أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - قصص للأطفال عصافير من مخيمات نينوى طلال حسن















المزيد.....



قصص للأطفال عصافير من مخيمات نينوى طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7926 - 2024 / 3 / 24 - 10:28
المحور: الادب والفن
    


قصص للأطفال








عصافير من مخيمات نينوى








طلال حسن


على مشارف المخيمات

العصافير لم تخلق للأقفاص ..
وكذلك الأطفال لم يخلقوا للمخيمات ..
العصافير والأطفال خلقوا للفضاءات الحرة .. الآمنة .. النظيفة .. ليعيشوا حياتهم .. في سماء صافية خالية من البوم والشواهين والغربان .. والثعالب الذئاب .
لكن هبتْ عواصف سوداء ، على غابة الطفولة ، فحطمت البيوت والأعشاش ، وقتلت أعداداً من الآباء والأمهات ، وعرضت آلاف الأطفال العصافير للتغرب ومخاطر شتى ، فنزحوا إلى المخيمات .
وفي محافظة نينوى ، ومدينة الموصل بالذات ، وخلال تسعة أشهر من القتال المجنون ، بين مسلحي داعش من جهة ، والقوات الحكومية وقوات التحالف من جهة أخرى ، نزح من الموصل أكثر من " 3 " ملايين مواطن ، بينهم حوالي المليون من الأطفال ، توزعوا على مخيمات كثر ، أقيمت على عجل في العراء .
ومن تلك المخيمات ، مخيم حمام العليل ، وفيه " 500 " طفل ..
ومخيم حسن شام ، وفيه " 250 " طفلاً..
ومخيم السلامية..
إضافة إلى وجود " 65 " طفلاً في الميتم ..
ومخيم ديبكة ..
ومخيم الزاب..
ومخيم جدعة قرب القيارة ..
ومخيم الحاج علي .. الخ
إن هذه الحرب ، إضافة إلى الحروب الكارثية السابقة ، تركت وتترك آثاراً ، وجروحاً لا يمكن أن تندمل ، مهما مرت عليها الأعوام .
ونأمل ، نحن الذين اكتوينا بنار الحروب السابقة ، أن يتجنب أطفال المستقبل التعرض لأوارها ، وآثارها البشعة ، التي مازال يعيشها حتى اليوم أطفال المخيمات في محافظة نينوى .












العيد

صباح يوم العيد ، ارتديتُ الملابس التي أحبها ، سروال الجنز ، الذي اشترته لي جدتي الراحلة من السراجخان ، وكم ضحكت وهي تراني أرتديه ، وقالت .. آخر زمن " ، والتيشر الجميل السماوي اللون ، الذي أهداني إياه خالي عاصم ، قبل أن يأخذه " داعش " من البيت ، ولم نره بعدها مطلقاً .
وقبلتني ماما متباهية بي ، وقالت فرحة : إلى أين ستذهبين ، يا حبيبتي خولة ؟
أجبتها ، وأعوامي الخمسة تتواثب معي : سأذهب إلى مدينة الألعاب ، يا ماما .
ودمعتْ عينا ماما ، وأخذتني بين ذراحيها الدافئين ، وقالت : ستمر هذه الأيام السوداء ، يا بنيتي ، وسنغادر المخيم ، ونعود إلى مدينتنا .. الموصل ، وسآخذكِ بنفسي إلى مدينة الألعاب .
خرجتُ من الخيمة ، التي حولتها ماما إلى غرفة صغيرة نظيفة دافئة وجميلة ، رغم أغراضها القليلة المتواضعة ، ووقفت ماما بباب الخيمة ، تنظر إليّ بعينين متعبتين دامعتين ، وقالت : اذهبي والعبي مع البنات ، يا عزيزتي ، ولا تتأخري ، سأعد لك الغداء .
وذهبتُ ملوحة لماما ، آه حبيبتي هذه الماما ، ستدخل إلى الخيمة ، وستطبخ في غيابي ما تبقى من الرز ، فهي تعرف إنني أحبّ الرز أكثر من البرغل .
وبدل أن أذهب ، وألعب مع البنات ، وكانت بعضهن يلعبن بين الخيام ، اتجهت إلى طارق ، الذي يكبرني بحوالي السنتين ، وكان يسير بملابسه الجديدة ، التي وزعتها المنظمة قبل عدة أيام ، وأخته الصغيرة تسير إلى جانبه ، وحييته قائلة : مرحباً طارق .
والتفت طارق إليّ ، وقال : أهلاً خولة ، عيدكِ مبارك ، وكل عام وأنت بخير .
وأجبته فرحة : وعيدكَ ، يا طارق .
وسكتّ لحظة ، ثم قلتُ مترددة : ماما قالت لي ، أن ألعب مع البنات ، لكني .. أريد أن أتمشى معك ، إذا سمحت ، ومع أختك نجلاء .
وابتسم طارق ، وقال : هذا يسرني .
وتجولنا في بعض أرجاء المخيم ، والأطفال بنين وبنات يضجون فرحين بالعيد ، وتبادلنا أحاديث شتى ، عن المدرسة ، ومدينة الألعاب ، وحديقة الشهداء ، وباب الطوب ، وحدثني طارق عن مجلتي والمزمار وقصص السندباد البحري وعلي بابا ، كما حدثني عن أبيه وأمه وعمه الذي قتل في الموصل ، لأنه يكتب في الصحف والمجلات ، ووعدني أن يعيرني بعض مجلاته إذا عدنا ، في يوم من الأيام ، إلى الموصل .
وعدتُ إلى الخيمة قبيل منتصف النهار ، ونظرت ماما إليّ ، وماما تقرأني وكأني كتاب مفتوح أمامها ، وقالت : آه يبدو أن خولتي غير مرتاحة .
فقلت بصوت حزين : طارق .
ونظرت ماما إليّ متسائلة ، فقلت بصوت تبلله الدموع : سيعود وعائلته غداً إلى الموصل .














بعيداً عن تلعفر

منذ أيام ، وبعد أن وقعوا في الأسر ، ونُقلوا من مكان إلى مكان ، هو وأمه وأختاه الصغيرتان ، وضعوهم في خيمة صغيرة شبه خاوية ، بعد أن كان لهم بيت كبير عامر في مدينة تلعفر .
لم يحتمل الحياة في المخيم ، رغم أنه كان يعجّ بالأطفال ، وكنتأيحنّ دائماً إلى حياتي ، التي ألفتها في مدينة تلعفر ، ويتراءى له أبوه ، حين يعود إلى البيت ، محملاً بما لذّ وطاب ، فيضع سلاحه جانباً ، وينهمك في اللعب معه بأسلحة من البلاستك .
وكثيراً ما كان يقول له ، ستكبر بعد فترة ، ويشتد عودك ، فتحمل السلاح معي ، فنقاتل الكفار ، ونرسلهم إلى جهنم وبئس المصير ، أما نحن ، فحتى لو استشهدنا ، فإننا سنذهب إلى الجنة ، وستكون لكل منا حورية .
وسأل أباه ذات مرة ، وأمه تصبّ الشاي : ما الحورية ، يا أبي ؟
وضحكت أمه ، فقال أبوه : الحورية تشبه أمك .
لكن تلك الأيام الطيبة لم تطل ، فقد ذهب أبوه إلى سنجار ، ليقاتل الأعداء هناك ، ولم يعد ، وكانت أمه تقول لي من خلال دموعها : اصبر ، يا بنيّ ، سيعود أبوك في يوم ما ، لابدّ أن يعود .
وبدل أن يعود أبوه من جبهة القتال في سنجار ، جاءت قوات مدججة بالسلاح ، وأخذتهم من بيتهم في تلعفر ، وانتهى بهم الأمر في خيمة صغيرة خاوية ، ضائعة بين مئات الخيام المنتثرة في العراء .
وحاولت أمه كثيراً ، أن تجعله يتكيف مع الحياة هنا ، ويندمج مع الأطفال في المخيم ، ويلعب معهم حيث يلعبون بين الخيام ، لكن دون جدوى .
ومع ذلك ، كان يصغي إلى الأقاويل ، التي تتسرب إلى المخيم ، وتتناقلها الفتيات أو النساء ، ويتحدثن فيها وهنّ يعملن أمام الخيام ، في النهارات المشمسة ، أو ينقلن ماء الشرب من الخزان إلى الخيام .
وتلك الليلة ، وقد اشتدّ البرد حدّ الجماد ، اقترب من أمه ، التي كانت متمددة تحت البطانية ، وهي ترضع أخته الصغيرة ، وهمس لها : أمي ..
ويبدو أن أمه توجست منه ، فقد ردت بعدم ارتياح : نم يا بنيّ ، الجو بالرد .
لم يبتعد عن أمه ، وقال لها : يقال أن أبي ، وبعض إخوانه ، موجود قرب تلعفر .
ومدت أمه يدها ، وربتت على رأسه ، وقالت : لا تصغي إلى ما يقال ، أنت ماتزال صغيراً ، أبوك موجود وسيعود إلينا في يوم من الأيام .
ولاذ بالصمت ، إن أمه لا تصغي إليه ، ومهما كبر ، فإنه سيبقى صغيراً بالنسبة لها ، وهو في الحقيقة ، وكما يقولون ابن أبيه ، ولم يعد طفلاً صغيراً .
واستيقظت الأم في اليوم التالي ، ولم تجد ابنها في فراشه ، وخفق قلبها قلقاً ، فهبت من مكانها ، وبحثت عنه في أرجاء المخيم ، لكن دون جدوى .
وأبلغت مسؤولي المخيم عن اختفاء ابنها ، فأجروا تحقيقاً في الأمر ، وعرفوا أن الطفل قد تسلل بطريقة ما من المخيم ، وأرسلوا من يبحث عنه ، في ذلك الجو البارد ، وحوالي العصر ، عثروا عليه متجمداً في أحد الوديان القريبة من المخيم .









