إضاءة: -مقبرة براغ- لأومبرتو إيكو/إشبيليا الجبوري - ت: من الألمانية أكد الجبوري

أكد الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 13:04
المحور: الادب والفن
    

نُشرت رواية ("مقبرة براغ") عام 2010، وهي واحدة من أكثر أعمال أومبيرتو إيكو (1932 - 2016) استفزازية، حيث يجمع المؤلف بين مهاراته السردية والتفكير النقدي في آليات التلاعب بالتاريخ، واختلاق الأكاذيب السياسية، والقوة المدمرة للغة. يتناول العمل موضوعات مثل معاداة السامية، ونظريات المؤامرة، واختلاق السرديات التي تشكل الواقع، والتساؤل حول الحدود بين الحقيقة والخيال في عالم يتميز بالجشع والتلاعب الإيديولوجي.

- الحبكة والسياق التاريخي؛
البطل، سيموني سيمونيني، مزور وجاسوس ومتآمر، وشخصية منفرة أخلاقياً تصبح النموذج الأصلي للمتلاعب التاريخي. يعيش في القرن التاسع عشر، وهي فترة من التحولات السياسية والاجتماعية المكثفة، ويلعب دورًا أساسيًا في إنشاء وثائق مزيفة تغذي نظريات المؤامرة وتخدم مصالح قوى مختلفة.

يشير العنوان إلى "مقبرة براغ" الخيالية، وهو المكان الذي كان من المفترض أن يعقد فيه اجتماع سري لقادة يهود للتخطيط للهيمنة على العالم، وفقًا للبطل، وهي الفكرة التي بلغت ذروتها في بروتوكولات حكماء صهيون سيئة السمعة. وبينما تستكشف الرواية شخصيات وأحداثًا خيالية، تتشابك رواية إيكو مع الحقائق التاريخية، وتعيد خلق مشهد حيث يخلط الكذب المتعمد بين الواقع.

- بناء البطل؛
سيمونيني هو أحد أكثر إبداعات إيكو إزعاجًا. إنه راوي غير موثوق به، يتميز بنظرة عالمية ساخرة ومتحيزة للغاية. شخصيته الحقيرة - كارهة للنساء، وكارهة للأجانب، ومعادية للسامية، وفاسدة أخلاقيًا - هي أداة سردية يستخدمها إيكو لكشف العفن الإيديولوجي الذي تغلغل (ولا يزال يتغلغل) في الخطاب السياسي والاجتماعي.
البطل هو أيضًا تجسيد للتلاعب التاريخي: مهارته في اختلاق وثائق مزيفة تجعله نموذجًا أصليًا لمنشئ السرديات التي تشكل مسار الأحداث. من خلاله، يتأمل إيكو كيف يمكن للأفراد عديمي الضمير التأثير على الجماهير بأكملها من خلال نشر الخوف والتضليل.

- التلاعب بالتاريخ وسرديات المؤامرة؛
أحد الموضوعات الرئيسية في مقبرة براغ هو بناء نظريات المؤامرة كأدوات للسيطرة والقمع. يوضح إيكو كيف تصبح هذه السرديات، على الرغم من زيفها الواضح، قوية عندما تستأنف المخاوف والتحيزات الموجودة بالفعل في المجتمع.

تُستخدم بروتوكولات حكماء صهيون، على الرغم من الاعتراف بأنها زائفة، في العمل كرمز للقوة المدمرة للمؤامرات المختلقة. يكشف إيكو كيف يمكن استخدام الوثائق المصطنعة لتبرير الاضطهاد والفظائع، واستكشاف هشاشة الحقيقة في عالم يفضل فيه الناس تصديق ما يعزز وجهات نظرهم الخاصة للعالم بدلاً من البحث عن الحقائق.

كما ينتقد العمل الميل البشري إلى البحث عن تفسيرات تبسيطية للأحداث المعقدة. ففي عالم إيكو، تعمل نظريات المؤامرة كإجابات سهلة على القلق الاجتماعي والسياسي، وتقدم وهمًا بالنظام في عالم فوضوي. ومع ذلك، فإن هذا السعي إلى النظام خطير، لأنه غالبًا ما يؤدي إلى استبعاد وتشويه سمعة "الآخر".

