أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بير - الجزء الرابع من قراءة في كتاب(محاضرات في تاريخ النقد عند العرب)















المزيد.....


الجزء الرابع من قراءة في كتاب(محاضرات في تاريخ النقد عند العرب)


عبدالله بير

الحوار المتمدن-العدد: 7639 - 2023 / 6 / 11 - 12:11
المحور: الادب والفن
    


كتاب (محاضرات في تاريخ النقد عند العرب)
تأليف كل من : د. ابتسام الصفار و د. ناصر حلاوي
مكتبة اللغة العربية، بغداد، العراق.
الطبعة الثانية : 1999
عدد الصفحات : 376
القراءة: عبدالله پير

الفصل الحادي عشر
القاضي الجرجاني و قضية السرقات الأدبية.
أثار أبو تمام حركة نقدية بين معاصره الذين أتوا من بعده بسبب ولوعه بالبديع، و إغراقه فيه مما عد فيه خارجاً على عمود الشعر العربي المعهود، فنشطت الحركة النقدية لتثبيت قواعد عمود الشعر، ثم برز المتنبي في القرن الرابع شاعراً شامخاً بشعره و شخصيته المتفردة و كبريائه المعروف، فتثير أشعاره حركة نقدية أوسع من حركة سالفه أبي تمام و تشغل الناس خصومه و معجبين به، يتجول المتنبي في حواضر العربية ىنذاك ليشعل النقاش عن مساؤي شعر و بين معجب به. ثم يأتي القاضي الجرجاني لحسم هذا الصراع في كتابه(الوساطة) بين المتنبي و خصومه بعد أن وضع الصاحب بن عباد رسالته في إظهار مساؤي المتنبي. كتاب(الوساطة) أختار المؤلف هذا العنوان ليكون حكماً وسيطاً بين المعجبين بالمتنبي و الطاعنين عليه. و بيّن الكتاب ما آلت إليه حال الفريقين، فالمعجبون به يلجهون بذكره و يشيعون محاسنه و أما الطاعنون عليه فهم يجتهدون في إخفاء فضائله و إظهار معايبه لإبعاده عن مكانته التي يراها الناس له.
حاول القاضي الجرجاني من خلال هذا الكتاب علقنة آراء كلا الفريقين حيث عرض التهم الموجهة لأشعار المتنبي معتمداً على المقايسة و المقارنة موسعاً صدره لسماع المطاعن الموجهة إلى المتنبي. حاول القاضي عرض قضية نقدية مهمة هي ظاهرة التفاوت الموجودة في أشعار الشعراء و يعني بها أنه لا يمكن أن نجد شعر الشاعر على نمط واحد من الإجادة و الابداع سواء في قصائده إلى جانب المتفرقة أو في القصيدة الواحدة، يعرض القاضي الجرجاني بعد أشعار القدماء الذين لم يسلموا من المآخذ التي أخذها العلماء عليهم.
يورد الجرجاني جملة من شواهد شعر المتنبي بعد مناقشة طويلة الرائعة و مقطوعات من عيون قصائده، ليؤكد ما ذكره من أن وجود بعض التعقيد و الألفاظ غير المستحبة أو الشواهد المعيبة الشاذة لا يمكن أن تمحو الكثرة الوافرة من جيد أشعاره. يصل القاضي الجرجاني إلى أن مجموع شعر المتنبي لا يخرج عن إطار الجميل الرائع النادر.
