهمة للغاية. أحد أهدافها الرئيسية هو خلق الوهم ، كما تقول جيرترود شتاين ، لـ "الحاضر المستمر" ، لتوسيع تجربة لحظة واحدة إلى أجل غير مسمى. يمكن استخدامه أيضًا لتحدي قوانين شكل فني معين. تقول روز ، مشيرة لمصممة الرقص إيفون راينر ، موضحة الاستخدام المفرط للتكرار في إحدى رقصاتها بقولها إنها تريد إعطاء مثال على كيفية اقتراب الرقص من النحت ، وهو ثابت ، مما يسمح للمشاهد بالتجول حوله." قد يخلق التكرار الرتابة الا أنه يمكن الكاتب من الأقتراب من الجوهر ، كما في تكرار كارفر ، الذي يصبح موضوعاً أو " موتيفاً" .
تعتبر رواية إرنست همنغواي "وداعاً للسلاح" ، مثالا كلاسيكيا للتقليلية . الرواية تقليدية في طولها حيث تقع (250-350 صفحة) وهي تعتبر نموذجاً للكفاءة في الأدب حيث أستغل الروائي كل صفحة من عمله . تعتبر رواية عناقيد الغضب لجون شتاينبيك النقيض لرواية وداعاً للسلاح من حيث أسلوب الكتابة حيث تتيح لقارئها الذكي فرصة الأستفادة من التفاصيل الكثيرة التي يضيفها الروائي.يستخدم الروائيان تقنيات مختلفة لأيصال تفاصيل قصصهما الى القاريء . يستخدم همنغواي بفعالية التقليلية لتحقيق هدفه المتمثل في السماح للقارئ بملأ الفراغات الكثيرة التي يتركها ، بينما يعمد شتاينبيك من خلال التكثيرية الى تقديم تفاصيل كثيرة .
ينجح همنغواي في خلق قصصه من خلال عدم منح التفاصيل غير الفعالة من الحبكة الا القليل من المساحات في تلك القصص. يمكن متابعة أسلوبه التقليلي عبر مجموعة من الممارسات ، لا سيما في جمله القصيرة خلال الرواية:*11
كاترين : لم أكن أعرف أي شيء حينها. اعتقدت أنها سيكون أسوأ بالنسبة له .أعتقدت أنه لن يتحملها .بعدها طبعاً هو قٌتل وكانت تلك هي النهاية."
هنري: لا أعرف.
كاترين: طبعا كانت تلك هي النهاية.
ما نراه شيئاً بسيطاً جداً هو أسلوب الرواية في مجملها . علاوة على ذلك ، غالبًا ما يترك همنغواي معلومات أساسية شاملة حول الشخصيات ، بينما نرى مؤلفين آخرين يكتبون صفحات طويلة عن شخصياتهم . في رواية عناقيد الغضب يتضح هذا بشكل خاص في وصف الشخصيات التي ليس لها دور كبير تلعبه في نتائج القصة. على سبيل المثال ، يقدم شتاينبيك وصفاً مكثفاً لمولي غريفز ، أحد جيران توم جودز .تساعد هذه التفاصيل التي يستخدمها شتاينبيك في وصف تاريخ الشخصية في توصيل المشكلة التي واجهتها عائلة توم جودز. يستمر شتاينبيك في سبع صفحات يشرح المحنة التي دفعت مولي غريفز للاختباء في منزل توم جودز المهجور ، وهذا يوفر معلومات قيمة للقارئ للوصول إلى فهم أفضل للوضع الذي كان كثير من مزارعي أوكلاهوما فيه خلال فترة الكساد العظيم. "ليس في نفسي أي قدر من الأحترام الأن . الحكومة الوحيدة التي عرفناها والتي ركبتنا هي حكومة ضمان الحد الأدنى للربح . هنالك واحد فقط يحيرني وهو ويلي فيلي الذي يسوق هذا الجرار وسيصبح مساعدا للخولي على هذه الرض التي أعتاد أهله أن يزرعوها." *37
يفسر هذا المقطع هدم منزل عائلة مولي والاستيلاء على أرض العائلة. هذه التفاصيل ضرورية لأنها تكشف عن وضع عائلة جود - العائلة التي تصبح فيما بعد الشخصية الرئيسية في القصة. تتناقض هذه التفاصيل بشكل حاد مع الطريقة التي يكتب بها همنغواي روايته وداعاً للسلاح.
