أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تحدّي صلاح الدين















المزيد.....

تحدّي صلاح الدين


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 7584 - 2023 / 4 / 17 - 02:52
المحور: الادب والفن
    


تكادُ أن تكونَ وحيدةً، شهادةُ المؤرخ ابن شداد، صديق صلاح الدين وكاتب سيرته، المنذورة لواقعةٍ وَجَدَ فيها سلطانُهُ نفسَهُ إزاءَ تحدّ غيرَ قابل للردّ من لدُن ملك الفرنجة، ريتشارد قلب الأسد. تلك الشهادة، أوردها المؤرخُ في كتابه " وقائع حية من الحملة الصليبية الثالثة "، الذي فُقد مع آلاف من المؤلفات الأخرى في العصر التالي، المنكوب هذه المرة بحملة المغول على حاضرة الخلافة الإسلامية وتوابعها. لكنّ مقتطفاتٍ وافية من الكتاب المفقود، وجدت لها مكاناً في مؤلفاتٍ مُعاصرة للحملات الصليبية اللاحقة، وكان منها ـ إذا لم تخنّي الذاكرة ـ الموسوعةُ النادرة، " وفيات الأعيان "، لإبن خلكان، المسَجّلة بعباراته الأنيقة، النائية نوعاً عن أسلوب السجع، المعرّفة به أطنانٌ من مجلدات النثر العربيّ؛ ربما تأثراً بالكتاب الإلهيّ. على ذلك، من المُحال المقارنة بين المصدرَيْن ـ أي الناقل والمنقول عنه ـ لفقدان أثر هذا الأخير. إلا أنّ ابنَ خلكان، بحَسَب آراء الأقدمين والمعاصرين، مؤرخٌ ثقة، ولا يُمكن جرحُ رواياته إلا لو نقلها أحدهم من الذاكرة ـ كحال كاتب هذه السطور المتواضعة.
من المفيد، قبل كل شيء، أن يُدرك القارئ أنّ ذلك الحدثَ المذكور قد وقعَ في القرن الثاني عشر الميلادي. كانَ قرناً عظيماً، ولا ريب، سطعت في مجرته نجومٌ لا تُضاهى؛ لعل أكثرها شهرةً هما ذينك المُحاربين الكبيرين، اللذين كان لا بدّ أن يتواجها في خلال الحملة الصليبة الثالثة. وكانت حملةً عاتية، حشدت فيها أوربا بأسرها كلَّ من كان قادراً على حمل السلاح وفي قلبه شعلة الحقد المقدس إزاء سقوط أورشليم بيد السلطان المسلم. هذا الأخير، ما لبثَ أن تلقى بجَزَع أخبارَ اختراق الفرنجة لأسوار عكا المنيعة، ومن ثم أبكاهُ لاحقاً المُنتهى المفجعُ لثلاثة آلاف من حاميتها، المذبوحين بدم بارد؛ عدا أخوانهم الآخرين في المدينة، المجهولي المصير. في المقابل، كان ردّ السلطان سلبياً، يتسم بالواقعية والرحمة في آنٍ واحد، لما هُرع رجالُ الدين إلى مجلسه كي ينصحوه بإبادة نصارى دولته انتقاماً لأرواح مسلمي عكا. عندئذٍ عادوا ليقترحوا تدميرَ كنيسة القيامة، بوصفها ذريعة الحملات الصليبية.
