أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - مجيب العمري - الاضطراب النفسي بين الاعتقال الكبير والثورة الفرنسية، قصة مجنونة















المزيد.....

الاضطراب النفسي بين الاعتقال الكبير والثورة الفرنسية، قصة مجنونة


مجيب العمري

الحوار المتمدن-العدد: 7636 - 2023 / 6 / 8 - 18:49
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


كانت القرون الوسطى، الممتدة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية وعصر النهضة، واحدة من أظلم العصور في تاريخ الطب النفسي والاضطرابات العقلية. لم يكن الاضطراب النفسي حينها سوى مرادف للجنون، حيث كان الجنون في كثير من الأحيان يتجلى في صراع أبدي بين الخير والشر، الشياطين والآلهة والمقدس والمدنس. فكان زوال العقل يعني بالضرورة زيادة في نقص التشابه مع الكمال الإلهي وبالتالي وصما عنيفا للمرضى. وهذا الاعتقاد بالشياطين ما زال قائمًا حتى يومنا هذا، حيث تعتقد فئات واسعة من المجتمعات البشرية أن الجنون هو نتيجة تأثير الشياطين، وأن الصرع هو احتلال جن وأن الاكتئاب هو عقاب إلهي.
أولى المحاولات لعقلنة الأعراض النفسية جاءت من اليونان القديمة، حيث انتشرت نظرية جالينوس اليوناني حول السوائل والمزاجات في الجسم، مثل الدم والبلغم والصفراء والسوداء.. كانت معادلة جالينوس تفسر الاكتئاب والحزن، على سبيل المثال، بزيادة مستوى السوداء والغضب بزيادة مستوى الصفراء وغيره.. وعندما تكون السوائل في حالة استقرار وتوازن، فذلك يعني صحة الجسد والعقل. تلك الفرضيات، برغم بساطتها، مثلت ثورة كبيرة آنذاك، خاصة في سعيها لربط التفسير البيولوجي والعرض النفسي في تحديد طبيعة الاضطراب.
على الرغم من محاولات القدماء في إيجاد افتراضات وتفاسير منطقية لنشأة المرض النفسي، فإن القرون الوسطى في أوروبا لم تكن سوى امتدادًا لسطوة الشعوذة وتفسيرات السحرة ورجال الكنيسة لمختلف الأعراض النفسية. باستثناء بعض المحاولات النادرة من الشرق لربط الجهاز العصبي من جهة والعرض النفسي من جهة أخرى.