السرقات الشعرية قبل الجرجاني:
لم يول الأدباء و النقاد قضية السرقة الشعرية أهتماماً كبيراً أول أمر، و عدوها من الأمور التي لا تستحق الوقفة الطويلة، و لكل واحد منهم مبرراته الخاصة فابن طباطبا نظر إلى السرقات من منظار معاناه الشعراء في زمانه بحثاً عن جيد المعني، و الجاحظ لم يقف عندها، و لكن عند ظهور شاعر مبدع خلاّق تعمق قضية السرقة بين الأدباء و النقاد ، فيحتاجون فيه إلى التحليل و الموازنة و التعليل، أو في حالة اشتداد الخصومة بين شاعرين من جيل واحد يقف النقاد فريقين فريق يبحث عن المعاني المتشابهة ليطعن في شاعرية الشاعر الخصم و يدافع عن مسوغات تبعد صاحبه(شاعره) هذه التهمة فيلجأ إلى تحليل النصوص . نجد مفهوم السرقة في ثلاث محاور عند الصولي وهي:
1- المعنى المشترك بين شاعرين في زمانين مختلفين، و غلبة للشاعر الأقدم.
2- المعنى المشترك بين شاعرين في عصر واحد و هنا يدعو الصولي إلى دراسة شعريهما.
3- إذا أخذ الشاعر معنى من أخر و أضاف إليه زيادة جملته فإنه أحق من الأول.
موقف الجرجاني من السرقات:
وقف الجرجاني وقفة طويلة عند السقات الشعرية، فوضع شروطاً لمن يحكم عليها لأنه باب صعب، فأولاً يجب أن يكون ناقداً ذا بصيرة، و العالم المبرز، ليس كل من تعرض له ادركه و لا كل مَن ادركه استوفاه. ثانياً يرى أن هناك مصطلحات و مسميات تخص السرقة و لكل منها مدلولها الخاض الذي لا يفهمه إلا الناقد العالم.
استفاد الجرجاني من تجارب مَن سبقوه و وقف عند المعاني المشتركة التي ذكرها الآمدي مبيناً أنواعها:
1- المعاني المشتركة المستفيضة بين الناس و لا يمكن لأحد أن يدعي حث أبتكارها كتشبيه الحسن بالشمس و البدر و الجواد بالغيث و البحر ...الخ.
2- ما كان من المعاني في الأصل مبتدعاً و مخترعاً، ثم شاع استعمال بين الناس فصار كالمشترك المستفيض و لا يحق في هذه الحالة أن يسمى من استعمل مثل هذا المعنى سارقاً.
3- المعاني الخاصة المبتدعة التي يحق لصاحبها إدعاء أبتكاره لها و يحق للناقد اتهام مَن أخذها بالسرقة فهي معاني غير المشتركة التي ابتدعها شاعر معين فبقيت مقرونة به.
عدد القاضي أنواعاً من السرقات بالمحمودة المحسنة و هي كالتالي:
1- أخذ المعنى و إيجازه إيجازاً محموداً جميلاً.
2- إضافة زيادة غلى المعنى تجودة و تجمله.
3- تحسين المعنى المأخوذ و يجميله و توكيده.
4- إيراد المعنى القديم إيراداً جديدأً كاستعمال معنى خاص في الرثاء و تحويله غلى المديح و الفخر.
أنواع السرقات و مصطلحاتها:
حاول النقاد و الباحثين إستقصاء أنواع السرقات التي ذكرها الجرجاني و منها:
1- النوادر- توارد الخواطر: وهو أتفاق شاعرين متعاصرين في المعاني دون قصد و دون أن يدعي أحدهما حق المعنى.
2- السرقة.
3- الإغارة: وهو وضع اليد على شعر الغير و أخذها منه قهراً و دون مبالاة.
4- الغصب: مثل الإغارة.
5- الإختلاس: وهو أخذ المعنى و نقله إلى غرض جديد مع العدول منه.
6- الإلمام: وهو أخذ المعنى و بعض اللفظ في شيء غير قليل من الخفاء.
7- الملاحظة: هي أخذ المعنى مع تقليد و المحاكاة.
8- التناسب: هو أخذ المعنى و بعض اللفظ مع شيء من المساواة بينهما.
9- احتذاء المثال: هو أخذ الشاعر مذهب غيره في التفكير و التعبير.
10- القلب: وهو عكس المعنى الذي يأخذه و يجمله و تعد من السرقات المحمودة.
11- تغيير المنهاج و الترتيب: تغيير المعنى المأخوذ لفظاً أو تغيير باضافة ما.