ولعل العنصر الأكثر وضوحا في أسلوب همنغواي التقليلي هو اختيار الكلمات . همنغواي لا يستخدم كلمات معقدة في كتاباته. "كنت أقود السيارة وبقيت في السيارة ومضى السائق بالأوراق . كان النهار قائظاً و كانت السماء لامعة جداً وزرقاء جداً وكانت الطريق بيضاء مكسوة بالغبار" *7 عن طريق الحفاظ على اللغة بسيطة ، يمكن القول أنه يمكن توصيل أفكاره بشكل أوضح للقارئ. في نهاية المطاف ، هذا هو هدف الكتاب ، وهو توصيل الفكرة الموجودة في رؤوسهم ، ووضعها في رأس القارئ. تقول ديانا هاكر " كلما كانوا أفضل في إنجاز هذه المهمة ، كانوا أفضل في كتاباتهم ". تعتبر القصة لا أسلوب الكتابة قمة أولويات همنغواي . حافظ همنغواي على أسلوبه التقليلي ونجح في تطوير صور واضحة دون الحاجة إلى استخدام لغة معقدة. قد يحتاج المؤلف الى بعض البلاغة في الكلمات في بعض الأحيان لتحسين تدفق الجمل والفقرات ، إلا أن همنغواي قادر على نقل أفكاره بوضوح للقارئ مع الإبقاء على كل جميع المكونات بسيطة للغاية.
لا يتطلب الأسلوب التقليلي من القارئ أن يزعج نفسه بتطور أو تعقيد الأحداث.والأسلوب يسمح بالتدفق السهل للمعلومات. يجعل همنغواي تجربة القراءة فعالة بقدر الإمكان ، والقصة التي يضعها أمام القاريء سهلة الهضم على الأخير. في المقابل ، يمكن القول أن جانب كبير من اللغة التي يستخدمها شتاينبيك في روايته فخمة ومبالغ بها ، مما يجعل قراءتها أقل إثارة للاهتمام ، وفقًا لجون بارث. بدلاً من توصيل المعلومات بوضوح ودقة ، يقوم شتاينبيك بخلق فائض من الكلمات ، ولكن ليس إلى الحد الذي يفعله وليام فوكنر ، كما يدعي بارث.لكن ذلك لا يعني وجود عيوب أو ثغرات في رائعة شتاينبيك. ربما كان بارث يشير إلى بعض المقاطع في عناقيد الغضب التي لم تصل الى القاريء بنفس اليسر والسهولة التي تفعله رواية همنغواي. على سبيل المثال ، المقطع التالي كان يمكن كتابته بالأسلوب التقليلي: "هنا أساس الشيء الذي تخشاه. هذا هو بدء الجنين ، فهنا تتغير كلمة فقدت أرضي .تنشطر خلية وإنشطارها ينمو الشيء الذي تكره " فقدنا ارضنا" *101
بينما تكون بعض هذه الكلمات ومعها تركيب القطعة المربك الى حد ما، فائضة عن الحاجة بالنسبة للقراء الذين يفضلون الأسلوب التقليلي ، الا أنها تعتبر ملفتة بالنسبة للقراء الذين يجدون ضالتهم في عملية الكتابة ويصبح شتاينبيك بالنسبة لهؤلاء كاتب من طراز خاص. بتعبير آخر أن في العالم مكان لهمنغواي التقليلي وشتاينبيك التكثيري.
