أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي يوسف - العمل الفني في عصر استنساخه التقني - فالتر بنيامين















المزيد.....


العمل الفني في عصر استنساخه التقني - فالتر بنيامين


مجدي يوسف

الحوار المتمدن-العدد: 7734 - 2023 / 9 / 14 - 11:00
المحور: الادب والفن
    


فالتر بنيامين Walter Benjamin
العمل الفني في عصر استنساخه التقني
فصل من دراسة نُشرت عام 1927

لطالما كان العمل الفني دائمًا ومن حيث المبدأ قابلًا لأن يُعاد إنتاجه. فما صنعه الإنسان يصير دومًا في الأماكن أن يحاكيه سواء من البشر. ينطبق ذلك على تلامذة الفن فيما يؤدون من تدريبات ، كما ينطبق على كبار المبدعين حين يعملون على نشر وتعميم إنتاجهم ، ثم أخيرًا على الباحثين عن الربح من وراء ذلك. وفي مقابل ذلك كله لا نلبث أن نتبين أن إعادة إنتاج الأعمال الفنية بالطرق الآلية بات حديث العهد ، فقد دخل التاريخ في فترات متقطعة وعلى مراحل متباعدة، وإن يكن على نحو تنامت كثافته بسرعة خاطفة. فاليونانيون لم يعرفوا سوى نوعين من عمليات إعادة إنتاج الأعمال الفنية هما الصب والصك. فهم لم يعيدوا إنتاج الأعمال الفنية على نطاق واسع إلا ف ي قوالب من البرونز المصبوب ، أو الطين المحروق، أو العملات. وما عدا هذه الوسائط فقد ظلت الأعمال الفنية في ذلك الوقت أحادية لا قبل لإعادة إنتاجها.
وباكتشاف الحفر على الخشب صار فن الغرافيك ممكنًا للمرة الأولى ، فهو قد سبق تعميم الكتابة عن طريق الطباعة بوقت طويل. ولعل ما أحدثته الطباعة من تحولات مهولة في صناعة الأدب من خلال إعادة إنتاج الكتابة آليًا لمن الأمور المعروفة للكافة، إلا أنها تُعد بالنسبة للظاهرة محط التأمل هنا في بعدها العالمي حدثًا أحاديًا خاصًا ، وإن كان له من الخطر ما له. وإلى جانب الحفر على الخشب اكتشفت خلال القرون الوسطى (الأوروبية) تقنيتان ، ألا وهما : النقر على النحاس مباشرة ، والحفر عليه باستخدام المواد الكيميائية الحمضية ، ثم تقنية الطبع على الحجر في بداية القرن التاسع عشر ، أو ما صار يُعرف بفن الـ "ليتـو".
هكذا حققت تقنيات إعادة إنتاج الأعمال الفنية بطبعها من على الحجر مرحلة جديدة بالفعل. فهذه التقنية الرفيعة المستوى تميزت على سابقاتها من دهن الرسوم على الحجر إلى النقش على الخشب أو الحفر الكيميائي في سطوح النحاس، بأن مكنت لفن الحفر (الغرافيك) أن يعرض للمرة الأولى منتجاته في الأسواق ليس فقط بكميات كبيرة، على النحو الذي كان مألوفًا حتى ذلك الوقت ، وإنما بالمثل في أشكال متجددة ومتنوعة كل يوم. هكذا صار في إمكان فن الحفر أن يرافق الحياة اليومية بنقوشه المصورة، ومن هنا فقد بدأ يلاحق فن الطباعة.
