|
مطاردة حوت العنبر
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7975 - 2024 / 5 / 12 - 10:21
المحور:
الادب والفن
مطاردة حوت العنبر
" 1 " ــــــــــــــ توقفت أنثى الحوت القاتل ، بعد منتصف النهار ، لقد ظلت تشق مياه المحيط ، منذ شروق شمس ، مبتعدة خلسة عن القطيع ، وراحت تبحث عن حوت العنبر ، في كلّ مكان دون جدوى . إنها متعبة الآن ، ولها أن ترتاح بعض الوقت ، قبل أن تواصل بحثها ثانية ، لعلها تقع له على أثر ، فوقفت بشكل عمودي في الماء ، وأغمضت عينيها ، عسى أن تغفو قليلاً ، وترتاح . أغفت بضعة دقائق ، وسرعان ما أفاقت ، على حركة غير عادية ، للمياه المحيطة بها ، وحين فتحت عينيها ، رأت ما يسميه البعض ، الحوت القاتل الكاذب ، إنه يشبه الحوت القاتل ، الاوركا ، لكنه أصغر حجماً منه ، وجلده ليس أبيض وأسود مثل جلد الاوركا ، وإنما رمادي غامق أقرب إلى السواد . وتوقف الحوت الكاذب ، على مقربة منها ، وقال لها : لديّ خبر يهمك . وتلفتت أنثى الحوت القاتل حولها ، ثمّ حدقت فيه ، وقالت : اقترب ، وحدثني بما لديك . واقترب الحوت الكاذب منها ، وقال بنبرة تدل على خطورة الخبر : حوت العنبر .. ولاذت أنثى الحوت القاتل بالصمت لحظة ، وقلبها يخفق بشدة ، ثمّ قالت : أصدقني وإلا ندمت . ورغم تهديدها ، مال عليها ، وقال بنفس النبرة السابقة : قبيل منتصف النهار ، رأيته يتجه شمالاً . وبدون إرادة منها ، رفعت أنثى الحوت القاتل عينيها المشتعلتين غضباً ، وتطلعت نحو الشمال ، فتابع الحوت القاتل قائلاً : إن الحيتان عامة ، تتجه نحو الشمال ، في هذا الفصل من السنة . وعلى الفور ، اعتدلت أنثى الحوت القاتل ، وانطلقت تشق مياه المحيط ، متجهة إلى الشمال مباشرة ، فهتف بها الحوت القاتل الكاذب : ستصليه قبل غروب شمس اليوم ، إذا حالفك الحظ . وظلّ الحوت القاتل الكاذب ، متوقفاً في مكانه ، يتابع أنثى الحوت القاتل حتى غابت عن ناظريه ، في مياه المحيط ، وقال في نفسه : هذه فرصتها ، وإن كان حوت العنبر ، ليس بالخصم الهين ، إنه من أقوى الحيتان ، واشدها خطورة على الاطلاق . ورغم شعورها بالجوع ، فهي لم تأكل شيئاً ، منذ يوم أمس ، إلا أنها لم تفكر في تناول أيّ شيء من الطعام ، الذي كان متوفراً حولها بكثرة ، فقد كان همها الوحيد ، هو الوصول إلى حوت العنبر . وراحت أنثى الحوت القاتل ، تزيد من سرعتها ، كلما انحدرت الشمس إلى الغروب ، وتمنت لو تلحق بحوت العنبر ، قبل هبوط الليل ، وإلا فالظلام سيخيم على المحيط ، ويسود الظلام التام كلّ ما حولها ، وخاصة إذا غاب القمر من السماء . وتراءى لها الحوت القاتل الكاذب ، بلونه الأغبر القاتم المسود ، ترى ماذا لو كان كاذباً فعلاً كاسمه ، وأنه لم يرَ حوت العنبر ، الويل له ، ستكون هذه آخر كذبة يكذبها في حياته . وانحدرت الشمس متعبة ، في أعماق المحيط ، وانطفأ وهجها الدافئ ، في المياه الباردة ، لكن أنثى الحوت القاتل لم تتوقف ، وإن راحت تتباطأ في تقدمها ، حتى حلّ الظلام تماماً ، ولم تعد تبصر ما حولها ، فتوقفت ، وهي تتمتم : الويل لحوت العنبر .