- التناص والتأمل الفلسفي؛
كما هي الحال مع جميع أعمال إيكو، فإن مقبرة براغ مليئة بالتناص. تحاور الرواية مع نصوص تاريخية وفلسفية وأدبية، مثل أعمال فولتير ودوما وألكسندر هيرزن، وكذلك مع وثائق حقيقية وخيالية. هذه الطبقة من المعرفة ليست زخرفية فحسب؛ بل إنها تعزز الحجة المركزية للعمل: التاريخ ليس مسجلاً فحسب، بل إنه مُصنّع أيضًا.

يستخدم إيكو التناص لطرح سؤال حول دور اللغة في بناء الواقع. الكتابة، سواء في الوثائق الرسمية أو الأدب، ليست محايدة. إنها تمتلك القدرة على تشكيل الإدراكات، والتلاعب بالجماهير، وإدامة أنظمة القمع. بطلة الرواية، باعتبارها مزيفة، هي رمز لقدرة اللغة على خلق الحقيقة والكذب.

- غموض الحقيقة؛
إن إحدى أكثر القضايا استفزازية التي أثارها إيكو هي هشاشة الحقيقة في عالم حيث التلاعب منتشر. تتحدى الرواية القارئ للتمييز بين الحقيقة والخيال، مما يجبره على مواجهة ثقته في "الحقيقة" التاريخية.

يتم تضخيم هذا الغموض من خلال البنية السردية. تُروى القصة من خلال مذكرات سيمونيني، لكنها تتضمن أيضًا تدخلات من قبل "رئيس الدير دالا بيكولا"، الذي يظل دوره كأنا بديلة أو شخصية مستقلة غير مؤكد. تعمل هذه التعددية في الأصوات ووجهات النظر على تفكيك أي فكرة عن السرد الخطي أو الموضوعي، مما يعكس تعقيد التاريخ نفسه.

- نقد معاداة السامية وإزالة الإنسانية؛
إن مقبرة براغ هي أيضًا نقد شرس لمعاداة السامية وإزالة الإنسانية التي تروج لها. لا يندد إيكو بالأهوال التاريخية التي تسببها هذه الأيديولوجية فحسب، بل يكشف أيضًا عن كيفية استمرارها من خلال روايات المؤامرة. يُظهر العمل كيف يتم تنمية التحيز وإضفاء الطابع المؤسسي عليه، مما يغذي الكراهية الجماعية ويؤدي إلى العنف والإبادة الجماعية.

من خلال الكشف عن الأصول التاريخية للأساطير مثل بروتوكولات حكماء صهيون، يحذرنا إيكو من مخاطر تجاهل أصل وتأثير الأكاذيب السياسية. يقترح أن التهديد الحقيقي للحضارة لا يأتي من المؤامرات الفعلية ولكن من الإيمان الجماعي بالمؤامرات المصطنعة.

- الفكاهة... والسخرية؛
على الرغم من نبرتها الجادة، فإن مقبرة براغ مشبعة أيضًا بالفكاهة والسخرية. يستخدم إيكو هذه العناصر لتسليط الضوء على نفاق وعبثية الأيديولوجيات التي تنتقدها. سيمونيني، على سبيل المثال، غريب الأطوار إلى الحد الذي يجعله يبدو كوميديًا في فظاظته، وهذه المبالغة تجبر القارئ على التفكير في عدم عقلانية الأحكام المسبقة التي يجسدها.

- الخلاصة؛
مقبرة براغ هو عمل لا يتطلب من القارئ الاهتمام بالتفاصيل فحسب، بل وأيضًا الاستعداد لمواجهة أسئلة غير مريحة حول التاريخ والسياسة والطبيعة البشرية. يبني أومبرتو إيكو رواية هي في نفس الوقت إثارة تاريخية وهجاء اجتماعي وتأمل فلسفي حول قوة اللغة والأكاذيب.

من خلال استكشاف الآليات وراء نظريات المؤامرة والتلاعب الإيديولوجي، يقدم إيكو تحذيرًا خالدًا حول مخاطر المجتمع الذي يقبل الخيال كحقيقة. وبالتالي، فإن مقبرة براغ هي أكثر من مجرد عمل أدبي؛ إنها مرآة مزعجة تجبرنا على مواجهة هشاشة معتقداتنا وعواقب التلاعب الجماعي. يذكرنا إيكو أنه طالما كان هناك من هم على استعداد لاختلاق الأكاذيب، وآخرون على استعداد لقبولها، فإن دورة نزع الصفة الإنسانية ستستمر في التكرار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Copyright © akka2024
المكان والتاريخ: أوكسفورد . المملكة المتحدة ـ 12/19/24
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة).

#أكد_الجبوري (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل