|
إضاءة: رواية -كما الجمر- لساندور ماراي/ إشبيليا الجبوري - ت: من الألمانية أكد الجبوري
أكد الجبوري
الحوار المتمدن-العدد: 8271 - 2025 / 3 / 4 - 00:05
المحور:
الادب والفن
مقدمة عامة مبسطة؛ كتب الشاعر والصحفي المجري اللامع ساندور ماراي (1900 - 1989) ()، كما يُعد أحد الأسماء العظيمة في الأدب المجري في القرن العشرين، رواية "كالجمر" ("الشموع تحترق حتى النهاية"، 1942)() وهي رواية ذات كثافة نفسية وفلسفية غير عادية. إنها قصة عن الذاكرة والصداقة والخيانة، وبشكل أساسي عن الصدام بين ذاتية الزمن وحتمية القدر. بأسلوب كتابي راقي وصارم، يبني ماراي الرواية على شكل مبارزة لفظية - مونولوج محمل بالاستياء والألم الوجودي، حيث الخصم الحقيقي ليس شخصية، بل الماضي الذي يفرض نفسه كقوة لا مفر منها.
ويشغل الكتاب جزءًا من تقليد الأدب الأوروبي الذي يدرس أنقاض أرستقراطية الإمبراطورية النمساوية المجرية، ويستحضر أصداء النمساوي ستيفان زويج (1881-1942)()، والنمساوي/الأوكريني جوزيف روث (1894-1939)()، والألماني توماس مان (1875-1955)(). ومع ذلك، فإن أصالة ماراي تكمن في بناء سيناريو خانق حيث تتكشف الأحداث ليس على مستوى الفعل فحسب، بل على مستوى الوعي أيضًا. ما نقرأه ليس تاريخًا للأحداث، بل هو تشريح مفصل للعواطف الإنسانية، واستخراج الماضي في محاولة - ربما عبثية - لإيجاد معنى للوجود. ان رواية "كما الجمر" لساندور ماراي: مبارزة بين الذاكرة والزمن. إن شئتم.
- البنية: الزمن كمتاهة؛ تدور أحداث الرواية بذكاء حول لقاء حاسم. يلتقي رجلان، الجنرال هنريك وكونراد، مرة أخرى بعد واحد وأربعين عامًا من الفراق. تشكل ليلة هذا اللقاء، داخل قلعة معزولة، القصة بأكملها تقريبًا وتتميز بالحديث الطويل لهنريك، بينما يبقى كونراد صامتًا إلى حد كبير، كما لو كان شبحًا تم استدعاؤه للحكم النهائي. لا يوجد إعادة بناء موضوعية للماضي، بل مجرد تفسير له، محمّل بالاستياء والرغبة في الفهم. الزمن، إذن، ليس خطيًا، بل متاهة: كل شيء حدث بالفعل، لكنه لا يزال بحاجة إلى التوضيح.
لقد أمضى هنريك، الشخصية الرئيسية في الرواية، عقودًا من الزمن منتظرًا هذه اللحظة، ليس فقط لفهم الأحداث التي دمرت صداقته مع كونراد، بل لإعطاء معنى لحياته. إن هذا الوقت الانتظاري ليس زمنيًا فحسب، بل وجوديًا أيضًا. لم يتقدم الجنرال في السن جسديًا فحسب؛ لقد تبلور في تثبيت لحظة واحدة، لا يعيش في الحاضر ولكن في أنقاض حدث ماضي لم ينتهِ أبدًا بشكل كامل. إنه يريد، قبل كل شيء، أن يؤكد كونراد شكوكه، لأن الحقيقة وحدها هي القادرة على تبديد ألم الجهل.
- الصداقة والخيانة: لعبة الغموض؛ الصداقة بين هنريك وكونراد هي المحور الذي تدور حوله القصة بأكملها، لكن طبيعتها لم يتم الكشف عنها بالكامل أبدًا. لقد كانا لا ينفصلان في شبابهما، متحدين بتواطؤ بدا وكأنه لا يمكن كسره، حتى حدث ما فرقهما إلى الأبد. قد يشتبه القارئ في أن سبب الانفصال كان خيانة كونراد، وربما علاقة رومانسية مع كريستينا، زوجة هنريك. ولكن ماراي، في عبقريته، لم يؤكد هذه الفرضية صراحةً أبدًا، مفضلاً أن يترك لثقل الشك أن يجعل الصراع أكثر إيلامًا. الخيانة هنا ليست مجرد فعل؛ إنه مفهوم فلسفي، وإدراك شخصي يتضخم في وعي الشخص الذي يشعر بالخيانة.