ولكنه ما أن اكتشفت الصور الضوئية (الفوتوغرافيا) حتى تم تجاوز فن الطباعة من على الحجر، وهو الذي لم يكن بدوره قد مضى على اكتشافه إلا عقود قليلة. ذلك أنه مع التوصل لإعادة إنتاج الصورة ضوئيًا أمكن لليد أن تتحرر للمرة الأولى من القيام بمهام فنية على درجة قصوى من الأهمية كي تستأثر بوظيفتها العين الشاخصة في العدسة وحدها. ولما كانت العين ترصد على نحو أسرع من اليد وهي ترسم، فقد أمكن دفع عملية إعادة إنتاج الصورة بشكل رهيب حتى أمكنها أن توازي سرعة الحديث المنطوق. وهكذا صار في إمكان المصور السينمائي أن يثبت الصور على البكرة في معمله بنفس سرعة الحديث الذي يجري على لسان الممثل. ومن ثم أمكن القول بأنه إذا كانت الطباعة من سطح الحجر وراء إصدار المجلة المصورة ، فإن التصوير الضوئي يحمل بين جنباته صدور الفيلم الناطق. ومع نهاية القرن التاسع عشر بدأت محاولات إعادة إنتاج النغم، حيث أدت هذه الجهود المتضافرة إلى وضع عرَّفه " بول فاليري" بقوله : " كما يفد الماء إلى دورنا قادمًا من بعيد، وكذلك يفعل الغاز وتفعل الكهرباء لتكون رهن إشارتنا لمجرد حركة باليد لا تكاد أن تلحظ ، كذلك صرنا نزود باللوحات الفنية والمتتابعات النغمية التي صارت تأتينا بحركة خفيفة من اليد تكاد أن تكون محض إشارة خاطفة ، وكذلك تغادرنا بمثلها ".
في منعطف القرن التاسع عشر بلغت تقنية إعادة الإنتاج حدًا من التطور جعلها لا تقتصر على أن تجعل كافة الأعمال الفنية المتوارثة موضوعًا لعملياتها ، وأن تحدث أعمق التحولات فيما تخلفه تلك الأعمال من أثر، وإنما تزيد على ذلك بأن تنتزع لنفسها مكانة خاصة في إطار تقنيات صناعة الفن. ولدرس ما بلغته هذه التقنيات من تطور ليس هنالك ما هو أكثر إفصاحًا من تجلياتها المتمثلة في إعادة إنتاج العمل الفني، وفن السينما، وكيفية انعكاس هذه التجليات على الفن في صوره المتوارثة.
مهما بلغت إعادة إنتاج العمل الفني أقصى درجات الإتقان، فإنه ينقصها أمر هام ، ألا وهو الـ "هنا " و "الآن"، اللذان يتميز بهما كل عمل فني، أو بعبارة أخرى وجوده المتفرد في الموقع الذي يتجلى فيه. فعلى هذا التواجُد المتفرد، وليس على أي شيء آخر توقفت العمليات التاريخية التي خضع لها العمل الفني أثناء المراحل التي مر بها. وتندرج في هذا الإطار التغيرات التي طرأت على بنيته المادية (الفيزيقية) على مر الزمان، ناهيك عن التحولات التي ربما طرأت على علاقات ملكيته. ولا يمكن التعرف على أثار الأولى إلا بإجراء التحليلات الكيميائية أو الفيزيائية ، أما بالنسبة للثانية (علاقات الملكية) فهي موضوع تراث لا سبيل لمتابعته إلا ابتداء من الموقع الأصلي للعمل الفني. ذلك أن وجود العمل الفني (الـ "هنا " و"الآن") هو الذي يحدد مصداقيته. أما عمليات التحليل الكيميائي على سطح عمل فني مصنوع من البرونز فيمكن أن تساعد على التحقق من مصداقيته، كما يساعد على التحقق من مصداقية وثيقة ترجع إلى القرون الوسطى بإقامة الدليل على أنها تنتمي إلى أرشيف يعود إلى القرن الخامس عشر. على أن مجال المصداقية برمته لا ينطبق على تقنيات إعادة الإنتاج فضلًا عما عداها من تقنيات (كأنواع وأعداد نسخ الموناليزا، مثلًا، التي أنتجت على مدار كلٍ من القرن السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر).
فبينما يحتفظ العمل الفني الأصلي بمصداقيته كاملة في مقابل إعادة إنتاجه يدويًا ، وهو ما جرى العُرف على أن يسبغ عليه صفة التزوير، فإن هذا لا ينطبق على إعادة إنتاج العمل الفني آليًا. وعلة ذلك مزدوجة : فهو بإعادة إنتاجه آليًا يصبح في مقابل الأصل أكثر استقلالًا من محاكاته يدويًا، إذ أن ذلك قد يمكِّن في حالة الصورة الضوئية ، مثلًا، من إبراز وجهة نظر العمل الأصلي، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالاستعانة بعدسة متحركة يختار لها زاوية محددة (وهو ما لا يُتاح أصلًا للعين البشرية) أو باللجوء إلى تقنيات معينة كالتكبير، أو تبطيئ سرعة التقاط المشاهد، وهو ما لا قِبَل للبصر الطبيعي أن يأتي به ، هذا أولًا. كما أنه باستطاعته، ثانيًا، أن يضع صورة الأصل في مواضع وسياقات لا قِبَل له أن يحققها كأن يمكنه من التوجه نحو مستقبليه، وذلك إما على هيئة صور ضوئية، أو اسطوانة تسجيلية. فالكاتدرائية تغادر مكانها لتنتقل إلى استوديو أحد محبي الفنون، والعمل الموسيقي الذي يؤدي في قاعة فسيحة أو في الهواء الطلق بمصاحبة جوقة إنشاد صار يمكن الاستماع إليه في غرفة محدودة.