" حتى لو سُوّيت بالأرض مع جميع الكنائس الأخرى، فإن هذا لن يمنعهم من غزو بلادنا "، أجابَ السلطانُ بنفس الحصافة والروح المتسامحة. لقد كان ذا بُعد نظر، مدركاً أن تلك الحملات على المشرق يكمن خلفها جشعُ النبلاء لامتلاك المزيد من الذهب. هكذا طلبَ السلطانُ نُصحَ قادته العسكريين، المتواجدين حينئذٍ في المجلس. أكثر هؤلاء كانوا من أقاربه، وكان بعضهم لا يقل جشعاً عن أولئك النبلاء، فتنازعوا على ملكية الاقطاعات الكبيرة والخصبة. أحدهم، وكان أقل فتوراً وأكثر حماساً، أوصى بضرورة تدعيم حصون القدس طالما هيَ الهدف الأساس لحملة الفرنجة، الجديدة. أخذَ مولاهُ بالنصيحة، والتي سرعان ما ثبت جدواها لما سُقِطَ في أيدي الفرنجة عقبَ حصارهم للقدس. تكبدوا خسائر فادحة، فاضطروا للتفكير برفع الحصار عن المدينة والانسحاب إلى مواقعهم في الساحل.
أثناءَ ذلك، وصلَ خطابٌ من ريتشارد قلب الأسد، يطلبُ فيه من خصمه المسلم النزال وجهاً لوجه تحت أسوار المدينة المقدسة: " ونتيجةُ المبارزة، ستُقرر من له الحق في الاحتفاظ بأورشليم ". كانَ خطابُ تحدّ وحقدٍ، أثارَ قهقهاتِ الحاضرين في مجلس صلاح الدين. لكنّ هذا الأخير بقيَ مُتحفّظاً، وقد ارتسمت على ملامحه أماراتُ التفكير. عقبَ هدوء المجلس، قال السلطانُ مثبتاً عينيه بشخص والده، وكان عادةً يعتمدُ على رأيه: " بغضّ الطرف عن غرابة الخطاب، فلا محيصَ عن إجابة صاحبِهِ بطريقةٍ ما ". نبَرَ أحدُ الحاضرين للرد، دونَ استئذان مولاه: " المبارزة، من المفترض أن تتم بين ملكين حينَ يتم أسر أحدهما من جانب خصمه. يجب تذكير ملك الفرنجة بأصول المبارزة لدينا، لكي يوضح لنا في خطاب آخر أصولها بنظرهم "
" مهلاً، أيها الأمير "، خاطبَ الوالدُ الرجلَ المتحمّس فيما هوَ يتنَحنحُ. بعدئذٍ توجّه لإبنه السلطان، مُقدّماً اقتراحه بكلمات هادئة: " أنتَ لم تُحِط نفسك بمستشارين أكفاء، عبثاً. فأرى أن تمنحَ مستشاريك مزيداً من الوقت، علّهم يخرجون بجوابٍ مناسب لخطاب ملك الفرنجة ". رشقَ السلطانُ أباه بابتسامةٍ، كأنما توحي بأن جوابَ الخطاب لن يخرجَ إلا من جعبة الذهن المتوقّد لنجم الدين أيوب.
على الجانب الآخر، وفيما كانَ ريتشارد قلبُ الأسد مجتمعاً بدَوره مع أركان حربه في خيمته الباذخة، المنصوبة تحت أسوار أورشليم، استأذنَ الحاجبُ لرسول السلطان المسلم: " إنه يحملُ خطاباً من مولاه "، قالها بنوعٍ من الازدراء. سمحَ العاهلُ للرسول بالمثول بين يديه، وما عتمَ أن استلمَ ما ظنّ أنها مجرد هدية من ندّه اللدود: " ما هذا بحق الرب؟ "، هتفَ مدهوشاً. كانَ يُلقي نظرةً حائرة على الرقعة المربعة الشكل، المرصّعة بالصدَف والمتطاير منها العبقُ الحرّيف لخشب العرعر، لما ردّ الرسولُ بكلمات مقتضبة: " إنها رقعةُ شطرنج، يا سيّدي "
" أظنني أدركُ جيداً، أنها رقعة شطرنج وليست سجادة صلاة! ولكن، ألم تحمل مع هذه الهدية جوابَ خطابي الموجّه لمولاك؟ "