الفصل الثاني عشر
المرزوقي و عمود الشعر
تناول المرزوقي عمود الشعر بشكل منهجي، على رغم من أن(عمود الشعر) ورد في كتب الذين سبقوه مثل الآمدي، لكن أستقرت دلالته تماماً و على نحو مفصل عند المرزوقي في القرن الخامس، فكانت صياغته لعمود الشعر هي خلاصة الأراء النقدية في القرن الرابع على نحو لم يسبق إليه و تجاوز أحد بعده.
لقد بلور الآمدي ملامح الصراع بين القديم و الجديد بالموازنة التي عقدها بين أبي تمام و البحتري و حيث عد البحتري متمسكاً بالعمود، أبرز الآمدي خصائص شعر كلا الشاعرين اللذين يمثلان تيارين متميزين في الشعر العربي، ولو أن الآمدي كان ميالاً للبحتري، لكن لم يستقر برأي على أيهم الأفضل فهما يمثلان ذوقين سائدين، فمن كان ذوقه قائماً على حلاوة اللفظ و حسن التخلص ووضع الكلام في مواضعه و قرب المأتي و إنكشاف المعاني فضّل البحتري، و (هؤلاء هم المطبوعون و الأعراب و أهل البلاغة و الكتاب). ومَن كان ذوقه قائماً على الغموض و الغوص عن المعاني و فلسفي الكلام، فضّل ابا تمام و هؤلاء هم ( أهل المعاني و أصحاب الصيغة).
ومن أجل تقويم شعر أبو تمام، لابد من العودة إلى عمود الشعر و تحديد ملامح هذا العمود على نحو الواضح لذا قاس شعره، الشعر الجديد وفقاً لذلك سواء كان مطابقاً له أو خارجاً عليه. من هذا المنطلق أعيد هذه الأفكار لاحقاً عند المرزوقي فيما أصبح يعرف بأركان عمود الشعر. كان هناك اتجاهان في الشعر العربي، الأول الاتجاه القديم هو الاقتصاد في البديع، و الإلمام بالمعاني و صحة العبارة و قرب المأتي، أما الثاني الاتجاه الحديث هو الإسراف في البديع و الجناس و الاستعارة و الغوص في المعاني و التدقيق فيها، لذا يمكن التأمل في هذه الاتجاهين أختزالهما إلى مبدأ واحد، وهو الوضوح الذي يمثله عمود الشعر و الغموض الذي يمثله البديع، وقد عد أبو تمام خارجاً عن عمود الشعر لأنه عدّل عن الوضوح إلى الغموض.
مثلما كان عمود الشعر عند الآمدي معياراً لفرز الواضح من الغامض أو القديم و الحديث من الشعر، كان العمود عند المرزوقي معياراً لتمييز تليد الصنعة من الطريق و قديم نظام القريض من الحديث و يعلم فرق ما بين المصنوع و المطبوع لذا أصبح العمود عند المرزوقي مقياس الذي يقاس عليه الجديد. سار الجرجاني على خطى الآمدي ووضع أركاناً لعمود الشعر بالآتي:
1- شرف المعنى و صحته.
2- جزالة اللفظ و أستقامته.
3- الإصابة في الوصف.
4- المقاربة في التشبيه.
و نفى الجرجاني أن يكون البديع- الطباق و الجناس و الاستعارة من خصائص عمود الشعر. تابع المرزوقي الجرجاني و أخذ منه الأركان الأربعة للعمود و أضاف إليها ثلاثة أخرى:
1- إلتحام أجزاء النظم و التئامها على تخير من لذيذ الوزن.
2- مناسبة المستعار منه للمستعار له.
3- مشاكلة اللفظ للمعنى و شد اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينها.