لإن كان من الجائز ألا يتعرض السياق الذي يقدم ناتج إعادة إنتاج العمل الفني في إطاره لاستمرارية العمل الفني، إلا أنه ينفي في جميع الأحوال تواجده ( "هنا" و"الآن"). وإذا كان ذلك لا يصدق على العمل الفني وحده، وإنما ينطبق بالمثل على مشهد طبيعي قد يعرض على مشاهد لأحد الأفلام ؛ فإن ما يدور في هذه العملية يمس العمل الفني في صميم جوهره على نحو يفوق حساسية الخبرة الطبيعية ذاتها. فمصداقية الشيء تشكل جوهر كل ما يمكن أن يتواتر عنه، وذلك ابتداءً من استمراريته المادية ووصولًا إلى شهادته التاريخية. ولما كانت الثانية مؤسسة على الأولى، فإن ما يحدث في عملية إعادة الإنتاج من انفراط الأولى عن قبضة الإنسان، يحدث بالتبعية للثانية، إذ تصير الشهادة التاريخية للشيء في مهب الرياح. لا مماراة في ذلك ، وإن كان الذي يترنح بالفعل في مهب الرياح هو مصداقية الشيء ذاته. (فأسوأ عرض ريفي لمسرحية "فاوست" يتفوق على عرض فيلم عن فاوست في أنه يقف ، ولو من حيث المبدأ، على قدم المنافسة مع العرض الأول لهذه المسرحية في "فايمار"، فما يمكن أن تستعيده ذاكرة المشاهد من مخزون تراثي أمام خشبة المسرح لا سبيل لأن يحدث في مواجهة شاشة السينما ـ من ذلك مثلًا : أن صديق غوته في شبابه "يوهان هاينريش مرك" إنما يقبع خلف شخصية "مفيستو".)
خلاصة القول فيما نحن بصدده هنا يتمحور حول مفهوم تفرد الخبرة بحيث يمكننا أن نقول إنَّ ما يصيبه الضمور ويذوي في عصر إعادة إنتاج العمل الفني هو هذا التفرد. وإن ما يحدث هنا لمؤشر دال خاصة وأن خطره يتعدى مجال الفن.
ذلك أنه يمكن القول أن تقنية إعادة الإنتاج تفصل كل ما يعاد إنتاجه عن مجال التراث. فهي عندما تستنسخ ما يعاد إنتاجه إنما تضع في مكان حدوثه المتفرد كثرة لا حدود لها. وعندما تسمح للعمل المستنسخ أن يتوجه إلى الملتقى في موقعه ، فهي إنما تضفي عليه طابع الحاضر. إن كلتا هاتين العمليتين تؤديان إلى زعزعة مهولة للموروث والتراث، زعزعة تشكل الوجه الآخر للأزمة الراهنة ولتجدد البشرية. وإن هاتين العمليتين لعلى صلة وثيقة بالحركات الجماهيرية في وقتنا الراهن . أما أقوى وأعتى ممثليها فهو الفيلم السينمائي. وإن خطورته الاجتماعية لهي الأخرى في أوج تألقها ، وإن كان يكمن في طياتها بالذات جانبها الهدام التطهيري متمثلًا في تصفية الموروث الثقافي بما يحمله من قيم. ولعل هذه الظاهرة تتبدى بوضوح في الأفلام التاريخية الكبرى. كما أنها لا تتوقف عن ضم مواقع جديدة إلى مجالها. فعندما أطلق "آبل جانس" Abel Gance صيحته عام 1927 : " إن شكسبير، ورمبرانت ، وبيتهوفن سيصنعون للسينما أفلامًا .. إن كافة الأساطير، ودعاة الأديان، بل الأديان نفسها تترقب بعثها الضوئي، وها هم أنصاف الآلهة يتزاحمون على الأبواب". عندئذ كان يدعو ـ دون أن يقصد ـ إلى تصفية شاملة للموروث الثقافي.
