صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8152 - 2024 / 11 / 5 - 10:53
المحور:
الادب والفن
مقامة النقاء :
أرسل لي أحد ألأصدقاء نصا يبتدأه ب ( صباح النقاء ) , وأضاف له العبارة التالية : ((لا أدري كيف يواجه قلب نقّي كل هذا الغبار اللعين والمعادن الرخيصة وكل هذا الصدأ)) , مما أوحى لي بالمقامة الآتية :
تنفرج الأسارير لكلمة النقاء , ويكون حُسنُ الافتتاحِ بها داعِيَةُ للأنشِراحِ , ومَطِيَّةُ للنَّجَاحِ , لتحسب من مُتع النفس ومباهجِ العقل , ولتنجدل هذه المتع بظفائر أخرى من البهجة وسرور الأرواح , فعندما تستيقظ صباحا لتجد أمامك نصا عنوانه النقاء , فذلك تفاؤل يجعل نهارك جميلا بلا شك , ويجعل حلم اللقاء السرمدي سائرا بتلك الموسيقى ذات ألأنغام المشتهاة , التي تنسينا كل وجدانيات الحنين وألأشواق , فذلك بلا شك حالة خلق للفرح من رحم الفراق , حين يكون البوح مليئا بالسرور والبهجة ألأفتراضية , ما أحلاه خصوصا عندما يخبرنا أنه أزلي ينسكب في تلافيف ألأرواح , أحب حياكة هذه الأنامل و ترانيم تلك الألحان, هكذا نص بهيج يعجبنا نحن القراء الممتلؤون بأشواك الحياة , فحبذا لوأكثرنا منه.
سَـلامٌ عليٰ مَـن طَـرقُـوا أبـوابَ الـرُّوحِ بِـ نبَضـاتِ قُـلوبِهـم فَـ كُنَّـا لهُم مُنصِّتِين , وحِيـنَ أرخُـوا عليها أشـرِّعَـةَ الأمَـانِ نبَـضَت قـلوبُنـا بالحُبِّ أن إدخُـلوها بِسَـلامٍ آمِنيـن , ولا يهم أن يحمل الوجه كل صفات الجمال , المهم حقا أن يكون العقل كذلك أيضاً , فلنكبّر العقول ,فالجمال يزول فيما العقل تتسع مداركه كلما مرت الأيام والسنين , وندرك ان الحب اختفى من الشوارع الظليلة , ولا غير الذكريات والاسى على ما ضاع في الكون من ذلك الجمال , الا ان عبارة النقاء وهبتني فرحا في هذا الصباح , وبقيت مشرقا بها لتمنحني وجها نورانيا وابتسامة تكشف السحب , وترسم الوردة للناس .
عندما عاتب الماء الزيت , قال له : كيف تعلو علي وأنا من أنبت شجرتك ؟ أين الأدب ؟ فقال الزيت بكل نقاء الفصاحة : أنت نشأت في الأنهار رضاضآ , وأنا على العصر والقهر صبرت , فبالصبر يعلو القدر, فلا نتعجب من نقاء روح عصفور يهرب ممن يقترب منه وفي يده طعام له , فالطيور عكس بعض البشر تؤمن بأن الحرية أغلى من الخبز , والدموع النقية ليست قطرات , بل هي كلمات , لكن من الصعب جدآ أن تجد شخصآ يقرأ ويفهم هذه الكلمات , ولما كانت الكلمات كالبذور تغرس في القلوب وليس في الأرض , لنحترس مما نزرع ونراعي مانقول فقد نضطر يومآ لأكل ما زرعناه .
نفهم نقاء المواقف من قراءة رسالة ابن طاووس , فعندما عرف المستنصر بمكانته العلميّة والدينيّة , طلب منه أن يتولى منصب المفتي الأعظم للبلاد الإسلامية , غير أن ابن طاووس رفض طلب الخليفة , ثم أوضح سبب ذلك في رسالة بعثها إلـى ولده , وكان مما جاء فيها : (( يا بني , لا تُحمد عاقبة من تواطأ مع الظالمين , ولا يرجى خيرٌ من عالمٍ جلس على موائدهم , فهم يستبدلون الدين بالدنيا , ويشترون الفتاوى بمئات الدنانير , فهل أبيع ديـني بدنياهم ؟ هيهات , فإنما هـي القطيعة مع الله سبحانه )) .