" 2 " ــــــــــــــ حوالي منتصف الليل ، أفاقت أنثى الحوت القاتل ، وتلفتت حولها ، يبدو أنها أغفت ، رغم ما كانت تعانيه من قلق ، وخيل إليها أن الظلام ، لم يكن دامساً ، كما كان قبل أن تغفو ، ورفعت رأسها ، كان القمر يطلّ بدراً من بين الغيوم . وتراءت لها أمها ، في ليلة كهذه الليلة ، وكان القمر بدراً ، في أعالي السماء ، لكن لم يكم حوله غيمة واحدة ، فاقتربت من أمها ، وقالت : أمي .. وربما شعرت الأم ، بنبرة غريبة في صوت ابنتها ، فقالت : نعم ، يا حبيبتي ، أرجو أن لا يكون هناك ما يقلقك ، أو يثير مخاوفك . فتابعت الابنة قائلة : أشعر أن في داخلي ، شيء غريب محير ، لم أشعر به من قبل . وابتسمت الأم ، وقد زايلها القلق ، وقالت فرحة : طبعاً ، يا بنيتي ، فأنت تحملين للمرة الأولى . وشهقت قائلة : أمي ! وضحكت الأم ، وقالت : بعد سنة تقريباً ، يا حبيبتي ، ستكونين أماً . وبعد حوالي اثنا عشر عاماً ، صارت أنثى الحوت القاتل أماً للمرة الأولى ، فقد وضعت عجلاً صغيراً ، وأمها على مقربة منها ، وتملكها فرح شديد ، عندما رأت صغيرها لأول مرة ، وهو يصعد متخبطاً من تحت ماء المحيط ، ويتحرك إلى جانبها ، فصاحت بصوت فرح : أمي ، انظري كم هو جميل . وضحكت الأم فرحة ، وقالت : والأجمل أنه ذكر . وحدقت أنثى الحوت القاتل فيه ملياً ، ثمّ مالت عليه ، وخاطبته قائلة : ارضع ، يا بنيّ ، ارضع كثيراً واكبر بسرعة ، أريدك قوياً إلى جانبي . وكأن العجل الصغير ، أدرك ما قالته له أمه ، فغاص تحتها ، وتشبث بأحد أثدائها ، ورح يمصّه بقوة ، فصاحت فرحة : أمي ، إنه يرضع . وضحكت الأم فرحة ، وقالت : ليرضع عجلك الصغير بكثرة ، وينمو بسرعة كبيرة ، ويصير حوتاً قاتلاً قوياً وشجاعاً ، تهابه حتى الحيتان . وكما أوصتها أمها ، وأرادته هي نفسها ، راح العجل الصغير يرضع ويرضع ، من حليبها الغزير الدسم ، وتراه ينمو ويكبر شهراً بعد شهر ، حتى غدا وكأنه يقترب حثيثاً من البلوغ ، حتى قبل أن يفطم ، وعمره أقلّ من سنتين . وطوال الأشهر الأخيرة ، كان العجل يحوم حول أمه ، أو يثب خارج الماء ، إلى علو ، لم يبلغه عجل في عمره من قبل ، هذا ما تراه أمه . وذات يوم ، توقف العجل مذهولاً ، وقد سبق أمه بعض الشيء ، حين رأى ما يشبه السمكة الضخمة ، لها زعنفة ضخمة خارج الماء ، وأسنان قاطعة تبرق في فكيها ، تتجه بسرعة نحوه ، وقبل أن تصل إليه ، أسرعت أمه غاضبة ، واعترضته مكشرة عن أنيابها ، فاستدارت بسرعة ، وقد تملكها الخوف ، ولاذت بالفرار . ونظر إلى أمه ، وقال متسائلاً : أمي ، ما ذاك الذي أوشك أن يهاجمني ، ويفتك بي . فردت أمه قائلة : إنه القرش الأبيض . فتمتم مندهشاً : القرش الأبيض ! لقد سمعت عنه ، لكني لم أره من قبل . فقالت له أمه : اكبر بسرعة ، يا بنيّ ، وصر حوت أوروكا ، أي حوتاً قاتلاً بحق ، وستراه يهرب منك مرعوباً ، لمجرد أن يراك من بعيد . وتلفت العجل حوله ، ثمّ قال : أمي ، أريد أن تعرفيني على كائنات البحار والمحيطات كلها ، لأعرف من هو الصديق منها ، ومن هو العدو .