تشير العلاقة بين الشخصيتين إلى ثنائية الطبقة والثقافة التي ميزت الإمبراطورية النمساوية المجرية. هنريك، ابن الطبقة الأرستقراطية، ينتمي إلى عالم من الشرف والتقاليد والقوة الموحدة. من جانبه، يأتي كونراد من خلفية أكثر تواضعا، وعلى الرغم من مشاركته تعليم صديقه وامتيازاته، فإنه يشعر دائمًا بأنه غريب عن مكانه، وأجنبي داخل النخبة. ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه دراما شخصية، يتخذ أبعادًا اجتماعية وسياسية أوسع: ترمز الصداقة بين الاثنين إلى وهم الوحدة التي تنهار عاجلاً أم آجلاً في مواجهة الاختلافات التي لا يمكن التوفيق بينها.
- الصمت والكلمة: جدلية الوحي؛ إذا كانت الرواية تركز على المونولوج الطويل لهنريك، فإن صمت كونراد له نفس الأهمية. إنه يستمع، ولكن نادرا ما يستجيب. يمكن تفسير صمته بعدة طرق: اعتراف ضمني بذنبه، أو ازدراء لهواجس صديقه، أو ما هو أعمق من ذلك، الوعي بأن أي تفسير لا يمكن أن يغير ما حدث بالفعل. وهكذا، يقلب ماراي منطق الخطاب: فغياب الكلمات يقول الكثير مثل كثرة الكلمات.
ويكشف هذا الصدام بين الكلام والصمت أيضًا عن قضية مركزية في السرد: قدرة اللغة على بناء وتدمير الحقائق. يعتقد هنريك أن تسمية الأزياء ستجلب شكلاً من أشكال التطهير، وأن الكلمات يمكن أن تنظم فوضى الماضي. ومع ذلك، فإن ماراي يجعلنا نتساءل عما إذا كان هذا التعبير اللفظي يحررنا حقًا أم أنه يؤدي فقط إلى إطالة الألم. إن خطاب هنريك ليس تحريرًا، بل هو سجن في تكرار الصدمة. وفي نهاية العمل، ما يبقى هو التردد - وهو سمة أساسية من سمات الوجود الإنساني.
- النار والرماد: استعارة للحالة الإنسانية؛ عنوان الرواية، "كالجمر"، ليس من قبيل الصدفة. يشير إلى فكرة النار التي كانت مشتعلة بشدة في السابق، لكنها الآن لا تبقى إلا كبقايا، كذكرى للنار. يتخلل هذا الاستعارة السرد بأكمله، ويرمز إلى الصداقة والمشاعر التي تنبع منها. لم يعد هنريك وكونراد شابين، ولم يعد لديهما الدافع للعمل؛ كل ما تبقى لهم هو فقط الحرارة المتبقية من الماضي الذي لم ينطفئ أبدًا بشكل كامل.
لقد ارتبطت النار في الأدب دائمًا بالعاطفة والدمار والتجدد. ولكن في حالة "كما الجمر"، فإنه لا ينير ولا يطهر - بل يستهلك ببطء فقط، ويترك وراءه دربًا من الرماد حيث ربما لا تزال هناك شرارات من الرغبة غير المشبعة في الحقيقة والفداء.
- الخلاصة: "كما الجمر" ليست مجرد رواية عن صداقة مأزومة أو أرستقراطية في حالة انحدار - إنها عمل حول استحالة الهروب من الماضي. هنريك وكونراد ليسا مجرد شخصيتين؛ إنهم رموز للحالة الإنسانية، سجناء ما كان في الماضي ولا يمكن تغييره أبدًا. الزمن بدلاً من أن يشفي الجروح، فإنه يزيدها عمقاً.
