|
حكايات من الموصل طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 8022 - 2024 / 6 / 28 - 12:32
المحور:
الادب والفن
حكايات من الموصل
طلال حسن
القمر ــــــــــــــــــ أفاقت الجدة العجوز ، في غرفتها الصغيرة المتصدعة ، وكانت كلّ ما تبقى لها من البيت ، الذي دمرته الحرب ، وفتحت عينيها المتعبتين ، وإذا القمر يطل عليها من شق في أحد جدران الغرفة . وتذكرت حفيدتها ، التي تعيش الآن مع أمها وأبيها في أحد المخيمات ، وابتسمت وعيناها تبتلان بالدموع ، وخيل لها أن حفيدتها الصغيرة تنظر الآن إلى هذا القمر ، ومن يدري ، لعلها تتذكرها الآن ، فقد كانت تحبها كثيراً، ربا أكثر من حبها لأمها ـ ابنتها . الليل ـــــــــــــــــ عندما فتح عينيه ، نظرت إليه أمه ، وقالت له : بنيّ ، ابقَ نائماً . فتطلع إلى السماء ، عبر النافذة الصغيرة ، وقال محتجاً : لكن الشمس أشرقت في السماء ، يا أمي . فردتْ عليه أمه قائلة : الشمس أشرقت في السماء فقط ، وغابت عن مدينتنا ، التي خيم عليها الليل .
قطعة جبن ــــــــــــــــــــــــــ من حصته ، أخذ أحمد كسرة خبز ، وقطعة من الجبن ، وتسلل بين الأنقاض ، ورشاشته في يده ، ودخل بيتها الذي هدمه صاروخ . كانت متمددة ، هيكل عظمي تلفه أسمال متربة ، ونظر إلى عينيها ، اللتين تشبهان عيني جدته ، وقال لها : أيتها الجدة ، خذي ، جئتكِ ببعض الطعام . ونظرت بعينيها الغائمتين ، إلى رشاشته ، وملابسه السوداء ، ولحيته الكثة ، وقالت بصوت واهن : أنتم .. قتلتم .. زوجي العجوز . وانحنى عليها ، وقال : أنتِ جائعة ، يا جدتي ، خذي الطعام ، وكلي . وأشاحت عنه بعينيها الغائمتين ، وقالت بصوتها الواهن : لن آكل ، والآخرون جياع .
الجنة ــــــــــــــــــــ كادت الأم أن تغفو ، رغم الجوع والظلام والبرد الشديد ، عندما سمعت طفلتها الصغيرة تتمتم بصوت واهن : ماما .. وضمت الأم طفلتها إلى صدرها ، وهي تشعر بجسدها الصغير الجاف ، تتسرب منه حرارته ، وردت عليها قائلة : نعم حبيبتي . ونظرت الطفلة إلى أمها ، بعينين تكادان تنطفئان ، وقالت متسائلة : هل في الجنة خبز ؟ وغرق قلب الأم بالدموع ، وهزت رأسها ، وقالت : نعم حبيبتي ، الخبز هناك كثير جداً . وأغلقت الطفلة عينيها ، وهي تتمتم بصوت منطفىء : فلأذهب إلى الجنة إذن ، يا ماما .
أسومة ــــــــــــــــــــ رفضت أسومة ، ربما لسنيها الثمانين ، أن تغادر بيتها ، في محلة خزرج ، وتذهب مع ابنها أحمد وعائلته ، إلى منطقة آمنة خارج المدينة ، وهي ترى كجارتها العجوز فطومة ، أن من يترك داره يقل مقداره . وحين انتهى الاقتتال في المدينة ، ولحق بالجانب القديم منها دمار شامل ، فوجىء أحمد بالخراب الذي لحق بحيهم ، ووقف أمام دارهم ، الذي غدا كومة من الحجارة ، أين أمه ؟ أين أسومة ؟ وجاءه صوت يعرفه جيداً : بنيّ .. والتفت ، إنها هي جارتهم فطومة ، وأسرع إليها ، وقال : أخبريني ، أين أمي . وابتسمت فطومة كعادتها ، وقالت : رأيتها تخرج مع مجموعة من العوائل ، ومعهم أطفال وشيوخ ، والقتال كان ما يزال مستمراً . وهزّ رأسه ، وقال كمن يحدث نفسه : أعرف أين أجد أمي أسومة ، إنها حيث يحتاجها الآخرون ، هذا إذا لم تكن قد قتلت .
