|
مخاطر التطبيع في مجال الإعلام *
عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8101 - 2024 / 9 / 15 - 12:23
المحور:
الصحافة والاعلام
مخاطر التطبيع في مجال الإعلام*
للتطبيع تعاريف عدة لن نخوض في تفاصيلها، لكننا نتخير أدخلها إلى الاستيعاب وأيسرها للفهم. الكلمة الأقرب للتطبيع، هي العادي بأل التعريف، وبمختلف الاستخدامات والتصاريف. وعليه، التطبيع بإيجاز جعل العلاقات بين طرفين عادية، عكس حقيقتها القائمة على الأرض. والحقيقة على الأرض تؤكد مع اشراقة شمس كل يوم، أن أمتنا ابتلاها الأنجلوساكسون بكيان لقيط في تكوينه السكاني، وشاذ في سياساته وممارساته. كيان زرعته بريطانيا في فلسطين، ثم تولته أميركا بالدعم المفتوح والإنحياز الأعمى لعدوانه، وضمان حمايته من المساءلة الدولية، أي وضعه فوق القانون الدولي. كيان على هذه الشاكلة، كما تؤكد سياساته وممارساته، يفهم السلام على أنه استسلام العرب لشروطه وإملاءاته، وتنازل الشعب العربي الفلسطيني عن حقوقه المشروعة، وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة والعودة إلى وطنه السليب. أما التطبيع، فيراه فقط من زاوية طبيعته العنصرية الاستعلائية وجِبِلَّتِه العدوانية، إذ لا يفتأ لسانُ حالِهِ يردد:"أنا أحارب، إذن أنا موجود". مقصود القول، التطبيع مع عدو على هذه الشاكلة، هو باختصار تخلٍّ عن الذات، وتخاذل، واستسلام، وتنكر للحقوق المغتصبة. للتطبيع أشكال عدة، منها السياسي والاقتصادي والتجاري والعسكري والأمني. لكن أخطرها التطبيع الثقافي والإعلامي. وعليه يراهن العدو، لاختراق المجتمعات العربية والوعي العربي. لماذا؟ لدور الثقافة والإعلام الأساس في صياغة العقول، وتشكيل الوعي، وتغيير صورة العدو في الوعي الباطن للشعوب. أخطر ما يمكن أن يتأدي اليه هذا الدور، اختراق المناعة الشعبية ضد العدو ورواياته وسردياته. مقول القول، الثقافة والإعلام هما الوسيلتان الأفعل لاختراق العقل. بعد اتفاقيات كامب ديفيد وما يُسمى مؤتمر مدريد للسلام، والصحيح كما أثبتت الأيام مسرحية مدريد للسلام، بدأ التطبيع الإعلامي يتمدد في وسائل الإعلام العربية، وبشكل خاص الرسمية منها، المطبوعة والمرئية والمسموعة. كانت البداية التغطية الإعلامية للقاءات ممثلي الأنظمة العربية على مختلف المستويات مع نظرائهم الصهاينة، وتبادل الزيارات وتصويرها على أنها انجازات، بما يعنيه ذلك من انعطاف نحو تكريس الوجود العادي للكيان فاعلًا طبيعيًّا ضمن معادلات المنطقة. وقد تعمدت وسائل اعلام مصرية وعربية بعد توقيع اتفاقيات الإذعان التركيز على إعادة تعريف الصراع مع الكيان، لجهة النظر إليه على أنه من دول الجوار، من دون إضافات أو هوامش تخدم المواقف العربية. لاحقًا، انتقل التطبيع إلى استضافة سياسيين واعلاميين ونشطاء من الكيان من قِبَل قنوات تلفزيونية عربية بزعم سماع الرأي الآخر، مع العلم أن حرية الرأي والتعبير في دول هذه الفضائيات في حدودها الدنيا إن لم تكن شبه معدومة. كما أن هذه الفضائيات لا تتحمل الرأي الآخر، ولا يُعرف عنها توفير مساحة ولو قليلة للمعارضين في بلدانها. وغالبًا ما يدير مذيعوها الحوارات ويطرحون الأسئلة بأساليب متضافرة الأثر لصالح وجهة النظر الأحادية. وجه الخطورة هنا، بالإضافة