أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حوا بطواش - الحياة بعد جدّتي














المزيد.....

الحياة بعد جدّتي


حوا بطواش
كاتبة

(Hawa Batwash)


الحوار المتمدن-العدد: 8220 - 2025 / 1 / 12 - 00:11
المحور: الادب والفن
    


كان لجدّتي وجودٌ مميّزٌ دومًا في حياتي، رغم قلّة زياراتي إليها في السنوات الأخيرة، وانحصار كلامها إليّ بهموم زمانٍ قد غبر، لكنّ وجودها كان دومًا حاضرًا في حياتي. اعتدتُ الحياة بوجود جدّتي.
جدّتي لم تكُن صغيرة.
رغم صغر حجمها، قصر قامتها، وقلّة حديثها، كانت كبيرة. كبيرة بأخلاقها، وقضت معظم حياتها في الوضوء والصلاة وقراءة القرآن.
جدّتي لم تكُن فقيرة.
رغم أنّ زوجها، جدّي، لم يكُن سوى مزارع بسيط ومكافح طوال حياته، كانت غنيّة. غنيّة بنفسها. فقد عاشت مع زوجها، أولادها وبناتها، ومع زوجات أولادها في بيتٍ صغيرٍ وبسيط، لم أعرف في حياتي بيتًا تليق به صفة عامر أكثر من ذلك البيت.
فيه وُلدتُ لأبي الذي كان أكبر أولادها، وأمّي التي تزوّجها دون تخطيط، ثمّ وُلدتْ من بعدي أختي التي تصغرني بثلاث سنوات. كبرتُ وترعرعتُ في ذلك البيت، وتلك العائلة الكبيرة، في غرفةٍ من غرف البيت القليلة. ولكنّني، ومنذ تفتّح وعيي، لم أكُن أنام في تلك الغرفة مع أبي وأمّي وأختي الصغيرة، بل كنتُ أنام على سريرٍ بالقُرب من سرير جدّتي. وكانت تُحفظني كلّ مساء قبل نومي سورًا من القرآن، ولا تنسى أن تسدل إليّ النصائح.
جدّتي لم تكُن بسيطة.
رغم بساطة حالها، وقلّة إمكانيّاتها، كانت ذكيّة. كانت تقرأ القرآن باللغة العربيّة، دون أن تفهم شيئًا، والأدعية الدينيّة باللغة الشركسيّة المكتوبة بالأحرف العربيّة، وكانت تحفظ الكثير من سور القرآن ومن الأمثال الشعبيّة التي كانت تردّدها خلال حديثها بلغتنا الشركسيّة، وبقيت تحتفظ بصفاء ذهنها حتّى آخر يوم من حياتها.
جدّتي لم تكُن ضعيفة.
رغم ضعف سمعها في سنواتها الأخيرة، لكنّها بقيت قويّةً بإيمانها، سلامها واطمئنانها، بصدقها وراحتها النفسيّة، بأولادها وبناتها، أحفادها وحفيداتها وأولاد أحفادها وحفيداتها، كانت سعيدةً لرؤيتهم كلّهم من حولها. وكانت بشوشةً، لا تفارق الابتسامة وجهها. انتصرت على مصاعب الحياة وظلّت صامدة.
منذ سنوات، عندما كان سمعهُا ما زال يسمح بالتحدّث معها، جلستُ إلى جانبها، وكان جدّي أيضًا معنا، جالسًا بقربنا، حدّثتني جدّتي، واسمها عائشة بطواش، أنّ والدها، إسحاق دزل، هاجر من تركيا إلى أرض فلسطين مع عمّه، سمكوف دزل، حين كان صبيًّا صغيرًا، خلال تهجير الشركس من وطنهم القفقاس على يد روسيا، أواخر القرن التاسع عشر. حيث كان يتيم الأم، وتزوّج والده في تركيا بعد وفاة أمّه من امرأة عربيّة، وعندما اضطرّ الشركس للهجرة مرّةً أخرى من تركيا إلى بلاد الشرق الأوسط، بقي والده مع زوجته الجديدة في تركيا ولم يهاجر معهم، فلم يلتقيا بعد ذلك أبدًا، وكانت له أختٌ تدعى «الحاجة عائشة»، وقد هاجرت معهم أيضًا إلى أرض فلسطين مع زوجها.
كان والدها، إسحاق، قصير القامة، بشرته فاتحة، جسمه نحيلٌ، شعره أبيض وله لحية. تزوّج من والدتها، زهيدة تحاوخو، في زمن الحكم العثماني، وانتقلت العائلة للسكن في سمخ، بالقرب من بحيرة طبريا، عندما كانت جدّتي ما تزال بنتًا صغيرة لا يتعدى عمرها السادسة من العمر، حيث عمل والدها في «الدرمن». وبقيت العائلة تسكن هناك مدّة سبع سنوات، وكانوا خلالها يأتون إلى بيتهم في قرية كفر كما من وقتٍ إلى آخر.
كان والدها إسحاق يشكو دائمًا من آلام في البطن، ولا يستطيع الأكل ولا النوم في الليل من شدّة الألم. وفي الصباح، كان يقوم إلى عمله، ويعود مساءً إلى البيت، وهو ما يزال يشتكي من الألم، وعندما كان يأكل... يزداد تألّمه. تدخّل جدّي هنا إلى حديثها، قائلا: «لو كان ذلك اليوم كانوا سيجدون له علاجًا فيشفى».
وهكذا بقي حاله، إلى أن توفّته المنيّة في سنوات الثلاثين من القرن الماضي، وكان يبلغ من العمر حوالي ستّين عامًا. أعيد جثمانه إلى القرية ودُفن فيها.
بعد ذلك، عادت العائلة إلى القرية.
أمّا والدتها، زهيدة علي تحاوخو، فقد وُلدت في القرية. والدها، علي، هاجر إلى فلسطين من تركيا، وكان يقول: «سبع مرّات هاجرنا من مكان الى آخر، فكيف سنصبح عائلة؟» وكانت لها أختٌ تُدعى حوا، سمّتني جدّتي على اسمها حين وُلدتُ، بطلبٍ من والدَي لاختيار اسم لي. كانت زهيدة فاتحة البشرة، عيناها بنّيّتان، قامتها قصيرة وجسمها ممتلئ مثل جدّتي، وكانت طيّبة القلب، أمينة ومحترمة، وكانت ماهرة في طبخ «حجغبس باستا» (أكلة شركسية مشهورة).
أنجبت أولا بنتًا وثلاثة أولاد، وجميعهم ماتوا. ثم أنجبت بناتها الثلاث، فاطمة، عائشة وحنفة، ثلاث بناتٍ صغيرات كنّ آخر العنقود. وكانت زهيدة تقول دومًا: «لقد وُلدن لي في الآخر، فماذا سأفعل بهن؟»
لكنّ الموت غيّب الأولاد الثلاثة، كما غيّب البنت الأولى، وبقيت البنات الثلاث الصغيرات، وهنّ من قُمن بكلّ شيءٍ بعد وفاة والدهن.
جدّتي كانت في العادة تعجن، تخبز وتطبخ. وكانت تقول دائما: «سأفعل أيّ شيء إلا أن أجلب الماء». كانت تكره ذلك.
فاطمة كانت تجلب الماء كلّ يوم من بئر «شوكن» كما كانوا يسمّونها، أمّا حنفة فقد كانت لها يدان سريعتان جدًّا. كانت تُنهي عمل «مكؤوي» للحجاب خلال ثلاثة أيّام فقط، وكانت ماهرة في الخياطة والحياكة وخبيرة في الأزرار.
كان بيتهنّ يتألّف من مطبخ وغرفة كبيرة، تسكن فيها البنات الثلاث مع الأم. وكانت البنات يعملن لمعيشة العائلة في الزراعة، تربية الدواجن والخياطة.
توفّيت زهيدة في المستشفى بعد وقتٍ قصيرٍ من إجراء عمليّة جراحيّة لها في عينها، وكانت في الثمانين من عمرها تقريبًا.
وجدّتي عاشت قرنًا بأكمله، عايشت الحروب كلّها، تعايشت مع الظروف وأبت أن يقهرها السرطان مرّتين.
لكنّ الموت يطارد كلّ حيّ... ويأتي من حيث لا نحتسب، دون سابق إنذار.
ماتت جدّتي منذ أيّام، جميلةً، سالمةً، مطمئنّةً، لتبقى ذكراها خالدةً في ذهني وصورتُها محفورة في قلبي ووجداني، وتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ من حياتي... بلا جدّتي.
أتساءل: ما الموت؟
هل هو غياب الجسد عن هذه الحياة؟ أم هو انتهاء حياة؟
الموت فراق... وغياب... وانتهاء... وابتداء.
.