يُظهر شتاينبيك أنه يعتقد أحيانًا أن الجمل الفخمة مطلوبة ، ولكنها ليست ضرورية دائمًا. مثل همنغواي ، هو يعرف أن أفضل الكتاب هم الذين يعرفون أن كل حرف مطلوب لأدامة التواصل بوضوح مع القارئ. على سبيل المثال ، عند وصف البلدات على أطراف كاليفورنيا ، يستخدم شتاينبيك لغة بسيطة للغاية. "في البلدات الواقعة على أطراف المدن ، في الحقول ، في الساحات الخالية ، في ساحات السيارات المستعملة ، وساحات السكراب ، والكراجات ذات اللافتات الزرقاء - سيارات مستعملة ، سيارات مستعملة جيدة. سيارات نقل رخيصة ، ثلاث مقطورات. فورد 27 ، نظيفة. سيارات مفحوصة، سيارات مضمونة. راديو مجاني. سيارة مع 100 غالون من الوقود مجانا. أدخل و تفرج. سيارات مستعملة. لا مصاريف أضافية."(41). يوضح هذا أن شتاينبيك يستخدم أسلوبًا تقليلياً أحياناً عندما يلائم ذلك أولوياته في خلق صورة كاملة لقرائه. ومع ذلك ، هناك حاجة في معظم الوقت لمزيد من التفاصيل لنقل الصورة الكاملة. عادة ما يصر على التحكم في هذه الصورة من خلال قدر كبير من التفاصيل.
لا ينجح همنغواي في كتابة المفاهيم البسيطة فقط - وغالبًا ما يهزم شتاينبيك في قدرته على التواصل بشكل أفضل مع القارئ - بل إنه ينجح أيضًا في مشاهد معقدة يتم تصويرها بوضوح من خلال ذلك الأسلوب البسيط.يعمد العديد من الكتاب الى إظهار قوتهم الوصفية من خلال استخدام الصفات التي قد تكون غير معروفة للكثير من القراء . ولكن همنغواي يقاوم الإغراء ويستمر في أسلوبه التقليلي. في المشهد الذي تعرض فيه هنري وزملاؤه من المسعفين للقصف ، فإن العنف الموصوف بسيط للغاية. إنها مكتوب ليصل الى عواطف القارئ ، وليس عقله. "كانت الأرض ممزقة وأمام رأسي أستحالت عارضة خشبية الى شظايا . في التشوش الذي غلب على رأسي سمعت شخصاً يبكي. اعتقدت أن شخصاً ما كان يصرخ. حاولت أن أتحرك ولكني لم أستطع أن أتحرك.سمعت الرشاشات والبنادق تطلق نيرانها عبر النهر وعلى طول النهر "(58). يصور هذا بوضوح مشهدًا معقدًا حيث يحدث الكثير ، لكن همنغواي لا يحيد عن أسلوبه التقليلي ويجب قراءة المشهد بأكمله كي نستوعب ذلك الأسلوب والوضوح الناجم عنه. يتم زرع صورة حية في عقل القارئ ، وهذا لا يدانى مع أستخدام لغة أكثر تعقيدًا قد يختارها بعض الكتاب.
ومع ذلك ، فإن شتاينبيك قادر على خلق الكثير من المشاهد بشكل فعال مثله مثل همنغواي ، مع استخدام تراكيب لغوية أكثر تعقيدًا. "سيطر منزل خشبي صغير على أرض المخيم ، وعلى شرفة المنزل ، هسهس فانوس بنزين وألقى بوهجه الأبيض في دائرة كبيرة" (125). تختلف الجملة عن ما قد يستخدمه همنغواي ، لأن شتاينيك يستخدم الكثير من الوصف . على سبيل المثال "هسهس فانوس بنزين وألقى بوهجه الأبيض في دائرة كبيرة " ، ينقل بفعالية تفاصيل اللهب. إن تجسيد الفانوس يجعل صورته أكثر وضوحًا مما قد يفعله همنغواي في وداعاً للسلاح. من المرجح أن يقول همنغواي شيئًا على غرار "الفانوس أضاء الشرفة".
