|
النفط وأزمة التنمية
واثق غازي عبدالنبي
الحوار المتمدن-العدد: 8131 - 2024 / 10 / 15 - 14:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمهيد
النفط هو أحد الثروات المهمة لأغلب دول العالم العربي، مع هذا فهو لا يشكل عنصراً من عناصر التنمية، بل في كثير من الأحيان عامل اعاقة للتنمية. في هذه المقالة سوف نستعرض الأسباب التي جعلت الثروة النفطية عنصراً سلبياً في التنمية، مع عرض تاريخي لبعض أبرز الأحداث التي رافقت اكتشاف النفط في الدول العربية. فضلاً عن ذلك، فأننا سوف نستعرض أهم الآراء المتعلقة بعلاقة النفط بالسياسة، والاقتصاد، والتراثية، والدين. فمن المهم للقارئ أن يُدرك العلاقة الجدلية بين اكتشاف الثروة النفطية والعقائد التي أعاقت التنمية الشاملة.
مفهوم الدولة الريعية
إن مفهوم الدولة الريعية تم تقديمه عام 1970 من قبل الباحث الإيراني حسين مهدوي. الدولة الريعية هي الدولة التي تحصل على كل أو جزء كبير من دخلها الوطني من بيع أو تأجير مواردها الطبيعية إلى جهة خارجية. وحتى تكون الدولة ريعية يجب أن يكون دخلها متأتياً من الخارج وأن يشكل نسبة كبيرة من مجمل دخلها. والمصادر الخارجية هنا تعني مساعدات من دول أخرى، أو تحويلات مالية من عاملي الخارج، أو بيع خام معين واعتماده كمصدر رئيسي لدخل الدولة، أو الاعتماد على السياحة فقط. المثال البارز على ذلك هو الدول التي تعتمد في مواردها على بيع النفط. فهي دول الريع النفطي. ومثال عليها دول الخليج العربي والعراق وليبيا وإيران وفنزويلا. إن مفهوم الدولة الريعية لا يقتصر فقط على الدول المصدرة للنفط والمعتمدة عليه بشكل رئيسي في مواردها، بل يتعداه إلى الدول التي تعتمد على خامات أخرى مثل الذهب أو الفضة أو الفحم أو غيرها من الخامات الأرضية. مصر تُعد دولة ريعية لأنها تعتمد في جزء كبير من مواردها على المساعدات الخارجية، وتحويلات العاملين في الخارج، وعائدات المرور في قناة السويس، والسياحة، والصادرات البترولية. هذا الكلام ينطبق أيضاً على دول مثل الأردن، وسوريا، وفلسطين، واليمن مع فارق في طبيعة الريع. مع هذا، فأنه من المهم التنويه إلى أن دول الريع النفطي تختلف في اقتصادها وسياستها ومجتمعها عن دول الريع الأخرى كما سنشير اليه لاحقاً. من الجدير بالذكر أن ليس كل دولة مصدرة لخام معين هي دولة ريعية، فإذا كانت هذه الدولة تستهلك الجزء الأكبر من خاماتها، فأن هذا الخام لا يُعد المصدر الرئيسي للدخل، وبالتالي لا تُعد دولة ريعية. والمثال البارز على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي احتلت في عام 2005 المرتبة الثالثة في الدول المصدرة للنفط بعد السعودية وروسيا، ولكنها مع ذلك ليست دولة ريعية؛ لأن معدل استهلاكها للنفط المحلي يفوق كثيراً معدل تصديرها له. مصطلح الدولة شبه الريعية يطلق على الدول التي يكون اعتمادها على الريع ليس كبيراً جداً. وبذلك يصبح علينا من السهل تخيل دولة ريعية تتحول إلى دولة شبه ريعية في حالة اعتمادها على مصادر داخلية لمواردها وتقلل من اعتمادها على الدخل الخارجي. يجادل البعض في كون الأردن دولة ريعية أو شبه ريعية. في نظري، أن دول بلاد الشام (الأردن، وسوريا، ولبنان، وفلسطين) يصعب أن توصف بدول ريعية بالكامل؛ وذلك بسبب أن جزء كبير من دخلها يأتي من المنتوج المحلي ومن الضرائب. مشكلة الدول النفطية هي سيادة العقلية الريعية، وهي العقلية التي تؤمن بأن السبيل الأفضل لتوفير الدخل، سواء على مستوى الفرد أو المجموعة أو الدولة، هو بيع أو تأجير ما يملكه الفرد أو المجموعة أو الدولة من أرث أو ممتلكات أو مصادر طبيعية. العقلية الريعية هي التي تسيطر على أمراء الخليج وملوكهم، وهو الذي يجعل الأمارات العربية، رغم كل ما حققته من تقدم اقتصادي، دولية ريعية بامتياز.
