أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - واثق غازي عبدالنبي - الدولة المدنية وأزمة التنمية.. كيف يعيق الإسلام السياسي تحقيق التنمية الشاملة؟















المزيد.....


الدولة المدنية وأزمة التنمية.. كيف يعيق الإسلام السياسي تحقيق التنمية الشاملة؟


واثق غازي عبدالنبي

الحوار المتمدن-العدد: 7734 - 2023 / 9 / 14 - 22:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تمهيد
الدولة المدنية هي الدولة التي تحمي كافة أفرادها بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية. ولا يمكن أن يكون هذا التعريف كافيًا ما لم يتم ايضاح عناصر الدولة المدنية والتي هي: الديمقراطية، والعلمانية، والمواطنة. هذه العناصر هي محور هذه المقالة التي نحاول من خلالها أن نُعرف بهذه المفاهيم وعلاقتها بالتنمية الشاملة، ولماذا هي ضرورية لها، وكيف أن غيابها في بلداننا العربية ساهم ويساهم في أزمة التنمية الشاملة فيها. وهذا بالتأكيد سوف يلزمنا الحديث عن الإسلام السياسي الذي يرفض الدولة المدنية ومبادئها.

اولاً: الديمقراطية
يؤكدون المختصون بشؤون التنمية على أهمية الديمقراطية في تحقيق التنمية الشاملة وذلك لأن الديمقراطية تخلق البيئة المناسبة التي من خلالها يتمكن المواطنون الأحرار والمسؤولون الكفؤون من أداء دورهم في التنمية عبر مراقبة عمل الحكومة وإيصال الكفؤين إلى مراكز صنع القرار وتنفيذه. إن الحراك الاجتماعي الذي تصنعه الديمقراطية، باعتبارها عملًا يوميًا، يقوم به المواطن عبر اختيار مرؤوسيه سواء في الوظيفة أو في الحكومة هي التي تصنع الحس الوطني للفرد. هذا الحس مهم جداً في تحريك دوافع العمل الجاد لدى المواطن.
إن الأحزاب الدينية الإسلامية لا تؤمن بالديمقراطية كنظام للحكم، وهي بذلك ترفض نظام الانتخابات العامة التي يختار فيها الشعب حكامه ومسؤوليه. لذلك، فأن هذه الأحزاب عاجزة عن تحقيق أي تنمية في البلدان التي تحكمها، لأنه وكما ذكرنا أعلاه، فأن الديمقراطية هي شرط من شروط تحقيق التنمية. لا تنمية بدون ديمقراطية، ومن يتحجج بتقدم بعض البلدان ذات الحكومات الديكتاتورية أو الشمولية، عليه أن يميز بين التقدم الاقتصادي أو النمو الاقتصادي وبين التنمية الاقتصادية أو التنمية الشاملة.
من الجدير بالذكر أنه على الرغم من رفض الأحزاب الدينية للديمقراطية إلا أن خطابها الإعلامي يدعي بأنه يساند الديمقراطية. ومن الواضح أن هذا الخطاب لا ينبع من قناعة دينية أو تشريعية، بل من ظرف طارئ أو تكتيك يلجأ أليه الإسلاميون عندما لا يجدون الطريق لتحقيق نظريتهم الإسلامية سواء في الخلافة (لدى الأحزاب السنية) أو ولاية الفقيه بمختلف أشكالها، العامة، أو المتوسطة، أو الخاصة (لدى الأحزاب الشيعية). يقول زعيم أحد الأحزاب الدينية الشيعية في العراق: (حينما نُطالب بالانتخابات لإدارة العملية السياسية، فلا بد أن نلتفت إلى هذه الحقيقة المهمة بأن هذه الطريقة ليست هي القاعدة في حكم الأمة المسلمة، وإنما هي الاستثناء الذي نلجأ إليه عند وجود المانع من إجراء القاعدة كأكل الميتة، الذي يحل عند الضرورة، وحليته هذه لا تعني أن حكم الميتة ذلك بالعنوان الأولي، بل بالعنوان الثانوي، وإدراك هذه الحقيقة مهم وضروري لكي لا تختلط علينا الأمور، وتضيع معالم شخصيتنا، وهويتنا الإسلامية العظيمة، التي شيد أركانها أهل البيت "ع" وننساق وراء الأطروحات البراقة). مع هذا، فأن هذا الحزب الإسلامي يمارس عمله السياسي الآن في العراق بفضل الديمقراطية، في حين كان زعيمها وقائل الكلام اعلاه، في زمن حكومة البعث يعيش مطارداً وفاراً من الخدمة العسكرية ومهدداً بالاعتقال أو الاعدام، لأنه يؤمن بفكر غير فكر البعث الحاكم في ذلك الوقت.
إن ما يقال عن رفض الأحزاب الدينية للديمقراطية يقال أيضاً عن جميع الأحزاب الأيديولوجية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق وسوريا، والذي مارست قياداته في كلا البلدين الديكتاتورية ورفضت العمل الديمقراطي بعد أن اطاحت بمنافسيهم في ذلك الوقت، وعلى رأسهم الحزب الشيوعي. وظني أن الحزب الشيوعي نفسه كان سوف يمارس الشيء نفسه لو أنه وصل إلى سدة الحكم في كل من العراق وسوريا.
في كتابه (ما وراء الخراب)، كَتَبَ إبراهيم عبدالمجيد عن علاقة الديمقراطية بالهوية قائلاً: (الديمقراطية وحدها هي معمل إنتاج الهوية. والديمقراطيون يتعلمون من أخطائهم. والشعب نفسه يتعلم الديمقراطية وممارستها أكثر مما يتعلم من الكتب والمقالات والمواقع الإلكترونية. وهكذا فالبحث عن هوية لا يكون بمرجعيات تراثية، ولا بالبحث عن ديمقراطية خاصة، فالديمقراطية إنتاج بشري وإنساني معناه ببساطة أن يختار الشعب حكامه من أصغر مؤسسة إلى أكبرها اختيارًا حرًا لا تشوبه شائبة).
يتساءل غازي القصيبي في كتابه (حياة في الإدارة) بعد فشل تجربة انتخابات عمداء الكليات بدل من تعينهم، قائلاً: (هل أنا بحاجة إلى القول إن الديمقراطية لا تنبع من النصوص وإنما من النفوس؟ وهل أنا بحاجة إلى القول إن الديمقراطية لا تنبع من النفوس إلا بعد فترة من الحرث ووضع البذور والسقاية والعناية والرعاية؟).
من الجدير بالذكر هنا التأكيد على أن الديكتاتورية، وهي نقيض الديمقراطية، والتي يطالب بها البعض، خصوصًا في المجتمعات ذات التوترات الأمنية، لا يمكن لها أن تقود إلى التنمية الشاملة. إن الديكتاتور يميل بطبعه إلى تخليد نفسه لأنه يرى فيها التفوق والتميز. وربما يظهر هذا واضحًا في الديكتاتوريات العسكرية التي يعمل فيها "القائد" أو "الزعيم" على تخليد نفسه عبر المشاريع العمرانية الضخمة كأن تكون سدًا أو صرحًا تذكاريًا أو حتى قصورًا. بشكل عام، الديكتاتور يهتم في أحسن حالته بالتنمية في الجوانب المادية (مباني، طرق، مطارات، الخ) أما التنمية بجوانبها الإنسانية أو البشرية فهي أبعد ما تكون عن اهتماماته، بل بالعكس من ذلك تمامًا؛ إذ أن الديكتاتور يقضي على الإنسان عبر تقييد حرية التعبير وحتى التفكير أحيانًا. الديكتاتور لا يهتم بالتعليم والثقافة والفن والأدب والفكر والفلسفة إلا بالقدر الذي يخدم بقائه في السلطة. وإذا تذكرنا إن التنمية هي فعل يقوم به الإنسان لأجل الإنسان نفسه بما يضمن حريته وكرامته وضميره، أدركنا بشاعة الجريمة التي يرتكبها القائلون بأن الديكتاتورية هي نظام الحكم الأمثل في عالمنا العربي. إن نظام الحكم الديكتاتوري يقضي على الإنسان وبالتالي يقضي على وسيلة التنمية وغايتها؛ لذلك، لا يمكن لديكتاتور أن يكون سببًا في التنمية. إن الديكتاتورية هي أحد أهم أسباب أزمة التنمية الشاملة في العالم العربي.

