صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8240 - 2025 / 2 / 1 - 10:17
المحور:
الادب والفن
مقامة الحريق :
يقول الجاحظ : (( الكتاب نعم الذّخرُ والعُقدة , ونعم الجليس والعُدَّة , ونعم النشرة والنزهة , ونعم المشتغل والحرفة , ونعم الأنيس لساعة الوحدة , ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة , ونعم القرين والدخِيل , ونعم الوزير والنزيل , والكتابُ هو الذي إنْ نظرتَ فيه أطالَ إمتَاعَك , وشحَذَ طباعَك , وبسَط لسانَك , وجوَّدَ بَنانك , وفخَّم ألفاظَك , وبجَّح نفسَك , وَعمَّر صدرك , ومنحكَ تعظيمَ العوامِّ , وصَداقَةَ الملوك , وعَرفتَ به في شهرٍ ما لا تعرفُه من أفواهِ الرجال في دهْر, مع السلامةِ من الغُرم , ومن كدِّ الطلب , ومن الوقوفِ بباب المكتِسب بالتعليم , ومِن الجُلوس بين يَديْ مَن أنت أفضلُ منه خُلُقاً , وأكرمُ منه عِرْقاً , ومع السلامةِ من مجالَسَة الْبُغَضاء ومقارنةِ الأغبياء , غبرَ على الناس زمانٌ كان الكتاب ملءَ سمعهم و بصرهم , يُمتّعهم في الخلوة , و يُؤنسهم في الوحشة , يجلو أفهامهم , و يذكي قلوبهم , يصاحبهم في الغربة ويسرّي عنهم في الكُربة , فلا غرو أن صرفوا إليه همّهم , واستفرغوا في تحصيله مجهودهم , و أقاموه مُقام الزّوجة والمال والولد , بل مقاماً أجلَّ وأسمى , وأشرف و أنبل )) .
أذا كان هذا الكتاب , فلم الحريق ؟ لعله قول د . رشيد خيون : ((المعرفيات الكبرى كانت مثار قلق الخلافة دائما )) , وهناك من يرى (( أنَّ القوى الظلامية لا تتكيف مع مجتمعات مستنيرة تعطي للمعرفة دورها )) , والعرب يدمرون الكتب ويرتكبون خطيئة إبادة الكتب فى كل الثقافات , ولا يمكن أن ننكر ذلك فقد كانت المؤلفات مصدر إزعاج للبعض خاصة للسلطات , والثقافة العربية كان لها نصيب كبير من التعامل مع الكتب , وعلى مر العصور تعرضت المعرفة الإنسانية لهجمات عديدة استهدفت محوها , وأتت نيران الجهل على العديد من المكتبات والسجلات والمخطوطات منذ الأزمنة القديمة وحتى العصر الراهن .
يقول المؤرخ العراقي الدكتور عبد الرحمن الحجي : (( إنه بعد سقوط الأندلس أمرت السلطات الإسبانية الجديدة عبر التهديد والوعيد ومحاكم التفتيش السكان المسلمين بتسليم ما لديهم من الكتب والمخطوطات , وأن عملية جمع الكتب استمرت 7 سنوات , وبعد ذلك أُحرقت الكتب والمخطوطات التي تم جمعها في غرناطة في منطقة باب الرملة , وقَدر كثير من الدارسين الغربيين ما تمّ إحراقه ذلك اليوم بمليون مخطوطة)) , كما إن بيت المعرفة الذي بناه في عام 991م الفارسي صبور بن أردشير كان يحتوي على أكثر من 10 آلاف مجلد عن مواضيع علمية , لكنه دُمر في منتصف القرن العاشر , ثم جاءغزو تيمورلنك (1239-1400م) , حيث هدم بغداد وأحرق مكتباتها , يقول الباحث العراقي الدكتور عبد الأمير زاهد الأستاذ بجامعة الكوفة : (( إنه بعد غزو المغول لبغداد 1258م- 656هـ حدث الإحراق لأسباب التفاوت الفكري بين جماعات المغول المحتلة وأهل البلاد المحتلة , إذ أن بغداد كانت عاصمة لديها تاريخ طويل في إنتاج العلوم , لذلك أحرق المغول مكتباتها )) , ولا سيما مكتبة بيت الحكمة في بغداد , وهي أكبر مكتبة في العالم , حيث رمي أطنان الكتب والمراجع في النهر حتى اصطبغ باللون الأحمر.
لنأخذ مثالا , أبو حيان التوحيدي , المثقف المحاصر المأزوم بنكهة وجودية , والذي يعتبر نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي (المتمرد) في القرن الرابع الهجري , والذي قال عنه ابن خلدون (( إنه إمام المدونين في علم الكيمياء , حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر , وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز)) , وقال عنه أبو بكر الرازي (( إن جابرا من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء )) , فيما قال عنه القفطي (( إنه كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة الكيمياء )) , وقيل فيه أيضا إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق وإنه هو أول من علم علم الكيمياء للعالم , والمؤلم أن التوحيدي الذي ألف (الإمتاع والمؤانسة ) , و( المقابسات ) , و(البصائر والذخائر) , أحرق كتبه في أواخر عمره ضنّا بها على من لا يقدّرها بعد وفاته , واشتكى من تجاهل إبداعاته ومن الفقر وقلة الرزق , وكتب لأحد أصدقائه يبين له أنه ليس أول من أحرق كتبه (( فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم)) , أبرزهم سفيان الثوري , الذي مزق كتبه وطيّرها في الريح , وأبو عمرو بن العلاء الذي دفنها في باطن الأرض بلا أثر باق , وداود الطائي الذي طرح كتبه في البحر وقال يناجيها : (( نعم الدليل كنت , والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول , وبلاء وخمول )) , وأبو سليمان الداراني الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال : (( والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك )) ,وذكر جلال الدين السيوطي في (( طبقات اللغويين والنحاة )) : (( أن أبا حيان التوحيدي أحرق كتبه لمّا انقلبت به الأيام ووجد أنها لم تنفعه , فجمعها وأحرقها ولم ينج منها غير ما نقل أو تم نسخه قبل إحراقها)) , وروى التوحيدي عن شيخه أبي سعيد السيرافي الذي لقب بـ( سيد العلماء) , أنه قال لولده محمد : (( قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل , فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار)) ,ما يعني أن التوحيدي عاش مهمشا مغتربا كحال مثقفي هذا الزمان الأصلاء.
هناك زوجاتٌ أحرقن مكتبات أزواجهن ,هذا سيبويه , أحرقت زوجته كتبه , لأنه كان يشتغل عنها بتأليف أعجوبته ( الكتاب ) , ولما علم بذلك غُشي عليه , فلما أفاق طلّقها , والليث بن المظفر , كان مشتغلًا عن زوجته بحفظ كتاب (العين) للفراهيدي , فغارت زوجه من الكتاب , فأحرقته , والأمير محمود الدولة الآمري , كان يقتني الكثير من الكتب , فلما مات كانت زوجته تندبه و ترمي بالكتب في بركة ماء وسط الدار , لأنه كان يشتغل عنها بهذه الكتب , وإبراهيم العياشي , قضى 20 سنة في تأليف كتاب (حجرات النساء) , فأغاظ ذلك زوجه لٱنشغاله عنها كثيرًا , فأحرقت الكتاب , فأُصيب بالشلل , ومحمد بن شهاب الزُّهْري , قالت له زوجُه يومًا : و اللهِ لَهذه الكتب أشدُّ عليّ من ثلاث ضرائر , و يقال بأن ٱبن الجوزيّ أحرق كتبه بإيعاز من أمه .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