" 3 " ـــــــــــــــ قبل أن تستيقظ الشمس ، صباح اليوم التالي ، وتخرج من أعماق المحيط ، ساطعة نشيطة دافئة ، استيقظت أنثى الحوت القاتل ، وعلى الفور ، ودون أن تفكر في تناول أيّ نوع من الطعام ، انطلقت بكلّ قوتها ، تشق الماء متجهة نحو الشمال . وفكرت ، وعيناها تسبقانها إلى الشمال ، إذا كان الحوت القاتل الكاذب ليس كاذباً كاسمه ، فإنها قد تلحق اليوم ، وربما عند العصر ، وحتى قبل ذلك ، الحوت الذي تريده ، حوت العنبر ، فسرعتها أكبر من سرعة الحيتان كلها ، إنها الأوركا ، رغم كونها أنثى ، فالاوركا ، الحوت القاتل ، هو أسرع الحيتان في البحار كلها . وزادت أنثى الحوت القاتل من سرعتها ، لابدّ لها أن تلحق بحوت العنبر اليوم ، وتتصدى له ، وتقتصّ منه ، لقد قتل صغيرها ، صغيرها الأول والوحيد ، وبدون سبب ، وسيدفع الثمن ، مهما كان الأمر . وتنهدت من أعماقها ، لقد حذرته مراراً ، وهي تدور معه في أرجاء المحيط ، من الحيتان الضخمة المسننة ، وخاصة من حوت العنبر ، بل إنها حذرته حتى من القرش الأبيض ، فهو حوت صغير ، لم تكتمل قواه بعد ، رغم أنه اوركا . كما أنها لم تغفل عنه لحظة واحدة ، بل وحرصت أن لا تغفو ، حتى تراه مستغرقاً في النوم ، فهي تعرف أنه فضوليّ ، مندفع ، متهور ، يريد أن يثبت لنفسه ، قبل أن يثبت لغيره ، بأنه نضج ، وأنه صار قوياً ، وأن أحداً لا يستطيع مجابهته ، في البحار كلها . وأفاق هذه المرة من غفوته ، وأمه مستغرقة في النوم ، هذه فرصته ، ولن يفوتها ، فانسلّ من مكانه ، مبتعداً عن أمه ، ثمّ مضى يشق الماء ، على غير هدى . وأفاقت أنثى الحوت القاتل ، على ضجة وأصوات متوجعة مستغيثة ، وفتحت عينيها القلقتين الخائفتين ، وخفق قلبها بشدة ، حيت لم تجد صغيرها في مكانه إلى جانبها ، فهبت مجنونة ، وراحت تتلفت حولها ، وتصيح : بنيّ .. بنيّ .. بنيّ .. وبدل عجلها الصغير ، والذي سيبقى صغيراً في نظرها مهما كبر ، أقبل عليها الحوت القاتل الكاذب ، وقد بدا عليه الاضطراب والرعب ، فهتفت به : ما الأمر ؟ أخبرني ، ما الأمر ؟ فردّ الحوت القاتل الكاذب بصوت متحشرج : إنه .. إنه حوت العنبر .. وأوشك الحوت القاتل الكاذب أن يجتازها ، وهو يتمتم بكلمات مبهمة ، فصاحت به منفعلة : توقف ، توقف واخبرني بما جرى .. وردّ الحوت القاتل الكاذب بصوت مضطرب : يُقال أنه قتل حوتاً قاتلاً .. أو قرشاً أبيض .. أو .. وصُعقت أنثى الحوت القاتل ، لابدّ أنّه قتل صغيرها ، هذا اللعين القاتل ، و .. وأسرعت نحو المكان ، الذي أقبل منه الحوت القاتل الكاذب ، سيندم إذا .. وتوقفت حائرة مذهولة ، وراحت تتلفت حولها ، هذا هو المكان ، لكن لا أثر فيه لا لحوت العنبر .. ولا لصغيرها .. ولا للقرش الأبيض .. و .. ما هذا ؟ وتوقفت تحدق في بقعة من الدم ، تطفو على سطح ماء المحيط ، ورفعت رأسها ، الويل لحوت العنبر ، لابدّ أنها دماء صغيرها ، لكن .. أين صغيرها ؟ وغاصت مراراً إلى الأعماق ، ودارت طويلاً في الطبقات المختلفة من الماء ، وصعدت إلى السطح ، تتنفس بسرعة ، ثم تعود ثانية وثالثة إلى الأعماق ، لكنها لم تعثر على أثر لصغيرها ، الويل لحوت العنبر ، لن يفت من القصاص ، مهما كان الثمن . " 4 " ــــــــــــــــ مع الفجر ، أفاقت أنثى الحوت القاتل ، وتلفتت حولها ، كما كانت تفعل دائماً ، تتفقد عجلها الصغير ، رغم أنها تعرف بأنها لن تجده إلى جانبها هذه المرة . وكما يفيق كلّ يوم ، راح عالم المحيط يفيق هذا اليوم أيضاً ، وكأن شيئاً لم يكن ، لقد اختفى عجلها ، ربما إلى الأبد ، الويل لحوت العنبر ، الويل له . آه طالما كان عجلها يفيق قبلها ، وأحياناً كانت تفيق ، عليه قبل أن يُفطم ، وهو يعصر بشفتيه ضرعاً من ضروعها ، ويمتص منه الحليب ، الذي كان يحبه ، والذي كان كما يقول ، لا يمله مهما امتصّ منه . ورفعت رأسها ، وتطلعت إلى البعيد ، مياه وسماء .. سماء وماه ، وتراءى لها عجلها ، وهو يتطلع إلى البعيد ، ويقول لها : ماذا وراء هذه الآفاق ، يا أمي ؟ فتجيبه دائماً : هذا ما كنت أريد أن أعرفه ، وأنا صغيرة في عمرك ، وعرفته .. وتصمت لحظة ، ثمّ تتابع قائلة : وراء هذه المياه والسماء مياه وسماء ، ثمّ عالم ساحر ، ربما لا وجود له إلا في مخيلتنا ، المتطلعة إلى المجهول . ويبقى متطلعاً إلى البعيد ، وعيناه الطفلتان تلتمعان ، ثمّ يغمغم بإصرار : هذا البعيد .. المجهول .. سأعرفه يوماً ما .. ربما كما لم تعرفيه . فتقول له أمه : لا تتعجل ، يا بنيّ ، ستكبر عاجلاً أو آجلاً ، وترى ما رأيته ، وستعرف كلّ شيء . وينظر إليها ، ويقول لها مؤكداً : لقد كبرتُ ، يا أمي ، لقد كبرت . وانتبهت أنثى الحوت القاتل ، إلى ضجة ، تتناهى إليها مقتربة بسرعة ، ونظرت إلى مصدر الضجة ، وإذا قطيع من الدلافين المرحة ، تتواثب على مسافة ليست بعيدة ، وهي تشق سطح الماء بسرعة ، وبدت لها كما لو كانت قطيعاً من الحيتان القاتلة ، ولكن بأحجام صغيرة ، وتمنت لو أنها قريبة منها ، لكانت سألتهم ، عما إذا كانوا قد رأوا حوت العنبر ، و .. وسرعان ما اختفت الدلافين ، وتلاشى ضجيجها المرح . وانطلقت أنثى الحوت القاتل ، تشق الماء بقوة ، إنها ليست بحاجة إلى أن تسأل الدلافين ، أو أيّ كائن آخر ، عن حوت العنبر الجزار ، لقد قال لها الحوت القاتل الكاذب ، بأنه يتجه نحو الشمال ، وها هي تتجه نحو الشمال ، وستلحق به ، و .. لكن ماذا لو كان الحوت القاتل الكاذب كاذباً ، ماذا لو أن ما حكاه عن حوت العنبر ، لا أساس له من الصحة ، يا للويل ، الأفضل له أن يكون صادقاً ، وإلا لن أسامحه مطلقاً ، وسيدفع الثمن غالياً . ولاح في الأفق ، والشمس لم تشرق بعد ، ما يشبه الحوت ، وإن بدا لها ضخماً جداً ، لكن حوت العنبر نفسه ضخم ، بل هو أضخم الحيتان وأقواها و .. وهمّت أن تنطلق نحوه ، وهي تدقق النظر ملياً فيه ، لكنها سرعان ما توقفت .. آه هذا ليس حوت العنبر ، ولا حتى الحوت الأزرق ، وهو أضخم كائن في البحار والمحيطات كلها ، وإنما هو مركب شراعي ضخم ، ومن يدري ، لعله مركب من مراكب صيد الحيتان ، التي تجوب البحار والمحيطات بحثاً عن حيتان العنبر .