تأميم النفط
في العقد السابع من القرن الماضي، عملت الشركات المنتجة للنفط في ذلك الوقت على خنق صناعة النفط العراقية، إذ أن هذه الشركات كانت ترى أن تخفيض إنتاج النفط سوف يمنع أسعار النفط العالمية من التراجع. لأجل هذا، ونتيجة لتنامي سيطرة الحكومة العراقية على صناعتها النفطية، تم تأميم شركة النفط العراقية عام 1972، وقامت الشركة بزيادة إنتاج العراق إلى أكثر من الضعف في غضون السنوات السبع اللاحقة. من الجدير بالذكر، أن الساسة المرتبطين بعمليات التأميم، مثل صدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا، اكتسبوا شعبية واسعة في حينها وكان التأميم هو بوابتهم إلى عالم الشهرة. هذا فضلاً عن أن أموال النفط الهائلة التي أصبحت تحت تصرفهم مكنتهم من شراء ولاءات زعماء القبائل الأقوياء وتمويل برامجهم السياسية. إن ما يقال عن قيادات الانقلابات العسكرية في العراق وليبيا، ينطبق على ملوك وأمراء النفط في دول الخليج العربي، الذين يستخدمون عائدات النفط لشراء ولاءات زعماء القبائل حتى يكونوا داعمين لهم ومحافظين على سلطتهم. في العراق، وبعد عام 2003، تم تسليم حقول النفط إلى الشركات الأجنبية تحت عنوان عقود التراخيص. عملية التسليم هذه أقل ما يقال عنها أنها غباء. من قام بتوقيع هذه العقود دمر الاقتصاد الوطني. ظهرت حقيقة هذا الغباء عندما انخفضت اسعار النفط في عام 2015، وبدى واضحاً للجميع أن العراق هو الخاسر الوحيد. فالقائمين على شؤون العراق وقعوا مع الشركات النفطية عقوداً تنص على أن الشركة الأجنبية تستقطع من سعر البرميل مبلغ 20 دولار هي كلفة الانتاج مهما كان سعر النفط، أي أنها ليست شريكة بالخسارة. وعندما انخفض سعر البرميل إلى أقل من اربعين دولاراً أصبح العراق يحصل على أقل من نصف سعر البرميل، لأن الشركة المنتجة تأخذ قيمة العشرين دولار، هذا مع ملاحظة أن كلفة أنتاج برميل النفط من الحقول النفطية في العراق هي أقل من 2 دولار، أي أن ما تحصل عليه الشركات النفطية من ربح هو 10 أضعاف كلفة الإنتاج.
مخاطر الدولة النفطية
نرى أن كتاب (مخاطر الدولة النفطية.. تأملات في مفارقة الوفرة) تأليف تيري لين كارل هو واحد من أهم الكتب الكثيرة التي كتبت في موضوع الثروة النفطية وكيفية تعامل الدول العربية معها. في هذا الكتاب نجد الكثير من الآراء عن أسباب أزمة الدول النفطية وكيف تتعامل معها حكومات هذه البلدان. يذكر الكاتب خمسة عوامل يرى فيها عوامل دمار اقتصاديات الدول النفطية. هذه العوامل هي: أولاً، إيرادات نفط وفيرة جداً. ثانياً، نُظم سياسية شديدة المركزية. ثالثاً، سلطة سياسية مندمجة بالسلطة الاقتصادية. رابعاً، هياكل ادارية ضعيفة. خامساً، دولة لا تملك قاعدة ضرائب بديلة عن عائدات النفط. بالإضافة إلى هذه النقاط الخمسة التي ذكرها المؤلف عن عوامل دمار اقتصاديات الدول النفطية، فأن الكاتب يرى أن النفط هو سبب فساد الحكام، لذلك نجده يقول: (إن حكام البلدان المصدرة للنفط لا يملكون أي حافز مباشر يدفعهم لأن يكونوا مقتصدين، كفؤين، محترسين في رسم السياسات، كما لا يوجد لديهم أدنى سبب يدعوهم إلى لا مركزية السلطة بإشراك مساهمين آخرين. بالعكس، فالأموال التي تتدفق على خزائن سلطة شديدة المركزية لا تقود إلا إلى المزيد من تمركز هذه السلطة، مشجعة نسيج العلائق الريعية بين السياسيين والرأسماليين.... إن هذا الإطار المحيط بصنع القرار، الناشئ عن توزيع الريع والمرتكز عليه، هو الذي يفسر لنا أحجية مفارقة الوفرة. فبدلاً من تحسين الكفاءة الاقتصادية، أو التعلم السياسي، تحل الدولارات النفطية محل الحنكة السياسية لإدارة الدولة). إذا كان هذا حال السلطة السياسية في الدول الريعية، فأن حال الشعب ليس بأفضل منه. إن شعوب الدول الريعية تعودت على تلقي "الرشوة" من الحكومة، وهي رشوة متمثلة برواتب ومكافئات ومنح وخدمات وغيرها يستلمها المواطنون دون أن يقوموا بعمل يستحقون عليه أجراً. وهم لا يدفعون أي ضرائب حقيقية أيضاً. هؤلاء المواطنون لا يطالبون بحقوقهم في المشاركة السياسية، وبذلك تكون الحكومة قد اكتسبت شرعيتها عبر تقسيم الريع (الرشوة) على المواطنين. لقد عبر الدكتور عبدالجبار الحلفي في كتابه (الاقتصاد العراقي) عن مخاطر الدولة الريعية بقوله: (في الدولة الريعية.. يطغى الأبوي المتسلط. وبناءً على ذلك، تبرز مخاطر تشكيل التكوينات الاجتماعية والطبقية، وربما تبرز حتى النزعة القبلية كانعكاس للتلاحم الفئوي بين القبائل المتضررة والمستفيدة من النظام السياسي. كل ذلك يتشكل في أحشاء الاقتصاد الريعي، إذ تظهر الفوارق الطبقية بشكل سافر. ثم تمتد المخاطر إلى تهديد وتفكيك النسيج الاجتماعي وتتلاشى المفاهيم النظرية الاقتصادية الأساسية، إذ تتدهور قيم العمل وأخلاقيات الوظيفة بما تتضمنه من انتماء الفرد العامل إلى المنشأة التي يعمل فيها، وتراجع هذا الانتماء إلى حد الانسلاخ عن الوطن أحياناً. وتتدنى أخلاق المهنة وتنتشر عمليات الفساد الإداري. ثم يترسخ وجود الدولة الرخوة سياسياً واقتصاديًا، حيث تصدر القوانين لكن لا أحد ينفذها ويلتزم بها نتيجة لفساد الأجهزة القضائية والتنفيذية واضمحلال هيبة الدولة أمام بعض الفئات الساعية إلى تحقيق مصالحها الضيقة، وإن كانت على حساب مصالح المجتمع ككل). الكلام الذي ذكره الدكتور عبدالجبار الحلفي ينطبق تمامًا على الواقع العراقي والخليجي. فالانتماء القبلي وتداخله مع السياسة، وتفاقم الفوارق الطبقية، وتدهور قيم العمل وأخلاقيات الوظيفة، وتراجع الانتماء الوطني، وانتشار الفساد الإداري، وصدور القوانين التي لا تُطبق، وفساد الأجهزة القضائية والتنفيذية، واضمحلال هيبة الدولة، وظهور الفئات الانتهازية الساعية إلى مصلحتها على حساب مصلحة المجموع، هذه كلها هي صفات الدول النفطية مثل العراق ودول خليج.