كفر كما/ الجليل الأسفل 11.1.2025



#حوا_بطواش (هاشتاغ)       Hawa_Batwash#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صدور كتابين نقديين جديدين للدكتورة الناقدة جهينة عمر الخطيب
- خواطر عن الوقت
- رسالة إلى أمّي
- صناعة السّعادة
- شكرا، خصوصية وغضب
- «أجنحة الذّاكرة» لحظاتٌ من الانكشاف والاكتشاف
- شيءٌ عن الحياة الثقافيّة في الناصرة
- قراءة في رواية (إلى أن يزهر الصّبّار) - ريتا عودة
- أمسية أدبية للكاتب ناجي ظاهر في مؤسّسة تنوير في حيفا
- إضاءة على (بعد أن كبُر الموج)
- أماني 6
- أماني 5
- أماني 4
- أماني 3
- أماني 2
- أماني 1
- مسرحجي حدث ثقافي يجب دعمه
- جميلة
- الحمرة الفاقعة
- المرأة الأخرى


المزيد.....




- شعوذة.. طموح.. حب.. موسيقى وإثارة.. 9 أفلام تعرض في سبتمبر
- قصة ملك ليبيا محمد إدريس السنوسي الذي أطاح به القذافي
- كيف أصبح مشروب شوكولاتة للأطفال رمزا للاستعمار الفرنسي؟
- المخرج الأميركي جارموش مستاء من تمويل صندوق على صلة بإسرائيل ...
- قطر تعزز حماية الملكية الفكرية لجذب الاستثمارات النوعية
- فيلم -ساحر الكرملين-.. الممثل البريطاني جود تدرّب على رياضة ...
- إبراهيم زولي يقدّم -ما وراء الأغلفة-: ثلاثون عملاً خالداً يع ...
- النسخة الروسية من رواية -الشوك والقرنفل- تصف السنوار بـ-جنرا ...
- حين استمعت إلى همهمات الصخور
- تكريم انتشال التميمي بمنحه جائزة - لاهاي- للسينما


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حوا بطواش - الحياة بعد جدّتي