" 5 " ـــــــــــــــ أفاقت أنثى الحوت القاتل ، ذات صباح ، على صخب وصيحات ثاقبة ، تعلو على وشوشات أمواج البحر الرقيقة ، ففتحت عينيها الناعستين ، وإذا بها ترى طيوراً بيضاء ، ترفرف متصايحة فوق مياه البحر ، آه .. إنها طيور النورس . وتلفتت حولها ، وهي تشعر بشيء من البرودة ، ولاح لها في الأفق ، ثلاجات بدت لها ضخمة ، آه لقد وصلت القطب الشمالي ، الذي تقصده الكثير من الحيتان ، طلباً للطعام ، فهنا تكثر الأسماك على أنواعها ، بالإضافة إلى الفقمات وطيور النور والحيتان البيضاء . ولفت نظرها من بعيد ، زعانف سوداء ضخمة ، تشق مياه البحر ، هذه ليست زعانف قروش ، وإنما زعانف حيتان قاتلة ، وهي تتجمع هنا كلّ سنة في مثل هذا الوقت ، على شكل عوائل ، تتكون كل واحدة منها من عدة حيتان لا تزيد كثيراً عن العشرة ، تأتي عادة هي وعجولها الصغيرة . وفوجئت برؤية إحدى تلك الزعانف ، تنفصل عن الزعانف الأخرى ، وتتوجه مباشرة نحوها ، ترى من تكون صاحبة هذه الزعنفة ؟ وعرفت صاحبتها ، حين اقتربت منها ، إنها أنثى طيبة مسنة ، إحدى أقرب الاناث إلى أمها الراحلة ، فتقدمت لاستقبالها ، ورحبت بها قائلة : أهلاً ومرحباً ، طاب يومك ، يا عزيزتي . وتوقفت الأنثى المسنة ، وقالت : أهلاً بك ، يا بنيتي ، أرجو أن تكوني بخير . وقالت أنثى الحوت القاتل : يبدو أنكم جئتم إلى بحر المياه الباردة . فقالت الأنثى المسنة : نعم ، وهذا ما نفعله كلّ عام ، كما تعرفين ، يا بنيتي ، والحقيقة إننا افتقداك كثيراً ، وكم تمنينا لو أنك كنت معنا . ولاذت أنثى الحوت القاتل بالصمت ، فقالت الأنثى المسنة : عرفنا بما تريدينه ، وكان عليك في هذه الحالة ، أن تلجئي إلينا ، نحن أهلك . فأطرقت أنثى الحوت القاتل رأسها ، وقالت وكأنها تحدث نفسها : إنه صغيري ، وعليّ أنا أن أقتص له ، من المجرم حوت العنبر . فردت الأنثى المسنة قائلة : صغيرك صغيرنا ، ولو لجأت إلينا ، وتأكدنا مما تقولين إنه حدث له ، لوقفنا جميعاً إلى جانبك ، وانتقمنا لك من قاتله . ولاذت أنثى الحوت القاتل بالصمت ، فقالت الأنثى المسنة : لم تلجئي إلينا ، ولم تخبرينا بأن حوت العنبر هو القاتل . فردت أنثى الحوت القاتل قائلة : لقد أخبرني الحوت القاتل الكاذب ، بأن الذي قتله هو حوت العنبر . وقالت الأنثى المسنة : الحوت الكاذب .. وقاطعتها أنثى الحوت القاتل قائلة : لقد رآه بنفسه . ولاذت الأنثى المسنة بالصمت ، ثمّ قالت : مهما يكن ، لا تكوني عنيدة ، تعالي معي الآن ، وكوني وسط عائلتك ، التي سترعاك وتحميك . ورفعت أنثى الحوت القاتل عينيها المحتقنتين ، ونظرت إليها ، وقالت : جئت بحثاً عن حوت العنبر ، لقد قيل لي أنه هنا ، لن أعود إلى القطيع ، حتى أعثر عليه ، وأنزل به القصاص الذي يستحقه . وهزت الأنثى المسنة رأسها ، وقالت بنبرة محذرة : لكنه حوت العنبر ، يا بنيتي ، وهو من أضخم وأقوى الحيتان في البحار كلها . فقالت أنثى الحوت القاتل : ليكن من يكون ، لقد قتل صغيري ، وسأنتقم منه ، مهما كلفني الأمر . ولاذت الأنثى المسنة بالصمت لحظة ، ثمّ استدارت ، ومضت تشق الماء نحو قطيع الحيتان القاتلة ، الذي ابتعد عنها كثيراً .