الاستعارة في نظرية عمود الشعر:
أصبح الاستعارة من العناصر المهمة في الشعر العربي و خصوصاً أن القديم أعتمد على التشبيه و أرتباط الاستعارة بالبديع عند المحدثين و جعلها في نظر الناقدين عنصراً زخرفياً أكثر من كونها عنصراً جوهرياً لا يخلو شعر منه. ويمثل سيادة الصورة الاستعارية أو على الأقل وقوفها جنباً إلى جنب مع الصورة التشبيهية تمثل نقلة مهمة في تطور الشعر العربي حيث كان التشبيه أسلوب التعبير البياني عند القدماء. تعتمد الصورة التشبيهية على الموازنة بين الأشياء و إبقاء الحدود الفاصلة بينهما، تقوم الاستعارة على تدخل الاشياء و التكثيف و الإيماء و الحدس، إنه تحول من ملكة الحس و الخيال القريب المتصل به إلى ملكة الفكر المجرد.
أركان عمود الشعر و معاييره عند المرزوقي:
1- شرف المعنى و صحته و المراد بذلك أن لا يكون في المعنى أضطراب أو سوء ترتيب أو إنتقاص من بعضه لبعض و عيار هذا العقل الصحيح و الفهم. يستكره العقل المعاني التي فيها معاظلة و إنغلاق.
2- جزالة اللفظ و أستقامته. يراد بالجزالة هنا اللفظ القوي الشديد وهو خلاف الركيك.
3- الإصابة في الوصف و المقصود أن يصور الشاعر ما يريد التعبير عنه تصويراً مطابقاً لواقع الشيء الموصوف في الخارج.
4- المقاربة في التشبيه المعنى أن تكون العلاقة بين طرفي التشبيه قريبة واضحة يسهل إدراكها.
5- التحام أجزاء النظم و التئامها على تخير من لذيذ الوزن، يريد أن تكون أبيات القصيدة متلاحمة حتى تكون القصيدة كلها كالبيت. و البيت كالكلمة و لذلك أثره في النفس.
6- مناسبة المستعار منه للمستعار له: يريد بهذا قوة المشابهة بين طرفي الاستعارة للذين هما في الأصل طرفا التشبيه.
7- مشاكلة اللفظ و شد اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما و المشكلة هي المماثلة و المرافقة و يريد بالمعنى هنا( الغرض المفاد باألفاظ التراكيب لا المعنى الموضوع له اللفظ، لأن المعنى الموضوع له لا يتصور في أشتراط مشاكلة بينه و بين اللفظ الدال عليه).
المعايير الأربعة الأولى مستقاة من الآمدي و قدامة و الجرجاني و ابن طباطبا و خاصة ما جاء عند القاضي الجرجاني عن العناصر الأربعة اللازمة للشاعر هي الطبع و الرواية و الدرية و الذكاء، لكن شرّط المرزوقي أن توفر هذه العناصر في المتلقي أو المتذوق أو الناقد.
الفصل الثالث عشر
الجرجاني و نظرية النظم
لم يكن الجرجاني أول مَن أهتم بقضية الإعجاز القرآني، بل سبقوه كثيرون و لاحقوه كثيرون، ولكن الذي برع فيه الجرجاني هو فكرة (النظم)، وهذه الفكرة ليست جديدة بل سبقه كثيرون مثل الجاحظ و الرماني و الخطابي ...الخ، لكن حاول أن يخرج بنظرية لا تفسر الإعجاز القرآني حسب و إنما النص الكلامي الرفيع شعراً كان أم نثراً. بحسب الدارسين أن نظرية الجرجاني تطابق أحداث ما وصلت إليه النظريات الحديثة في علم اللغة لأنه تعامل مع اللغة ليست كمجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات(الصورة التي تبدو كما لو كانت عنصراً ثالثاً مزيجاً من اللفظ و المعنى).