جرو جدي

قبل أن يأتوا بنا إلى المخيم ، خرج بابا من البيت ، رغم القصف الشديد ، وذهب إلى بيت جدي ، في الحي المجاور ، فقد سمعنا أن صاروخاً وقع على الحيّ في الليلة الماضية .
وسرعان ما عاد بابا ، ومعه هذا الجرو الجميل ، وهو جرو جدي ، الذي كان يحبه كثيراً ، ربما أكثر من حبه لي ، وطالما تمنيت أن أحصل عليه ، بموافقة جدي طبعاً ، وهذا ما لن يحصل .
وأخذت الجرو من أبي ، وضممته إلى صدري ، وقلتُ لأبي : أين جدي ، يا بابا ؟
ونظرت ماما إلى بابا دامعة العينين ، فردّ بابا قائلاً : جدكَ ظلّ في البيت .
وأخذت أداعب الجرو ، الذي كان يحاول الافلات من بين ذراعيّ ، وقلت لبابا : لكن ماما تقول ، إن الصاروخ ربما وقع على بيت جدي .
وارتجّ على ماما ، فقال بابا بصوت حزين : دعك من ماما ، إنها واهمة .
وخشيت أن لا يسمحوا للجرو بدخول المخيم ، فقد أخفيته بين أكوام الملابس ، التي أحضرناها معنا من البيت ، وحاولت فيما بعد ، أن لا يعرف أحد من أطفال المخيم الكثيرون جداً ، بوجود الجرو في خيمتنا ، فقد خفت أن يسرقه أحدهم مني ، والسرقة هنا في المخيم ، كما تقول ماما ، أكثر من السرقة داخل الموصل .
واستيقظتُ اليوم مبكراً ، كأن جدي هزني بيده الشائخة ، وهو يقول لي : بنيّ حسام ، حافظ على جروي ، إنه أمانة عندك ، وعندما تعود إلى الموصل ، اجلبه لي معك ، فهو عزيز عليّ جداً .
ومددتّ يدي ، أبحث عن الجرو ، الذي أنمته إلى جواري ، حين أويت إلى الفراش ، لكني لم أجد له أثراً ، ونهضت من فراشي ، والقلق ينهشني ، وبحثت عنه في كلّ زاوية من زوايا الخيمة ، دون جدوى .
وانتبهت ماما إليّ ، وأنا أدور قلقاً في أرجاء الخيمة ، فتساءلتْ مندهشة : ما الأمر ، يا حسام ؟ عمّ تبحث في هذا الوقت المبكر ؟
فأجبتها ، وأنا مازلت أدور في الخيمة : الجرو ، يا ماما ، جرو جدي ، لقد اختفى ؟
وخرجت من الخيمة ، ورحت أبحث عنه في الجوار ، وبين الخيام القريبة والبعيدة ، دون أن ألتفت إلى ماما وبابا ، وهما يطلبان مني أن أعود إلى الخيمة .
وفي الليل ، أرقدتني ماما إلى جانبها في الفراش ، وراحت تربت على رأسي ، وكأني جروها ، وقلت لها بصوت حزين : ماما ، إنه جرو جدي ، وهو جرو صغير ، وطلب مني أن أحافظ عليه ، وأعيده له عندما نعود إلى بيتنا في الموصل .
وواصلت ماما الربت على رأسي ، وهي تقول : دعك منه ، يا بنيّ ، لابدّ أنه خرج من المخيم ، وذهب إلى جدك ، فهو يحبه جداً .
ونظرت إلى ماما ، وقلت لها : إنه جرو صغير ، يا ماما ، وأخاف أن يضل الطريق إلى الموصل .
فقالت ماما بصوتها الحنون المقنع : لا تخف ، يا بنيّ ، الجراء لا تضل الطريق إلى من تحب ، وسترى حين نعود إلى بيتنا في الموصل ، إنه قد صار كلباً فتياً ، وسيعرفك حالما يراكَ .











بابا

أيقظته حوالي منتصف الليل ، فانقلب مبتعداً عنها ، وهو يدمدم متذمراً ، وهزته بشيء من الرفق ، فقال والنعاس يثقل كلماته : دعيني ، إنني متعب .
ومالت عليه ، وهزته ثانية ، دون أن تلتفت إلى تذمره ، وقالت ، والكلمات تتواثب فرحة بين شفتيها : انهض ، يا خالد ، سامي يتكلم .
ورغم تعبه ، ونعاسه الشديد ، فتح عينيه ، واعتدل في فراشه ، وحدق فيها غير مصدق ، وقال متسائلاً : ماذا ! سامي .. يتكلم !
ابننا سامي الصغير ، في حدود الثانية والنصف من عمره ، وقد بدأ ينطق بعض الكلمات مبكراً ، وأولى ما نطق بصوته الطفولي كلمة : ماما .
لكن سقوط قذيفة هاون ، في فناء بيتنا ، وجرح خالد جرحاً بليغاً ، شلّ يده ، ومقتل هرته الصغيرة المدللة عنده ، جعلته يفقد النطق ، ورغم السادة ، وملاية خجو المباركة ، وحتى الطبيب ، ظلّ سامي على حاله ، ولم ينطق كلمة واحدة ، منذ أن جئنا إلى هذا المخيم ، قبل خمسة أشهر .
ونظر خالد ، على ضوء الفانوس الخافت ، إلى سامي ، وهو يغفو في حضن أمه ، فرفع عينيه إلى الأم ، وقال : لعلك تحلمين ، إنه نائم .
وابتسمت الأم فرحة ، وهي تضم سامي إلى صدرها ، وقالت : كنت نائمة ، حين شعرت بيديه الصغيرتين الحبيبتين ، تتحسسان صدري لابدّ إنه جوعان ، وسمعته يقول بصوت واضح : ماما .
وابتسم خالد فرحاً ، فسامي ولده الأول ، جاءه بعد أكثر من خمس سنوات من الزواج ، فقد ولد لهم في بيتهم القديم في الموصل ، قبل أن يدخل مقاتلو داعش إلى المدينة ، ويستوطنوا ، هم وعوائلهم ، في بعض البيوت ، التي هجرها أهلها خوفاً منهم .
وتململ سامي في حضن أمه ، ونظر إليه خالد ، وقال : انظري ، يبدو أنه سيستيقظ .
وابتسمت الأم ، وقالت : هششش .. دعه نائماً ، يا خالد ، نحن في منتصف الليل .
ورفع سامي رأسه ، عن صدر أمه الدافىء ، ونظر إلى خالد ، فتمتم وهو يحدق فيه : تكلم ، يا سامي ، تكلم يا بنيّ ، هيا .. هيا يا عزيزي .
وقالت الأم بشفتيها ، دون أن تصدر صوتاً : إنه يعرفني فقط .. يعرف من ترضعه .. يعرف ماما .
ولبتسم سامي ، ومدّ يديه إلى خالد ، وقال بصوته الطفولي : بابا ..
ومدّ خالد يديه الفرحتين ، واختطف سامي من بين أحضان أمه ، وراح يقبله ، ويدغدغه ، وهو يقول فرحاً : بابا ، هاهو يقولها للمرة الأولى .
ونظر إلى زوجته ، وسامي مازال بين يديه ، وقال : الأن أنا بابا فعلاً .
















