أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - علي جواد - خزانة ملابس ضاع فيها وطن















المزيد.....

خزانة ملابس ضاع فيها وطن


علي جواد

الحوار المتمدن-العدد: 7678 - 2023 / 7 / 20 - 22:49
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


على بالي ذكريات دائمًا تتكرر كأنني أراها أمامي على شاشة كبيرة، في حِقْبَة طفولتي منتصف السبعينيات كنت دائمًا أحب الجلوس أمام خزانة ملابس والدي ذات اللون ألمهوكن المميز ورائحة خشب الصاج التي غابت عن حياتنا الآن وانقرضت هذه الرائحة المميزة للأخشاب الطبيعية عن بيوتنا لأن كل الأثاث الحالي هو خشب صناعي من مواد كيميائية، ولا يوجد لها الآن ما مماثل لوصف وتعريف هذا الجيل عن رائحة ارتبطت بالذكريات
كنت أفتح أبواب خِزانة ملابس والدي واسحب الأدراج وأظل أستمتع بتقليب والنظر إلى مجموعة الساعات وأقلام الحبر وماركاتها المختلفة مثل الشيفر ولللترمان والباركر ... إلخ والقداحات المختلفة الأشكال والألوان منها الذهبية والفضية، وفي الخانة الأخرى الجانبية من الدولاب تتراصف بدلات معلقة بحوامل خشب وألوانها المختلفة مثل اللون الحني المميز واللون الأسود بخطوط بيضاء طولية دقيقة رفيعة وناعمة

وما زلت أذكر بدلة قماشها ناعمة جدا كأنها حرير ولونها نفطي غامق يتغير ويتموج بنعومة عندما أحركها بيدي، اشترى والدي قماش هذه البدلة من دولة أوربية، ودائمًا كانت تتوسط الدولاب بدلة بلون كحلي كما يسميه والدي وهي من قماش إنكليزي مختوم في طرف السترة الداخلية بسبع دوائر ذهبية يسميها والدي قماش السبع ليرات الإنكليزي، يبدو أنها كانت ماركة معروفة وغالية من طريقة كلام الوالد.