إن نظرية الجرجاني تجاوزت المستويات المألوفة و عالجت مستويات الكلام الذي يبدأ بالعادي المغسول و ينتهي بالمعجز الذي هو القرآن الكريم. يشكل كتاب(دلائل الاعجاز) للجرجاني حجر الأساس في نظرية النظم، لأن اهتمام الجرجاني في هذا الكتاب موجه إلى الكشف عن الجانب النفسي في النص الأدبي من جهة و دور الصور البيانية في ذلك من جهة أخرى، وهذا ما تتناوله نظريات الأسلوبية المعاصرة و هنا تحاول بعض الدراسات ربط بين تفكير الجرجاني و هذه النظريات. أهتم الجرجاني بالمعنى الذي يكمن وراء المعاني الظاهري أي(معنى المعنى) للعبارة و يريد بذلك المعاني المجازية أما في (دلائل الاعجاز) فهو معني بمعنى النظم و كونه تابعاً للمعاني التي يراد التعبير عنها. لم يهتم الجرجاني بالرسم الظاهر في القرآن لبناء نظريته في الإعجاز حيث لم يهتم بالحركات و السكنات و الفواصل و الألفاظ الظاهرة لغى ثنائية اللفظ و المعنى التي كانت سائدة إلى وقته، فرأى أن النظم محصلة العلاقة القائمة بين الألفاظ و المعاني و ينتج عن ذلك كما سماه الجرجاني بالصورة التي تبدو كما لو كانت عنصراً ثالثاً مزيجاً من اللفظ و المعنى.
فسر الجرجاني ذلك بقوله(إن معظم الغلط الذي وقع فيه الناس جهلهم شأن الصورة وتصوروا أن ليس هناك غير اللفظ المعنى، و إنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه، أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة و أن لا يكون لها مرجع إلا المعنى، من حيث أن ذلك زعموا يؤدي إلى التناقض) و الجرجاني ميال إلى المعنى دون اللفظ، فهو يكرر دائماً في أن الألفاظ أدلة على المعاني و هذا حق طالما أن الالفاظ وحدها لا تعبر عن معنى إلا في ضوء موقعها من التركيب و التأليف و النظم أي(السياق) فلا يمكن وصف الالفاظ بالوحشية أو الغريبة أو المألوفة أو المأنوسة إلا في السياق الموجود فيه، فعندما نقول(لفظة فصيحة) أو(متمكنة)أو(مقبولة)أو(نابية) أو(مستكرهة) ما هو إلا تعبير عن حسن الاتفاق أو سوء التلاؤم بين الألفاظ أو(حسن أو عدم حسن السياق). ويشترط الجرجاني في الفصاحة أن يستطيع المتكلم إقامة نوع من التلاؤم بين الألفاظ فهو االفصيح و هذه الفصاحة و بهذا نستطيع أن نفرز أنواع المتكلمين و اختلاف أساليبهم و لكون الألفاظ أوعية المعاني فهي تابعة لها و لا تتحقق المعاني على نحو ما يريده المتكلم إلا بأن يضع الألفاظ على نسق مخصوص، وهنا يتفق الجرجاني مع الجاحظ و غيره من النقاد بأن الشعر صناعة و ضرب من التصوير، و لكن يحاول الجرجاني الاختلاف مع الجاحظ على أن لفظة التصوير هي الأسلوب و النظم و التركيب الذي يميز نصاً من الآخر.
لتجنب سوء الفهم لديه عن أراء الجاحظ يعرض تفسيراً آخر لمقولته يلجأ الجرجاني إلى مصطلح آخر يسمى (بالبينونة)(أي الفرق) بين آحاد الاجناس تكون من جهة الصور، و يعرض فكرته بأننا نميز إنساناً من آخر حيث تكون في صورة هذا و لا تكون في صورة ذاك. و البينونة هي أن تكون للفظ معنى في حالة غير معنى في حالة أخرى و يجد عقلنا تلك البينة بين الألفاظ في المواقع المختلفة.