إلى إضفاء شرعية على وجود الكيان الشاذ اللقيط، الاستماع إلى سردياته. وما الذي يضمن عدم تأثر بعض المتلقين برواياته أو أجزاء منها بخصوص صراعنا معه؟! وما يزال هذا الأسلوب التطبيعي متواصلًا، بل اتسع نطاقه في العقود الأخيرة، وتمدد. أما الأسلوب التطبيعي الثالث والأخطر، فيتعلق بالمصطلحات التي يُحقن بها المتلقي العربي على مدار الساعة. يُلفت النظر، ويبعث الأسى والأسف، أن وسائل الإعلام العربية تردد ما يستخدمه إعلام العدو من مصطلحات دون حدود دنيا من التفكر والتدبر والتبصر. بدأ هذا الأسلوب يأخذ طريقه في وسائل الإعلام العربية، بعد توقيع اتفاقيات الإذعان المعروفة بإسم اتفاقيات السلام والتطبيع. ومن نماذجه وضع اسم "اسرائيل" على خريطة فلسطين. مكمن الخطر هنا، يتجسد في الاعتداء على الذاكرة الجمعية، واللعب على وعي الأجيال العربية الجديدة، التي يُراد لها التخلي عن تحمل مسؤولياتها في مواصلة الكفاح المشروع لاسترداد الحقوق المغتصبة. وفي إطار التسميات الجغرافية أيضًا، يبدو غريبًا ومستهجنًا إصرار الإعلام العربي، بما فيه بعض المقاوم، على استخدام التسميات الصهيونية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تل أبيب، والصحيح تل الربيع. إيلات، واسمها التاريخي الحقيقي أم الرشراش. المتابع المدقق بعين المختص، سيجد أن طريق مصطلحات الدعاية الصهيونية المسمومة بات سالكًا بسهولة ويُسر إلى وسائل الإعلام العربية من دون حواجز وبلا ضوابط. الأمثلة أكثر بكثير من أن نُحيط بها في دقائق، ولهذا نتخير نماذج فاقعة منها باختصار يفرضها الإعلام خاصتنا يوميًّا علينا، منذ السابع من أكتوبر. أول هذه المصطلحات "المختطفون"، في الإشارة إلى أسرى العدو لدى المقاومة. والفرق بين المختطفين والأسرى كبير، بحجم الهدف المُتَغَيَّا من استخدام مصطلحي المختطفين والأسرى في وسائل الإعلام. المختطفون، من الاختطاف، ويعني أخذ الشخص ضد إرادته. وعليه، فإنه يحيل الذهن كفعل وكمصطلح، إلى أفاعيل العصابات الخارجة على القانون، التي تُقدِم أحيانًا على اختطاف أُناس أبرياء واتخاذهم وسيلة للإبتزاز وتحقيق مطالب سياسية أو مالية. هذا بالضبط ما تروم الدعاية الصهيونية تحقيقه، أي وصم المقاومة بالعصابات الخارجة على القانون، والإعلام العربي يردد كالببغاوات ما تتقيأ. أما الأسرى فيؤخذون في المعارك والمواجهات مع العدو، وهذا ما حصل بالفعل يوم صولة الطوفان البطولي التاريخية في السابع من أكتوبر. لقد باغت رجال المقاومة العدو في معسكراته ومستعمراته، واشتبكوا معه مصامدة وجهًا لوجه، وأسروا من أسروا من ضباطه وجنوده وأفراده. لكن هذه الحقائق المعروفة للعالم كله، تسقطها وسائل اعلام عربية كثيرة من حساباتها. في السياق أيضًا نتساءل: هل هناك في الكيان مدنيون؟! الجواب بلا تردد، لا النافية. كل مُستعمر اسرائيلي في فلسطين مهما بلغ من العمر، مشارك في اغتصاب أرض ليست له، ويجب التعامل معه على هذا الأساس. ونشير أيضًا إلى استخدامات لغوية خبيثة في الإعلام الصهيوني، وجدت طريقها إلى وسائل اعلام عربية متكثرة، ومنها التركيز على حركة حماس بالإسم، والنأي عن مصطلح المقاومة، لأن المطلوب هو التعتيم على هذا اللفظ بالذات، لرمزيته العالية في النفوس وما يستبطنه من معاني سامية.