كان والدي يفتح هذا الدولاب كل خميس أو جمعة للخروج مع أصدقائه أو حضور مناسبة أو الذَّهاب لزيارة بيوت أحد الأقارب أو لتلبية دعوة مأدبة أو عزومة أو الخروج لأحد المطاعم البغدادية الجميلة التي كان يأخذنا لها والدي، وأذكر ما مميز في هذه المطاعم أننا نجلس فيها ساعات طويلة ليس للأكل فقط إنما هي جلسات حُوَار وتسامر، ليس كما هي عليه مطاعم اليوم وأجواءها الغريبة كأن الزَّبُون ينتهي حقة في الجلوس بعد انتهائه من مضغ آخر لقمة
كنت عندما أجلس وأنظر إلى بدلات والدي في الحقيقة أني أستمتع بذكريات مع كل بدلة كان يرتديها في الجلسات والأماكن التي كنت أرافقه فيها مثل مقاهي شارع الرشيد الثقافية مثل المقهى البرازيلي وغيرها أو مطاعم شارع أبي نؤأس أو عمومات أصدقاء والدي أو الأقرباء والتجمع في حدائق بيوتهم الجميلة البسيطة وكراسي الحدائق المعروفة ذاك الوقت مقاعدها من حبال بلاستك مشدودة من أعلى الكرسي للأسفل، هذه هي كانت حياة كل العوائل العراقية كل أسبوع العوائل أما تستضيف زوارًا أو يذهبون هم في زيارة وتجمع عند إحدى المعارف، هذه هي كانت حِقْبَة السبعينيات في العراق البيوت العراقية تملؤها السعادة وجوه الأمهات والإباء تمتاز بالبشاشة والضحك والموائد عامرة وكل مطابخ البيوت العراقية لا تخلو من أكياس السكر والرز (50 كيلوغراما) لأن الأسواق العراقية في مدّة السبعينيات ليس فيها عبوات اقل من- الكونية- لهذه السلع.
زمن الثمانينيات وبداية الحرب لم يعد والدي يفتح دولاب بدلاته وبدأت تقل أو توقفت الزيارات بين الناس وأصبحت الجلسات هادئة والأحاديث بصوت خافت جدا يتكلم الجميع عن مواضيع الحرب وانتقاد للحكومة وكنت أتذكر كيف يحرص والدي أن لا أردد الكلام الذي أسمعه في هذه الجلسات أمام أي أحد غريب لأن هذا شيء شديد الْخَطَر، ولم أعرف وقتها ما هي خطورة انتقاد الحرب؟؟
بداية الثمانينيات ارتبطت في مخيلتي مع وجوه الناس الحزينة والقلق في كل البيوت والخوف من الحرب وبدأ دولاب والدي يمتلئ بملابس الخاكي العسكرية التي تحمل رائحة مميزة وهي رائحة الصوف مع البارود المحترق كأنها رائحة الموت تعلن عن بداية موسم حصاد الحرب في العراق، وطغت هذه الرائحة على كل العطور التي تعطرت بها باقي الملابس، والبيوت التي أزورها برفقة والدي كان من الطبيعي مشاهدة الحزن والبكاء في وجوه الأمهات والزوجات على من ذهب في جبهات القتال من أقربائهم وطعم الفِرَاقَ واضح في تفاصيل بيوت العراقيين مثلا جلسات الشاي اختلفت عما كانت عليه العوائل تحب شرب الشاي كأنه وليمة مصغرة مع مِزَاج وجو دافئ ولذة طعم الشاي المخدر بالبخار، أصبح الشاي مجرد شراب ساخن يشرب في أثناء أحاديث الحسرة على فِرَاقَ الجنود
فترة منتصف الثمانينيات وهي ذروة اشتداد الحرب ازدادت مجالس العزاء وتقريبًا اصبح في كل شوارع بغداد يوجد علم اسود وهو نعي أستشهاد احد الشبان في الحرب،
بدأت أفتح دولاب ابي واسأل والدي لماذا لم تعد تتردي هذه البدلات الجميلة كان دائمًا يجاوب (ابني ما يصير الناس حايرة بأولادها وما ترهم ولا مقبول ان الواحد يفرح والناس بحالة حزن) وما فهمت جواب والدي وما هو ربط تأنق والدي مع حالة الحزن السائدة ذاك الوقت لكن عندما التحق والدي بالجيش الشعبي عرفت معنى الحزن وحرقة فِرَاقَ الأحبة مع كل دمعة كنت أراها تنزل من عين والدتي في وقت الغروب يوميًا حتى رجع والدي للبيت
انتهت الحرب العراقية الإيرانية واستعادت البيوت العراقية بعضا من الفرح، سألت والدي عن الملابس العسكرية في دولابه قال اتركها لأن الدولة لبست الزي العسكري الخاكي يعني أن الوطن هو عبارة عن معسكر كبير وهم مستمرون في الحروب، ثم بداية التسعينيات دخل العراق في حرب أخرى ودخل العراقيين في نفق اسمه الحصار الاقتصادي وخنقت الأوضاع الاقتصادية العوائل العراقية والأمور بدأت تسوء يومًا بعد يوم، رواتب الموظفين لا تكفي العوائل للعيش أسبوعًا واحد والتضخم الاقتصادي ظرب البلد وأصبح اعتيادي مشاهدة مظهر العملة العراقية المتكدسة في الشوارع عند أكشاك بيع العملات، ودخل إلى المجتمع العراقي مصطلح غريب وأعتقد أنه أصبح المحور الأهم الذي طغى على تاريخ العراق في فترة التسعينيات وهو سعر الدولار وباللهجة العراقية ( بيش السوك اليوم) صعد السوق نزل السوق هي الدوامة التي دخل فيها الشعب العراقي من بداية التسعينيات إلى 2003
لا أذكر متى وكيف بالضبط اختفى وتلاشى دولاب والدي خلال فترة التسعينيات واختفت كل محتوياته، ثم بعدها بسنوات عرفت أن والدي بدأ بيع كل ما يملك من مقتنيات وتخلى عن كل ما يمكن أن يكون كماليات وأشياء غير ضرورية مثل البدلات والملابس الفاخرة وأقلام الحبر الثمينة ومقتنياته مثل حقائب الجلد الأنيقة، وحتى اختفت كل القطع الموجودة في أغلب البيوت مثل تحفيات وخزف تعتني بها والدتي وتنظفها ومخصص لها جزء من غرفة الاستقبال ولا يجرؤ أي شخص أن يفتح الخزانة المعروضة فيها قطع الفرفوري كما يسميها البغداديون، باع والدي كل هذه الأشياء من أجل توفير أشياء أهم لنا مثل الأكل والملابس وكل العوائل العراقية التي كانت تخزن السلع المعمرة مثلا كل بيت كان فيه ما يقل عن ثلاث أو أربع من قطع السجاد الفاخر، وأجهزة التلفزيونيات أو الثلاجات... إلخ فترة التسعينيات قضت واستنزفت على كل خزين العوائل العراقية وبيع كل ما هو غال ونفيس بسبب ضيق الحال وعسر العيش.
اختفت من المجتمع العراقي كل مظاهر الفرح والجلسات العائلية توقفت والزيارات تحولت إلى مجرد تأدية واجب وحوارات تنتقد الأوضاع وعسر العيش
بعد عام 2003 تأمل كل العراقيين الخير والمستقبل الذي سوف يعوض الناس عن مرور عقدين من الزمان في حروب وضنك الحال، اذكر أني سألت والذي عن هل لديه رغبة في أن أشتري له مجموعة من البدلات التي يحبها قال لي (والله يا أبني أني تعلمت وتعودت على الدشداشة فهي مريحة وممتازة وتناسب كل الأوقات في الصلاة أو الزيارات وحتى في البيت، إذا تحب اشتري لي كمْ وحدة)، جلبت لوالدي كما هو طلب مجموعة دشاديش وعلقتها في دولاب وحاولت أن استرجع لوالدي بعضا من ذكرياته، لكن معنى الأشياء اختلف عند والدي ربما بسبب التقدم في السن أو الحال أصبح غير الحال، ثم دخل العراق في عاصفة من التفجيرات والإرهاب أرعبت الناس وأذهلت العوائل وكل أبُّ وأم أصبح همه الوحيد وقلقه هو رجوع أولاده سالمين لبيوتهم غاب الأمان عن العراق لعقد كامل عشر سنوات مرت على العراقيين حصدت فيها أرواح أطفال ونساء الآلاف الناس المسالمين سقط ضحايا لعبة اسمها صراع الحكم على المناصب تم في هذه اللعبة ممارسة قذارة بما يسمى بالإسلام السياسي الذي يبرر سقوط الضحايا من أجل أهداف أهم من أرواح البشر وهذا هو مفهوم شيطاني وأبشع إجرام بحق البشر باسم الدين