ترددت كثيراً قبل أن أسمح لنفسي بتبني تعريف أراه ملائماً لطبيعة الاضطراب النفسي، دون أن أسقط في فخ التعريفات الأكاديمية المعقدة أحياناً والمحدودة أحياناً أخرى. يحق لنا الحديث عن الاضطرابات النفسية عندما نلاحظ ظهور اختلال وظيفي (الأفكار، المشاعر، التصرفات) يلاحظه المرء أو محيطه، يترافق مع الألم والمعاناة اللذان يمكن أن يؤديا إلى خلل بهدوء التجمعات البشرية بل وحتى الهلاك الفردي انتحاراً.إن هذه الفكرة وعلى أهميتها قد تبدو بسيطة لوهلة ولكنها استوجبت مئات السنوات من المعاناة وملايين الضحايا وربما ملايين المحاولات الطبية لتصل إلى هذا الوضوح الذي يتقلده اليوم، لكي يبدو من خلاله جلياً أن مبدأ التعامل مع العارض النفسي كمصدر للمعاناة التي تستوجب العلاج هو أحد تمظهرات العبقرية البشرية.
تجاوزت سلطة الدين والكنيسه في العصور الوسطى ردهات القصور وزوايا دور العبادة لتصل الى التشخيص الطبي وتحكم المشافي فكان علاج الجنون مجالا اخر لبسط نفوذ الكنيسة ورجال الدين في فك شيفرات الفينومينات المتسمة بالرهبة والغموض، ليكون التشخيص الخطير والتفسير المريب: عمل السحرة والشياطين. فكل عملية تشخيص اكلينيكي تستوجب بالضرورة بحثا عن سبل للعلاج، وهو ما لم يتوانى عرابو عملية العلاج في تلك الحقبة عن التفنن فيه بابداع طرق طرد الارواح الشريرة القائمة اساسا على ممارسة شعائر دينية وطقوس غريبة ومتنوعة من اجل اخراج الشيطان الساكن في طيات المريض.
ارتبط الاضطراب النفسي في المخيلة الجماعية بالجنون، خاصة لدى القارئ غير المتخصص، الذي قد تجول بخاطره إحدى الصور النمطية للذهان المزمن وشاهدها حول مرضى بلا مأوى يتسولون على أرصفة مواني المدن الكبرى وفي أنفاق المترو. إن هذه الصورة، وعلى تقليديتها وشيوعها، لشدما أزعجت أشباهي، فهي لم تسهم سوى في تهميش جزء لابأس به من المجتمع، يتراوح نسبته من 1% حتى 4.5% في أوقات الأزمات والحروب، وطردهم على قارعة الوصم والتمييز في المجتمعات الحديثة. إن هذه الوصمة، على بشاعتها في الزمن المعاصر، كانت بلا ريب أكثر بشاعة على قارعات أوروبا في القرون الوسطى. وصم الجنون القبيح تجاوز حينها وصم المرضى النفسانيين، ووصل إلى المسافرين في طرقات المزارع والغابات، فلاحق الأمهات العازبات وأبنائهن، وحاصر المتسولين وعاملات الجنس تحت مسمى الجنون، لكي يقذف بهم إلى مستشفيات أقرب منها إلى المعتقلات. لتختلط الهشاشة الاجتماعية بالاضطراب النفسي وتصبح صنوه. ألم يفتتح لويس الرابع عشر في أبريل 1656 المستشفى العام في باريس، حيث سيقبع المضطربون نفسيا جنبًا إلى جنب مع عاملات الجنس والأمهات العازبات والمتسولين، وحتى قطاع الطرق واللصوص، بمباركة الكنيسة الكاثوليكية؟
هذا المستشفى الذي كان يضطلع بكل المهام، إلا مهمة المستشفى الحقيقية، لم يكن سوى آلة في يد النظام الملكي الاستبدادي، بمباركة رجال الدين، بغرض محاربة المتسولين والمنحرفين، بل وحتى معاقبة المعارضين وعزل الأقليات، في ظل جوائح عاصفة ضربت ملايين البشر في ظلام أوروبا في تلك الفترة ابان المجاعة والحروب الاهلية. ومن هنا بدأت حقبة وصفها ميشيل فوكو بـ"حقبة الاعتقال الكبير".

على ما يبدو كان السلام واستقرار منظومة الحكم المحلية في مواجهة عوامل "الانحراف الاجتماعي" المهددة لاستقرار المؤسسات الحاكمة الدينية منها والسياسية، الدافع الأهم لنظم الحكم لاتخاذ خطوات نحو إضفاء طابع مؤسساتي للاهتمام بمرضى الجنون
كانت هذه الملاحظات السريعة المتتابعة حول وضع المرضى النفسيين تلخيصًا قصيرًا للتهميش الكبير الذي طالهم كعناصر غير مرغوب فيها دفعت عنوة الى هامش المجتمع. هذا التهميش، وعلى الرغم من أنه انحسر إلى حد كبير، لا يزال مستمرًا منذ القرون المظلمة وحتى اليوم.
العديد من العوامل العلمية والسياسية والتاريخية لعبت دورًا كبيرًا في منح المرضى النفسيين حقوقهم كمرضى واعتراف حقهم في العلاج وضمان حاجتهم للعناية في إطار الحقوق والكرامة، وهو ما حققته الثورة الفرنسية كنقطة تحول في تاريخ العلاج النفسي. من خلال ثورة القيم والحقوق والاعتراف بحقوق المرضى ككيانات تستحق الاحترام والرعاية.
لعبت الثورة الفرنسية دورًا أساسيًا ومهمًا في تعزيز الطابع المؤسساتي للرعاية النفسية، خاصة مع إعادة تأكيد قيمة الإنسان ككيان يستحق العيش بكرامة وصحة وتوازن تحت قوانين المساواة والعدل. وقد أدت القوانين إلى إخراج سكان المستشفيات النفسية والإصلاحيات من العزلة، وسعت إلى تنظيم سبل الإقامة في المستشفيات النفسية وإعادة التفكير في القيمة الباثولوجية للاضطراب النفسي كمرض يعود إلى المجال الطبي وليس كظاهرة ميتافيزيقية مرتبطة أساسًا بالخلفيات الثقافية والحضارية.

