أشرف عبدالله الضباعين
كاتب وروائي أردني
(Ashraf Dabain)
الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 22:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
نسخ كتابات المؤرخ يوسيفوس
الجزء الثاني
إننا نعلم علم اليقين أن عملية التدوين جاءت متأخرة في التاريخ البشري وبعد اختراع الكتابة بفترة طويلة جدًا، وأن عدد الكُتّاب في الزمان القديم -على عمومية الجملة- كان قليلا، وأن القليل منهم -أي الكُتّاب- استطعنا الوصول لشذرات من كتاباتهم أو علومهم وليس كلها، وغالبًا ما تم نقل بعض آراء وأفكار ومعرفة وتاريخ شخص أو أكثر عن طريق عدوٍ له دونها في سبيل الرد عليه، أو تدوين انتصاراته عليه، أو حتى الكتابة الأدبية أو في تلك العلوم البدائية أو التدوين عن القادة والملوك والآلهة والشعوب والقبائل، والتدوين عن الديانات والأساطير والحروب والفنون وغيرها .
بعض الكتب نجت من الإندثار عبر وسيلة النسخ. فقد وصلتنا العديد من الكتب بطريقة التواتر ومع الزمن فقدنا الأصل وبقيت النسخة وبهذا الصدد لا بد أن نشير إلى نقاط محددة:
أولا: قد تكون النسخ التي لدينا من الكتب أصلا نسخ مترجمة وليست أصل الكتاب وبلغته الأم، وعند الترجمة قد يُفقد المعنى والمقصد والفهم والمفهوم ويسقط النص في التأويل والهرمنيوطيقا والآراء التي قد تتباين كثيرًا أو قليلا. واذا أردنا الاستطراد بهذا الأمر فإن الناسخ عندما استطاع الحصول على أصل أو نسخ أخرى من المخطوط لاحظ أن هناك كتابات بخط مختلف ولون مختلف أو بنفس الخط وأحيانًا لا يستطيع الجزم بأنه إضافة من كاتب النص الأصلي تمت لاحقًا أو من شخص آخر، وأن هذه الإضافة تمت فوق أو تحت سطور النص أو على الهامش! وهنا يكون الناسخ في حيرة من أمره هل ينقل السطور فقط دون الإضافات التي فوق أو تحت أو على الهامش.
ثانيًا: أن النسخ وإن قُصِد به نَقَلَ الكتب أو الوثيقة، وإَعادَ كِتابَتَها عبر النُّسَّاخُ قَدِيماً وبخط يديهم على ما يستطيعون من مواد يختلف عن علم التدوين، وأن النسخ يقصد به نقل الكتاب بحذافيره، لكن يكاد لم يصلنا نص قديم إلا وتم العبث به.
ثالثًا: لا يقصد بالنسخ دومًا الجانب السلبي فالنسخ بحد ذاته قدم لنا معلومات قيمة عن العالم القديم وتاريخه وطرق تفكير الأمم وكيف نمت وتطورت وكيف اندثرت بالإضافة لتاريخ الحروب والسلام والممالك وأساليب التجارة والصناعة والزراعة والطب والهندسة والفلك والديانات ... الخ. وأحيانًا الناسخ للنص الأصلي يقدم توضيحًا عن شيء مبهم في النص.
رابعًا: على ما يبدو كان التعديل خلال عملية النسخ شيئًا عاديًا حتى فترة ما قبل ظهور الطباعة، لذا تبدو الكثير من المخطوطات التي وصلتنا فيها تعديلات.
خامسًا: أحيانًا كانت تتم عملية النسخ بطريقة المسح الكامل وإعادة الكتابة مجددًا على الورق أو المواد المستخدمة، وليس بالضرورة أن يتم التدوين على الورق الممسوح والمعاد استخدامه نفس النص القديم، بل نصًا آخر مختلف، لكن العلم الحديث استطاع أن يكشف لنا تلك الكتابات الممسوحة دون أن تتعرض الكتابة اللاحقة لأي تدخل بشري آخر فالعلم الحديث ينظر للنصين القديمين وعلى كون كلاهما مهم. والسبب في إعادة استخدام ورق المخطوط هو أن صنع المخطوطة كان أمرًا مكلفاً، ويحتاج لوقت، لذلك تم مسح الأوراق في بعض الأحيان وإعادة استخدامها للكتابة مرة أخرى، والنص الممسوح كان عادةً غير مرئي للعين المجردة، لكن استخدام ترددات من طيف الضوء يمكن أن يضيء الكتابة الأولية ويزيل النص المرئي.
سادسًا: أن النسخ التي وصلتنا قد تكون عن نسخٍ أخرى وليس عن الأصل مباشرة. أي نسخ عن نسخة عن نسخة وهكذا.