" 6 " ـــــــــــــــ طوال ذلك اليوم ، راحت أنثى الحوت القاتل ، تجوب تلك المنطقة من البحر ، المليء بالطوافات الثلجية ، الذي ترتفع في أطرافه عالياً جبال من الجليد ، التي لا تذوب حتى في أشهر الصيف الدافئة . ورغم انشغالها بالبحث عن حوت العنبر ، الذي تتوقع أن تعثر عليه في هذا المكان ، والذي يعجّ بمختلف أنواع الحيتان ، ومنها الحيتان القاتلة ، لم تنسَ نداء أحشائها ، إذ إنها لكي تواصل البحث ، وتتهيأ للإقتصاص من حوت العنبر ، عندما تعثر عليه ، عليها أن تأكل . وما أكثر الطعام هنا ، فأكلت الكثير من سمك الرنكة وطيور النورس والفقمات ، وتمنت لو تأكل شيئاً من الحيتان البيضاء ، التي لابد أن عائلتها من الحيتان القاتلة ، تتمتع الآن بصيدها ، وتناول لحومها اللذيذة . ومن بعيد ، لاح لها تحت أشعة الشمس الساطعة ، نافورة رذاذ ترتفع من حوت ضخم ، وبدا لها أنه يلهو ويمرح ، ورأته يرفع ذنبه الضخم ، ويهوي به على سطح الماء ، فيحدث أمواجاً عالية ، ترى من أي نوع هذا الحوت ؟ لابدّ أنه حوت العنبر . وعلى الفور ، انطلقت أنثى الحوت القاتل ، ومضت تشق ماء البحر ، متجهة نحوه بسرعة ، وعيناها المشتعلتان غضباً لا تفارقانه لحظة واحدة . لكنها سرعان ما تباطأت ، ثم توقفت ، فقد تبين لها ، حين اقتربت منه ، أنه ليس حوت العنبر ، وإنما من نوع الحوت الأحدب ، وهذا الحوت ، وكذلك الحوت الأزرق ، وهو أضخم كائن في العالم ، يأكلان يومياً أطناناً من القشريات الصغيرة ، بعكس حوت العنبر ، الوحش اللعين ، فهو يغوص في الأعماق حتى القاع ، بحثاً عن الحبارات العملاقة ، التي يتغذى عليها . وتراجعت أنثى الحوت القاتل ، ومضت تجوب هذه المنطقة ، مراقبة النوافير التي تطلقها الحيتان المختلفة ، من فتحات التنفس ، حين تخرج من الأعماق ، لعلها تعثر بينها على حوت العنبر . وتوقفت أنثى الحوت القاتل ، قبيل المساء ، ها هو نهار آخر ينقضي ، ولا أثر لحوت العنبر ، لا بأس ، مازالت أيام الدفء في أولها ، وستبقى الحيتان في هذه المنطقة من البحر ، حتى بدايات فصل البرد وتساقط الثلوج ، وتجمد مياه البح ، و .. واشتعلت عيناها بالغضب ، فقد رأت الحوت القاتل الكاذب مقبلاً عليها ، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة ، قالت له : تعال .. تعال .. أنت يسمونك الكاذب ، وأخشى أن تكون اسماً على مسمى .. وتوقف الحوت القاتل الكاذب ، بلونه القاتم المغبر ، على مقربة منها ، وقال : من الواضح ، أنك لم تجدي حوت العنبر حتى الآن .. فقالت أنثى الحوت القاتل ، بشيء من الحدة : ولن أجده إذا كنت كاذباً . وابتسم الحوت الكاذب ، وقال : وإذا قدتك الآن إليه .. وشهقت أنثى الحوت القاتل : حوت العنبر ! وأجاب الحوت الكاذب : حوت العنبر نفسه . فاقتربت أنثى الحوت القاتل منه ، وقالت : قدني إليه .. لكن الحوت القاتل الكاذب ، أشار إلى الشمس ، وهي تغوص في الأعماق ، وقال : الشمس تغرب الآن . وأمسكت أنثى الحوت القاتل به ، وقالت من بين أسنانها : لن أدعك حتى تقودني إليه . وابتسم الحوت القاتل الكاذب ، وقال لها : اطمئني ، سأبقى الليلة إلى جانبك ، وسأقودك غداً ، عند شروق الشمس ، إلى .. حوت العنبر .