عدم استقرار إيرادات النفط
إيرادات النفط غير مستقرة، إذ يمكن أن ترتفع أو تنخفض على نحو غير متوقع. وفقاً لما ذكره مايكل روس في كتابه (نقمة النفط) فأن هذا التقلب هو مزيج من عوامل ثلاثة هي: التغيرات في أسعار النفط، والاختلاف في معدلات الإنتاج، وطبيعة العقود التي تبرم بين الحكومات وشركات النفط. إن عدم الاستقرار هذا في عائدات النفط يجب أن يكون حافزاً لكل حكام وسياسي وشعوب الدول النفطية إلى عدم الاعتماد على النفط في موازناتها السنوية. إن عليهم جميعاً أن يدركوا أن الدولة الريعية هي دولة هشة اقتصادياً وسياسياً واجتماعيًا. من واجب الجميع في الدول النفطية أن يكون هدفهم استثمار النفط في تنمية الطاقة والصناعة والزراعة والصحة والتعليم، وهي مقومات التنمية الشاملة في كل بلد ينشد الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. إن ما تملكه بلدان الريع من نفط لا يمكن له أن يحقق التنمية الحقيقية لشعوبها لأسباب عديدة منها، أن أي زيادة في أسعار النفط التي يصدرها العرب للغرب تقابلها زيادة في أسعار الغذاء، وهو ما حصل في عام (2008) عندما ارتفع سعر برميل النفط إلى أكثر من مائة دولار والذي قابله زيادة كبيرة في أسعار المواد الغذائية في الدول المصدرة للنفط، اشتكى منه حتى سكان دول الخليج العربي ذوي الدخل العالي نسبياً. لأجل هذا، فأنه حتى مع زيادة أسعار النفط فأن الاستقرار الاقتصادي يبقى صعب التحقيق ما لم تكن هناك تنمية حقيقية شاملة.
العقل الريعي بين التجارة والصناعة
نتيجة لكم الانتقادات التي توجه إلى شعوب دول النفط من قبل المختصين والباحثين والدارسين، فقد حاول بعضهم أن يخرج من كسله، وهذه خطوة بالتأكيد جيدة، ولكن هذه الاستجابة جعلت منهم (تجاراً) وليسوا (صناعاً)، والفرق كبير بين التاجر والصانع. الأول لا ينتج بل ينقل ويوزع ويستثمر، والثاني ينتج ويضيف ويغير. الأول سلبي والثاني ايجابي. لا يعني هذا أن التجارة غير ضرورية في أي مجتمع، ولكنها عنصر مكمل للصناعة والزراعة، أي مكملة للإنتاج الوطني. المثال الأبرز عن دولة التجارة والاستثمار هي الأمارات العربية المتحدة. فرغم كل ما يقال من مديح عن إنجازات أمراء الإمارات ــ وهي إنجازات كبيرة ــ إلا أنها لا تعدوا كونها إنجازات في مجال التجارة والاستثمار وليس الصناعة والإنتاج. بصورة عامة، في العالم العربي لا يوجد مصنعين بل يوجد تجار. والفرق بين (الصناعة) و(التجارة) كبير جداً كما تعلمون. في الصناعة يقوم الصانع بتحويل المواد الأولية المتوفرة في بلده إلى مواد استهلاكية بأسعار تفوق بكثير سعر المادة الأولية. أما في التجارة فأن الأمر لا يرتبط بالمادة الأولية أو التصنيع بل بالقدرة على تحقيق تبادل سلعي يقود إلى ربح أموال. الصناعة تبني جيل مبدع ومنتج ونشيط، والتجارة تبني جيل مُقلد ومستهلك وكسول. وهذه هي حالة الهدر التي تمتاز بها المجتمعات المتخلفة.