خلال الحقب التاريخية الكبرى تتحول من بين ما يتحول مع أسلوب الوجود الشامل للجموع البشرية ، الطريقة التي يدركون بها حسيًا. فالنهج الذي ينظم به الإدراك الحسي ذاته لدى البشر، ذلك الوسيط الذي تتم هذه العملية عن طريقه، ليس طبيعيًا وحسب، وإنما يحمل أيضًا طابع التاريخ. فزمن هجرات الشعوب الذي فيه نشأت كل من صناعة الفنون في العصر الروماني المتأخر، ومخطوطة "نشأة الكون" البيزنطية المزودة بالرسوم والمحفوظة في "فيينا" (التى ترجع إلى القرن السادس الميلادي تقريبًا)، لم يعرف فنًا مختلفًا عن فنون الإغريق وحسب، وإنما أيضًا إدراكًا حسيًا مختلفًا ؛ ذلك أن عالمي "مدرسة فيينا" : "ريجل" و "فيكهوف" ، اللذين عارضا التركيز على تراث الإغريق والرومان، ذلك التراث الذي ظلت تلك الفنون مدفونة تحت ثراه، كانا أول من استخلص منها ما يفيد التعرف على تنظيم الإدراك الحسي في زمانها. وعلى الرغم من اكتشافاتهما الضافية في هذا المجال، إلا أن حدود ما توصلا إليه تمثلت في أنهما اقتصرا على مجرد الكشف عن المعالم الشكلية التي ميزت الإدراك الحسي في العصر الروماني المتأخر. فهما لم يحاولا ـ بل ربما لم يخطر ببالهما - أن يبينا الطابع الاجتماعي لتلك التغيرات التي طرأت على الإدراك الحسي، أما في الوقت الحاضر فشروط مثل هذا الاستبصار صارت أفضل.
وإذا كانت التغيرات الطارئة على وسيط الإدراك الحسي ـ وهي التي نعاصرها الآن ـ تفهم على أنها انحسار الخبرة المتفردة ، عندئذ يمكن الكشف عن شروطها الاجتماعية. لعله من المفيد أن نوضح تفرد الموضوعات التاريخية الذي سبق أن اقترحناه بمثال من مفهوم تفرد الموضوعات الطبيعية. وتُعرف هذا الأخيرة بأنها تجلي الشيء البعيد مهما كان دانيًا لمرة واحدة. ففي عصر يوم صيف نتابع فيه باسترخاء سلسلة الجبال على الأفق، أو فرع شجرة يلقي بظله على آخر ساكن، إنما يدل ذلك على "استنشاق" تفرد هذه الجبال وفرع الشجرة ذاك. من خلال هذا المثال يصير من اليسير علينا أن نتبين الطابع الاجتماعي لتدهور ظاهرة الخبرة المتفردة في وقتنا الراهن.
ومرجع هذا التدهور ملابستان مرتبطتان بالأهمية المتنامية للجماهير في حياتنا. وهو ما يتمثل في الرغبة الأكيدة من جانب الجماهير الراهنة لتقريب الأشياء مكانيًا وإنسانيًا، بنفس القدر الذي تنزع فيه إلى التغلب على تفرد كل خبرة أصلية من خلال تلقي إعادة إنتاجها.
فنحن نتبين كل يوم بما لا يحتمل الشك أن ثمة حاجة ملحة إلى تملُك الشيء عن قرب في صورته ، أو بالأحرى في نسخته المصورة، أي في مستنسخه. ولعل الاستنساخ الذي يطالعنا في تصاوير المجلات و"الأخبار الأسبوعية المصورة" يتميز على نحو جلي عن الصورة. فبقدر ما نجد التفرد والاستمرارية ملاصقًا للأخيرة، بقدر ما تتصف الأولى بالعبور الخاطف والتكرارية. فنزع القشرة والغلاف عن الشيء وتدمير تفرده يشكل معلمًا لإدراك حسي تعاظم لديه "توجه ذهني نحو كل ما يبدو متشابهًا في العالم"، حتى أنه يستخلصه أيضًا من كل ما هو متفرد عن طريق عملية الاستنساخ. وهكذا يتبدى في مجال المشاهدة ما نلاحظه في الحقل النظري من اضطراد أهمية الإحصاء. فتوجه الواقع نحو الجماهير، شأنه شأن توجه الجماهير نحو الواقع بشكل عملية بالغة المدى بالنسبة للفكر وللرؤية في آن.