كتبت غادة السمان , بلغة صافية ونقية , وهي تناجي الوطن : (( كل المستحيلات تتذلل حين تكون الأهداف أكبر كثيراً من المعوقات , ومنها الزمن , غيابك يغتالني , وحضورك يغتالني , لأنّه عتبة لغياب جديد , لماذا بعد أن علمتني أن أعيشك وهمًا , وتعيشني حلمًا , عدت تبحث عن ماهيتي وحقيقتي ؟ وأنا في الوطن كنت أبكي شوقًا للرحيل إلى المنفى , وها أنا اليوم أبكي , لأنّني حققت أحلامي , فلا تُحاول أن تأخذ شجرتك معك إلى الغربة لتحظى بظلّها , لأنّ الأشجار لا تُهاجر , وذلك الألم الدقيق الذي لا اسم له ولا تبرير, يخترقني حتى العظم بلحظاته العابرة الكاوية , كنت ممتلئة بك , راضية مكتفية بك , ولكن زمننا كان مثقوبًا , يهرب منه رمل الفرح بسرعة , لقد ركبت قطارات كثيرةً , وأخطأت حين توهمت أنّني سأجد دربًا لا تقودني إليك )) .
من نقاءات الأكمة نقرأ لدون كيشوت وتابعه سانشو هذا الحوار :
((دون كيشوت: هل يجوزُ التّحَكّم بالقلوبِ عن بُعْدٍ يا سانشو؟
سانشو: ليسَ لديّ أدنى فِكْرة ولكن قد تكون الطائراتُ المُسيَّرة هي الحَلّ.
دون كيشوت : تعني أن يُطيّرَ العاشقُ قلبهُ فوق من يحبُ مثل كاميرة بهدف مراقبة مشاعره؟
سانشو: لا يا سيدي الدون , ما قَصدتهُ أن يدخلَ العاشقُ والمعشوقُ مرحلة القَصِف.
دون كيشوت : وماذا يبقى من الحبّ بعد القَصِف أيها الأَحْمَقُ ؟
سانشو: يبقى العدمُ الجميلُ يا سيدي الدون , ففي مراتبهِ تتجلّى الأرواحُ بالآثام اللَّذَّيذة العظيمة , وترتاحُ الأجسادُ من الكَساد وتَراكُم الثُلُوج.
دون كيشوت : أهذه هي الرومانسية العدمية التي وصلت سقفَها يا سانشو؟
سانشو: أجل يا سيدي الدون , فغياب بعض النساءات قد يصبح بفعل التجلّد مثل حضورهن عدمٌ بعدم .
دون كيشوت : جِدْ لنفسكَ غير هذا الترياق ولا تكنْ مثل العنقاء الأهبل.
سانشو: العنقاء , لقد غاب اسمُ هذا الطير عن ذاكِرتي , ما قصتهُ يا سيدي الدون؟
دون كيشوت : هو طائر صُنعَ في مطابخ الأساطير , وكانت الغاية منه الضحك على الذقون.
سانشو: كيف يعني , أن يتزلج الضحكُ على الذقون حتى يقع فينكسر, أم إن وراء الأكمة ما وراءها ؟
دون كيشوت : ومن أين جئت بهذه ((الأكمة)) لتقذف عقلي بهذا اللغط اللغوي المبهم المجهول الذي لا أدركهُ ولا يدركني؟
سانشو: هذا هو الحبّ في مراتب الرومانسية العدمية , وهذا هو الرماد في مرحلة الانتحار الغرامي , أقصد أن يقوم هذا الطائر الأسطوري بتدوير الجثامين فيما بعد النيران.
دون كيشوت : اللعنة عليك يا سانشو , لقد أفقدتني عقلي ومزقت لي كامل أسلاك الجملة العصبية.
سانشو: لذلك علينا التبصر بالحروب التي لا تنضوي تحت حروب طواحين الهواء ومدى علاقتها بمعارك القلوب الهمجية الأكثر حَرقاً للأعصاب والأشدّ استنزافاً للغة )) .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