النفط والتواكل الاجتماعي
الشعوب العربية التي اعتادت على عيشة الصحراء بما فيها من تقشف وجهد ومشقة، تحولت خلال سنوات قليلة إلى شعوب مترفة تعشق الكسل والتكاسل. ليس من السهل أن يقاوم الإنسان الترف المفاجئ الذي يأتيه دون جهد. وهذا بالضبط ما حدث مع الشعوب العربية. العرب لم يبذلوا أي جهد في حصولهم على الثروة التي خرجت لهم من باطن الأرض. لو كانت الشعوب العربية قد وضعت خططاً تنموية وبذلت الجهد لتطبيقها وبالتالي حصلت على الثروة ــ كما هو الحال مع الشعب الأمريكي في أول تأسيسه للولايات المتحدة الأمريكية ــ لكان أكثر قدرة على التعامل مع الثروة وقدر قيمة ما يملكه من مال وحرص على ديمومته ودرس كل وجه من أوجه إنفاقه، ولكن لأن هذا المال جاءهم دون تعب أو جهد، فأنهم أخذوا ينفقونه كالبلهاء، حتى أصبحوا محل تندر من قبل القاصي والداني. هذه الثروة النفطية المفاجئة جعلت شعوب الدول النفطية تميل إلى الكسل، خصوصاً وأن مستواها الثقافي والمعرفي كان أضأل من أن يعينها على حسن التصرف بهذه الثرة. الثروة بيد الجاهل نقمة. وهذا ما حدث لشعوب الدول النفطية. الكسل والاتكال أصبح مزية لهذه الشعوب؛ ولأن الجهل رفيق لها، فأنها اعتمدت على أبناء شعوب أخرى لتقوم بما كان المفروض أن يقوموا به هم، وأطلق على أبناء هذه الشعوب بالـ (وافدون). هؤلاء الوافدون هم (خدم) الكسالى من شعوب النفط. أصبح كل شيء يُدار من قبل الوافدون، ابتداء من شركات النفط إلى تنظيف الشوارع وخدمة البيوت. لم يبقى لشعوب النفط سوى الأكل والنوم والنميمة والتفاخر بمقتنيات الثروة. ربما يظن بعض القراء في كلامنا هذا قسوة أو سوء تقدير، ولكن نظرة مقارنة خاطفة بين شعوب دول عربية لا تملك النفط وبين شعوب الدول النفطية، يمكن أن تكون كافية لمعرفة الفرق. لربما يستطيع القارئ أن يميز الفرق في تفكير وسلوك كل من أبناء الشعب المصري أو السوري أو اللبناني وبين شعوب دول الخليج، على سبيل المثال. اكتشاف النفط في العراق كان له تأثير أقل على السلوك المجتمعي منه في دول الخليج العربي. مع هذا فأن نهج الكسل والتوكل على الحكومة في أدارة شؤونهم وفي أدق تفاصيلها، كان له الأثر السلبي الكبير على التنمية في العراق، خصوصاً مع سيادة الفكر الاشتراكي بعد الانقلاب على الحكومة الملكية عام 1958. الفكر الاشتراكي جعل من الحكومة هي المسؤول الأول عن توفير الطاقة، والغذاء، والصناعة، والتعليم، والصحة، وبالتالي أصبح الشعب يتكل على الحكومة في أهم عناصر التنمية، وبذلك قل دوره وأنخفض ذكائه التنموي، واحساسه الوطني. ازداد الأمر سوءً بعد عام 2003، أي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ووصول أحزاب دينية أقل ما يقال عنها أنها متخلفة ورجعية إلى منصة الحكم، أصبح العراق خالياً من أي عنصر تنمية، فكل شيء يتم استيراده مادام هناك أموال نفط يمكن صرفها للاستيراد. المعامل تعطلت، والمزارع جففت، والتعليم قُلصت ميزانيته، والبيئة سادها التلوث، والنفط تم تأجيره إلى الشركات النفطية الأجنبية، فأصبحت شركات النفط العراقية، عاطلة عن العمل. موظفو شركات النفط العراقية لا يعملون شيء سوى استلام المرتبات في نهاية كل شهر، ومن يقوم بالإنتاج هم الشركات الاجنبية مقابل ارباح طائلة. باختصار، تم القضاء على تأميم النفط، وعادت الشركات الأجنبية إلى دورها القديم. في إحدى مقالات كتابها (قضايا المرأة والفكر والسياسة) كتبت نوال السعداوي عن دور النفط في انتشار "الثقافة الصابونية" في مجتمعاتنا العربية. وهي ثقافة سطحية تلعب دوراً حاسماً في تجهيل الشعوب بحقوقها أو غسيل مخها بالصابون، ليصبح مخاً أملس يستهلك ما يُعطى له دون أن يكون قادراً على إنتاج الفكر. في هذه المقالة تصف نوال السعداوي حال شعوب النفط بقولها: (في بلادنا العربية لعب النفط دوراً في تشجيع ثقافة الصابون والمسلسلات الأمريكية. ساد الفكر النفطي الاستهلاكي الكسول الأكول على الفكر الإنتاجي النشط الأصيل. سادت مسلسلات الخيانة الزوجية، الاغتصاب، حفلات ملكات الجمال، جرائم سياسية وجنسية، صفقات ومؤامرات ومقالب وقصص غارقة في خيال مريض سقيم. سيطر برميل النفط المحكوم بالقوة العسكرية للاستعمار العالمي الجديد على الفكر والكلمة المكتوبة والصورة المرئية في السينما والتلفزيون، وتزاوجت الثقافة البدوية الصحراوية النفطية المتخلفة مع الثقافة الأمريكية السطحية من رعاة البقر. ونتج عن هذا التزاوج في بلادنا العربية هذه الثقافة السائدة التي يتغذى بها الجماهير ليل ونهار. فإذا بهم عاجزون عن التمرد أو الثورة في وجه اعدائهم الذين يسلبون منهم لقمة العيش ويفرضون عليهم الفقر والبطالة والمرض والجهل. وإذا بهم كالمخدرين، شبه غائبين عن الوعي، عقلهم شبه مشلول، لا يعرفون العدو من الصديق، ولا الخير والشر). وخلاصة القول في موضوع التحولات الاجتماعية التي عاشتها وتعيشها مجتمعات الدول النفطية الريعية هي أنها لم تحقق الحداثة الحقيقية، بل "أشترت" منتجات الحداثة دون أن تكون جزءً منها. يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) أن (المداخيل النفطية سمحت لدول مثل العربية السعودية والعراق وإيران والإمارات العربية المتحدة أن تحصّل الدلائل الخارجية للحداثة ــ سيارات، فيديوات، طائرات حربية من طراز ميراج أو فانتوم... إلخ ــ دون أن تتلقى مجتمعاتها التحولات الاجتماعية الضرورية لبناء ونحت مثل هذه الثروة). إن هذا الكلام لا يخلو من الصحة، فمجتمعات الدول النفطية إلى اليوم لا تجيد أساسيات التفكير العلمي (المنهجي والنقدي والابداعي) والذي هو الأساس في تحضر أي مجتمع، لأنها لم تحتاج أليه في صناعة وسائل ومتطلبات الحضارة والحداثة.