إن تفرد العمل الفني يطابق ارتباطه الوثيق بسياق التراث. ولا شك أن هذا التراث ذاته يتمتع بقدر لا بأس به من الحيوية والتحول ، فمثلًا تمثال "فينيس" كانت مكانته عند الإغريق الذين جعلوه موضوعًا لطقوسهم الدينية ، تختلف عنه لدى كهنة القرون الوسطى الذين رأوا فيه صنمًا يجلب الشؤم والنحس. على أن ما وقعت عليه أعين كل منهما هو تفرد هذا العمل. فقد كان التعبير الأولي عن توطين العمل الفني في نسق تراثه يتمثل في الطقس. وكما نعلم ، فإن أقدم الأعمال الفنية كانت في أول الأمر في خدمة الطقوس السحرية، ثم في خدمة الطقوس الدينية من بعد. ولذلك فمن الأهمية بمكان ألا يحدث أي فصل بين تفرد العمل الفني ووظيفته الشعائرية ؛ وبعبارة أخرى يمكن القول أن القيمة الوحيدة للعمل الفني "الأصلي" إنما تنهض على ارتباطها الوثيق بالطقس الشعائري الذي فيه تجلت قيمته الاستعمالية الأصلية والأولى. ولا بأس أن تتخذ هذه القيمة الاستعمالية ما شاءت من الأشكال ، فهي حتى في أشد الممارسات الجمالية دنيوية إنما تتبدى في ثوب طقس علماني. فالممارسة الجمالية الدنيوية التي تبلورت في عصر النهضة وسادت على مدى ثلاثة قرون متصلة ، ما لبثت أن كشفت بوضوح عن تلك الجذور بمجرد أن تعرضت لأول هزة كبرى.
ذلك أن الفن عندما استشعر دنو الأزمة (الأمر الذي صار مفروغًا منه بعد ذلك بمائة عام) من خلال صعود أول وسيلة إعادة إنتاج ثورية بحق ، ألا وهي الصورة الضوئية (التي جاءت متزامنة مع أولى بشائر الاشتراكية) جاء رد فعله بأن وضع نظرية "الفن للفن" التي صارت بدورها لاهوتًا للفن. ومن أحشاء هذه النظرية خرجت فكرة لاهوتية سالبة تقول بالفن "الخالص" ـ الذي لا يرفض وحسب أن يكون له أي وظيفة اجتماعية ـ وإنما أى تعريف يتصل بأي موضوع بالمثل. (كان "مالارميه" أول من بلغ هذا الموقع الأيديولوجي في مجال الشعر).
إن الوقوف على هذه السياقات لا مناص منه إذا ما أردنا أن نتفحص العمل الفني في عصر استنساخه التقني. ذلك أنها تمهد لعملية التعرف التي تلعب دورًا حاسمًا هنا، وهي التي مفادها أن إمكانية استنساخ العمل الفني يحرره للمرة الأولى في التاريخ من تواجده الطفيلي في حضن الشعائر الطقوسية.
فالعمل الفني المستنسخ سيظل دائمًا وبشكل مضطرد إعادة إنتاج لأعمال فنية قابلة للاستنساخ. فمن اللوحة الفوتوغرافية ـ مثلًا ـ يمكن استخراج العديد من النسخ، وهنا يصبح التساؤل بلا معنى أيِّ منها هو الأصل. ففي اللحظة التي يسقط فيها مقياس أصالة العمل الفني تصبح الوظيفة الاجتماعية للفن وقد تحولت برمتها تحولًا ثوريًا. فبدلًا من أن يؤسس الفن على الطقوس الشعائرية يصبح مؤسسًا على ممارسة مختلفة ، هي ممارسة السياسة على وجه التحديد.