يكشف الجرجاني بأن هناك نوعان من النظم، النظم الحروف و النظم الالفاظ، يقول( الأول نظم اعتباطي لا إرادة للمتكلم فيه، و لا قيمة للألفاظ مفردة و ليس للمتكلم أن يتصرف في معناها أو في نظم حروفها و الأمر هنا اعتباطاًن، و لا يمكن للمتكلم أن يتصرف كيفما يشأ في نظم الحروف لانها خارج إرادته). اما الثاني اي نظم الألفاظ، يكرر الجرجاني دائماً(أنه إذا تغيير النظم فلابد حينئذٍ أن يتغير المعنى)، و إن المعنى المطلوب تجسيده نابع من فكر المتكلم، ننظم الألفاظ عملية إرادية واعية لأن المتكلم يقتفي في نظمها آثار المعاني و ترتيبها على حسب ترتيب المعاني في النص، و نظم فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، لذلك كان النظم عند الجرجاني و الجاحظ نظير للنسيج و التأليف و الصناعة. ينظم المتكلم الألفاظ حسب مقتضى الحاجة إلى المعنى فيختار الألفاظ و يوزعها على وفق نسق معين الذي يقتضه و يوجبه المعنى المطلوب و التعبير عن فكرة و ليس عملية أعتباطية عشوائية، لأن لا قيمة للفظ من غير سياق الذي فيه. يرى الجرجاني أن الفكر الإنساني لا يتم إلا في إطار العلاقات السياقية بين الألفاظ، إذ لا يمكن أن يتعلق الفكر الإنساني بمعنى اللفظة المجردة عن معاني، أي أن الإنسان لا يفكر بالكلمات بل يفكر بالجمل و النظم.
يرى الجرجاني أن معاني الكلام كلها لا يمكن أن نتصورها إلا بين شيئين، و أساس هذه العلاقة بينهما و الأصل هو الخبر، و من الثابت و المعقول أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر عنه و مخبر به، و هذا الخبر ينقسم بدوره إلى المثبت و المنفي. كما هو معلوم أن الجرجاني أكد في الخبر و كونه اصل المعاني و أنه لا يقوم إلا بين شيئين، لكن أشترط أنه لا بد ان يكون هناك بين شيئين لأنه عند أخبار عن شيء بشيء آخر و يصف هذا بزائدة من اللفظ، قوله(زائدة عن اللفظ) فهناك حالات مثل الشرط و النفي و الاستثناء و الاستفهام لا تحصل باللفظ وحده و إنما بشيء زائد عن اللفظ و هذه الزائدة ليست أكثر من العلاقات التي قيمها المتكلم بين الألفاظ و المعنى الذي ينشاء من ذلك، و المشترك بين هذين اللفظين هو ما يسمى بالإسناد الذي هو أصل المعاني و عماد الكلام و لأنه أصل و عماد أخذ الرفع علاقة له لأنها أرفع مراتب الإعراب، لا يستثني الجرجاني المجاز من فكرة العلاقات. فاللفظة لا تكون مجازاً إلا إذا تنقل من معناها الحقيقي إلى معنى المجازي، فالمعنى المجازي الجديد لا يكون إلا في سياق، و يربط الجرجاني فكرة النظم بالنحو، فكان النحو عنده ليس كما يرى الجمهور، علم أواخر الكلمات و إنما علم تعليق الكلم بعضها ببعض كما يقول(أعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الموضع الذي يقتضيه علم النحو و تعمل على قوانينه و اصوله و تعرف مناهجه).
فصل الجرجاني بين أصول النحو و علم النحو و كذلك يميز بين النص على مستوى الخطاء و الصواب و النص على المستوى الأدبي، وكان الجرجاني واعياً بالفرق بين اللغة و الكلام الذي أشار إليه أول مرة العالم السويسري (فرديناند دي سوسير) و طوره الدارسون اللاحقون و أطلقوا عليه مصطلح( الكفاء أو الانجاز). مرة( النظام أو النص أو القاعدة أو الرسالة). أهتم الجرجاني بالنحو على مستويين (أصوله) و (علومه) فكأن النظم هو التحقيق الفعلي للغة، فأصول النحو هي النظم بالقوة، أما علم النحو فهو النظم بالفعل كما يقول المناطقة.