النفط وانتشار المد الديني الوهابي
مع ارتفاع أسعار النفط في بداية ثمانينيات العقد الماضي (1971)، بدأ عهد جديد من انتشار الفكر الوهابي الذي تتبناه الحكومة السعودية كعقيدة رسمية تحظى بالحماية والدعم الرسميين. فالتحالف بين السياسة والدين بدأ مع تأسيس المملكة السعودية عبر الاتفاق الموقع بين محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب عام (1745) والمعروف بميثاق الدرعية. هذا التحالف مازال مستمراً إلى يومنا هذا عبر عائلة آل سعود (ذرية أبن سعود) وعائلة آل الشيخ (ذرية الشيخ محمد عبدالوهاب). الأولى مسئولة عن الشأن السياسي والثانية مسئولة عن الشأن الديني. تم استغلال التدفق الهائل في أموال النفط السعودي لدعم انتشار الفكر الديني الوهابي، إذ تم طباعة الكتب وتوزيعها مجاناً في العديد من الدول العربية والأجنبية. الكثير من المراكز (الخيرية) كانت تروج لهذا المذهب. حصة مصر كانت هي الأكبر. توظيف العديد من أبناء الشعوب العربية في هذه المراكز مقابل تبنيهم للفكر الوهابي. في تسعينيات القرن الماضي (1981) بدأ دعم السعودية للمدارس الدينية في باكستان وكانت نتيجة هذا الدعم ظهور حركة طالبان. الدعم كان بحجة مجابهة الاحتلال الروسي إلى افغانستان. مع بداية انتشار القنوات الفضائية، تدفق مال النفط السعودي لإنشاء قنوات دينية تنشر الفكر الوهابي. لم يقتصر الأمر على الفضائيات الناطقة بالعربية، بل فضائيات بالإنكليزية ولغات أجنبية أخرى. أموال النفط كانت السبب في انتشار الفكر الوهابي التكفيري العنيف، وبالتالي انتشار الجماعات الإرهابية ابتداءً من طالبان، مروراً بجماعة التكفير والهجرة، والقاعدة، ولغاية داعش. بدلاً من أن تكون أموال النفط سبباً في نشر التفكير العلمي، استخدمت لنشر فكر الخرافة والتخلف. وبدلاً من أن تستخدم لنشر التسامح والتعايش السلمي بين أبناء الديانات والعقائد المختلفة، استخدمت في نشر التطرف والتعصب والعنف. أموال النفط أصبحت نقمة على العالم العربي، بل العالم بأسره؛ لذلك نرى من يتمنى لو أن النفط لم يُكتشف في السعودية. إن ما يقال عن العربية السعودية يمكن أن يقال عن دول نفطية أخرى مارست نفس الدور (التبشيري) ولكن لعقائد وأفكار مختلفة، ربما أغلبها هدام.
المرض الهولندي
جاء في كتاب (نقمة النفط) تأليف مايكل روس ذكر لمصطلح "المرض الهولندي" الذي هو مصطلح استحدثته مجلة الايكونومست في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977 لوصف تأثير صادرات الغاز الطبيعي على الاقتصاد الهولندي. بالنسبة لعلماء الاقتصاد فأنهم يُعرفون المرض الهولندي على أنه "العملية التي تسبب طفرة في قطاع الموارد الطبيعية لبلد ما وحدوث انخفاضاً في القطاعين الصناعي والزراعي له". هذا الانخفاض نتاج عاملين أثنين. الأول (تأثير حركة الموارد)، فعندما يزدهر قطاع الموارد، يجتذب القوى العاملة ورأس المال إلية ويبعدهما عن القطاعين الزراعي والصناعي، فيرفع تكاليف الإنتاج في كليهما. العامل الثاني (تأثير الإنفاق)، فعندما تتدفق الأموال من قطاع النفط المزدهر إلى اقتصاد دولة ما، ترفع معها سعر الصرف الحقيقي للعملة، وبدوره يجعل استيراد السلع الزراعية والمواد المصنعة أرخص تكلفة من زراعتها أو تصنيعها محلياً. نتيجة لذلك، قد يخسر القطاعان الصناعي والزراعي حصة من السوق المحلية، بسبب منافسة المواد المستوردة والأرخص سعراً، فيصبح أمر المنافسة في الأسواق العالمية أشد صعوبة، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج وسعر صرف العملة الحقيقي. كل السلع والخدمات التي لا يمكن استيرادها تبقى محمية من عوامل التأثير هذه ولا تعاني أي ضرر منها. لذلك، مع ثبات العوامل الأخرى، سوف يؤدي ازدهار صادرات الموارد إلى انخفاض نسبي في حجم قطاعي الزراعة والتصنيع. سبب المرض الهولندي الضرر بالقطاعين الصناعي والزراعي في كثير من البلدان المصدرة للنفط، ومنها دول الخليج والعراق والجزائر وكولومبيا والإكوادور ونيجيريا وفنزويلا.
