أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رعد مطشر - ذبولُ الحمام















المزيد.....

ذبولُ الحمام


رعد مطشر

الحوار المتمدن-العدد: 1758 - 2006 / 12 / 8 - 09:41
المحور: الادب والفن
    


سحبت آخر سلال اليأس وعبّأتها .. بحياتي التي لا تشبه حياتي ، حياتي التي يتقاسمها البياض وسلال الورد ، خدع الأطباء وأيادي الشفقة .
كانت تتحرك أمامي ، ترتـّب موضع الورد في سلال الآتين المهنئين بالسلامة الذاهبين بلمعة النحيب , وضعت سلتين على حافة الشباك العريضة ، أزاحت الستائر فشعّ ظلّ الفراشات الملتصقة على زجاج الشبابيك ، الداخلة من خارج المستشفى إلى داخل الغرفة بهدوء ٍعاصف , إستدارت حاملة السلة الثالثة ، ثم وضعتها على الطاولة القريبة من باب الحمام الداخلي :
- ( هنا أفضل )
خطتْ بإتجاه باب الغرفة المفتوح , سدّتْه بلطف :
- ( حتى لا تدخل الفراشات منه ثانية ، عشنا وشفنا .. فراشات في الشتاء وبهذه الكثافة .. تنزل على زجاج الشبابيك كالمطر .. منذ أول الشتاء وهي تبحث عن ثقب تدخل منه ) .
- ( إفتحي الباب ، دعيها تدخل ) .
إنحنت لترفع علبة السكائر الساقطة قرب الكرسي الطبي المتحرك ثم وضعتها عليه وخطت بإتجاه سريري :
- ( لنْ أفتحه .. من أجلك فقط .. دعني أغطيك ، فالجو بارد .. هذا الشتاء أبرد الشتاءات التي مرّت علينا منذ أربعة أعوام ) .
سحبت البطانية ، غطت قدمي وإنحنت لرفع كتابي المنكفيء على الأرض :
- ( هذه الفراشات اللعينة تسقط حاجياتنا كثيراً .. يتحدثون عن حماقاتها وموتها .. يقولون إنّها ملأت الردهات ، فعيّنت إدارة المستشفى منظفين جدد لكنس أكوامها المنتحرة ، في ردهات الكسور والجراحة خصوصا ) .
- ( إنّها مخلوقات بريئة .. جميلة تتداعى سريعا .. وترتبك من علامات الحزن وتضطرب فتعانق نارها دون ضجة )
- ( لا عليك منها .. هل كتبت شيئا جديدا ؟)
- (……….)
أحستْ بأنّها أرتكبت خطأ ًقاتلاً... ودّت لو تموت في هذه اللحظة فيتدحرج لسانها كالكرة ، ويجفّ ريقها .. عرفت ذلك من إطراقتها المفاجئة ، وتحليق هالات عينيها العسليتين الناميتين في طرق تعرفها وطــرق لا تعرفها ، الممتدتين عبر سلالات صدقها المـوروث في خفايا الروح ، في شحوبها الذي كثيرا ما تعثرت به كفاي الذاويتان في مرايا الأمس ، وفي شفتيها الراسمتين مدن الحيرة :
- ( أعني .. لقد طمائنني الطبيب .. ستنهض عمـّا قريب و .. تمشي ) .
إحتارت كيف تصوغ عبارة الإرتباك تلك ، وأدركتُ , فجأة , أنّ الشيب قد إجتاح ليـل شعرها ؛ وإحتجت لعصور طويلة لأعرف ذلك ، وأدرك أن حلمها قد تهدم وهي ترى فارسها المليء بالحلم والحياة قد ترجـّل أخيرا .. ممدد القدمين .. مكتوف اليدين ، وكأن أغلالاً من الوهم قد ربطته الى خوائها ، فنما إرتباكها الى عيون مطرقة تغمغم بقطرات الندى والنار ، وتـناسل حزنها الى ممالك من الوحدة والكشف اليومي عن كمية الفراشات المنتحرة ، الهائمة بحدائق الله بعيدا عن هذه الحياة الآيلة للخواء ، آخذة ًمعها بهاء الرجل الممدد بإنتظار فراشات أخر ، تحبـّه وتهيم به ، تستيقظ قبله لتلمس برودة البلاط وتحليق الخسائر المسفوحة تحت أجنحة الإنفجارات ... فتتساءل :
- ( لمَ يحدث هذا ؟! ) .
فترش المفاجآت إنتفاضتها على تأريخ أسئلة الصفاء ، والشك الذي ينتابها كل شتاء . ومع كل زيادة في كمية الفراشات المنتحرة على الجدران ، على السقوف على أغلفة الاعلانات، في الحمّامات ، في أروقة الدوائر المغلقة ، وفي شبابيك المسيرة الخاوية لقدميها ، وحيدةً ، يلجم نورها قيد المرور .. فتضرب عن الطعام ، متعلّلة بشتى الذرائع والحجج :
- ( كُلْ أنت .. فأنّني أكلتُ قبلك ) .
كانت تذوي ، تبرز عظامها ، وتنفر عروق يديها ، تتحالف مع نبش الصمت حيث تهيم في عـزلة الفراشات اللاصقة ، في عزلتها ، كما لو كانت تهيم في فراديس تسكب فيها ..حياتها :
