أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجيب العمري - سيندروم We have been there: حالة البروفيسور العربي















المزيد.....

سيندروم We have been there: حالة البروفيسور العربي


مجيب العمري

الحوار المتمدن-العدد: 7382 - 2022 / 9 / 25 - 23:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


 اشتغلت بالمستشفيات الجامعية والجهوية بالبلد لمدة طولها ثلاثة سنوات وشهرين وثلاثة أسابيع، تامات كاملات بلا زيادة ولا نقصان. انني اكاد اجزم انني اتذكر كل اجتماع بل وكل مناوبة طيلة هذا الزمن. إبان هذه المدة داومت مساء وصباحا، عشرات وربما مئات الليالي مستيقظا اركض في ردهات الأقسام والاجنحة الرثة في المستشفيات المتهالكة.
بينما اخط هذه الاسطر، لازلت استطيع استحضار شعور انتفاض غددي الكلوية لافظة هرمونات اليقظة والحذر حتى افتح عيني على كل التفاصيل عند استجواب القصة الاكلينيكية؛ أسأل جميع الأسئلة الممكنة وغير الممكنة، العميقة المهمة وحتى التافهة المضحكة، بداية من تاريخ بداية السعال وصولا إلى عنوان صيدلي القرية اللذي أعطى مريضتنا حقنة الكوكتيل الشافية من جميع العاهات والأمراض. كانت تفاصيل دقيقة مفصلة، اغلبها غير نافع اكتبها في كنش صغير، لا استعمله في مابعد الا نادرا، والفضل كل الفضل للكورتيزول الي يبقيني منتبها حتى احفظ جميع الجرعات والجراحات السابقة في ملفها وحتى عدد خراف المريضة ونعاجها واسم ديكها وعنوان بيطري القرية. كنت احفظ كل التفاصيل بدون استثناء لعل الأساتذة/الاستاذات الخطيرين/الخطيرات اللذين/اللواتي اقابلهم/اقابلهن في الصباح الموالي، يسألونني/يسالنني ان كان بيطري إدارة الفلاحة والموارد المائية قد عاد نعجة المريض ام لا، فهذا مؤشر خطير ومهم حسب رأيهم عن أمراض شائعة ورهيبة، لا يغفر نسيانه، والويل كل الويل ان نسيت تفصيلا أو حتى نسيت اسم كلب الجيران.
كبار المهنة واساتذتها كما غيرهم في هذا العالم، فيهم الاخيار والاشرار، غير انه ولسوء حظي ( وحظ كل من قابلتهم أيضا)، كان اغلبهم من الاشرار العبوسين اللذين يجيدون الباس نزلة برد وانفلونزا موسمية، لباسا وقورا عميقا ورهيبا عن أمراض يتيمة تحدث كل مليوني ولادة أو أمراض جرثومية لا تجدها سوى في ادغال كمبوديا واحراش الأمازون ومتلازمات جراحية لم تشاهد سوى في الحرب الكبرى. يأتي هؤلاء في الصباح بميدعاتهم الغامضة المزينة بشعار احد مستشفيات الضواحي الباريسية التي اشتغلوا بها قبل سنين طويلة، تحدت فيها تلك الميدعة جميع حالات الطقس والعواصف والشهيلي والبرد القارص وبقايا سندويتش المشفى المعفن. كان المجلس مهيبا، يشبه اجتماعا للكرملن، يتوسطه بوتين الطب الذي يكيل الشتائم يمينا ويسارا لجميع المناوبين من طلبة الطب البريئين إلى الاطباء المناوبين وصولا إلى الأساتذة الآخرين. هؤلاء الاساتذة الاخرون بدورهم يكيلون فيما بعد الشتائم لنفس الاطباء المقيمين وطلبة الطب شفاءً لغليلهم وانتقاما لكرامتهم التي اغتصبها كبيرهم الذي علمهم السحر منذ قليل. كان المشهد مرعبا وتراجيديا ومثيرا للضحك في الوقت نفسه، ينتهي في كثير من الاحوال بدموع تنهمر على الكراس الطبية. امام هذا المشهد لا تملك سوى أن تضحك لسادية هؤلاء في تعذيب الطلبة وكيل الشتائم مذكريننا دوما بانهم هم ايضا قبل سنوات كانوا في نفس حال مرؤوسيهم، يسمعون الشتائم، لا ينامون الليل ويقومون بمناوبات هرقلية خارقة، يفكون فيها طلاسم تشخيصات صعبة وينقذون الاف الارواح دون ان يكونوا بقلة كفائتنا. القاسم المشترك بين الكبار كلهم، كانت تلك الجملة السحرية نحن أيضا مررنا بوضعكم, we have been there . كنت استغرب أشد الاستغراب كيف مروا بوضعنا وهم يكيلون لنا الشتائم والعقوبات والويل والثبور والستاج نون فاليدي*. كيف مروا هم أيضا بذلك وهم لا ينظرون بلا شفقة إلى دموع التعب وملامح الارهاق، فلا يتوانون لحظة عن هرسلة زميل قدم عطلة مرضية من اجل حمى، تعب بالمفاصل أو حتى حمل في الشهر التاسع، أو شتم اخرى لانها لم تعرف عدد المصابين بجنون البقر في هولندا في بدايات القرن الحالي.