المرض الهولندي والنساء
يقول مؤلف كتاب (نقمة النفط) إنه: (عندما تغدو البلاد أكثر ثراءً وأيسر حالاً، تحظى النساء عادة بمزيد من الفرص، كفرص اقتصادية في ميادين العمل، وفرص سياسية ليؤدين أعمالاً في القطاع الحكومي على حد سواء. إلا أن هذا لم يحدث في بلاد اغتنت ببيع البترول، ففوائد الطفرات النفطية تعود عادة على الرجال). النسبة المئوية للنساء العاملات في البلدان المنتجة للنفط أقل بنسبة 14 بالمئة من النساء العاملات في البلدان غير النفطية. والجواب الذي يقدمه مؤلف كتاب (نقمة النفط) لانخفاض نسبة اليد العاملة النسائية، يتألف من نقطتين: الأولى، هي أن النفط يتسبب في المرض الهولندي، وهذا يقود بدوره إلى نقصان في عدد المصانع المنتجة للمواد أو البضائع المعدة للتصدير، والتي تبحث عن أيدي عاملة رخيصة، وبالتالي عدد أقل من فرص العمل للنساء. النقطة الثانية تعود إلى أن ريع النفط يزيد من معدل الدخل والتحويلات المالية التي تقدمها الحكومة لمواطنيها، وهذا يعني عدد أقل من النساء الساعيات إلى الحصول على عمل. هذان النقطتان مجتمعتان يقودان إلى وجود عدد أقل من النساء المنخرطات في صفوف القوى العاملة، وبالتالي يضعف تأثيرهن السياسي؛ لأن الانخراط في القوى العاملة طريق حاسم لبلوغ السلطة السياسية. باختصار، فأن المرض الهولندي المتمثل بضعف القطاعين الزراعي والصناعي من جهة، وزيادة الدخل بسبب عائدات النفط الكبيرة، يعودان على المرأة بالسوء. ففرص عملهن الحقيقية تضعف كثيراً ويضعف دورهن السياسي.
النفط والبطالة المقنعة
البطالة المقنعة مصطلح يطلق على العمال والموظفين الذين يتقاضون مرتبات دون أن يقوموا بعمل أو جهد يكافئ ما يتقاضونه. والبطالة المقنعة منتشرة في البلدان النامية التي تلزم نفسها بتعيين الخريجين أو اصحاب الشهادات بغض النظر عن حاجة السوق لهذه الوظائف. والأمر يزداد سوءً في الدول النفطية التي تحاول أن تغطي عن عجزها في تحقيق تنمية شاملة عبر زيادة الإنفاق الحكومي على المرتبات. إن ما يقال عن الوظائف الكثيرة التي توفرها الحكومات النفطية للنساء والرجال، هو نوع من التجهيل والتخدير الذي تمارسه الحكومات على مواطنيها. فأغلب هذه الوظائف هي عبارة عن بطالة مقنعة تفسد النساء والرجال وتحولهم إلى مستهلكين همهم هو استلام المرتب في نهاية الشهر، ليتم بعد ذلك إنفاق اغلبه على الحاجات غير الأساسية. النساء الفلاحات اختفين من مجتمعاتنا بسبب التوظيف الكاذب الذي يقود إلى بطالة مقنعة. لم تعد المرأة العربية منتجة، بل اصبحت موظفة مستهلكة. الوظائف التي توفرها المؤسسات الخدمية مثل الصحة والتعليم وغيرها، هي وظائف تعمل فيها المرأة لمدة ساعة يوميًا في أحسن الاحوال وبقية الوقت تقضيه في حوارات جانبية. وهذا الحال ينطبق على الرجال أيضاً. النفط تحول إلى نقمة بسبب ما يوفره من وظائف زائفة الهدف منها حصول الموظفين نساء ورجال على مرتبات تحولهم إلى مستهلكين لا أكثر.
عبدالرحمن منيف وأزمة التنمية في الدول النفطية
من المهم ألا ينفصل العمل الروائي عن الواقع الاجتماعي لأي مجتمع. أحد جوانب الواقع الاجتماعي هو الوضع الاقتصادي والتغييرات الحاصلة فيه والأسباب الكامنة وراء هذا التغيير. بالطبع ليس من مهمة العمل الروائي أن يكون عملاً تسجيلياً خالياً من الفن الأدبي، ولكن من الضروري ــ وفقاً لوجهة نظرنا ــ أن يوظف الأدب لخدمة قضايا الإنسان المهمة، ومنها قضية العيش وكسب الرزق وما يترتب عليها من نتائج. أحد الأعمال الأدبية المهمة التي تناولت موضوع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية في دول الخليج العربي، وتحديدًا السعودية العربية، هي رواية (مدن الملح) بأجزائها الخمسة، للكاتب الكبير عبدالرحمن منيف (1933 ــ 2004). الأجزاء الخمسة للرواية حملت العناوين التالية وفقاً لترتيبها: التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، المنبت، بادية الظلمات. الرواية كُتبت خلال فترة تزيد على الخمسة سنوات امتدت من عام 1984 إلى 1989، وهي تجمع بين الحقيقة والخيال، ففيها من السرد التاريخي الحقيقي الكثير ولكن بطريقة رمزية خصوصاً فيما يتعلق بالشخصيات والأماكن. لقد أستطاع عبدالرحمن منيف في روايته (مدن الملح) أن يعكس الواقع السياسي والاجتماعي والتغييرات الثقافية المفاجئة التي اجتاحت الدول العربية بسبب الثورة النفطية. ربما يكون السبب وراء تبني عبدالرحمن منيف هذا الموضوع وعرضه في عمل أدبي كبير وصل إلى 2500 صفحة موزعة على خمسة أجزاء هو أنه