جدة عائشة

علمت من أكثر من مصدر ، أنّ أم أبي عائشة ، وزوجته وولديه في مخيم للعزل ، قرب القيارة ، وهو مخيم مخصص لأهالي داعش .
وقد حاولت دخول المخيم ، لكن المسؤولين عنه ، لم يسمحوا لي بالدخول ، قلت لهم ، إنني ايزيدية ، وأعرف هذه العائلة جيداً ، وأريد فقط أن أراهم ، وأتحث بحضوركم معهم ، لكن لا فائدة ، كان ردهم دائماً بالرفض القاطع .
وخلال تنقلي المستمر في مدينة الموصل ، تعرفت على فتاة شابة متعلمة ، تعمل في إحدى منظمات المجتمع المدني ، التي تعنى بأطفال المخيمات ، وبينت لها ما أريده ، فقالت لي : امهليني عدة أيام ، وسأحاول أن نأخذك معنا إلى هذا المخيم ، لعلك تتمكنين من الاتصال بهذه العائلة .
وذات مساء ، اتصات بي الفتاة الشابة ، وقالت لي في الموبايل : تهيئي ، سنذهب غداً إلى المخيم ، الذي تريدينه ، وسنأخذكِ معنا .
وفي اليوم التالي ، استقليت السيارة معهم ، ودخلنا المخيم ، بدون صعوبة ، وسألت بعض النساء عن عائلة أبي عائشة ، وتوقفت فتاة شابة ، وحدقت فيّ ، وتساءلت : ماذا تريدين منهم ؟ أنتِ تبدين ايزيدية .
فقلت لها بصوت هادىء : إنني أعرفهم ، أعرفهم جميعاً ، وبالذات الجدة الطيبة ، وأريد أن أزورهم ، وأطمئن على سلامتهم .
ولاذت الفتاة الشابة بالصمت لحظة ، وقد بدا عليها عدم الارتياح ، ثم أشارت إلى خيمة قريبة ، وقالت : عائلة أبي عائشة هناك ، اذهبي إليهم .
واتجهت مسرعة إلى الخيمة ، التي أشارت إليها الفتاة الشابة ، وعند بابها رأيت عائشة بأعوامه الخمسة ، وما إن لمحتني ، حتى صاحت : ماما ، جاءت سلوى .
وعلى الفور ، خرجت أمها من داخل الخيمة ، وكانت لا ترتاح إليّ عندما كنت عندهم ، رغم أن الجدة الطيبة ، حذرت إبنها أبا عائشة ، من أن يقترب مني ، أو يمسني ، مهما كانت الظروف .
حييتها قائلة : مرحباً أم عائشة .
وردت أم عائشة بمرارة : بخير ، كما ترين .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : أنتِ الآن حرة ، كان عليكِ أن تذهبي إلى أهلكِ .
فنظرت إليها ملياً ، وقلت بمرارة أشدّ من مرارتها : أهلي كلهم قتلوا ، ولم يبق لي منهم أحد لأذهب إليه ، لا في سنجار ، ولا في أي مكان آخر .
وصمتُ لحظة ، ثم قلتُ : جئت أسلم عليكم ، وأطمئن على الجدة الحاجة .
ولاذت أم عائشة بالصمت ، وقد دمعت عيناها ، فقلت لها : لقد أولتني اهتماماً كبيراً كأني ابنتها ، ولولاها لربما ما كنت لأبقى على قيد الحياة .
وسكتّ لحظة ، ثم أضفتُ قائلة : جئتُ إلى المخيم مع منظمة خيرية ، وسأقدم لكم كلّ ما أستطيعه ، وخاصة ما تحتاجه الجدة من دواء .
وسكتّ عندما رأيتُ دموعها تسيل على خديها ، رغم ما أعرفه عنها من صلابة ، وقالت بصوت مبلل بالدموع : لقد جئت متأخرة ، يا سلوى .
شهقتُ قائلة : الجدة !
فقالت أم عائشة بمرارة : لقد توفيت ، قبل أن نأتي إلى هذا المخيم .









في مخيم الزاب

ذهبت إلى مخيم الزاب ، أريد أن أجري تحقيقاً صحفياً عن أهالي أطفال هذا المخيم ، الذين أخذهم داعش ، أو أختطفوا بطريقة من الطرق .
درست الصحافة والإعلام في الجامعة ، وقرأت الكثير عن صحفيين أعلام ، داخل العراق والوطن العربي ، وكذلك في الخارج .
وقرأت وشاهدت في السينما والتلفزيون ، ما يعانيه الصحفيون والإعلاميون من صعوبات ، ومخاطر قد تعرض حياتهم نفسها للخطر .
وربما لهذا كنت مترددة وخائفة ، عندما دخلتُ مخيماً للاجئين من أهالي الموصل والقرى المحيطة بها ، وإذا نجحت ، ويجب أن أنجح ، فسأزور أحد مخيمات العزل ، التي تضم عوائل داعش وأطفالهم .
وفي المخيم ، التفّ الأطفال حولي ، بنين وبنات ، ومعهم بعض الفتيان والنسوة ، وكانوا يحدقون بأعينهم الغريبة في المصور ، الذي راح يلتقط صوراً لهم .
وهمست للمصور بصوت خافت : توقف قليلاً ، أريد أن أتحدث إلى الأطفال .
وهزّ المصور رأسه ، وأرخى يده بالكامرا ، فالتفت إلى الأطفال ، الذين كانوا حولي ، وقلتُ : أريد أن تحدثوني عن إخوتكم أو أخواتكم أو أقاربكم ، الذين أخذهم داعش ، عندما دخلوا إلى الموصل .
وساد الصمت بين الجميع ، وراح البعض يتبادلون النظر مع البعض الآخر ، وحدقت في فتاة شابة ، رثة الثياب ، كانت عيناها تدمعان ، وقلت لها : تفضلي ، يا عزيزتي ، إذا كان لديكِ ما تقولينه .
فقالت الفتاة الشابة بصوت دامع : أخذوا خطيبي ، كان في السابق يعمل في سلك الشرطة ، وظننت أنهم سيطلقون سراحه قريباً ، فهو بريء ، لكنهم لم يطلقوا سراحه ، ولم أره منذ ذلك الوقت .
وصاحت إمرة غاضبة ، كانت تقف خلفه : ولن تريه ، من يأخذه داعش لا يعود .
وسكتت لحظة ، ثم قالت : أخذوا زوجي ، وله مني خمسة أطفال ، فذهبت إليهم ، أسأل عنه ، فأعطوني ورقة صعيرة ، وقالوا لي ، لا تعودي ثانية ، لقد أعدم زوجكِ ، وألقي في الخسفة .
ودفع بعض الأطفال ، طفلة في حوالي الخامسة ، حنطية اللون ، ذات عينين بنيتين ، وهم يقولون : هذه البنت ، قطعوا رأس أمها في باب الطوب .
وصاحت الطفلة ، وهي تضرب الأطفال بيديها الغاضبتين : كلا ، أنتم تكذبون ..
واقتربت المرأة مني ، وهمست لي بصوت خافت : أمها رشحت إلى مجلس المحافظة ، فأخذوها من البيت ، وقطعوا رأسها أمام الناس .
وانفلتت الطفلة ، ومضت مبتعدة ، وهي يبكي بحرقة ، فلحقت بها ، وأخذتها بين ذراعيّ ، وقلت لها بصوت متعاطف : تعالي ، يا عزيزتي ، لا تبكي .
ورفعت عينيها البنيتين ، الطافحتين بالدموع ، وقالت بصوت مختنق : إنهم يكذبون دائماً ، ويقولون .. قطعوا رأس ماما ، في باب الطوب .
ومددتُ يدي بمنديل ورقي ، ورحت أمسح دموعها عن خديها ، وقلت لها : لا عليكِ منهم ، إنهم .. إنهم مخطئون .. نعم إنهم مخطئون .
فقالت الطفلة ، وهي تشهق : أعرف أنهم يكذبون ، هل أصدقهم أم أصدق بابا ؟
وسكتت لحظة ، ثم قالت : بابا يقول ، إن ماما ذهبت إلى السماء ، وهي الآن في الجنة .