ان المشاهدة اللصيقة لتصرفات لا اعتبرها شاذة وانما متكررة في المجتمع الطبي العربي على العموم دفعت بي إلى التساؤل سنوات طويلة عن مرد هذه الخشونة النفسية، التصرفات المتحطبة وفقر التعاطف المدقع. اليس من الطبيعي ان يتعاطف احد مع من مر بنفس وضعيته ويظهر له التفهم والليونة؟ كيف يمكن لكبار اليوم ان يكونوا اعداء ماضيهم يكنون له كل هذا العداء والخشونة ؟ هل من العادي اظهار كل هذا الكم من قلة التعاطف بالرغم انهم فعلا they have been there ؟
جالت كل هذه الاسئلة برأسي سنوات إلى ان صادفت دراسة راشل روتان وماري ماكدونالد المنشورة بمجلة علم النفس الاجتماعي الامريكية سنة 2015(1). والحقيقة يا عزيزي ان الاشخاص الاكثر قابلية للتعاطف معنا هم ليسوا بالضرورة من مر بظروف تشبهنا أو استعملوا جملة نحن ايضا مررنا بذلك . ان تكون موظفا وتمر بظرف عائلي صعب مثل الطلاق، أو انتظار مولود أو حتى مناوبة صعبة وتحتاج التفهم أو التعاطف أو حتى اجازة سنوية من احد رؤسائك المباشرين، في هذه الحالة عليك التوجه إلى اقل من مر بظروف مشابهة حتى يتم تفهمك. تجارب علم النفس الاجتماعي لماكدونالد وروتان اثبتت بالفعل ان اغلب من مر بظروف صعبة وصادمة مماثلة لظروفك هم غالبا الاقل تفهما لهذه الظروف، خاصة ان كانوا قد تغلبوا عليها واصبحت في عداد الماضي.
في احدى تجارب ماكدونالد وروتان تم تقسيم 323 مشاركا إلى مجموعتين: مجموعة كانت يوما ما ضحية للهرسلة (A) ومجموعة اخرى لم تكن يوما ضحية للهرسلة (B). كان على المشاركين مشاهدة شاب يتعرض للتنمر في وضعييتين: الوضعية الاولى لم يتحكم باعصابه وفشل امام المتنمرين، الوضعية الثانية تحكم جيدا باعصابه امام المتنمرين. النتيجة كانت ان مجموعة المشاركين ضحايا الهرسلة اظهرت القليل من التعاطف مع الشاب ضحية الهرسلة حين فشل في الدفاع عن نفسه وفقد اعصابه مقارنة بالمجموعة التي لم تتعرض ابدا للهرسلة. نتائج التجارب كانت حتما عكس ما كنا ننتظره، اي ان المجموعة التي تعرضت في ماضيها إلى الهرسلة (A) كانت الاقل تعاطفا مع الضحية، عوض ان تكون اكبر من يسانده، باعتبار انها تعلم علم اليقين صعوبة موقف التنمر وصعوبة التحكم في الاعصاب امام المتنمرين. الباحثون لم يكتفوا بهذه التجربة وحدها، وتواصلت سلسلة تجارب مشابهة لوضعيات اخرى اتت بنفس نتيجة تجربة التنمر. هذه النتائج جعلتنا نفكر ان الاشخاص اللذين مروا بظروف صعبة أو صادمة، هم الاصعب في الحكم على الاشخاص اللذين يمرون بنفس التجربة الصادمة فيما بعد، خاصة بعد مضي مدة طويلة من الزمن تجعلهم عاطفيا بعيدين عن ظروف الصدمة الحقيقية. هؤلاء قادرون فعلا على اطلاق احكام صعبة وعدم الشعور بالتفهم والتعاطف مع الضحايا الحاليين بالرغم من الماضي المشترك بينهم. عدم التفهم يبدو حسب نفس الدراسة نابعا من غياب القدرة على استحضار تفاصيل الصدمة أو الحادث المؤلم من جهة وهو ما يسبب هذا الفرق في التعاطف. من جهة اخرى نجاحهم في التغلب على الصدمة يلعب دورا نفسيا مهما في الشعور بالثقة التي قد تصل حد تضخم الأنا فقد نجحت انا فيما تعانيه الان، فكيف لك أنت ان لا تفعل نفس الامر .
عزيزي، عزيزتي إذا سمعت احدهم يحدثك انه هو كذلك He had been there فلا داعي لرفع سقف تطلعاتك عاليا وواصل طريقك..
-------------------------------------
* : stage non validé كلمة مفرنسة تعني ان التربص غير ناجح
(1) Having "been there" doesn t mean I care: when prior experience reduces compassion for emotional distress Rachel L Ruttan 1, Mary-Hunter McDonnell 2, Loran F Nordgren 1,Journal of Personality and Social Psychology