" 7 " ـــــــــــــــ أفاقت أنثى الحوت القاتل ، قبل أن تفيق الشمس ، وعلى الفور ، هزت الحوت القاتل الكاذب ، الذي كان مستغرقاً في النوم ، على مسافة قريبة منها ، وخاطبته قائلة : أفق ، ستشرق الشمس قريباً . وفتح الحوت القاتل الكاذب عينيه ، اللتين ما زال النعاس يغشاهما ، وقال : نحن في الفجر . فردت أنثى الحوت القاتل قائلة : لن يبقى حوت العنبر في مكانه ، حتى شروق الشمس . وصمتت لحظة ، ثمّ قالت : هيّا خذني إليه . وعلى مضض ، رضخ الحوت الكاذب لها ، فمضى يشق الماء ببطء ، وهو يقول : اتبعيني . وتبعته أنثى الحوت القاتل ، وحثته قائلة : أسرع ، نحن لم نخرج للنزهة . وردّ الحوت الكاذب قائلاً بصوت هادئ : لا داعي للعجلة ، فحوت العنبر في مكان غير بعيد ، وسنصله قبل شروق الشمس . ومع أولى اشعاعات الشمس ، أشار الحوت الكاذب ، إلى نافورة ماء تتصاعد من بعيد ، وقال : انظري ، ذاك هو حوت العنبر . وتباطأت أنثى حوت العنبر ، وهي تتطلع مبهورة ، إلى ما أشار إليه الحوت الكاذب ، ثمّ توقفت ، وهي تقول : هذا قاتل صغيري ! كم هو ضخم .. وقال الحوت الكاذب ، وهو ينظر معها إلى حوت العنبر : إنه من أضخم وأقوى الحيتان ، في البحار كلها ، ويخافه الجميع ، حيثما وجد . وتقدمت أنثى الحوت القاتل ، تشق الماء نحوه ببطء ، وهي تقول : ليكن من يكون ، إنه قاتل صغيري ، ولابدّ أن ينال جزاءه العادل . وخاطبها الحوت الكاذب ، دون أن يتحرك من مكانه قيد أنملة ، وقال : تروي ، أنت تغامرين بحياتك . وردت قائلة : لقد قتل صغيري . وقال الحوت الكاذب : إنه قاتل لا يرحم . وتباطأت أنثى الحوت القاتل ، وتوقفت تماماً ، حين رأت حوت العنبر يغوص بجسمه الضخم إلى الأعماق ، وتمتمت قائلة : الجبان ، لعله رآني ، وعرف أنني جئت لأقتصّ منه ، فلاذ بالفرار . ورمقها الحوت الكاذب بنظرة سريعة ، وقال : إنه يغوص عميقاً ، بحثاً عن الحبار العملاق ، وهو طعامه المفضل ، ويخوض معه معركة شرسة ، لكنه ينتصر في النهاية ، رغم ما يصب به من جراح عميقة . فقالت أنثى الحوت القاتل : سيخرج بعد قليل ، وأصفي حسابي معه ، هذا القاتل اللعين . وردّ الحوت الكاذب قائلاً : لن يخرج بعد قليل ، بل قد يبقى فترة طويلة . وتمتمت أنثى الحوت القاتل : سأنتظر .. وانتظرت أنثى الحوت القاتل ، انتظرت طويلاً جداً ، حتى أنها قالت ، وكأنها تحدث نفسها : يبدو أن هذا القاتل اللعين ، بدل أن يفترس الحبار العملاق ، افترسه الحبار العملاق نفسه . وهزّ الحوت الكاذب رأسه ، وقال : هذا مستحيل ، فحوت العنبر هو المنتصر دائماً ، مهما كان الحبار العملاق ضخماً وقوياً . وهمت أنثى الحوت القاتل أن تردّ عليه ، لكنها لاذت بالصمت ، حين انشقّ سطح الماء ، وخرج حوت العنبر