المدرسة

زارتهمْ ، في المخيم ، ذات يوم ، إحدى الناشطات ، وقدمت للأطفال بعض الحلوى ، فأخذوها ، وراحوا يلتهمونها مسرورين .
ولاحظت الناشطة الشابة ، طفلة في حدود السابعة ، تجلس متكومة على نفسها ، مقطبة حزينة ، في زاوية إحدى الخيام ، فلوحت لها بدمية صغيرة جميلة ، وقالت لها : تعالي ، يا حلوة ، وخذيها .
لم تتحرك الطفلة من مكانها ، ولم تبدي أي اهتمام ، لا بالدمية الجميلة ، ولا بالناشطة الشابة نفسها ، فنظرت الناشطة الشابة إلى أم الطفلة متسائلة ، فمالت عليها الأم ، وقالت بصوت خافت : إنها صامتة هكذا ، ولا تذهب إلى المدرسة ، منذ أن رأت الدواعش يأخذون أباها من بيتنا في الموصل .
واقتربت الناشطة الشابة من الطفلة ، وجلست القرفصاء أمامها ، وحدقت فيها ملياً ، ثم قالت بصوت هادىء : أنت بنت حلوة ، ما اسمكِ ؟
لم ترد الطفلة عليها ، بل لم ترفع رأسها ، وتنظر إليها ، فوضعت الناشطة الشابة الدمية في حضنها ، وقالت : خذيها ، إنها هدية لكِ .
وخرجت الناشطة الشابة من الخيمة ، وأشارت للأم أن تتبعها ، فتبعتها الأم إلى الخارج ، وقالت : أشكركِ على اهتمامكِ بطفلتي .
فقالت الناشطة الشابة : ابنتك ليست طبيعية ، خذيها إلى طبيبة المخيم ، وهي مختصة بالصحة النفسية للأطفال ، الذين مروا بتجارب قاسية .
ومضت الناشطة الشابة مبتعدة ، وهي تقول : لا تنسي ، خذيها غداً إلى الطبيبة .
في الغد ، أخذت الأم طفلتها إلى الطبيبة ، فاستقبلتها مرحبة ، وقالت لها : عرفت بحالة ابنتكِ من الناشطة ، تفضلي اجلسي .
وجلست الأم ، وطفلتها إلى جانبها ، وجلست الطبيبة قبالتهما ، وحدقت في الطفلة مبتسمة ، وقالت لها برقة : ما اسمكِ ، يا حلوة ؟
لم تجب الطفلة ، بل لم تنظر إلى الطبيبة ، فقالت الأم مترددة : اسمها صباح .
ومدت الطبيبة يدها ، وراحت تداعب برقة خدي الطفلة ، وهي تقول : صباح ، اسم جميل ، وسيكون أجمل إذا سمعته منكِ أنت ، يا حلوة .
ومرة أخرى ، لم تتكلم الطفلة ، فقالت الأم : إنها تعاني من كوابيس أحياناً ، أثناء النوم في الليل ، وترى الدواعش يطاردونها .
ونظرت الطبيبة إلى الطفلة ، وقالت : لا تخافي ، يا حلوتي ، أنتِ هنا في أمان ، ولن يستطيع أحد الاقتراب منكِ أو من أمكِ .
وتململت الطفلة ، ثم قالت بصوت متحشرج : أخذوا أبي ، ولم يعد حتى الآن .
ودمعت عينا الأم ، وإن بدا بعض الارتياح عليها ، فقالت الطبيبة : أبوك موجود ، وسيعود إليكِ قريباً ، وهو يريدكِ أن تذهبي إلى مدرسة المخيم .
في اليوم التالي ، استيقظت الطفلة بادية الارتياح ، وتناولت فطورها مع أمها ، ثم حملت حقيبتها ، ومضت مع صديقاتها إلى المدرسة .












فراشة في الجحيم

رغم أن خيمتيهما كانتا متجاورتين ، إلا أنهما كانتا لا تتزاوران ، بل إنهما كانتا متنافرتين ، ويبدو أن إحداهما لا تطيق الأخرى .
وطالما قالت الجدة الحاجة ، لزوجة ابنها حصة : يا ابنتي ، اذهبي وزوريها ، إنها غريبة في أرض غريبة ، ولم يعد لها أحد .
وكانت حصة تردّ قائلة : لا شأن لنا بها ، إنها أجنبية ، ولغتها مكسرة كطبعها ، وأنفها في السماء ، وهي تشعر بأنها أفضل منّا ، دعينا منها .
وتقول الجدة : زوجها في المعتقل .
وبانفعال ترد حصة : وزوجي أنا ، إبنك ، أين هو ؟
وتلوذ الجدة بالصمت ، ويتراءى لها ابنها الشاب ، بلحيته الكثة ، وملابسه الغريبة عليها ، والرشاشة في يده ، نعم ، أين هو الآن ؟ هذا ما لا تعرفه .
واليوم ، ومنذ الصباح الباكر ، سمعت الجدة الجارة الغريبة ، تتصايح في خيمتها ، فنظرت إلى حصة متسائلة ، قلقة ، فأشاحت حصة بوجهها ، وقالت : لا شأن لنا بهذه المجنونة ، همومنا تكفينا وتزيد .
وتحاملت الجدة على نفسها ، وذهبت بخطواواتها الثقيلة البطيئة إلى خيمة الغريبة ، وإذا طفلتها ، التي كانت في حوالي السادسة ، تجلس متكورة على نفسها ، في زاوية الخيمة ، وقد خيم الصمت والكآبة عليها .
واقتربت الجدة من المرأة الغريبة الشقراء ، وقالت لها بصوت هادىء : سمعت صوتك تصيحين ، يا ابنتي ، وظننت أن أحداً يضايقكِ .
ونظرت المرأة الغريبة ، إلى طفلتها بعينين تتقادحان غضباً ، وقالت : هذه البنت ستجنني ، أقول لها ، تعالي وتكلمي معي ، لكنها لا ترد .
واقتربت الجدة منها ، وقالت : يا ابنتي ، صغيرتك مريضة بعض الشيء ، فخذيها إلى مستوصف المخيم ، وسيعالجونها لكِ ، وستشفى .
وبشيء من الانفعال ، قالت المرأة الغريبة : كلا ، ابنتي ليست مريضة ، إنها فقط .. عاشت جحيم المعارك في الموصل ، والآن تعيش جحيم المخيم .
فقالت الجدة بلهجة صبورة : جاءت طبيبة نفسانية ، إلى المستوصف الآن ، فليهدكِ الله ، تعالي نذهب إليها ، ونعرض عليها ابنتك .
ولاذت المرأة الغريبة بالصمت ، فتشجعت الجدة ، وقالت : هيا الوقت مناسب الآن ، هيا نذهب إلى المستوصف ، فقد لا تبقى هذه الطبيبة حتى الغد .
وذهبت الجدة والمرأة الغريبة إلى مستوصف المخيم ، ومعهما ذهبت الطفلة على مضض ، وهي مقطبة حزينة ، وهناك فحصتها الطبيبة جيداً ، ثم نظرت إلى المرأة الغريبة ، وقالت لها : ابنتك مريضة .
وانتاب المرأة الغريبة انفعال غير متوقع ، وقالت متشنجة : كلا ، ابنتي ليست مريضة ، إنها مصدومة بسبب الأوضاع ، التي عاشتها، وستشفى .
فردت الطبيبة الشابة قائلة : ابنتك لن تشفى ، إذا لم تعالج ، من قبل طبيب اخصائي .
وصاحت المرأة الغريبة منفعلة : كلا .. كلا .. أنت لا تعرفين شيئاً في الطب .
لم تغضب الطبيبة الشابة ، بل قالت : أنتِ نفسكِ مريضة ، وتحتاجين إلى علاج نفسي .
ومدت المرأة الغريبة يدها منفعلة ، وأمسكت يد ابنتها ، وسحبتها إلى خارج الخيمة ، وهي تقول : هذا خطئي ، لقد خدعت ، وجئت إلى بلد همجيّ متخلف .
ولاذت الطبيبة الشابة بالصمت ، فقالت الجدة : سامحيها ، يا ابنتي ، فقد جاء بها زوجها وطفلتها من المانيا ، فأسر هو ، ومن يدري لعله قتل ، وجاءوا بها وبابنتها إلى هذا المخيم .