كان للثورة الفرنسية تاثيرات معقدة وكثيرة يستحيل استيعابها وتناولها بالتحليل في نص مقتضب، الا انه من الجلي ان الثورة الفرنسية احدثت تغييرات راديكالية في هيكلة السلطة السياسية حتى وجدناه على الشكل الذي نعرفه عليه اليوم، فالغيت الملكية وارتفعت شعارات من قبيل حقوق الانسان، سلطة الشعب واسقاط سلطة النبلاء من اجل مساواة اجتماعية. باندلاع الثورة الفرنسية نشأت تيارات فنية جديدة مثل الرومانسية والنيوكلاسيكية. لم تستثن الثورة الفرنسية المجال الطبي وخاصة الطب النفسي من تاثيرها. الطبيب الفرنسي فيليب بينال من تولوز كان حتما احد فرسان الثورة الذين ساهموا و الى الابد في تغيير المشهد في المشافي العامة المليئة بشتى المعتقلين من اجل تهمة الجنون. في تلك المشافي كان العلاج اساسا جسديا فيزيائيا مثل الفصد والادماء وشتى انواع العذاب بالمياه الحارة والباردة المجمدة وصولا الى التقييد باغلال حديدية لعشرات السنوات. عندما كسر فيليب بينال و الممرض جون باتيست بوسان اغلال المرضى النفسيين في مشافي سالبيتيير وبيساتر في باريس ابان الثورة الفرنسية، ابتدا عهد جديد للطب النفسي، عهد العلاج المعنوي الذي آبتداه فيليب بينال صحبة جون بوسان. من السخرية ان بينال نفسه كان طالب علم اللاهوت متشبعا بالفكر المسيحي الكاثوليكي الذي تولى مهمة علاج المجانين في قرونا طويلة. فيليب بينال افترض ان المرض النفسي يمكن علاجه معنويا عبر الحديث والمعاملة الحسنة والطيبة. افتراض بينال كان فعلا اول لبنة في الطب والعلاج النفسيين على الشكل الذي نعرفه اليوم. بينال وباتيست عاملا المرضى معاملة حسنة، امرا كل ممرضي سالبيتريار بالرفق بالمرضى وفتح النوافذ من اجل مرور اشعة الشمس والهواء النظيف بل وسمح لهم حتى بالتجول بكل حرية في باحة المستشفى. النتيجة كانت مذهلة، الكثير من رواد المشفى تحسنوا بالفعل وسمح لهم حتى بتولي مهام وعمل قار في المستشفى لمساعدة مرضى اخرين. بينال بدأ كثائر في شوارع باريس وانتهى زعيم ثورة اطاحت بقرون من الشعوذة والدجل في التعامل مع الاضطرابات النفسية، فنصب فيليب بينال لا يزال شامخا الى اليوم في باحة مستشفى سالبيتريار الباريسي العريق.

ماضي الامراض النفسية عريق ولكن تاريخه الحقيقي قصير جدا. عالجت الشعوذة المرضى لمئات السنين في حين ان تاريخ الطب النفسي لا يتجاوز قرنين. فعلى عكس بقية الاختصاصات الطبية المقترنة اساسا بامراض العضو والجسد، تداخلت عديد العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للتاثير في علاج الجنون. ثورة مهمة مثل الثورة الفرنسية القت بضلالها لشرعنة مؤسسات العلاج وعلمنتها على الشكل الذي نعرفه اليوم.



#مجيب_العمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فقراء ولكننا لسنا سعداء! خرافة طردية الثراء والاضطراب النفسي
- سيندروم We have been there: حالة البروفيسور العربي
- الطب النفسي من تمائم المشعوذين الى حبات الليثيوم..
- كرة الثلج في مدرسة الروابي: من التنمر إلى جريمة الشرف
- الجين الجبان
- داعش في ربوع بلوتو ..
- الى روح سيلان اوزلاب
- البوتاسيوم اكسير حياة في زمن داعش
- ثورة المشرط التونسي, من فلسفة النضال الى خزي لاعقي احذية الن ...
- الارهاب في تونس من وراء النظارة.. مجرمون ام ضحايا ؟
- نبي الفصام.. شيزوفرينيا الثورة
- فوضى ما بعد الثورة : الاطباء الداخليون في المستشفيات التونسي ...
- ربيع الثورة ام كرب ما بعد الثورات .. مقاربة نفسية


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - مجيب العمري - الاضطراب النفسي بين الاعتقال الكبير والثورة الفرنسية، قصة مجنونة