يتم تلقي الأعمال الفنية حسب توجهات عدة يمكننا أن نستخلص منها قطبين ، أولهما يؤكد على العمل الفني ، وثانيهما على قيمة عرضه. فإنتاج الفن يبدأ بموضوعات تقوم على خدمة الطقس الشعائري ، بحيث يكون من الأهم بالنسبة لها أن تكون متواجدة على أن تشاهد. فحيوان الأيل الذي صوره إنسان العصر الحجري على جدران كهفه كان أداة سحرية. إذ كان إنسان ذلك الزمان يعرض تصاويره على من يتعامل معهم من الناس ،ولكنه كان يخص بها الأرواح في المقام الأول. كما يبدو اليوم أن القيمة المؤسسة على طقس (ديني) تلح على أن يظل العمل الفني محجوبًا عن الناس. فبعض تماثيل الآلهة كانت مشاهدتها قاصرة على الكهنة في الغرفة المخصصة لممارسة الشعائر الدينية ، وبعض صور العذراء يعلوها غطاء يحجبها طوال العام تقريبًا ، كما أن بعض التماثيل في كاتدرائيات القرون الوسطى الأوروبية تستعصي على الرؤية بالنسبة لمن يقف بمساواة الأرض. إلا أنه مع تحرر الممارسات الفنية من ربق الطقوس الشعائرية أصبح من الممكن إتاحة عرض منتجاتها على الملأ.
فإمكان عرض تمثال نصفي يمكن أن يبعث هنا أو هناك ، لهو أيسر من عرض تماثيل آلهة تظل قابعة في موقعها الثابت داخل المعبد. كما أن إمكان عرض لوحة فنية يكون أفضل منه بالنسبة لفن الرقش أو الرسوم على القماش الذي تغطي به الجدران باعتبارهما سابقين على فن اللوحة. وإذا كانت عملية تقديم قداس كنائسي قد لا تقل عن عرض عمل سيمفوني، فقد نشأت السمفونية في اللحظة التاريخية التي تمكنت فيها أن تتفوق على القداس الكنائسي من خلال عرضها على الملأ.
مع تنوع طرق إعادة إنتاج العمل الفني تنامت إمكانية عرضه إلى حد بعيد، بحيث أدت الإزاحة الكمية بين قطبيه إلى أن يشابه ما حدث في عصر الإنسان الأول، أي إلى تحول كيفي لطبيعته. فكما كان العمل الفني لدى الإنسان الأول يقوم بشكل مطلق على قيمته الطقسية، حيث كان أداة سحرية في المقام الأول ، لدرجة أنه لم يدرك باعتباره عملًا فنيًا إلا بعد ذلك بحين ، فإن العمل الفني يقوم في يومنا هذا على التأكيد على قيمة عرضه ، وهو ما يجعله يحمل وظائف جديدة تمامًا أبرز ما نعيه فيها الآن هو جانبها الفني ؛ ذلك الجانب الذي سيصبح بدوره هامشيًا في وعي مراحل تاريخية قادمة.
على أية حال فمن المؤكد أن الصورة الفوتوغرافية في الوقت الراهن ومن بعدها الفيلم السينمائي يقدمان أفضل دليل على صحة هذه القناعة.
مع ظهور الصورة الفوتوغرافية بدأت قيمة العرض في خسف القيمة الطقسية للعمل الفني على طول الخط ، لكن هذه الأخيرة ـ أي القيمة الطقسية ـ لا تنزوي بلا مقاومة. فهي تمد خطوطًا دفاعية تتمثل في محيا الإنسان. لذلك فليس من باب المصادفة أن نجد تصوير الوجه البشري في مركز الصورة الفوتوغرافية. فمن خلال طقس تذكر الأحباء البعيدين أو الراحلين عثرت القيمة الطقسية للصورة على ملاذها الأخير ؛ فعن طريق التعبير الخاطف على محيا الإنسان يلوح لنا وللمرة الأخيرة من خلال الصور الفوتوغرافية الباكرة تفرد التجربة الجمالية. ولعل ذلك هو ما يسبغ عليها طابع الحزن والحنين الدافق ، وذلك الجمال الذي يندر أن نجد له مثيلًا ، إلا أنه ما أن ينسحب الإنسان من مركز الصورة الفوتوغرافية حتى تنتصر للمرة الأولى قيمة العرض على قيمة الطقس.