يتميز نثر ساندور ماراي بأناقته الصارمة ودقته الجراحية، ويلتقط ببراعة غموض المشاعر الإنسانية. تذكرنا روايته أن هناك أسئلة لن تجد إجابة أبدًا، وأن هناك آلامًا لا يذيبها الزمن، بل تتحول فقط إلى جمر يصر على الاشتعال، بصمت، حتى النهاية.
يقدم لنا ماراي في هذا العمل إحدى أجمل الرسائل المأساوية عن الذاكرة وفخاخها. إن قراءة رواية "كما الجمر" تعني مواجهة جوهر ما يعنيه أن تكون إنسانًا: وجود مليء بالشكوك، ويتسم بالخسائر التي لا يمكن تعويضها والصراع الأبدي بين الحقيقة والوهم. حقا أنها رواية خالدة عن مأساة الذاكرة. بل ان رواية "كما الجمر" لساندور ماراي: هي مبارزة متجددة بين الذاكرة والزمن. إن شئتم.
#أكد_الجبوري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إضاءة: ماريو فارغاس يوسا يكشف -الحقيقة المخفية- في أعمال همن
...
-
خلاصة كتاب: كتاب - الليالي الزرقاء- بقلم جوان ديديون -- ت: م
...
-
خلاصة كتاب: كتاب - الليالي الزرقاء- بقلم جوان ديديون - ت: من
...
-
أصل التخلف وفقًا لثيودور أدورنو/ الغزالي الجبوري - ت: من الأ
...
-
إضاءة: /-الأباء والبنون- لإيفان تورغنيف/ إشبيليا الجبوري - ت
...
-
بإيجاز؛ الفكرة المدهشة والهاوية / إشبيليا الجبوري - ت: من ال
...
-
بإيجاز؛ تشيخوف.. قدوة القصة/ إشبيليا الجبوري - ت: من اليابان
...
-
أصل الغباء وفقًا لثيودور أدورنو/ الغزالي الجبوري
-
قصة: -الموت الآخر- / بقلم خورخي لويس بورخيس - ت: من الإسباني
...
-
-الملل أمل المغامرة الممكنة - بحسب فرانكو بيراردي - ت: من ال
...
-
-الانهيار المالي يحدد الملموس والمفيد- بحسب فرانكو بيراردي/ا
...
-
بإيجاز؛ -الإنسان: جثة منتجة-/ إشبيليا الجبوري
-
قصة قصيرة -الرفاق-/ بقلم مكسيم غوركي - ت: من الإنكليزية أكد
...
-
بإيجاز؛ -الإنسان: جثة منتجة-/ إشبيليا الجبوري - ت: من اليابا
...
-
إضاءة: العبث الوجودي في -مذكرات رجل فائض- لإيفان تورغينيف/ إ
...
-
مراجعة كتاب: -التأويل بين التاريخ والفلسفة- لهانز جورج غادام
...
-
أناقة الروح/ بقلم بابلو دي روخا
-
بإيجاز: وجودية -عقل راسكولينكوف الاخلاقي-/ إشبيليا الجبوري -
...
-
مراجعات: مراجعة كتاب: -التأويل بين التاريخ والفلسفة-
-
بإيجاز: وجودية -عقل راسكولينكوف الاخلاقي
المزيد.....
-
انطلاق الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائي وسط رسائل إ
...
-
منة شلبي تتعرض لموقف محرج خلال تكريمها في -الجونة السينمائي-
...
-
معرض الرياض للكتاب يكشف ملامح التحوّل الثقافي السعودي
-
كتارا تطلق مسابقة جديدة لتحويل الروايات إلى أفلام باستخدام ا
...
-
منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة تحتفي بأسبوع
...
-
اختيار أفضل كلمة في اللغة السويدية
-
منها كتب غسان كنفاني ورضوى عاشور.. ترحيب متزايد بالكتب العرب
...
-
-دليل الهجرة-.. رحلة جاكلين سلام لاستكشاف الذات بين وطنين ول
...
-
القُرْنة… مدينة الأموات وبلد السحر والغموض والخبايا والأسرار
...
-
ندوة في اصيلة تسائل علاقة الفن المعاصر بالمؤسسة الفنية
المزيد.....
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|