- ( خُذ ْمن يدي هذه اللقمة .. كنْ قويا .. حتى تمشي قريبا .. وتكتب عنك .. وعني أشياء جديدة ) .
يداها كيدي شيخ عجوز متغضّن الجلد !
- يالبؤسي ... ماذا أفعل لأعيد الحياة لتلك الزهرة الذابلة ؟ وأنا الآخر .. متعب مثلها وحالتي النفسية تزداد سوءً رغم المهدئات والقراءات والمسكنات ، والكتابات ، والحقن .. وكذلك صحتي , فأقفُ عاجزا كتمثال حطّمه الوقت والصمت لا يثير الإنتباه .. ولا حتى الشفقة ، ولا يملك من إشراقه القديم سوى ذكرى مخيفة تحولت الى إكتئاب ٍوتوحش في الصمت والتهويل والتفنن في إبتكار الخدع الممتعة للنفس وللعزلة :
- ( ستمشي مستقبلاً ) .
أخبرني الطبيب ، سأمشي رغم رصاص الخوف الذي يمرّ في كلّ لحظة تسقط فيها كتلة جديدة من الفراشات اللاصقة ، ولا أستطيع منع الرصاص عنها .. ولا هي تقدر أن تمنعه من النيل من جسدها المضبّب بالجوع , وكيف تقاوم ذلك ؟ وهي تراني هكذا ، أنا حبيبها ، فارسها الذي رسم لها الكون شراعاً ضاحكاً يبحر بها صوب مدن الماء ، مروراً بمدن الفراشات الطائرة بأمان .. فتبحر معي حتى نهايات الثغور والكمائن ، وبدايات الحقول الملغومة بالمفاجآت والسلامة .. ثم أضحى ذاك الشراع الأخضر قطعة متسخة ًلمسح بلاط غرفة باردة في مستشفى حكومي تهاجمه أسراب الفراشات المنتحرة ، كذراعي الطائرة في فضاء المسافات البعيدة ؛
- ( لقد طارت يدي اليمنى ... هناك ).
وشعرتُ بأنّ كلّ أفواج السواد هاجمت بأذرعها الهلامية ، ميمنتي ، مستغلة غياب قدمي وسكون الردهة وإغفاءة الكرسي الطبي المتحرك :
- ( بماذا تفكر ؟) .
- ( لاشيء .. لا شيء .. أفكر بكتابة البياض .. بياض المستشفى ، بياض الرحلة .. وأنت .. أين وصلنا في القراءة ، اليوم ؟ )
- ( لحظة ) .
مدّتْ يدها ، سحبت الكتاب من تحت وسادتي ، سحبتها نحوي ، طوّقتها بيدي اليسرى ، أجلستها جنبي وبدأت تقرأ :
- ( تاج ٌبعدُ آخر / سيرحلُ السرب / لمَنْ .. سننصب الفخاخ َ.. إذن ؟ ) .
- ( لرحلتنا القادمة ) ..
سحبتُها مع الكتاب نحوي .. ونمت ُ.
هامشٌ مِنْ أجل توضيح القصد :
بإستطاعة أفراد الكمين الليلي ، العابرين الى أرض الكمين ، مرورا بطريق الثغرة المحاط من جانبيه بأسلاك ٍشائكة ، أن يلاحظوا ويـروا قدمين مقطوعتين في الأرض الخـلاء ، وذراعا يمنى .. مازالت تنتفض وكانّها رأس قتيل مقطوع الأعضاء ، وكلما حاولوا دفن تلك الأعضاء خوفاً من إجتياح الذكرى.. تتحول الى فراشات تمرّ – موشومة بسواد ٍمميت – تسمو عالياً حتى تغيب .. مهاجرة نحو بياض المستشفيات وردهاتها .. ملتصقة على زجاج الشبابيك المهشمة .
وبإستطاعة المسافرين العاشقين للمفاجآت والمدن السائبة ، أن يسافروا شمالاً الى مدينة كرخيني ثم يغادرونها شمالاً – أيضا – قاطعين ( 45 ) كيلو متراً بعدها ستظهر لهم مدينة صغيرة تقع في منخفض رطب يسمّيها أهلها ( تحلية ) : دبس .. يخترقون سـوقها الصغير ، منحـدرين نحو باب سياجها الرئيـس المحيط بحــي ( الكهرباء ) ، يمشـون قليلا لمئتي متر ، ثم ينحرفون بعدها يميناً .. ثم .. يصلون الى ملعب ( الكهرباء ) ليجدوا حبيبها المقاتل .. فتستولي عليهم الدهشة , لانّه مازال يحرس مرمى فريقه ، يصدّ ويشتـّت كل كرات المهاجمين العالية ، يصدها برشاقة الأمس وكبرياء اللحظة ، فتتحوّل الى فقاعات صابون في السماء , لكن حيـن يخذله ( الأشباه ) .. ( فالمدافعون ) .. وتمرق كرات الخصم منهم ، كالنمور ، تجتاحه كرات الأرض، من تحت قدميه ، لتتجمع في شباكه كرؤوس الموتى ، تحتذي عشبها وترعى إدانة القذائف اللائذة بين الحجر والعشب ، وليس من مخرج ٍمن هذه الحيلة إلا بتجمّع الكرات في سلال يأسه .. كالورد .. فيسقط .. هكذا ..