" هذه الهدية، هيَ جوابُ خطابكم "، أجابَ الرسولُ برصانة. غبَّ وهلة تفكير، فهمَ العاهلُ أنه أمامَ أُحْجيَة. وربما فكّرَ أيضاً، أنّ خصمَهُ سيسخرُ منه لو عجزَ عن تفسير الأحجية. عند ذلك، طلبَ استدعاءَ نائب الحبر الأعظم، وكان يستأنسُ برأيه فيما غمضَ من أمور. حضرَ الرجلُ الخطير الشأن، ولم يزِد عن إلقاء نظرة حائرة على رقعة الشطرنج حينَ أعلموه أنها جواب الكفار على خطاب ريتشارد. هذا الأخير، لاحَ له من ثم أنّ نائبَ الحبر الأعظم ليسَ بمقدوره إعطاء رأيٍ حصيف بهذه المعضلة مثلما يفعلُ عادةً تحت قبة كاتدرائية القديس بطرس وعلى أنغام الأرغن. بلغَ الضيقُ بالملك، أنه خرجَ من الخيمة ليعتلي جواده ويقوم بجولةٍ بالقرب من أسوار أورشليم. عاد متصبباً بالعرَق جرّاء شمس الشرق المتّقدة، التي تُلهم الأنبياءَ وتصيبُ الملوكَ بالحمّى. بدخوله إلى خيمته، وقبل أن تعتاد عيناه على تمييز كائناتها وموجوداتها، سمعَ صوتَ أحدهم، يهتفُ بنبرة منتصرة: " كش ملك! ". صاحبُ الصوت، تبيّنَ أنه البرنس هنري، ابن أخي ريتشارد، وكان يلعبُ الشطرنجَ مع عمته، جوانا، أرملة ملك صقلية. كانا يستخدمان رقعة الشطرنج ذاتها، المُلغزة.
قبل أن يحلّ الخريفُ، توصلَ ريتشارد لاتفاقية سلام مع خصمه، عُدّت مُشرّفة لكلا الطرفين. لم يحضر صلاح الدين لإبرام الإتفاق، بل أرسل شقيقه، الملك العادل. إلى هذا الأخير، توجّه ريتشارد كي يستفسر منه عن أُحجية رقعة الشطرنج: " وكانت قد شغلتني فيما مضى، لدرجة امتزاجها بأحلام نومي ". تكلمَ ريتشارد عندئذٍ باللغة اللاتينية، وكان قد سبقَ واستعملها مع شقيق السلطان في مفاوضات سابقة، كادت أن تفضي للسلام لولا معارضة البابا، الذي هدده وشقيقته بالحرمان الكنسي. إذ كانت ضمانة تلك المفاوضات ـ لو تمّت ـ زواج جوانا من الملك العادل مع احتفاظها بديانتها المسيحية.
أطلقَ شقيقُ السلطان المسلم ضحكةً مرحة، قبلَ أن يُجيبَ باللغة اللاتينية: " رقعةُ الشطرنج، كانت من بنات أفكار والدنا. لقد شاءَ أن يُوضحَ لجلالتكم، أنّ الملكين في لعبة الشطرنج لا يمكن لأحدهما أن يقتلَ الآخر. ويبدو أنّ تلك الرقعة جلبت الحظ، أخيراً، لطرفيّ الصراع ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لقاءٌ قبلَ الغسَق
- اليهودي الأبدي
- الأمل
- أمسية من أجل جوانا
- التمثال
- مَغامِضُ منزل العزلة
- حواءُ التاسعة مساءً
- حدائق الليمون
- المُعسكر المُريب
- الحسناء والإنتحار
- التاجرُ والجنيّ
- الخرابة
- السبت المستحيل
- مساء شتائي دافئ
- الوصيّ
- مفتاح الفردوس
- لعبة الموت
- نظرة جنونية
- فتاة الحديقة
- الورقة الخضراء


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تحدّي صلاح الدين