تعتبر التقليلية السمة المميزة لرواية وداعاً للسلاح . الا إن علامة شتاينبيك التجارية هي الفصول المتداخلة التي تقحم في فصول الرواية الأعتيادية. يؤدي هذا الأسلوب إلى تعقيد القصة ، ولكنه يضيف مستوى من التفاصيل يتيح لشتاينبيك أن يكون له رأي في تفاصيل الحبكة الكثيرة ، بدلاً من ترك الأمر للقارئ كما يفعل همنغواي. هذه الفصول المتداخلة تجعل من الصعب متابعة حبكة القصة ، لأنها تفكك القصة ، بدلاً من تقدمها في مسار خطي. يتم تحويل القارئ لأجزاء مختلفة ومن ثم إعادته إلى القصة الرئيسية. هذه طريقة مناسبة جدا لرواية عناقيد الغضب ، لأن الفصول المتداخلة تمثل التحديات التي تواجهها عائلة جود قبل أن يغدوا السير صوب كاليفورنيا و خلالها.كما أن الفصول المتداخلة تقدم للقاريء فهمًا للتاريخ الذي مرت به هذه العائلة. يستطيع القارئ فهم الوضع الاقتصادي الذي تجد فيه العائلة نفسها ، وهذا لن يكون ممكنًا دون الفصول المتداخلة ، لأن الحبكة ستتأثر بشكل كبير. وفقًا لما قاله لويس أوينز " ، نظرًا للتاريخ الثري والطبقات المختلفة للقصة التي تحتاج الى التوضيح يصبح الأسلوب التقليلي غير مناسباً لرواية عناقيد الغضب. عند تحليل كل قصة ، فإن "وداعاً للسلاح" فيها حبكة بسيطة جداً ، وليست هناك حاجة للحديث عن الوضع السياسي الذي كان سائداً أبان الحرب العالمية الأولى ، لأن معظم القراء يفهمون أساسيات الصراع ، لذلك نحتاج الأساسيات كي نفهم القصة . علاوة على ذلك ، فإن "وداعاً للسلاح" لا تتعلق بالحرب نفسها في المقام الأول وأنما بالعلاقة بين هنري وكاترين. يتيح هذا السرد البسيط من همنغواي التمسك بأسلوبه التقليلي في هيكل القصة وتجنب تعقيدات الفصول المتداخلة. ومع ذلك ، فإن أوينز محقة عندما تقول إن استخدام شتاينبيك للفصول المتداخلة أمر ضروري حتى يتمكن من كشف القصة الكاملة للقارئ. بالرغم من أن معظم الناس يعرفون ما هو الكساد العظيم ، إلا أنهم لا يفهمون السياق فيما يتعلق الأمر بالمزارعين ، ولن يفهم القارئ التفاصيل المختلفة في تاريخ الشخصيات في الرواية بدون الفصول المتداخلة.
كما أن استخدام شتاينك للفصول المتداخلة يسمح له بالسيطرة على تفكير قراءه بدلاً من السماح لهم بأطلاق مجموعة من الأستنتاجات الخاصة، كما هي الحال مع همنغواي. بينما يتحكم همنغواي في العناصر الأساسية للحاضر بأسلوبه التقليلي ، يتحكم شتاينبيك ليس فقط بالعناصر المفصلة للحاضر – كما في مشهد الفانوس في المخيم - ولكن أيضًا في الشخصية والتاريخ الحالي للشخصيات ، وكذلك الأحداث الماضية. قد يكون شتاينبيك محكوماً بتاريخ الكساد الكبير ، إلا أنه قادر على صياغة التفاصيل المختلفة لتاريخ الشخصيات والوضع العائلي والعلاقة مع المزرعة. "جاءت الجرارات عبر الطرق ودخلت الى الحقول ، زواحف ضخمة تتحرك كالحشرات ولديها قوة هائلة مثل الحشرات. زحفت فوق الأرض ، ترسم لها مساراً و تسير فيه ." (24). ينقل هذا الفصل المتداخل أيضًا شغف العائلة بالأرض وكراهيتها للبنك. علاوة على ذلك ، فإنه يصور الخيارات الصعبة التي تم اتخاذها ، والعجز التام الذي شعرت به الأسرة من هدم ما كان في السابق أرضهم وبيتهم. يواصل شتاينبيك في هذا الفصل المتداخل ، التفاصيل الدقيقة التي استولى بها البنك على المزرعة. إن قوة هذه الصور الحية ، ومعاناة عائلة جواد حيث سرقت تلك الجرارات أرضهم ، من المحتمل ألا يكون موضع تقدير من قبل القارئ إذا لم يصف ستاينبيك المشهد الذي ستتغير فيه حياة العائلة إلى الأبد. كان من الضروري إعطاء القارئ هذه التوجيهات ، ولهذا السبب ، ما كان بإمكان شتاينبيك أن يكتب رواية عناقيد الغضب بالأسلوب التقليلي. توفر هذه الفصول المتداخلة النغمة الأساسية للقصة ، وهي تشرح كيف انتهى المطاف بالعائلة بالطريقة التي انتهوا بها. أن نوع الحياة التي عاشته عائلة جواد قبل الشروع صوب كاليفورنيا يرتبط بوضوح مع هذه التقنية.