------------------------------
- كرخيني : الإسم القديم لمدينة كركوك ، في محافظة كركوك شمالي العراق
- دبـس : مدينة تابعة لمحافظة كركوك .. تقع في الشمال الغربي من مدينة كركوك بمسافة..
- الأماكن والشخصيات التي وردت ضمن متون القصص ؛ كلّها من مدينة كركوك .. بإستثناء الغزاة والطغاة والسحرة المتكررين في كوابيس المدينة... كركوك...






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثمّة مهرجون وقتلة في غابة الطيور الذبيحة
- بحرٌ ميّتٌ.. وأناسٌ أحياءُ
- الملوك ُ...الفرائسُ
- الأباطرةُ .. العوانس
- باسم فرات... ذاكرة السومريّ المُدَجّج بالأحلامِ والأسئلة
- نجاة عبد الله ... قيامة استفهامي مغمسة بالجنون والجنوب
- كركوك
- غربة داخل النص في اعتقاله :
- غربة داخل النص في اعتقاله
- هناءات ٌ متكرّرةٌ ... إليكِ مرّة ٌ أخرى
- كانت البلاد تنامُ عند ساعديه .. بأمان
- كلكامشُ يسألُ عن بلاد وادي الموتيْن
- وأنا أتقاطرُ مِنْ مِعْصمي
- سلاماً .. أيُّها الفؤادُ السالم بالعراق
- تماسكي بغداد .. فالانفجار قريب
- هنا تماماً.. هنا... حريقُ بغداد
- هل كان ميلادنا .. مقبرة أفراحنا
- أيام الشاهين القتيلة
- رسالة ليست متأخرة ... الى ولدي محمد
- ايام الشاهين القتيلة


المزيد.....




- تكريم الأديبة سناء الشّعلان في عجلون، وافتتاحها لمعرض تشكيلي ...
- ميريل ستريب تعود بجزءٍ ثانٍ من فيلم -Devil Wears Prada-
- ستيفن سبيلبرغ الطفل الذي رفض أن ينكسر وصنع أحلام العالم بالس ...
- أشباح الرقابة في سوريا.. شهادات عن مقص أدمى الثقافة وهجّر ال ...
- “ثبت الآن بأعلى جودة” تردد قناة الفجر الجزائرية الناقلة لمسل ...
- الإعلان عن قائمة الـ18 -القائمة الطويلة- لجائزة كتارا للرواي ...
- حارس ذاكرة عمّان منذ عقود..من هو الثمانيني الذي فتح بيوته لل ...
- الرسم في اليوميات.. شوق إلى إنسان ما قبل الكتابة
- التحديات التي تواجه الهويات الثقافية والدينية في المنطقة
- الذاكرة السينما في رحاب السينما تظاهرة سينما في سيدي بلعباس


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رعد مطشر - ذبولُ الحمام