الفجر

منذالفجر ، وقبل أن يصيح المؤذن الله أكبر ، بدأ القتال من جديد ، وراحت القنابل والصواريخ تنهال على ما تبقى من خرائب البيوت القديمة ، التي دمرتها الحرب المستمرة منذ أشهر في الموصل .
وأفقت على رضيعتي ، تبكي إلى جانبي ، وتحت الفراش المجاور ، كان رضيع الايزيدية ، التي اشتراها زوجي وتزوجها ، يصرخ بصوت مرتفع ، يا للعنة ، أهذه حياة ؟
ومددت يديّ ، ورفعت رضيعتي من تحت الفراش ، وألقمتها ثديي ، الذي أوشك أن يجفّ ، فكفت عن البكاء ، وراحت ترضع ، بينما ظلّ رضيع الايزيدية يعوي تحت الفراش .
وتلفتُ حولي ، ترى أين ذهبت هذه الايزيدية اللعينة ، تاركة رضيعها يصرخ هكذا ؟ لابدّ أنه جائع ، جائع جداً ، فأمه لا حليب في ثدييها منذ أن ولدته ، أهذه هي الجنة ، التي وعدتني بها ، يا سعدون ؟
وتراءى لها سعدون ، وهو يتكىء على عربته ، التي يبيع فيها قناني الغاز ، وهو يقول لها : تمهلي ، يا رمزية ، سأجعلك تعيشين معي في الجنة .
ترك سعدون عربة بيع قناني الغاز ، وحمل السلاح ، بعد أن أطلق لحيته ، وارتدى الملابس الأفغانية ، آه سعدون جننتني بلحيتك ، وسلاحك اللماع ، وكأنك عمر الشريف ، لكن .. آه ..
رضيتُ بالقلق ، والقتال ، والمخاطر ، لكن .. أن تأتيني بفتاة ايزيدية شابة ، وشقراء ، بحجة أنها دخلت الاسلام ، وصارت منّا ، هذا ما لن أغفره لك ، يا سعدون ، رغم أنني لا أعرف أين أنت بالضبط .
والأنكى أن يأتيني صديقك حامد ، الذي أرادني قبلك ورفضته ، ويقول لي ، رمزية ، تعالي معي ، سآخذك إلى تلعفر ، لقد قتل سعدون .
وارتفع صراخ رضيع الايزيدية ، ترى أين ولت ؟ لعلها هربت ، هؤلاء الايزيديات يهربن مهما كانت المخاطر ، وبعضهن ينتحرن ، يفضلن الموت على العيش مع رجالنا المقاتلين .
ونظرت إلى الطفل الرضيع ، وهو يصرخ ويتلوى ، مهما يكن فهو ابن سعدون ، ويا له من طفل أشقر جميل ، أشقر ، وشعره مثل الذهب و ..
وسقطت قذيفة في الفناء ، وإنهارت أجزاء أخرى من البيت ، يا إلهي ، قذيفة أخرى وأدفن أنا ورضيعتي وابن سعدون تحت الركام .
ونهضت مسرعة ، ورضيعتي الباكية بين ذراعيّ ، وأسرعت إلى مدخدل الغرفة ، التي تهدم بابها الخشبيّ العتيق ، وكدت أندفع نحو الفناء ، لكني توقفت ، فابن سعدون مازال يصرخ ، وكأنه يستغيث بي ، فعدت إليه ، وحملته بين ذراعيّ مع رضيعتي ، واندفعت مسرعة إلى خارج البيت المهدم .
وفوجئت بمئات الرجال والنساء والأطفل يركضون متعثرين من الرعب ، متجهين نحو مواقع القوات المسلحة ، والرصاص يتطاير من حولهم .
واندسست بينهم ، فلأبتعد عن هذا الجحيم ، وأذهب إلى مخيمات اللاجئين ، وأنتظر هناك ، لعل سعدون يلحق بي في يوم من الأيام و ..
ومن بعيد ، سدد قناص ، أزرق العينين ، ذو لحية شقراء ، بندقيته الحديثة ، لابد أنها واحدة من المرتدات الهاربات ، وضغط على الزناد ..








أم ادميعة

عند الفجر ، والشمس مازالت وراء الأفق ، فززتُ من نومي ، رغم أنني لم أنم إلا في ساعة متأخرة من الليل ، فطفلتي نورة ، التي لم تتجاوز بعد السنة الأولى من عمرها ، كانت مريضة .
ومددت يدي إلى طفلتي ، التي كانت ترقد هامدة إلى جانبي تحت الفراش ، وتحسست وجهها ، يا إلهي ، حرارتها مازالت مرتفعة ، بل يبدو أن الحرارة ارتفعت عن الليلة الماضية .
وعلى الفور ، انبثقت الدموع حارة من عينيّ ، وتراءت لي أمي ، وهي تؤنبني ، كفى بكاء ، أنت " أم ادميعة " ، إن حياتنا لا تواجه بالدموع .
وأسرعت إلى الخيمة المجاورة ، التي تقيم فيها " أم صالح " والجدة حماتها ، وبادرتهما بصوت منهار باكٍ : الحقاني ، نورة مريضة جداً .
وهمت " أم صالح " أن ترافقني إلى خيمتي ، فاعترضتها الجدة ، وقالت : أبقي أنتِ عند صالح ، أنا سأذهب إلى نورة .
وجاءت الجدة معي إلى خيمتي ، وحدقت في نورة ، وتحسست وجهها ، ثم قالت : الطفلة مريضة جداً ، علينا أن نأخذها إلى المستوصف .
وحدقت في وجه الجدة ، التي بدا القاق عليها ، وقلت بصوت تخنقه الدموع : لكن المستوصف مغلق الآن ، الدوام لم يبدأ بعد .
فقالت الجدة بصوت منفعل : تهيئي ، يا ابنتي ، سأذهب إلى الخيمة ، وأرتدي عباءتي ، وأعود إليك بسرعة ، لنأخذها إلى المستوصف .
وانهرت إلى جانب نورة ، وأصغيت إلى أنفاسها ، التي تتردد بصعوبة في صدرها الضامر ، وانبثقت دموعي مرة أخرى ، آه أحمد ، ليتني لم أرك ، وليتك لم تأتِ أنت وعمك وأمك لتخطبوني من أمي ، فأبي مات وأنا طفلة صغيرة دون الخامسة .
يا أحمد ، لقد وثقنا بك ، فأنت شاب مستقيم ، تتردد على الجامع كثيراً ، لكنك لم تكن صادقاً معنا ، فأنت لم تقل لأمي ، ولا لي أنا أيضاً ، بأنك داعشي ، وجاء القتال الجحيم في الموصل ، وقتلت .
وتراءت لي ، بعد انتهاء القتال والخراب ، مراجعاتي للدوائر الرسمية ، لأسجل نورة ، ولتكون لها أوراق ثبوتية ، لكنهم رفضوا تسجيلها ، لأن أباها غائب ، طبعاً لم أقل لهم أن أباها قتلته القوات الحكومية ، وإلا لأخذوني أنا ونورة إلى إحدى مخيمات العزل .
وذات مرة ، لحقني شاب ، كان يقف في الغرفة ، التي أراجع فيها ، وقال لي : أختي ، أنا أعرف زوجكِ ، وإذا عرفوا الحقيقة ، ستعتقلين ، وسيأخذونك إلى إحدى مخيمات العزل .
لكنهم عرفوا ، بعد فترة قصيرة ، لا أدري كيف ، فجاءوا ، وأخذوني من البيت ، وها أنا في المخيم منذ أشهر ، ومعي ابنتي الطفلة نورة .
وجاءت الجدة ، وقد ارتدت العباءة السوداء ، فوق ملابسها السوداء ، وانحت على نورة ، ورأيت عينيها تتسعان ، فنظرت إلى نورة ، وهي ترقد هامدة تحت الفراش ، وقلت : ما الأمر !
فردت الجدة قائلة بصوت منطفىء حزين ، وهي تسحب الغطاء فوق عائشة : ليرحمها الله ، ارتاحت .