#مجيب_العمري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطب النفسي من تمائم المشعوذين الى حبات الليثيوم..
- كرة الثلج في مدرسة الروابي: من التنمر إلى جريمة الشرف
- الجين الجبان
- داعش في ربوع بلوتو ..
- الى روح سيلان اوزلاب
- البوتاسيوم اكسير حياة في زمن داعش
- ثورة المشرط التونسي, من فلسفة النضال الى خزي لاعقي احذية الن ...
- الارهاب في تونس من وراء النظارة.. مجرمون ام ضحايا ؟
- نبي الفصام.. شيزوفرينيا الثورة
- فوضى ما بعد الثورة : الاطباء الداخليون في المستشفيات التونسي ...
- ربيع الثورة ام كرب ما بعد الثورات .. مقاربة نفسية


المزيد.....




- تلاسن بين قائدي سيارة عائلية ودراجة نارية على طريق سريع.. شا ...
- سلطنة عُمان تعلن اتفاقًا لوقف إطلاق النار بين الولايات المتح ...
- إبراهيم الدرسي.. فيديو صادم لعضو البرلمان الليبي المختفي منذ ...
- من يلحق بركب التطبيع؟ مبعوث ترامب ويتكوف يلمح إلى توسيع اتفا ...
- وزير الدفاع الأمريكي استخدم -سيغنال- 12 مرة في مواضيع حساسة ...
- ترامب يعلن -استسلام- الحوثيين وتوقف هجماتهم بحرا ووقف قصفهم ...
- مراسلنا في اليمن: غارات إسرائيلية عنيفة على مناطق عدة بصنعاء ...
- قبيل مغادرته للشرق الأوسط.. ترامب يعد بإصدار إعلان بالغ الأه ...
- الحوثيون: الصاروخ اليمني الذي ضرب مطار بن غوريون بدد وهم الت ...
- ترامب يجدد التأكيد على رغبته في ضم كندا بحضور رئيس وزرائها


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجيب العمري - سيندروم We have been there: حالة البروفيسور العربي