في مقارنة بين هذين الأسلوبين ، توفر تقنية الفصول المتداخلة دورًا أكثر خصوصية لراوي القصة. بإمكان شتاينبيك أن يضيف وجهة نظره الخاصة حول الصعوبات التي واجهتها عائلة جود (فقدان المزرعة والبحث عن عمل بأجور قليلة في كاليفورنيا ). من خلال تصويره لعائلة جود ، يوضح شتاينبيك احترامه للمثابرة والعمل الجاد لمزارعي أوكلاهوما الذين هاجروا إلى كاليفورنيا بحثًا عن عمل خلال فترة الكساد الكبير. كانت الأسرة على استعداد للعمل مقابل خمسة سنتات لصندوق الفاكهة السليمة تماماً. حتى مع هذا المعدل المنخفض للأجور ، لم تستسلم الأسرة ، واستمروا في العمل بجد مقابل القليل من الطعام والسكن . من التفاصيل التي بثها في الفصول المتداخلة، قدم شتاينبيك تفاصيل مسهبة حول التحديات التي مر بها كل فرد من أفراد الأسرة ، والقوة التي أظهروها للتغلب على التحديات. قال با: " لا تعتقد أن مجرد الوصول و القطاف سيضعك في الخلف." " كن جاهزا خلال يومين." قال توم "(258)" يمثل هذا المقطع يصور الصعوبات التي تواجهه الأسرة طوال الرواية. كان كل فرد من أفراد الأسرة يكافح يوميًا ، لكنهم كانوا دائمًا متفائلين بأن يومًا أفضل كان قاب قوسين أو أدنى. لا يبدو أنهم سيستسلمون ، على الرغم من أنه في كثير من الأحيان بدا وكأنهم لم يبق لديهم أمل يتعلقون به ، وهذه هي النقطة التي أحتاجها شتاينبيك للتواصل من خلال التفاصيل الهائلة التي أستوعبتها الفصول المتداخلة.
لم تكن الفصول المتداخلة وسيلة شتاينبيك الوحيدة في سرد تفاصيل القصة. على سبيل المثال ، عمد شتاينبيك الخوض في التفاصيل النفسية لشخصياته. في الفصل السابع، مثلاً ، يستخدم شتاينبيك تقنية شريط الأخبار ، والتي شملت أجزاء من الحوار والأفكار الجزئية للشخصيات في الرواية. هذا يصور الفوضى والارتباك التي كان يعاني منها الكثير من الناس في ذلك الوقت . "ضع تلك البطارية القديمة الغبية. بحق المسيح ، ماذا يريدون مقابل خمسة عشر سنتاً؟ شمر أكمامك، أدخل فيهم ، لن يدوم ذلك طويلاً. إذا كان لديّ عدد كافٍ من السيارات القديمة لأعتزلت العمل بعد ستة أشهر "(42). الفصل يمضي بطريقة مماثلة. في حين أن اللغة وتراكيب الجمل البسيطة المستخدمة في الفصل هي من النوع التقليلي نسبيًا ، إلا أن كشف شتاينبيك عن نفسية شخصياته هو في الواقع ليس تقليليأً. بالمقابل ، يترك همنغواي الأمر للقارئ ليقرر ما تفكر فيه الشخصيات. على الرغم من أن القصة مكتوبة بضمير المتكلم ،الا أن همنغواي يترك وصف الغالبية العظمى من الشخصيات للقاريء. وبأسلوب تقليلي نموذجي ينقل فقط المعلومات الضرورية اللازمة للكشف عن الإحداث الأساسية التي يتم اتخاذها. "لقد أكلت نهاية قطعة الجبن الخاصة بي وأخذت جرعة من النبيذ. من خلال الضجة الأخرى ، سمعت سعالًا ، ثم تشو، تشو، تشو،تشو - ثم أومض بريق كالذي يومض حين يٌفتح باب فرن أسود ، وهدير متواصل بدأ أبيضاً وأستحال أحمراً في مهب الريح "(58). يقدم هذا المقطع مثالًا على التقليلية المنتشرة في العمل والتي تسمح للقارئ بتحديد ما يشعر به هنري. المقطع لا يذكر أن هنري وزملاءه المقاتلين يتعرضون للهجوم وسواء كان خائفًا أم أنه قلق فقط على من حوله .أخفى الكاتب غالبية مشاعر هنري وظهر و كأنه مشغول بحبه. "نظرت إليّ ، وأنت تحبني؟" نعم. "أنت قلت إنك أحببتني ، أليس كذلك؟" نعم ، أنا كذبت. "أنا أحبك ، لم أقل ذلك من قبل" (31).