ثانياً: العلمانية
كلمة العلمانية تعاني من سوء الفهم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نتيجة للتشوية الكبير الذي تعرضت وتتعرض له من قبل رجال المؤسسات الدينية المختلفة فيها سواء الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية. ولقد وجدنا من خلال تتبع تعريفات العلمانية أنه يمكن أن نصنفها إلى ثلاث أصناف هي: علمانية سياسية، وعلمانية فكرية، وعلمانية اجتماعية. وأن أحد أسباب الإرباك في معنى العلمانية هو خلط هذه الأنواع الثلاث مع بعضها. وبالتأكيد فأن هذا الخلط روج له وأستفاد منه الرافضين للعلمانية وفي مقدمتهم رجال الدين.
1. العلمانية الفكرية
أفضل من قدم تعريفاً للعلمانية الفكرية هو الدكتور مراد وهبة في كتابه (الأصولية والعلمانية) حيث يقول: (العلمانية نظرية في المعرفة، وليست نظرية في السياسة لأن العلمانية بحكم تعريفي لها هي "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"). والتفكير بنسبية القضايا هو الذي يمنع التطرف والتعصب والوصاية والعنف والتي هي متلازمات احتكار الحقيقة، وبالتالي الظلم بمختلف أنواعه والجريمة العقائدية بمختلف أنواعها. والمتدين يرفض العلمانية الفكرية لأنها قائمة على (النسبية) وعقلية المتدين قائمة على (المطلق).
2. العلمانية الاجتماعية
العلمانية الاجتماعية تعني الاعتراف بحق الاختلاف في العقيد وطريقة التفكير واسلوب العيش. وهي في حقيقتها واقع حداثي لا يمكن إنكاره. فالتغيرات الاجتماعية في حياة كل واحد منا واختلافه عمن حوله في العقيدة وطريقة التفكير وأسلوب العيش، وحتمية التعايش مع وجود هذا الاختلاف، حتى مع أقرب المقربين لنا، هي صورة من صور العلمانية الاجتماعية. ولكي نستمر بالعيش بصورة سلمية علينا أن نقبل هذه العلمانية الاجتماعية، وبعكسها يحدث العنف الاجتماعي. ولعل غياب فكرة الوصاية هي أهم سمات العلمانية الاجتماعية. فمع الوصاية التي يراها صاحب عقيدة أو دين ما على المخالفين له، تختفي العلمانية الاجتماعية. ولعل القاعدة التي يمكن لها أن تلخص مفهوم العلمانية الاجتماعية هي قاعدة (افعل ما شئت دون أن تؤذي أحداً). إذا وصل أفراد المجتمع إلى إمكانية تطبيق هذه القاعدة، عندها يكون المجتمع قد وصل إلى تطبيق العلمانية الاجتماعية، وبالتالي الأمن الاجتماعي.
في كتابة (الإنسانوية)، يقول ستيفن لو (المجتمع العلماني،... ليس بالضرورة مجتمعاً يوجد به تجسيد قليل أو غير قليل علني للمعتقد الديني؛ فالمجتمع العلماني قد يكون مجتمعًا كلّ من فيه بالغو التدين، وفيه يجري التعبير عادة عن الآراء الدينية علانيةً. المجتمع العلماني هو ببساطة مجتمع فيه "الدولة نفسها" تتخذ موقفًا محايدًا فيما يتعلق بالدين؛ فلا تنحاز الدولة إلى أي وجهة نظر معينة دينية أو مناهضة للدين). ويضيف قائلًا: (إذن، المجتمع العلماني هو المجتمع الذي تكون الدولة فيه محايدة دينياً، وليس المقصود بذلك أن تكون محايدة حيال كل شيء؛ فهي ليست محايدة بشأن أهمية حماية حريات معينة، لكنها قائمة على مبادئ اتخذت شلكها ووجدت تبريرها بمعزل عن أي اعتقاد مؤيد للدين أو مناهض له؛ مبادئ يجب علينا أن نكون قادرين على اعتناقها سواء كنا دينيين أو لا). وموضوع الدولة غير المنحازة للدين هو موضوع العلمانية السياسية الذي سوف نناقشه فيما يلي.
3. العلمانية السياسية
أظن أن أدق تعريف للعلمانية من منظور سياسي هو التعريف الذي قدمه صادق جلال العظم والذي جاء فيه: (إن العلمانية هي الحياد الإيجابي للدولة وأجهزتها ومؤسساتها إزاء الأديان والطوائف والمذاهب والاثنيات التي يتألف منها المجتمع المعني بها). ووفقًا لهذا التعريف يكون دور الحكومات العلمانية هو توفير الخدمات والرفاهية لأبناء الشعب بمختلف طوائفه ومذاهبه واثنياته دون تفريق أو تمييز، ولا يكون من مسؤوليتها تقديم أي أيديولوجية دينية، بل تترك ذلك إلى مؤسسات المجتمع المدني بما فيها المؤسسات الدينية المختلفة. وهي هنا تحمي العلماني من المتطرف الديني، وتحمي المتدينين من بعضهم البعض. فهي تحمي المسيحي من المسلم، وتحمي الكاثوليكي من البروتستانتي، وتحمي الشيعي من السني، وبالعكس. وبهذا يتضح أن العلمانية لا تفصل الدين عن المجتمع بل تفصل الدين عن الحكومة. باختصار، العلمانية السياسية تهدف إلى فصل كافة انواع العصبيات من دينية وقومية واثنيه وغيرها عن سياق الدولة.