اشارة : هناك مخيمان للعزل ، الأول في حمام العليل ، وفيه " 500 " طفل ، ومخيم حسن شام وفيه " 250 " طفلاً ، وفي دار الأيتام يوجد " 65 " طفلاً .





أين جميلة ؟

ستصابين بالجنون ، هذا ما يقوله لي زوجي فاضل ، كلما رآني منخرطة في البكاء ، وغالباً ما أردّ عليه قائلة : الذنب كله ذنبكَ .
فقبل نشوب القتال ، بين القوات الحكومية وداعش ، في الساحل الأيسر من الموصل ، أخذ فاضل صغيرتي جميلة ، بجذيلتها المحناة ربانياً ، وأعوامها الخمسة ، إلى جدتها في الساحل الأيمن .
وعاد فاضل مساء ، وترك جميلة عند أمه ، وخفق قلبي المجنون قلقاً ، وحدقت فيه غاضبة ، وقلت بانفعال : فاضل ، أين جميلة ؟
وحاول فاضل تهدئتي ، فقال بصوته الهادىء : اهدئي ، لا داعي للقلق والخوف ، أرادت جميلة أن تبقى عند جدتها يومين أو ثلاثة أيام .
لكني لم أهدأ ، وكيف أهدأ وجميلة بعيدة عني ، وفي الساحل الأيمن من المدينة ، وصحت به : قد يبدأ القتال في أية لحظة ، أريد جميلة إلى جانبي ، أمكَ لن تستطيع أن تحميها ، هات لي ابنتي ، هاتها .
وبدأ القتال في الساحل الأيسر ، ومنع الأهالي من مغادرة بيوتهم ، وراحت القنابل والصواريخ تدك البيوت بمن فيها ، من الأهالي وداعش .
وخرج المئات والآلاف من الأهالي ، نساء ورجالاً وأطفالاً ، من الأحياء التي تعرضت للضرب بالقنابل والصواريخ ، وأخذتهم القوات الحكومية ، ونقلتهم بعيداً عن ساحات القتال .
ورفضت مغادرة البيت ، وجميلة بعيدة عني ، لكني أضطررت ُ إلى الخروج ، عندما سقط صاروخ في جانب البيت ، وهدم جزء منه .
وصاح فاضل ، وهو يراقب الهاربين من الجحيم : هيا ، فلننجُ بجلدنا من هذا الموت .
فصحت به ، وأنا لا أتزحزح من مكاني : لا أريد أن أنجو ، وجميلة تحت القنابل .
فدفعني إلى تيار الناس الهاربين ، وهو يقول بصوت مضطرب : هيا أيتها المجنونة ، جميلة عند جدتها ، في الساحل الأيمن ، وليس هناك قتال .
وجرفني تيار الناس ، ورحنا نركض ، والرصاص يحصد العشرات من الهاربين ، حتى وصلنا إلى القوات الحكومية ، التي أخذتنا إلى أماكن آمنة ، ثم نقلنا إلى هذا المخيم ، الذي أقيم في العراء .
وهذا المساء ، شعرت بالاختناق داخل الخيمة ، فنهضت متجهة إلى الخارج ، فاعتدل فاضل في فراشه ، وقال : ابقي هنا ، وارتاحي .
فأجبته ، وأنا أخرج من الخيمة : إنني أختنق ، سأموت إذا بقيت في الخيمة .
ولم ألتفت إليه ، حين سمعته يقول لي : قفي بباب الخيمة ، لا تبتعدي .
ووقفت في باب الخيمة ، وأنفاسي تكاد تختنق في صدري ، أتطلع إلى الأفق البعيد المدمى ، حيث تقترب الشمس من المغيب .
وفجأة رأيتها ، رأيت جميلة ، بأعوامها الخمسة ، وجذيلتها المحناة ربانياً ، كانت تسير في الطريق المترب ، فوجدتني أسير وراءها ، إنني لم أرها منذ أشهر ، وها هي أمامي ، حيبيتي جميلة .
لابدّ أنها مع الجدة في خيمة قريبة ، وتوقفت " جميلة " عند خيمة قريبة ، وصاحت : ماما ..
ماما ! يبدو أنني واهمة ، ربما صاحت .. جدة ، وستخرج الجدة إليها ، فلأسبق الجدة ، وأفاجىء جميلة بحضوري ، وتقدمت من " جميلة " ووقفت أمامها مبتسمة ، وقلت : جميلة .
لكن جميلة لم ترد ، وإنما رفعت عينيها ، وراحت تحدق فيّ ، ماذا ! لم تعرفني ؟ إنني .. إنني أمها ، وخرجت امرأة من الخيمة ، فارتمت " جميلة " في أحضانها ، وهي تقول : ماما .
وأفقتُ مرتجة متأثرة ، وكأني أفيق من حلم لا أريد أن أفيق منه ، وتراجعت خطوات إلى الوراء ، وقلت : ابنتك جميلة ، تشبه ابنتي .. جميلة .
وربما رأت المرأة دموعي ، فاقتربت مني ، وأخذتني بين ذراعيها ، وعانقتني ، ثم قالت : لا تبكي ، ابنتك موجودة ، وآمل أن تعود إليكِ قريباً .