#علي_جواد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العالم يتقاتل من أجل أحتكار لمسة شاشة الموبايل
- الإسلاميون يحرمون العلمانية لكن يأكلون منتجاتها المعدلة وراث ...
- التحريض الإسلامي على الفقر
- تنهار المرجعية الشيعية إذا أقرت الديموقراطية
- الميديا ستُغير الحكومات الإسلامية
- ما فائدة الذهب في الجنة ؟
- ج 2 - الفقهاء يقولون واجبنا إكمال الدين! مع أن القرآن يقول- ...
- ج 1 - الفقهاء يقولون واجبنا إكمال الدين! مع أن القرآن يقول- ...
- هل العدالة أهم من الاديان ؟ ج 6
- هل العدالة أهم من الاديان ؟ ج 5
- هل العدالة أهم من الاديان ؟ ج 4
- هل العدالة أهم من الاديان ؟ ج 3
- هل العدالة أهم من الاديان ؟ ج 2
- هَلْ اَلْعَدَالَةُ أَهَمَّ مِنْ اَلْأَدْيَانِ ؟ ج 1
- الخامنئي.. هل هومرجع دَمجْ أم قائد سياسي !!
- الِاتِّفاقيَّةُ العِراقيَّةُ - المِصْريَّةُ والْمِليشْياتِ
- تغير مذيع المرجعية أو تغير الخطاب
- - الإسلام السياسي -... خدعة أصبحت مهنة
- خُطْبَةُ الْمَرْجِعِيَّةِ...نَدَمُ مُتَأَخِّرُ أَمْ تَمْهِيد ...
- حقيقية ثمنها الدم الشروكي


المزيد.....




- بالفيديو.. الأمطار تتساقط داخل طائرة متجهة إلى نيويورك
- ما تأثير الحيوانات الأليفة على الإصابة بالخرف؟
- أطعمة ومشروبات تسبب التورم
- استخباراتي أمريكي سابق يحلل ما سيفعله ترامب بعد فوزه لرأب ال ...
- تركيا.. أردوغان يصدر عفوا عن جنرالات متقاعدين مدانين في انقل ...
- فقدان 3 بحارة سوريين بعد غرق سفينة شحن قبالة رومانيا
- المرصد: مخلفات الحرب تقتل وتصيب عدة أشخاص بسوريا
- -سيارات إسعاف محمَّلة بأسلحة ثقيلة-.. مصر توضح حقيقة المنشور ...
- زيارة جيك سوليفان إلى السعودية وإسرائيل
- نزوح 800 ألف فلسطينيي من رفح.. وأوامر إخلاء جديدة في شمال غز ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - علي جواد - خزانة ملابس ضاع فيها وطن