ونقتبس هنا مرة أخرى من كتاب (الإنسانوية) لستيفن لو الذي كتب أن (الدولة العلمانية .... تحمي حرية الأفراد في الاعتقاد، أو عدم الاعتقاد، وفي العبادة، أو عدم العبادة. تدافع الدولة العلمانية عن حق الأفراد في اعتناق دين معين والتعبير عن معتقداتهم الدينية. لكنها أيضاً تحمي حقهم في رفض اعتناق أي دين وكذلك في التعبير عن آراء منتقدة للدين). وبناءً على ذلك فان الدولة العلمانية من واجبها حماية المؤسسات الدينية وغير الدينية بنفس القدر وبنفس الجدية. كما أن من واجبها أن تتيح لكليهما نفس القدر من حرية التعبير والممارسة، بشرط ألا تكون هذه الممارسة ضارة، فالقاعدة هي (أن تفعل ما تشاء دون أن تؤذي أحدا).
إن الدولة الدينية هي ليست دولة علمانية، والدولة الملحدة ليست دولة علمانية أيضًا. لذلك، فأن العلمانية تختلف عن الدين وعن الالحاد. الدولة العلمانية تضمن حقوق جميع مواطنيها سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو بوذيين أو هندوس أو ملحدين. إن دولة إسلامية أو مسيحية أو يهودية هي ليست دولة علمانية، كما أن دولة ملحدة مثل روسيا تحت حكم ستالين، والصين تحت حكم ماو، ليست دولة علمانية، لأن كلا الدولتين لم تضمن حقوق المخالفين لها في العقيدة الدينية أو السياسية.
وكما ترفض الأحزاب الإسلامية الديمقراطية، فهي كذلك ترفض العلمانية، لأنها ترى في العلمانية (مقدمات للإلحاد)، وأنه لا يجوز الانتماء إلى الأحزاب العلمانية (وهي كل حزب غير إسلامي) لأنه معصية لله. يقول أحد زعماء الأحزاب الدينية في العراق في جوابه على استفسار حول الانضمام إلى الأحزاب غير الدينية: (لا يجوز الانتماء إلى الأحزاب التي لا تلتزم بالشريعة الإسلامية إطارًا لعملها، لأنها ستقع في معصية الله شرعًا). والمشكلة كل المشكلة بتطبيق الشريعة الإسلامية، لأنها شريعة لا تنسجم مع التنمية، فهي جاءت لعصر غير عصرنا، ولمكان غير مكاننا، ولشعوب غير شعوبنا، ولنا في ذلك حديث في مكان آخر من هذا الكتاب.
المشكلة الكبرى مع الإسلام السياسي هو أنه لا يقبل بوجود المخالف له. حرية تعبير وممارسة مشتركة للطرفين، المتدينين وغير المتدينين. إنه يريد لنفسه فقط الحق في التعبير والممارسة، ويرى أن من واجبه أن يمنع هذا الحق عن الآخر المخالف له. في هذا الشأن يقول فرج فودة في كتابه (حوار حول العلمانية) إن (ادعاء أن الدولة الدينية سوف تكون مدخلنا إلى التسامح الديني جهل بالحقائق، فطبيعة الدولة الدينية تتناقض مع مفهوم التسامح الديني، لأن صاحب الدين يراه حقاً مطلقاً، ويرى المخالفين لعقيدته على باطل مطلق، ويرى في استمالتهم إلى دينه إن أمكن واجباً مقدساً، فأن لم يمكن فأن قهرهم على اعتناق عقيدته يحفل بنفس الدرجة من القداسة).
والعلمانية بأصنافها الثلاثة ضرورية لتحقيق التنمية الشاملة وذلك لأنها باختصار توفر السلم الاجتماعي والأمن الوطني الذي تحتاج اليه التنمية. السلم الاجتماعي ينشأ عندما يتقبل أحدنا الآخر ويحترمه ولا يعتدي عليه حتى ولو أختلف معنا في عقائده وطريقة عيشه. والأمن الوطني يتحقق عندما تكون الدولة حريصة على حماية كافة مواطنيها وتوفير الخدمات لهم بالتساوي وتضمن حقوق الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الأثنية أو الفكرية. وبهذا تتوفر البيئة التنموية التي تجعل المجتمع يحقق التنمية الشاملة.