الملفتة

نام ولداي ، في فراشيها ، في طرف الخيمة ، سعاد بأعوامها الستة ، وعينيها العسليتين ، ونادر بأعوامه التسعة ، وقامته النحيلة الفارعة .
وقبل أن يناما ، تناول كلّ منهما نصف " صمونة " ، كانت كلّ ما تبقى عندنا اليوم من طعام ، أما أنا ، فقد تمددتُ متعبة في فراشي ، دون أن أتناول لقمة واحدة ، ولا عجب ، فأنا أمهما .
واستيقظت مبكرة ، صباح اليوم التالي ، سيستيقظ ولداي ، ويتلفتا في الخيمة ، ولن يجدا ما يأكلانه ، وتراءت لي أمي ، ليرحمها الله ، وهي تروي لي ، أن خالها عاد يوماً إلى البيت ، وسأل أمه : ماذا سنأكل اليوم ؟
فأجابته أمه : ملفتة .
وفغر الخال فمه على سعته ، ونظر إلى أبيه ، الذي كان يغالب ابتسامته الشاحبة ، وتساءل : ملفتة ! أهي باللحم أم بدون لحم .
فهزّ أبوه رأسه ، وقال ضاحكاً : الملفتة ، يا بنيّ ، هي أن تتلفت في البيت ، فلا تجد شيئاً تأكله .
واستيقظ الولدان ، سعاد ونادر ، واعتدلا في فراشيهما ، ونظرا إلى أمهما ملياً ، يطلبان بصمت ما يسكت جوعهما ، فقلت لهما : كانت لدينا صمونة واحدة ، مساء البارحة ، وأكلتماها كلها ، انتظرا فقد توزع علينا اليوم حصة غذائية .
ونهضت سعاد من فراشها ، وخرجت من الخيمة ، وهي تقول : إنني جائعة .
ونهض نادر ، وصاح بها : إياكِ أن تمدي يدكِ إلى أحد ، مهما كنتِ جائعة .
ومضت سعاد ، دون أن ترد بكلمة ، وجلس نادر إلى جانبي ، وقال : لو كان أبي هنا ..
وسكت نادر ، وأطرق رأسه ، فقلت له : أبوك أخذه داعش ، كما تعرف ، وقد يُطلق سراحه قريباً ، ويعود إلينا ، وتنتهي معاناتنا .
ودخلت سعاد الخيمة ، وهي تنهش بقايا صمونة ، فهبّ نادر واقفاً ، وقال : سعاد ، قلتُ لك أن لا تمدي يدكِ إلى أحد ، وتتسولي .
وابتعدت سعاد عنه ، وهي مازالت تنهش بقايا الصمونة ، فقال نادر ، وهو يخرج من الخيمة : أبي رجل ، وهو لا يريدنا أن نتسول ، مهما طال غيابه .
لم أرتح للهجة نادر ، وخفت مما قد تنطوي عليه ، رغم إنني لم أرتح لما فعلته سعاد ، لكني ارتحت بعض الشيء ، عندما قالت سعاد : ماما ، لم أستجدي ، تلك الصمونة أعطتني إياها جارتنا أم أحمد .
وعاد نادر قبيل منتصف النهار ، ومعه ثلاث صمونات ، فنظرت إليه ، وقلت : بنيّ نادر ، من أين لك هذه الصمونات الثلاث ؟
وتقدم نادر إلى سعاد ، التي كانت تنظر إليه صامتة ، وقدم لها صمونة ، ثم قدم صمونة لي ، وقال : لنأكل ، يا ماما ، نحن جوعى .
ونظرت سعاد إلى الصمونة ، لكنها لم تأكل منها ، ونظرت إلى نادر ، والصمونة في يدي ، وقلت له : نادر ، أبوك لا يريد لنا أن نستجدي ، لكنه لا يريد لنا ، ومهما كانت الظروف ، أن نسرق .
ولاذ نادر بالصمت ، فدفعت له الصمونة ، وكذلك فعلت سعاد ، فقلت له : هذه الصمونات الثلاث ، ربما أخذتها من عائلة ، قد لا تملك غيرها .
وأخذ نادر الصمونات الثلاث ، وغادر الخيمة ، دون أن يتفوه بكلمة .








الكابوس

أفقتُ لا كما أفيق كلّ يوم ، ونحن في كابوس دائم ، أنا وطفلتي سمر ، ذات الأعوام السبعة ، التي ولدت على مشارف الكابوس ، وعاشت دقائقه الثثقيلة والمميتة حتى قبل الانفجار القاتل بعدة أعوام .
وتلفتّ حولي .. بياض .. بياض .. بياض .. وملفوفة ببياض كامل ، من رأسي حتى أسفل قدميّ ، أين أنا ؟ في المستشفى ! أم في .. في برزخ القبر ، لكن البرزخ ، على ما قيل ، ليس أبيض ، و ..
وأطلّ عليّ وجه فتاة شابة ، ملفوفة بالبياض أيضاً ، أهي ملاك من ملائكة الجنة ؟ من يدري ، وحيتني الفتاة بلكنة كردية : صباح الخير .
لم أردّ عليها ، والأحرى لم أستطع الردّ عليها ، ويبدو أنها تعرف وضعي ، فأضافت قائلة بلكنتها الكردية : أنت بين أيدي أمينة ، في المستشفى .
وأغمضت عينيّ ، دون إرادة مني ، وغطست في نوم عميق ، وتراءى لي ، اللحظات الأخيرة ، وأنا مع عدد من الجيران المرعوبين ، أجبرنا القصف المستمر ، للجوء إلى ما تبقى من بيت كبير ، يحتل الدواعش بأسلحتهم الفتاكة سطحه وبعض غرفه .
وارتفع أزيز طائرة ، راح يقترب شيئاً فشيئاً ، فأطبقت على صغيرتي بذراعيّ المرتعشتين ، وخبأتها في صدري ، و .. وانفجر بركان العالم ، وتاهت الوالدة عن ولدها و .. وساد الظلام .
وفززتُ من أعماق كابوسي ، وفتحت عينيّ المجنونتين ، وحاولت أن أعتدل ، فامتدت إليّ يدان شابتان ، وأسندتاني برفق ، وجاءني صوت الممرضة الشابة بلكنه الكردية : اهدئي أختي ، أنت بخير ، وستتماثلين للشفاء قريباً ، وتخرجي من المستشفى .
ونظرت إلى الممرضة الشابة ، بثيابها البيضاء الناصعة ، وتساءلت بحرقة : أين ابنتي ؟
ونظرت إليّ الممرضة الشابة متسائلة ، فاستطردت قائلة بحرقة أشدّ : ابنتي .. سمر .
فقالت الممرضة الشابة : لقد جاءوا بكِ وحدكِ ، ستشفين قريباً ، وتعرفين كلّ شيء .
وشفيت ، فالشقي بقي ، وخرجت من المستشفى ، وجاءوا بي إلى هذا المخيم ، وعرفت كلّ شيء ، لقد أخرجوني من تحت الأنقاض ، أقرب إلى الموت مني إلى الحياة ، ونقلوني إلى المستشفى ، أما ابنتي سمر ، فإنهم لا يعرفون عنها أي شيء .
قالوا لي ، ابنتك ربما تحت الأنقاض ، مع العشرات والمئات من الضحايا ، وربما قتلت أثناء هرب الأهالي المتبقين في الخرائب ، وربما ..
لا .. سمر ليست تحت الأنقاض .. وسمر لم تقتل .. إنها ابنتي الوحيدة .. وسأموت لو .. لا .. لا .. سمر موجودة في مكان ما ، وسأبحث عنها حتى أجدها .
وبحثت عن سمر في كلّ مكان ، وبحث عنها معي كلّ الطيبين ، لكني لم أعثر على أثر لها ، بحثت بالأخص في مخيمات اللاجئين ، من بينها مخيم حسن شام ، الذي يضمّ " 250 " طفلاً ، بل وحتى في مخيم العزل ، قرب حمام العليل ، الذي يضم " 500 " طفل من أطفال داعش .
وقالت لي امرأة عجوز : اذهبي إلى الميتم ، فهو يضم " 65 " طفلاً ، من الأطفال الذين عثر عليهم أثناء القتال ، يجوبون الشوارع وسط القتال .
وذهبت إلى الميتم ، وفحصت الأطفال الذين فيه ، القدماء منهم والجدد ، فلم تكن ابنتي سمر بينهم أيضاً ، وتوقفت وصحت بأعلى صوتي ، سمر ، أين أنتِ ؟ فجاءني الصدى : سمر .. أين أنتِ ؟
وانكفأت على نفسي ، في خيمتي الصغيرة الضائعة بين الخيم ، لا أكاد أغادرها لأي سبب من الأسباب ، ومرت الأيام ، يومماً بعد يوم ، لا لون لها ولا طعم ، مادامت سمر غائبة ، فإن كل شيء غائب .
وذات يوم ، عند الضحى ، دخلت عليّ في الخيمة امرأة في أواسط العمر ، حدقت فيّ ملياً ، ثم قالت بصوت هادىء واثق : أنتِ أم سمر .
هببتُ من مكاني ، وقد أصابني الخرس ، فأخرجت المرأة صورة من حقيبتها ، وأرتني إياها ، وقالت : انظري إلى هذه الصورة ..
شهقت من أعماقي ، كأنّ الروح ردت إليّ ، وقاطتها قائلة بصوت متحشرج : هذه ابنتي ، سمر .
فابتسمت المرأة ، وقالت : اطمئني إنها معي الآن .
وطوقتها بذراعيّ ، كأني استغيث بها للعودة إلى الحياة ، وقبل أن أتفوه بكلمة ، قالت : عثرت على سمر ، وأنا أهرب مع الهاربين ، من جحيم الموصل ، فأخذتها معي ، وسمعت بك قبل أيام ، فجئت إليك .
ومدت يدها ، وأطبقت برقة على يدي ، وهي تقول : تعالي معي ، سمر عندي في بيت لي في الساحل الأيسر من الموصل .