لا يفضل جميع القراء ملء الفراغات بأنفسهم ، بل يفضل أن يشرح الكاتب الأشياء والمواقف بشكل أكثر وضوحًا ؛ ومع ذلك ، يمنح همنغواي القارئ أساسيات المشهد ، ويسمح لهم بملء الفجوات. هذا هو هدف همنغواي - توفير الإطار ، والسماح للقارئ بأن يكون نجارًا.أن التقليلية تسمح للقارئ بالمشاركة بشكل أكبر في القصة (التي يكتبها همنغواي) ، ولكن الغرض من شتاينبيك هو تنظيم القصة حتى آخر التفاصيل ، وهو أمر ضروري بسبب المضاعفات التاريخية للكساد العظيم وحقيقة أن شتاينبيك كتب عناقيد الغضب تكريما لمزارعي أوكلاهوما في ثلاثينيات القرن الماضي .لقد أحتاج شتاينبيك الفصول المتداخلة حتى يتمكن من أن يكون أكثر خصوصية في كتابته وتوجيه القارئ لأحترام التحديات خلال فترة الكساد الكبير.
++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
• Barth, J. (2013). A Few Words About Minimalism. Weber State University.
• Hacker, D. (1999). A Writer’s Reference. 4th ed. New York: Bedford/St. Martin’s. -print-.
• Hemingway, E. (1957). “A Farewell to Arms.” New York: Scribner. -print-
• Owens, L. (1989). “The Culpable Joads: Desentimentalizing The Grapes of Wrath,” in Critical Essays on Steinbeck’s The Grapes of Wrath, edited by John Ditsky, G. K. Hall. -print-.
• Steinbeck, J. (1939). “The Grapes of Wrath.” New York: Viking Press. -print-.
• MERLEAU-Pont, Maurice (2013) Phenomenology of Perception. Routledge .
• Marcel Duchamp . Readymades .https://www.tate.org.uk/art/art-terms/r/readymade
• Barbara Rose (1965) ABC Art. A statement appeared in Art in America Oct./Nov.
• آندي ورهول كان فنانًا ومخرجًا ومنتجًا أمريكيًا و شخصية بارزة في حركة POP ART
• جورج سيغال ممثل و موسيقي أميركي



#محمد_نجيب_السعد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-1
- هل الأكثر يعني أكثر أم الأقل يعني الأكثر : بين التقليلية و ا ...
- رسائل إليوت الى إميلي هيل تكشف عن لوعة حب كبيرة
- لماذا ما زلنا نقرأ إرنست همنغواي؟
- صور الحرب عند همنغواي
- همنغواي : أسلوب اللاأسلوب
- الشمس تشرق أيضا : قراءة في مسودات رواية همنغواي
- شعر الغاوتشو:رعاة البقر الأرجنتينيين
- شعر الأحراش : شعر رعاة البقر الأستراليون
- قراءة في شعر رعاة البقر الأميركيين 2
- و لرعاة البقر أدبهم : قراءة في شعر رعاة البقر الأميركيين 1


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نجيب السعد - وداعاً للسلاح وعناقيد الغضب : تقليلية همنغواي وتكثيرية شتاينبيك