ثالثاً: المواطنة
المواطنة هي الإحساس بالانتماء إلى أرض محددة ونظام اجتماعي معين. يصاحب هذا الإحساس القدرة على المشاركة الحرة المسؤولة في النشاطات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي تضمن لصاحبها تأدية واجباته والتمتع بحقوقه. ومن هذا التعريف ندرك جوهر الصلة بين المواطنة والتنمية الشاملة.
لا ينفصل الإحساس بالانتماء إلى الأرض والمجتمع عن الحق في المشاركة في النشاطات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، لأنه إذا تم حرمان أي شخص من حقه في المشاركة فأنه سوف يفقد حريته وبالتالية يفقد انتمائه. لذلك، فأن حق الإنسان في التعبير والعمل والتظاهر والاحتجاج والانتخاب والترشيح والانضمام الى الجمعيات والاحزاب والمنتديات كلها تعزز دور المواطنة. وهي أيضاً تعزز دور المواطن في تحقيق التنمية الشاملة.
إن المواطنة بالمفهوم الذي ذكرناه أعلاه لا تساعد على قيام الولاءات القبلية والأثنية والدينية، وذلك لأنها تجعل من الانتماء إلى الوطن (أرضًا وشعبًا) أولوية وأفضلية على بقية الانتماءات. عندما يشعر الفرد أن مساوي للآخرين وأن حقوقه مضمونة وأن تفوقه يعتمد على كفاءته وعمله فقط، عندها لا تعود هناك حاجة للانتماء إلى قبيلة أو عرق أو دين. وبالتأكيد، فأن هذا الأمر لا يروق إلى الانتهازيين أو الفاشلين الذين لا يمكنهم أن يعيشوا كمواطنين لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم؛ لذلك يلجئون إلى القبيلة أو العرق أو الدين ليحتموا به.
إنصار الإسلام السياسي هم أحد أبرز الرافضين لمفهوم الوطن والوطنية. ولعل اغلبكم سمع أو قرأ بيان إعلان (الدولة الإسلامية) بقيادة "خليفة المسلمين" أبو بكر البغدادي، والذي وردت فيه عبارة (صنم الوطنية) التي قامت الدولة الإسلامية بتحطيمه. فالوطنية في نظر (المسلم الحق) هو صنم يقود صاحبه إلى الشرك بالله. وهذه فكرة مع الإسف شائعة بين العديد من رجال الدين واتباعهم من المتدينين، حتى من غير الجهاديين. فكثيرًا ما نسمع أن (الأمة المسلمة) أو (دار الإسلام) هي أرض المسلمين جميعًا وأن الحدود بين البلدان هي من تدبير الاستعمار.
هذه الفكرة أسس لها سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) حيث يقول: إن الإسلام (جاء ليرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين، ومن وشائج اللحم والدم؛ فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله، فتقوم الروابط بينه وبين سكانه على أساس الارتباط في الله، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في "الأمة المسلمة" في "دار الإسلام"، ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله).
اتمنى أن يساعد هذا النص على فهم الأسباب التي تدفع بعض أو اغلب رجال الدين والمتدينين إلى رفض فكرة الوطنية، أو على أقل تقدير عدم التحمس لها. ولعلها أيضًا تساعدنا في فهم طبيعة الولاءات (الخارجية) التي يتمسك بها اغلب شخصيات الإسلام السياسي.
إن الولاءات أو الانتماءات غير الوطنية هي ولاءات وانتماءات انتهازية، والتي هي حالة منحرفة يتم فيها التخلي نهائياً عن جميع الالتزامات الأخلاقية لأجل تحقيق مكاسب شخصية. وهذا هو فرقها عن الانتماء الوطني، الذي هو البحث عن المصلحة الشخصية التي لا تتعارض مع مصلحة المجموع، أو البحث عن مصلحة المجموع التي تحقق مصلحة الفرد. أي تحقيق المكاسب الشخصية والجماعية معًا. لذلك، فأن الانتماء غير الوطني يقود إلى خراب الوط والانتماء الوطني يقود إلى بناء الوطنية وتحقيق التنمية الشاملة فيه.
وبما أن المواطنة هي البحث عن المصلحة الذاتية التي لا تتعارض مع مصالح المجموع، فأن حصول الفرد على جنسية بلد آخر أصبح مرهونًا بقدرة هذا الشخص على تحقيق النفع لذلك البلد مقابل أن ينعم هو بحقوقه كانسان ودون تمييز في وطنه الجديد. وهذا ما يحلم به العديد من أبناء البلدان العربية الذين لا يشعرون بأنهم مواطنون في بلدانهم التي ولدوا فيها. الوطن لا يعني قطعة الأرض بل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يوفر لي حاجاتي (مصلحتي الشخصية) بطريقة لا تتعارض مع مصالح المجموع.