من الأعماق ، تسبقه نافورة من الماء ، تنبجس من فتحة التنفس ، القريبة من رأسه . وحدقت فيه ملياً ، إنه مجرّح فعلاً ، وبعض جروحه عميقة ، لابدّ أنه خاض صراعاً شرساً مع حبّار عملاق صادفه في الأعماق ، فتقدمت نحوه وهي تقول : فلأهاجمه قبل أن يغوص ثانية . لكنها توقفت فجأة ، حين سمعت صوتاً تعرفه ، يخاطبها بصوت خائف محذر : أمي .. أهذا صغيرها ! لكن الحوت الكاذب قال ، إن حوت العنبر قتله ، والتفتت نحو مصدر الصوت ، ووثب قلبها في صدرها من شدة الفرح ، نعم إنه صغيرها ، صغيرها نفسه ، وتلقته في صدرها ، حين اندفع إليها قائلاً : أمي .. أمي .. وحدقت أمه فيه ، وقالت : لقد أخبرني الحوت الكاذب ، بأن حوت العنبر قد قتلك . وضحك صغيرها الذي لم يعد صغيراً ، وقال : حوت العنبر لم يقتلني أنا ، وإنما قتل القرش الأبيض ، وكان يحاول أن يتعرض لي . ولاذت أنثى الحوت القاتل بالصمت ، ثم قالت متسائلة : لقد انتظرتك ، لماذا لم تعد ؟ فقال صغيرها الذي لم يعد صغيراً : قلت لك مراراً ، يا أمي ، إنني كبرت ، وأريد أن أرى عالم البحار بنفسي ، وأرى جماله . فابتسمت أمه ، وقالت : ورأيته ؟ فردّ عليها مبتسما : نعم ، رأيته ، يا أمي ، وعرفت أنّ أجمل ما فيه هو .. أنت ِ .
7 / 9 /
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيناريوهات قصيرة قيس وزينب طلال حسن
-
سيناريو عرس النار طلال حسن
-
علي بابا
-
رواية للأطفال الثعلب العجوز
...
-
رواية للأطفال بيت بين الأشجار
...
-
رواية للفتيان روح الغابة طلال حسن
-
مسرح صفحات مطوية من الحركة المسرحي
...
-
قصص للأطفال عصافير من مخيمات نينوى
...
-
رواية للفتيان شبح الاهوار
...
-
مسرحية للأطفال الكبش الأحمق طلال حسن
-
قصة للأطفال شيشرون
...
-
صندوق الدنيا طلال حسن
-
قصة للأطفال ماما قصة : طلال ح
...
-
الدبة الصغيرة
-
الاوركا الحوت القاتل
...
-
حوارات مع أديب الأطفال ... طلال حسن
-
رواية للفتيان مرجانه
...
-
قصص للأطفال عصر الديناصورات
...
-
قصة للفتيان اب
...
-
قصة للأطفال الغرير الصغير
...
المزيد.....
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
-
طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه
...
-
بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال
...
-
كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم
...
-
عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة
...
-
مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب
-
محاربون وعلماء وسلاطين في معرض المماليك بمتحف اللوفر
-
إخترنا لك نص(كبِدُ الحقيقة )بقلم د:سهير إدريس.مصر.
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|