حاصل على شهادة الدكتوراه في اقتصاديات النفط من بلغراد عام 1962، وقد عمل في الشركة السورية للنفط، وكان رئيساً لمجلة (النفط والتنمية) في بغداد. دراسته لاقتصاديات النفط وخبرته في العمل في القطاع النفطي، فضلاً عن متابعته للتغييرات الاجتماعية في الدول النفطية، مكنته من كتابة رواية يشهد لها العالم في تميزها وأبداعها. فهذه الرواية تُرجمت إلى العديد من اللغات الأجنبية وحظيت بالكثير من الأعجاب والثناء. مقابل هذا الثناء العالمي، كان هناك غضب خليجي، وخصوصاً من قبل حكام السعودية العربية، الذين وضعوا الرواية على قائمة الكتب الممنوعة لسنوات طويلة، ولكنهم رفعوا هذا المنع لاحقاً. يتحدث عبدالرحمن منيف عن روايته مدن الملح بالقول: (قصدتُ بـ "مدن الملح" المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي، بمعنى أنها لم تظهر نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، وإنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة "النفط" أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد). عبدالرحمن منيف لم يحدد مكان في روايته، فالأحداث تجري في دولة مُتخيلة يطلق عليها "موران"، ولكن القارئ سوف يكتشف بسهولة أن المقصود هو السعودية العربية. مع هذا، فأن ما يقال عن السعودية العربية لا يختلف كثيراً عما يمكن قوله عن بقية الدول النفطية في الخليج العربي وفي خارجه، كالعراق مثلاً. الرواية تحكي قصة اكتشاف النفط في السعودية (المجتمع البدوي الصحراوي) والتحولات المتسارعة التي حلت بمدن تلك الدولة وقراها، وكذلك تاريخ المنطقة وكيفية نشوء الدولة وعلاقة رجال الأعمال وتحالفاتهم مع ساسة الدولة وحكامها. يحكي الكاتب ظاهرة التمايز الطبقي وتجمع رؤوس الأموال الآتية من بيع النفط في أيدي الملوك والأمراء، على حساب بقية أبناء دولة "موران" الذين أخذت أغلب أراضيهم وجرفت بساتين نخيلهم لتتحول إلى حقول نفطية يرتفع منها لهب نيران الغاز المحترق. فضلاً عن ذلك، فأن الكاتب يصف الطريقة البائسة التي يتم فيها صرف عائدات النفط وابتعادها عن أي صورة من صور التنمية الحقيقية والتفكير بالمستقبل، بل كيف حولت هذه الأموال أمراء البلاد وأغلب سكانها إلى مستهليكن؛ لأن حكومتهم أمتنعت عن الاهتمام بالزراعة أو الصناعة أو التعليم. تحول سكان دولة "موران" إلى كُسالى أو تنابل لا يجيدون أي فن من فنون الصناعة أو الحرفية. يُحذر الكاتب من مستقبل مجهول يواجه هذه الدولة بعد نفاذ النفط. جاء في الجزء الخامس من الرواية والذي يحمل عنوان (بادية الظلمات) ما يلي: (مثلما تبدّد الجزء الأكبر من ثروة النفط، تبدّد الجزء الأكبر من الزمن الذهبي الذي كان بمقدوره أن يجعلنا على صلة بالعصر، وعلينا الآن أن نواجه رهانات ما تبقى من عصر النفط، وما بقي من الزمن الذي كان ذهبياً وواعداً. ولأن البادية بالغة السعة، والظلمات تزداد وتتكاثف، فإن العقل وحده هو الذي يبني أوطاناً قوية، ويترك إمكانية لأجيال المستقبل أن تواصل العيش، وأن تتدارك ما قصّرت عنه الأجيال التي سبقتها، وإلا... فإن الفناء المادي ما ينتظر أوطاناً وشعوباً، واللعنات ستكون النشيد الأخير قبل أن يعم الصمت، وتمتلئ الصحراء بالوحشية مرة أخرى!).
نزار قباني.. وقصيدته الحب والبترول
نزار قباني صاحب رأي قبل أن يكون صاحب كلمة شعرية. هو صاحب مقولة (الكتابة عمل انقلابي). ومن بين كتابته الانقلابية، والتي سببت له المشاكل، هي قصائده عن أمراء النفط الذين تصرفوا في أموال النفط بطريقة جعلت الناس يصفونهم بالتعجرف والهمجية معاً. استطاع نزار قباني في قصيدته المعنونة (الحب والبترول) أن يلخص الواقع النفسي والفكري والاجتماعي لأمراء وسياسيي وشعوب الدول المنتجة للنفط. تلخيص أظن أنه يفوق كل التعبيرات والأوصاف التي يمكن أن يقولها أحدنا بأسلوبه النثري الأكاديمي. دعونا نقرأ سوية مقتطف واحد من قصيدة (الحب والبترول) التي كتبها نزار عام 1958 على لسان سيدة تُخاطب أحد أمراء أو مواطني الدول النفطية، فتقول له: (تمرغ يا أميرَ النفطِ.. فوقَ وحولِ لذاتكْ كممسحةٍ.. تمرّغ في ضلالاتكْ لك البترولُ.. فاعصرهُ على قدّمي خليلاتكْ كهوف الليل في باريس.. قد قتلتْ مروءاتكْ على أقدامِ مومسةٍ هناكّ.. دفنتَ ثاراتكْ فبعتَ القدس.. بعتَ الله.. بعتَ رماد أمواتكْ كأن حراب إسرائيلَ لم تُجهضْ شقيقاتكْ ولم تهدمْ منازلنا.. ولم تحرقْ مصاحفنا ولا راياتُها ارتفعت على أشلاءِ راياتكْ كأنَّ جميعَ من صُلبوا.. على الأشجارِ.. في يافا.. وفي حيفا.. وبئر السبعِ.. ليسوا من سُلالاتكْ تغوصُ القدسُ في دمها.. وأنتَ صريعُ شهواتكْ تنامُ.. كأنّما المأساةُ ليستْ بعضَ مأساتكْ متى تفهمْ؟ متى يستيقظ الإنسانُ في ذاتكْ؟)