الخلاصة
الدولة المدنية التي تقوم على ركائز الديمقراطية، والعلمانية، والمواطنة هي وحدها القادرة على تحقيق التنمية الشاملة. وذلك لأن الديمقراطية تخلق البيئة المناسبة التي من خلالها يتمكن المواطنون الأحرار والمسؤولون الكفؤون من أداء دورهم في التنمية عبر مراقبة عمل الحكومة وإيصال الكفؤين إلى مراكز صنع القرار وتنفيذه. والعلمانية بأصنافها الثلاث توفر السلم الاجتماعي والأمن الوطني الذي تحتاج اليه التنمية الشاملة. والمواطنة باعتبارها الإحساس بالانتماء للأرض والمجتمع تمنح المواطن القدرة على المشاركة الحرة المسؤولة في النشاطات المختلفة التي تضمن لصاحبها تأدية واجباته والتمتع بحقوقه. وبهذا تكون الدولة المدنية هي ما تحتاجه التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. لكن المؤسف هو أن الإسلام السياسي بقيمه المنحرفة يرفض الدولة المدنية ويعمل على تدمير أركانها. فهو يرفض الديمقراطية ويجد أن دولة الخلافة أو دولة ولاية الفقيه هي البديل الأمثل، ويرفض العلمانية ويفضل عليها احتكار الحقيقة ومنع الحريات، ويرفض المواطنة ويفضل عليها الانتماء إلى الدين أو المذهب أو الطائفة. إذا أردنا أن نحقق التنمية علينا أن نبني دولة مدنية متكاملة الأركان قائمة على الديمقراطية، والعلمانية، والمواطنة.