الدوامة

خرجتْ من البيت بسرعة ، تاركة صغيرها يصرخ في فراشه ، لقد نفد حليبه ، ولابد له من حليب ، فهو لم يرضع منذ يوم أمس .
وقد طلبت من ضرتها ، الزوجة الأولى لزوجها المقاتل ، الذي غنمها هي في معركة سنجار ، أن ترضع إبنها ، لكنها رفضت ، وقالت لها بتشفٍ واضح : حليبي قليل جداً ، وهو بالكاد يكفي ابنتي .
واندفعت إلى الزقاق ، الذي كانت تملأه الحجارة ، التي انهارت من البيوت المتهدمة ، وأسرعت إلى بيت قريب ، تسكنه عائلة موصلية ، لعلهم يعطونها شيئاً من الحليب لطفلها ، وإن كانت تعرف أنهم يكرهون الدواعش وعوائلهم وحتى أطفالهم .
ورأت بيتاً قريباً ، وكان بابه موارباً ، وهمت أن تتجه إليه ، وإذا قنبلة هاون تسقط عليه ، وتدمر البقية الباقية منه ، واندفعت بعيداً عن الزقاق ، وصادفها شارع مليء بالعربات والآليات المحطمة ، يندفع من أزقة قريبة منه ، أعداد كبيرة من الناس الخائفين الراكضين نحو أعلى الشارع ، حيث تتواجد القوات الحكومية .
ووجدت يازي نفسها وسط الناس الهاربين ، وفوجئت بفتاة ايزيدية في عمرها ، تطبق على ذراعها ، وتصيح بها : أنتِ ايزيدية مثلي ، تعالي نهرب ، إن أحداً لن يعرفنا ، لعلنا نستطيع الخروج من الموصل .
وتوقفت يازي ، وقالت : كلا ، طفلي في البيت .
وصاحت بها الفتاة : أيتها الحمقاء ، إنه ليس طفلك ، أسرعي ، ولننجّ بأنفسنا .
ولم تتحرك يازي من مكانها ، وقالت : مهما يكن ، إنه ابني ، وهو يشبهني .
وقبل أن تنتهي من كلامها ، انفجرت على مقربة منهما قنبلة هاون ، أدت إلى سقوط العديد من الهاربين ، وأعقبها مباشرة سيل من الرصاص يطلقها مقاتلو داعش على الهاربين ، فدفعت الفتاة الايزيدية يازي ، وهي تصيح بها : هيا ، هيا ، سيقتلنا مقاتلو داعش إذا وقعنا في أيديهم هذه المرة .
وخرجت يازي والفتاة الايزيدية من الموصل ، بعد أن تسلمتهما مع غيرهما من الهاربين القوات الحكومية ، وأخذتهم جميعاً إلى إحدى المخيمات ، وهناك أقامتا في خيمة وحدهما وسط مئات الخيام .
وفي الليلة الأولى ، قبل أن تأويا إلى فراشيهما ، قالت الفتاة الايزيدية : لا داعي لأن نبقى في هذا المخيم فترة طويلة ، نحن ايزيديتان .
ونظرت يازي إليها مستفسرة ، فأضافت الفتاة الايزيدية : لنذهب إلى أهلنا .
فقالت يازي : لم يعد لي أهل ، قتلهم الدواعش جميعاً .
وقالت الفتاة الايزيدية : لقد حدثتني عن خطيبك ، اذهبي إليه حيثما كان .
وهزت يازي رأسها ، وقالت : ماذا أقول له ؟ إن لدي طفل من مقاتل داعشي .
قالت الفتاة الايزيدية : لا ذنب لك في هذا ، كما لا ذنب لي فيما أصابني ، نحن ضحايا .
فقالت يازي : اذهبي أنتِ ، سأبقى هنا حتى أجد طريقة للهجرة إلى الخارج .
ذهبت الفتاة الايزيدية إلى أهلها ، وكانوا قد لجأوا إلى الشيخان ، وبقيت يازي في خيمة وحدها لا تعرف ماذا تفعل ، لكن آخر شيء يمكن أن تفكر فيه هو أن تذهب إلى خطيبها ، وهي تعرف أنه في الشيخان أيضاً .
وذات يوم ، عند الضحى ، كانت يازي ماتزال في فراشها داخل الخيمة ، حين أحست أن أحدهم يقف بالباب ، لابد أنها إحدى جاراتها اللواتي كنّ يتعاطفن معها ، لكنها اعتدلت ، وقلبها يخفق بشدة ، حين سمعت صوتاً شاباً يخاطبها قائلاً : يازي .
ونظرت يازي إليه ، إنه خطيبها خضر ، وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة اقترب منها ، وقال : هيا تعالي نذهب من هنا ، يا يازي .
قالت يازي ، والدموع تملأ عينيها : لم يعد لي أحد أذهب إليه ، لقد قتل أهلي جميعاً .
فمد خضر يده ، وأمسك يدها ، وقال : لا تقولي هذا ، يا يازي ، عائلتي هي عائلتك ..
ثم أشار بيده إلى نفسه ، وأضاف قائلاً : إن لديك .. خضر، يا يازي ، ولن أتخلى عنك العمر كله .














الفهرس
ــــــــــــــــــــــ
1 ـ على هامش المخيمات 1
2 ـ العيد 4
3 ـ بعيداً عن تلعفر 7
4 ـ جرو جدي 10
5 ـ بابا 13
6 ـ جدة عائشة 16
7 ـ في مخيم الزاب 19
8 ـ العودة إلى المدرسة 22
9 ـ فراشة في الجحيم 25
10 ـ جنة سعدون 28
11 ـ أم ادميعة 31
12 ـ أين جميلة ؟ 33
13 ـ الكابوس 38
14 ـ الملفتة 41
15 ـ الدوامة 45





#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية للفتيان شبح الاهوار ...
- مسرحية للأطفال الكبش الأحمق طلال حسن
- قصة للأطفال شيشرون ...
- صندوق الدنيا طلال حسن
- قصة للأطفال ماما قصة : طلال ح ...
- الدبة الصغيرة
- الاوركا الحوت القاتل ...
- حوارات مع أديب الأطفال ... طلال حسن
- رواية للفتيان مرجانه ...
- قصص للأطفال عصر الديناصورات ...
- قصة للفتيان اب ...
- قصة للأطفال الغرير الصغير ...
- قصص قصيرة جداً عبارة الموت ...
- ثلاث روايات قصيرة للأطفال طلال حسن
- محطاتي على طريق أدب الأطفال ...
- أسد من السيرك
- قصة للأطفال الترمجان قصة ...
- رواية للفتيان اورانج اوتان ...
- قصة للأطفال آدزانومي قصة طلال حسن
- رواية للفتيان تار والسندباد ...


المزيد.....




- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - قصص للأطفال عصافير من مخيمات نينوى طلال حسن