بعد هذه المقدمة الضرورية عن الأصل والنسخ للمخطوطات بشكل عام، نستطيع أن ندخل الآن في تفاصيل الشهادة الفلافية:
نعلم أن الشهادة الفلافية التي وردت في تاريخ يوسيفوس فيها جدل كبير حيث أن هناك ثلاث آراء بهذا الخصوص، الأول يرفض الشهادة الفلافية كليًا ويعتبرها تزويرا أضيف إلى النص الأصلي، الثاني يقبل الشهادة الفلافية كما هي، والثالث فيعتبر ذكر يسوع في الكتاب موثوق به، لكن أحد الناسخ المسيحيين أضاف للنص ما يشير إلى أن يسوع هو المسيا.
أما النص الذي وصلنا والمسمى بالشهادة الفلافية فهو:
كان في ذلك الوقت يسوع، رجل حكيم، إذا كان من المشروع أن ندعوه رجلاً، كان فاعلاً لأعمال رائعة معلما لرجال يقبلون الحق. جذب إليه العديد من اليهود، والعديد من اليونانيين. كان المسيح. وعندما حكم عليه بيلاطس بالصلب، بإيعاز من المسئولين بيننا، لكن الذين أحبوه لم يتخلوا عنه، لأنه ظهر لهم حياً مرة أخرى في اليوم الثالث، كما تنبأ الأنبياء عن هذه الأشياء وآلاف أخرى من الأشياء الرائعة المتعلقة به، ودعيت طائفة المسيحيين على اسمه، ولم ينقرضوا حتى هذا اليوم. (العاديات اليهودية، ١٨، ٣، ٣).
لكن منذ القرن السادس عشر، أُثير جدل بين الذين يقرّون بمصداقية الشهادة الفلافية والذين يشككون في أن يوسيفوس هو من كتبه.
يعتقد بعض الباحثين أن النص الأصلي هو:
الآن، كان في ذلك الوقت يسوع، رجل حكيم، كان فاعلاً لأعمال رائعة. جذب إليه العديد من اليهود، وعديد من اليونانيين. وعندما حكم عليه بيلاطس بالصلب، بإيعاز من المسئولين بيننا، الذين أحبوه لم يتخلوا عنه، ودعيت طائفة المسيحيين على اسمه، ولم ينقرضوا حتى هذا اليوم.
ما الذي يدعم نظرية التدخل في كتابات يوسيفوس؟
1- أن أوريجانوس وهو من أهم علماء ومفكري الكنيسة في القرن الثالث الميلادي ولكن حكم عليه بالهرطقة لاحقًا، وكان على علم ومعرفة واطلاع بأعمال يوسيفوس وكان يقتبس منها في كتبه لم يشر للنص ولم يشر لكون يوسيفوس مسيحيًا أو اعترف بأن يسوع هو المسيح، كذلك لم يشر أي من كُتاب وآباء وعلماء الكنيسة في القرون الثلاث الأولى للشهادة.
2- أن أول ذكر لهذه الشهادة وردت في أعمال يوسابيوس القيصري (تاريخ يوسابيوس) في القرن الرابع الميلادي، لذلك يعتبر العديد من العلماء أن يوسابيوس هو من أجرى التعديل على النسخة التي لديه من كتاب يوسيفوس وأنه نظرًا لأهمية كتاب تاريخ الكنيسة انتشرت الشهادة الفلافية مع انتشار كتاب يوسابيوس القيصري.
3- من المهم والضروري أن نُشير إلى أن يوسابيوس اسقف قيصرية فلسطين ورث عن معلمه بامفيليوس أو بمفيليوس مكتبة مهمة من المخطوطات التي أنشأها بمفيليوس، ويبدو أنها ضمت الآف من المخطوطات والكتب القديمة ويقال أن هذه المكتبة كانت تحوي على عدد من مؤلفات أوريجانوس، ورغم كما قلنا سابقًا أنه لم يذكر المؤرخون نصًا لأوريجانوس يذكر فيها الشهادة لكن -وهذا تحليلي الشخصي فقط- يعتقد أن الشهادة الفلافية التي وردت في تاريخ أوسابيوس مأخوذة من نسخة وجدت في مكتبة بمفيليوس. فالسؤال هل من الممكن أن بمفيليوس هو من أدخل هذا النص؟
4- إن الشكل الدقيق ومدى الإضافة المسيحية على الشهادة الفلافية ما تزال غير واضحة، وأن التحليل جاء بناءً على رأي الأغلبية العظمى من العلماء والسبب أنه لا توجد مخطوطات معروفة لأعمال يوسيفوس يمكن تأريخها قبل القرن الحادي عشر، حيث نسخ الرهبان المسيحيون أقدم المخطوطات الباقية حتى الآن، وأن أحد أسباب نسخ المسيحيين لأعمال يوسيفوس واحتفاظهم بها هو أن كتاباته قدمت قدرًا كبيرًا من المعلومات عن عدد من الشخصيات المذكورة في العهد الجديد، وخلفية أحداث مثل وفاة يعقوب أخو الرب وقطع رأس يوحنا المعمدان بينما لم يحتفظ أو ينسخ اليهود كتابات يوسيفوس، لأنه كان يُعد خائنًا من جهة ولأن أعماله كانت متداولة باللغة اليونانية من جهة أخرى.
#أشرف_عبدالله_الضباعين (هاشتاغ)
Ashraf_Dabain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