#واثق_غازي_عبدالنبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دور التراثية في التنمية
- دور السياسة في التنمية
- دور الدين في التنمية
- التنمية الشاملة.. حق من حقوق الإنسان
- الكاتبة الإمريكية (هيلين كيلر) وتهمة الإنتحال
- الاطفال ليس لهم دين .. وسائل انتشار فايروس الدين عبر الأجيال
- أبناء مدينتي .. كيف يعملون؟ وكيف يحبون؟ وكيف يموتون؟
- ثلاث كُتب للشباب
- كُتب الدين الفايروسية
- مهزلة الفتاوى الجنسية
- الصراع بين الدين والعلم في أمريكا
- قصة المفهوم المعاصر لكلمة (حجاب)
- الحياة هي الوجدان
- الحاضر مفتاح الماضي
- المحتكرون
- الله لا يحب العبيد
- كُلنا نتبرك بروث البقر
- ديني أم دين آبائي؟
- احذروا من تدين الأبناء
- المبدعون مصيرهم جهنم


المزيد.....




- كاتب يهودي يسخر من تصوير ترامب ولايته الرئاسية المقبلة بأنها ...
- المقاومة الإسلامية: استهدفنا هدفا حيويا في إيلات وهدفا حيويا ...
- “ثبتها فورًا للعيال” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد لمتابعة ...
- -المقاومة الإسلامية في العراق-: استهدفنا هدفا حيويا في إيلات ...
- -المقاومة الإسلامية في العراق-: استهدفنا هدفا حيويا في إيلات ...
- متى موعد عيد الأضحى 2024/1445؟ وكم عدد أيام الإجازة في الدول ...
- تصريحات جديدة لقائد حرس الثورة الاسلامية حول عملية -الوعد ال ...
- أبرز سيناتور يهودي بالكونغرس يطالب بمعاقبة طلاب جامعة كولومب ...
- هجوم -حارق- على أقدم معبد يهودي في بولندا
- مع بدء الانتخابات.. المسلمون في المدينة المقدسة بالهند قلقون ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - واثق غازي عبدالنبي - الدولة المدنية وأزمة التنمية.. كيف يعيق الإسلام السياسي تحقيق التنمية الشاملة؟