القطة ـــــــــــــــــــــ خرجتْ من البيت ، بعد أن أغلقت باب الغرفة على قطتها ، فهي تخشى أن تصعد إلى السطح ، بحثاً عما تأكله ، فيراها قناص ، ويرديها قتيلة . وعند مدخل الزقاق ، وقع نظرها على شابين ملتحيين ، يرتديان الليل ، ومع كلّ منهما رشاشة ، ورأت أحدهما يقضم رغيف خبز ، فاقتربت منه ، وقالت بنبرة متوسلة : لله ، لديّ يتيمة . وحدق فيها المسلح صامتاً ، وهو يلوك لقمته ، وضحك المسلح الثاني ، وقال : لا تصدقها ، إنها امرأة عجوز ، من أين لها يتيمة ؟ وابتسم المسلح الأول ، وقال لها : أقسمي أن لكِ يتيمة ، وسأعطيك نصف الرغيف . وحدقت العجوز فيه مترددة ، ثم قالت : والله ، لديّ يتيمة ، وهي جائعة جداً . وأخذت العجوز نصف الرغيف ، وطارت به إلى البيت ، وقدمته لقطتها ، وهي تقول : كلي ، يا يتيمتي ، كلي لعلكِ تشبعين .
الطير الأخير ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد أن تقدم به العمر ، وغدا وحيداً في البيت ، اقتنى طائرين ، ذكراً وأنثى ، وعندما اشتد القتال داخل المدينة ، واشتد معه الحصار ، وشحت المواد الغذائية إلى درجة كبيرة ، كان يقتطع من طعامه ، ويقدمه للطائرين ، حتى نفد الطعام في بيته تماماً . ماتت الأنثى يوم أمس ، لا عجب ، فأنثاه ـ زوجته ماتت قبله هي الأخرى ، وتركته وحيداً ، خاصة أنهما لم ينجبا في حياتهما أي طفل . وخمد الذكر في القفص ، من يدري ، قد يموت قريباً هو الآخر ، ورغم تعلقه بهذا الطير ، إلا أنه فتح له باب القفص ، وأطلقه قائلاً : اذهب ، وعش حياتك ، يا صاحبي . وحلق الذكر قريباً من أسطح الدور ، وحام مرات حوله فوق السطح ، وهو يتابعه بعينين جامدتين ، ثم اتجه مبتعداً عن أنقاض البيوت ، التي خربها الاقتتال ، وقبل أن ينزل من السطح ، سمع اطلاقة من مكان قريب ، وانتفض قلبه ، لابدّ أنه الذكر ، وعاد إلى السطح ، وبحث عن الذكر ، لكنه لم يعثر له على أثر .
شقاء ــــــــــــــــــــ منذ أيام ، وهي تتسلل من خرابة إلى خرابة ، متسترة بعتمة الليل ، هي والجنين الذي في بطنها ، والقنابل والصواريخ وأزيز الرصاص ، لا يكاد يتوقف . وتوقفت هي ، هذه الليلة ، مع حماتها العجوز ، بعد أن فقدت زوجها ، قبل أيام ، برصاصة قناص قلما يخطىء ضحيته ، جاء من وراء البحار . توقفت لا لأنها وجدت سرداباً قديماً آمناً ، في إحدى الخرابات ، وإنما لأن جنينها " العاقل " اختار أن يفد هذه الليلة إلى العالم . ووفد الجنين ، وكان كما تمناه أبوه الراحل ، ذكرا جميلاً ، فأخذته الحماة العجوز بين يديه ، ونظرت إلى وجهه الجميل ، وقالت : لنسمه على اسم جده .. محمود . فتمتمت الأم بصوت واهن ، قبل أن تغمض عينيها ، وتنطفىء : لا .. ليكن اسمه .. شقاء .