ولعل الأهمية الكبرى للفنان " أتجيـه Atget " تنبع من أنه جسد هذه العملية. فهو قد صور شوارع باريس حوالي عام 1900 وهي خالية من البشر تمامًا. لذلك فقد وصف عن حق بأنه صور باريس وكأنه يصور أحد الجرائم في موقعها. ذلك أن موقع الجريمة يكون بدوره خاليًا من البشر، فتصويره إنما يستهدف القرائن. والحق أن لقطات "أتجيه" تُعد فاتحة لتحول التصوير الفوتوغرافي إلى أداة لتقديم القرائن على عمليات تحول التاريخ. وهذا هو ما تنطوي عليه أهميتها السياسية. فهي تتطلب تلقيًا من نوع محدد ، إذ لم يعد يتفق معها التأمل الحالم الحر. ذلك أنها تبث القلق في المتلقي الذي يستشعر بدوره أن عليه أن يبحث عن طرق محددة تفضي إليها. هذا بينما تقدم له المجلات المصورة دليلًا يستكشف به معالم الطريق، حيث يستوي هنا أن يكون صحيحًا أو خاطئًا.
ففي هذه المجلات تصبح الكتابة أمرًا لا غنى عنه. ولعله من الواضح أن تلك الكتابات لها طابع مختلف تمامًا عن ذلك الخاص بعناوين اللوحات. فالتوجيهات التي يتلقاها مشاهد الصور في المجلات من خلال الكتابة لا تلبث أن تصبح أدق وأكثر إلزامًا في حالة الفيلم السينمائي حيث تبدو وجهة نظر كل صورة محددة سلفًا من خلال تتابع اللقطات السابقة عليها.

ترجمــة : مجدي يوسف
المصدر : Walter Benjamin : Illuminationen. Suhrkamp Verlag. Frankfurt a. M., 1977.



#مجدي_يوسف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاسهام العربي المعاصر في الثقافة العالمية - حوار عربي - غرب ...
- فى نقد وهم -القبلة- الغربية حلا للتخلف : ردا على أنصار -الغر ...
- خرافة الأدب الأوربى
- نحو تحرير الثقافة العالمية من هيمنة المعيارية الغربية: الثقا ...
- تعريب العلوم: قضية محض لغوية ؟
- العلم وآفة العولمة
- كيف ندرأ خطر الإرهاب من جذروه ؟
- فى التحليل الاجتماعى لأدائنا الموسيقى المعاصر
- فى أسباب حصول نجيب محفوط على جائزة نوبل فى الأدب
- مشكلة -حاكونا مطاطا- (مفيش مشكلة) !
- ما الحداثة ؟ وهل يمكن لعرب اليوم أن يكون لهم حداثتهم المستقل ...
- نحو تحرير الأدب العالمى من النزوع للمركزية الغربية
- فنوننا البصرية إلى أين ؟
- التواجد العربى فى معرض فرانكفورت للكتاب هذا العام
- هزلية المطلق والنسبى فى فكرنا العربى !
- إعمال العقل: فيم وكيف ؟
- فى الوطنية وعلاقتها بعالمية الدعوة الإسلامية
- عندما تلتقى رؤى الشعر وهموم الشعوب : مجدى يوسف مترجما عن الأ ...
- أزمة الاستشراق العربى واقتراح المخرج
- فى ضرورة الفلسفة لمجتمعاتنا العربية


المزيد.....




- إلغاء حفل النجمة الروسية -السوبرانو- آنا نيتريبكو بسبب -مؤتم ...
- الغاوون.قصيدة مهداة الى الشعب الفلسطينى بعنوان (مصاصين الدم) ...
- حضور وازن للتراث الموسيقي الإفريقي والعربي في مهرجان -كناوة- ...
- رواية -سماء القدس السابعة-.. المكان بوصفه حكايات متوالدة بلا ...
- فنانون إسرائيليون يرفضون جنون القتل في غزة
- “شاهد قبل أي حد أهم الأحداث المثيرة” من مسلسل طائر الرفراف ا ...
- تطهير المصطلحات.. في قاموس الشأن الفلسطيني!
- رحيل -الترجمان الثقافي-.. أبرز إصدارات الناشر السعودي يوسف ا ...
- “فرح عيالك ونزلها خليهم يزقططوا” .. تردد قناة طيور الجنة بيب ...
- إنتفاضة طلاب جامعات-أمريكا والعالم-تهدم الرواية الإسرائيلية ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي يوسف - العمل الفني في عصر استنساخه التقني - فالتر بنيامين