الخلاصة
الهدف من هذه المقالة هو توضيح فكرة نرى أنها جوهرية وهي أن عقائدنا توثر في كيفية تصرفنا بالثروة، وفي نفس الوقت، فأن الثروة تتدخل في تغيير أو تعزيز جزء من هذه العقائد ومنها العقائد القبلية والعقائد الدينية المتطرفة. الثروة النفطية تحكمت فيها عقائدنا التراثية والدينية والسياسية، فنتجت عنها دول ذات طبيعة ريعية تستبيح حكوماتها توزيع الريع على مواطنيها دون قيامهم بأي عمل يستحق، وكأنها تقدم لهم الرشوة، وشعب أستباح قبول هذا الريع ليعيش في كسل واستهلاك مقابل أن يتنازل عن حقوقه في المشاركة السياسية. وهذا ما دفع عدد من الباحثين إلى الاعتقاد بأن ريع النفط هو السبب في عدم قيام ثورات أو حركات اصلاح أو بناء مجتمع مدني متحضر. وحتى الدول التي حاولت أن تخرج من أطار الدولة الريعية مارست التجارة فقط. فضلاً عن ذلك، فأن ريع النفط هو السبب في تخلف الزراعة والصناعة في العديد من الدول النفطية، وهذا ما يُسمى بالمرض الهولندي، وهو مرض متفشي في دول الخليج وفي العراق وليبيا وغيرها من دول الريع النفطي. هذه المشكلات الناتجة من الاعتماد على الريع التفت لها باحثون كُثر، والفوا العديد من الكتب عنها، ولكن الحكومات لم تلفت لهم، بل أنه حتى الأدباء والشعراء الذين كتبوا عن دول الريع النفطي وانتقدوها، تم منع مؤلفاتهم وأشعارهم. يبدو جلياً لنا أن حكومات الدول النفطية لا تنوي أن تساهم في تحويل بلدانها من دول ريعية مستهلكة إلى دول صناعية وزراعية منتجة.
قراءات إضافية
إن ما تم ذكره من معلومات وأفكار حول موضوع النفط في الصفحات أعلاه هي مجرد خطوط عريضة في موضوع يحتاج من القارئ الفطن إلى المزيد من الجهد. ولغرض تقصير الطريق على القارئ في اختيار الكتب المناسبة لدراسة هذا الموضوع، نقترح الكتب التالية للقراءة: أولاً، كتاب (الخليج ليس نفطاً.. دراسة في إشكالية التنمية والوحدة) تأليف محمد غانم الرميحي. ثانياً، كتاب (مغامرات النفط العربي) تأليف هاري سانت جون فيلبي، ترجمة وتحرير دكتور عوض البادي. ثالثاً، كتاب (سلطة النفط.. والتحول في ميزان القوى العالمية) تأليف روبرت سليتر، ترجمة محمد فتحي خضر. رابعاً، كتاب (نقمة النفط.. كيف تؤثر الثروة النفطية على نمو الأمم) تأليف مايكل روس، ترجمة محمد هيثم نشواتي. خامساً، كتاب (مخاطر الدولة النفطية.. تأملات في مفارقة الوفرة) تأليف تيري لين كارل، ترجمة معهد الدراسات الاستراتيجية. سادسًا، كتاب (مستقبل الدولة الريعية في العراق) تأليف كل من نبيل جعفر عبدالرضا وخالد مطر مشاري.
#واثق_غازي_عبدالنبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في معنى المثقف والثقافة
-
التجنيد الإجباري وأزمة التنمية
-
الدولة المدنية وأزمة التنمية.. كيف يعيق الإسلام السياسي تحقي
...
-
دور التراثية في التنمية
-
دور السياسة في التنمية
-
دور الدين في التنمية
-
التنمية الشاملة.. حق من حقوق الإنسان
-
الكاتبة الإمريكية (هيلين كيلر) وتهمة الإنتحال
-
الاطفال ليس لهم دين .. وسائل انتشار فايروس الدين عبر الأجيال
-
أبناء مدينتي .. كيف يعملون؟ وكيف يحبون؟ وكيف يموتون؟
-
ثلاث كُتب للشباب
-
كُتب الدين الفايروسية
-
مهزلة الفتاوى الجنسية
-
الصراع بين الدين والعلم في أمريكا
-
قصة المفهوم المعاصر لكلمة (حجاب)
-
الحياة هي الوجدان
-
الحاضر مفتاح الماضي
-
المحتكرون
-
الله لا يحب العبيد
-
كُلنا نتبرك بروث البقر
المزيد.....
-
أمستردام تحظر المظاهرات 3 أيام بعد مهاجمة جماهير فريق مكابي
...
-
انتشر على وسائل التواصل بشكل جنوني.. حادث سيارة مفبرك وكامير
...
-
غارات ليلية -عنيفة- تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت بعد إنذار
...
-
إصابات وأضرار جسيمة جراء ضربة جوية روسية على مبنى سكني في خ
...
-
إعصار -ينكسينغ- يغادر الفلبين بعد تسببه بفيضانات وانهيارات أ
...
-
تونس... سجن مشاهير تيك توك بين القمع و-حماية الأخلاق العامة-
...
-
واشنطن تتهم إيرانيا تابعا للحرس الثوري بالتخطيط لاغتيال الرئ
...
-
بلينكن يجري مباحثات مع نظرائه بألمانيا والسعودية بشأن غزة ول
...
-
غنائم الفوز.. خطوة نحو تعليق الإجراءات القضائية ضد ترامب
-
22 قتيلا بانفجار بمحطة قطارات في إقليم بلوشستان الباكستاني
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|