بدرية ـــــــــــــــــ الجمال رزق ، وأي رزق ، هذا ما كانت تقوله جدتي دائماً ، وأعترف .. أنا لست قمراً ، وأبوها نفسه لا علاقة له بالقمر ، وأما طفلتنا ، وهذا رزق ، جاءت كالقمر ، وعلى هذا أسميناها .. بدرية . وكقمر السماء ، راحت بدرية تكبر يوماً بعد يوم ، وكبر معها جسمها وجمالها وألقها ، شيء واحد لم يكبر فيها ، ويبدو أنه لن يكبر ، صارت بدراً ، لكن عقلها ظلّ يراوح في المحاق . ومع وقوع المدينة في الظلام ، وحلّ في أرجائها رجال الظلام ، وشعّ نورها أكثر وأكثر ، فصاحوا بي شيباً وشباباً ، ولأسباب شتى متعارضة : حجبيها . حجبتها ، لففتها بغمامات قاتمة كالدخان ، لكنها ظلت بدراً ، يشع نوراً باهراً ، وسط الغمام ، وذات يوم ، جاءتنا امرأة منهم ، وقالت لي : الأمير يريدها . شهقتُ ، هذا ما كنت أتوقعه وأخافه ، فقلتُ لها : لكنها .. طفلة .. طفلة صغيرة .. لا تعي . وكشرت المرأة ، وقالت : جسمها .. قمر . رفضتُ ، توعدتني المرأة ، إنه الأمير ، وذات ليلة ، أردت أن أهرب بها من الظلام ، لكن رصاصهم انهمر علينا كالمطر ، لم أمت ، لكني متّ حين علمت أن قمري اختفتْ ، وبحثتُ عنها في كلّ مكان ، دون جدوى .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايات شعبية جنجل وجناجل
-
مسرحة الموروث الشعبي -قراءة في مسرحيات (هيلا يارمانه) لطلال
...
-
خمس مسرحيات من التراث الموصلي
...
-
رواية للفتيان الغزالة
...
-
قصص قصيرة جداً أنا الذي رأى
...
-
رواية للفتيان الملكة كوبابا ط
...
-
مطاردة حوت العنبر
-
سيناريوهات قصيرة قيس وزينب طلال حسن
-
سيناريو عرس النار طلال حسن
-
علي بابا
-
رواية للأطفال الثعلب العجوز
...
-
رواية للأطفال بيت بين الأشجار
...
-
رواية للفتيان روح الغابة طلال حسن
-
مسرح صفحات مطوية من الحركة المسرحي
...
-
قصص للأطفال عصافير من مخيمات نينوى
...
-
رواية للفتيان شبح الاهوار
...
-
مسرحية للأطفال الكبش الأحمق طلال حسن
-
قصة للأطفال شيشرون
...
-
صندوق الدنيا طلال حسن
-
قصة للأطفال ماما قصة : طلال ح
...
المزيد.....
-
وفاة الممثل التونسي الكبير فتحي الهداوي
-
--شكرا لأنك تحلم معنا--: فيلم كوميدي في زمن التراجيديا
-
التمثيل الضوئي للحد من انبعاثات الكربون
-
الفيلم الوثائقي -الخنجر- يشارك في مهرجان الظاهرة السينمائي ا
...
-
فوز عبارة ادبية مُلهِمة للكاتبة العراقية أسماء محمد مصطفى في
...
-
“ثبتها الآن وفرح أطفالك” تردد قناة MBC 3 للأطفال على الأقمار
...
-
-شظايا رسومات- معرض جماعي لـ9 فنانين تشكيليين بطنجة
-
تراجع الإيرادات السينمائية بأميركا.. هل فقدت دور العرض بريقه
...
-
“نزلها الآن” تحديث تردد كراميش 2024 على النايل سات وعرب سات
...
-
“الحلقـة كاملـه HD” مسلسل قيامة عثمان الحلقة 174 مترجمة للعر
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|