وعندما يؤتى على ذِكر اليمن الشقيق ودوره المساند للمقاومة في غزة، فعادة ما يكون ذلك في الدعاية الصهيونية من خلال لازِمَة "جماعة الحوثيين المدعومة من إيران". والغريب أن تنتقل هذه الصيغة كما هي إلى وسائل اعلام عربية، ولا نجد اعلاميين عربًا، حتى من اعلاميي المقاومة، يفكرون بنحت صيغ مضادة مقابلة من نوع "عصابة الليكود الحاكمة المدعومة من أميركا"، و"المجموعات الصهيونية الدينية الفاشية". وليس يفوتنا ملاحظة تعبير "عدم التصعيد"، الذي يُستخدم بكثرة في الإعلام الأردني، وغيره من وسائل الإعلام العربية، ويجري على ألسنة مسؤولين رسميين. يتهيأ للسامع أو القارئ أن هذا التعبير ينطلق من نوايا طيبة، هدفها وقف العدوان على الشعب العربي الفلسطيني. لكنه في الحقيقة يستبطن وضع المعتدي والمعتدى عليه في كفتين متساويتين، وفي هذا ظلم وإجحاف بحق الضحية، المعتدى عليه. وأخطر ما فيه، أنه يُبطن التعامل مع استفراد جيش النازية بشعب شبه أعزل إلا من إرادة الصمود، والنظر إلى مواصلة حرب الإبادة والتجويع وكأنها من طبائع الأمور دون تدخل ضاغط ومؤثر لوقف العدوان. وقد بلغ عمى البصر والبصيرة بفضائية أردنية أن تستخدم التسمية الصهيونية "معبر اللنبي"، في التعامل مع استشهاد ماهر الجازي، خلال عمليته البطولية في معبر الكرامة. ولنتأمل هذا العنوان في صحيفة عربية نفطية، اسمها الشرق الأوسط، وقد تناولت تحته العملية البطولية ذاتها:"حماس تشيد بالهجوم قرب معبر حدودي بين اسرائيل والأردن". في السياق يفرض نفسه السؤال التالي: لماذا يضع القائمون على الاعلام الرسمي العربي أصابعهم في آذانهم، كي لا تلتقط تعابير المقاومة ومصطلحاتها؟! ومنها، دحر العدو، ودك مستعمرات العدو، وأرديناهم قتلى، وسنرغم العدو على الهروب من غزة مهزومًا، وأوردناهم الرَّدى، وغيرها كثير. وكلها عبارات تنبض بالدلالات النفسية الفاعلة، وهي أشد وقعًا من "قتلنا عددًا منهم" أو "أوقعناهم قتلى". ونختم بجملة من التوصيات في مكافحة التطبيع بأشكاله كافة والتطبيع الثقافي والإعلامي خاصة، يطيب لنا إضافتها إلى ما سبق أن قُدِّم بهذا الخصوص: -التوقف عن استضافة سياسيي العدو واعلامييه ومسؤوليه في وسائل الإعلام العربية، وتفنيد إدعاءات الصهاينة ومزاعمهم في كل ما يتعلق بحيثيات الصراع العربي - الصهيوني وتفاصيله بالأدلة والبراهين. -تنظيم حملات اعلامية دائمة يتولى أمرها أهل اختصاص وخبرة، لنصرة القضية الفلسطينية وفضح سياسات العدو وممارساته وتعرية حقيقته العدوانية الإجرامية. -فضح المطبعين مع الكيان الشاذ اللقيط، وعدم التردد في نشر أسمائهم على أوسع نطاق. هنا، نستحضر كأنموذج يُقتدى، موسوعة "التطبيع والمطبعون: العلاقات المصرية الإسرائيلية 1979- 2011" لمؤلفها الكاتب والمثقف رفعت سيد أحمد، مؤسس ومدير مركز يافا للدراسات في القاهرة. *محاضرة أُلقيت في ورشة عمل في رابطة الكتاب الأردنيين، بعنوان: "التطبيع الثقافي في مجال الإعلام".
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوهم التوراتي الأسطوري -أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل
...
-
من تجليات التمحل الثقافي في واقعنا العربي !
-
مجرم حرب يتحدث عن أيديولوجيا قاتلة تحيط بكيانه !
-
نكشة مخ 23
-
انتزاع الآيات القرآنية من سياقاتها !
-
أوضاعنا أكثر من مقلقة !
-
ردًّا على رأي مسموم !
-
العم سام وتوظيف الدين!
-
أسئلة حائرة في رؤوس تائهة !
-
أين مكمن الداء؟!
-
أسئلة الطوفان !
-
ما أشبه يومنا بأمسنا !
-
نكشة مخ (22)
-
تقديس الرقم -7- في الديانات السامية
-
آدم وحواء الكنعانيان
-
لماذا الإصرار على الغباء؟!
-
أول معراجٍ سماوي
-
ديوان العرب قبيل الإسلام
-
أصل الدين وتقديم الذبائح لأرواح الموتى !
-
مصادر الشر وأسباب البلاء
المزيد.....
-
وثقها بكاميرا طائرة -درون-.. مشاهد درامية تُظهر اقتلاع إعصار
...
-
انفوغرافيك.. كيف حول القصف الإسرائيلي قطاع غزة إلى أنقاض؟
-
بعد رسالتها لطهران.. مناشدة خليجية لواشنطن بشأن الضربة الإسر
...
-
ما الذي تسبب فيه إعصار ميلتون حتى الآن؟
-
كيف يتعامل الصحفيون مع الأزمات النفسية خلال الحروب؟
-
تدريبات نووية لحلف الناتو يوم الاثنين المقبل: استعدادات في ظ
...
-
حرب غزة: أرقام قياسية للدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل منذ أك
...
-
لبنان.. إصابة جنديين من يونيفيل بنيران دبابة إسرائيلية
-
كتاب -الحرب-.. بن سلمان -طفل مدلل-، نتنياهو -كاذب- وبوتين -ش
...
-
رئيس الوزراء العراقي يستقبل السفير الروسي لدى العراق
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|