يمر عملية الابداع عند الجرجاني بمرحلتين، الأولى(مرحلة الخطأ و الصواب) و المرحلة الثانية (مرحلة التي يناط الفضيلة والمزية)، بهذا يتعامل الجرجاني مع النحو على مستويين أيضاً، المستوى السطحي و المستوى العميق، وهو منهج من ينتمون إلى نظرية النحو التوليدي التي ترى أن للغة مستويين، سطحي و عميق، فالبنية اللغوية العميقة هي الصورة المثالية الكاملة للجملة كما ترسمها قواعد النحو، وهي صورة أفتراضية. أما البنية الظاهرة فهي الشكل الواقعي الملموس للتركيب، وهي بلاشك مستمدة من البنية العميقة التي يسميها عبد القاهر(اوضاع اللغة) أو أصول النحو، وهي مرحلة تخلو من البراعة الفنية التي لا تتحقق إلا في المستوى الظاهري للتركيب وهو مستوى التأليف و العلاقات، أي بكلمة اخرى مستوى النظم.
في ضوء هذا التصور، نظرية النظم في حليل العلاقات القائمة في الاسلوب الأدبي المتميز، أي من العلاقات التي يقيمها الكاتب بين ألفاظه، و ما ينجم عن هذا التأليف من تقديم أو تأخير أو فصل أو وصل أو قصر أو اختصاص أو توكيد...الخ. وهذه الأمكانات ذات طبيعة أختيارية و لذلك يتميز كاتب من آخر بأسلوب و طريقة نظمه فيرتفع أسلوب و يسف آخر. من الواضح أن الكاتب لا يستطيع أن يتصرف في قواعد اللغة لأن طبيعتها إلزامية، أما قواعد التركيب و النظم فحرية التصرف للكاتب لا متناهية، و النظم و التركيب يخضع لبراعة الكاتب و فنه و في هذا يكن تفرد الأسلوب.
عندما ينظم و يركب كاتب شيئاً فإن يريد أن يقدم صورة معينة عن شيء ما( الهدف) و يقدم و يؤخر ليصل إلى ذلك، إذن هناك هدف، و هناك طريق أو وسيلة يوصل إليه، أي هناك قصد و هناك نظم يحقق ذلك القصد. لذلك سعى الجرجاني بهذه النظرية تفسير كثير من الآيات القرىنية و النصوص الشعرية لبيان ما فيها من مزايا و فضل. طبق الجرجاني نظرية النظم على السرقات الأدبية من منطلق(اختلاف الصورة يكون سبباً في اختلاف المعنى و العكس صحيح أيضاً)، و لقد طبق الجرجاني هذا التصور على السرقات ووصل إلى نتيجة مفاده أن مَن كسا لفظاً معنى جديداً من عنده أحدث في المعنى صورة جديدة تغيير المعنى، و حاول أن يبيين اختلاف المعاني بسبب اختلاف الصياغة.



#عبدالله_بير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجزء الثالث قراءة في كتاب (محاضرات في تاريخ النقد عند العرب ...
- قراءة فيكتاب (محاضرات في تاريخ النقد عند العرب)
- قراءة في كتاب (محاضرات في تاريخ النقد عند العرب)
- الحرب الاوكرانية و عصر جديد
- العودة إلى البيت
- قصة قصيرة : بائعو الهوى
- توظيف السيرة و الاسطورة في القصة القصيرة قصص -باندورا - للكا ...
- التيه بين اغتراب الواقع و ماض مغترب قراءة في مجموعة قصائد ( ...
- قراءة في كتاب - تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق -
- عودة إلى السماء
- المحاكاة
- ذكريات سرور
- صديقي لم يكن ارهابيا
- قراءة في كتاب السيميولوجيا و التواصل
- فتاة من طينة الذهب
- ندم اللقاء
- قد لا يأتي الأمل أبداً
- الذي لي ليس لي دائماً
- الخير يأتي اولاَ
- العباءة


المزيد.....




- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بير - الجزء الرابع من قراءة في كتاب(محاضرات في تاريخ النقد عند العرب)