أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الخرابة














المزيد.....

الخرابة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 7557 - 2023 / 3 / 21 - 14:12
المحور: الادب والفن
    


فضاءُ عمله، كان محصوراً بين محطتيّ القطار والبولمان، المنتصبتين على طرف حيّ غيليز، الراقي، يفصل بينهما ثلاث دقائق مشياً على الأقدام ويوحدهما الطريقُ الأنيق، المتجه إلى الدار البيضاء. وكان في وسع ماسح الأحذية، ساعة الغداء، استخدامُ رصيف هذا الطريق للوصول مشياً إلى منزله، الكائن في عين مزوار؛ وهيَ منطقة شعبية، ازدهرت في العقدين الأخيرين بفضل قربها من شارع محمد السادس، الذي تقع على جانبيه أفخر الإقامات الفندقية في مراكش. وكان " حامو " وجهاً مألوفاً لحراس كلتا المحطتين، يراقبونه أحياناً بنظراتٍ ملؤها الحسد حينما يُنقده أحد السيّاح ورقةً مالية من عشرين درهماً. بدَوره، كان هذا الشابُ الأسمرُ يَمحض نفسَ النظرة لحلاق الحيّ الراقي، المتقاضي هنا ضعفيّ أجرة الحلاق الشعبيّ. ذلك أنها خمسة دراهم، التسعيرة الرسمية لماسح الأحذية، وكان من النادر أن يحظى بزبون مُعتبَر. بل إن تنقله الدائب بين المحطتين، كان من واردات مهنته، القليلة الحظ والمَردود سواءً بسواء.
أحلامُ اليقظة، كانت عزاءه في أوقات ندرة الزبائن، الممتدة إلى ساعتين في بعض الأيام، بالأخص إذا كان الطقسُ سيئاً. لكنها لم تكن العزاءَ الوحيد، طالما أن بين المسافرين ستخطرُ فتاةٌ جميلة بجسدٍ مثير، ومكشوف اللحم في الطقس الحار. عندئذٍ يخرجُ من أحلام اليقظة، لكي يتابع ارتجاجَ ردفِ وصدر هذه الفتاة أثناء تنقلها في أرجاء المكان، غير متأثر بنظرتها الفارغة عندما تلتقي عيناها المكحولتان بعينيه الجائعتين. أما لو كانت الحسناءُ سائحةً أوربية، فإنه يؤوب سريعاً إلى أحلام اليقظة، عقبَ اختفائها مع فتنتها وأريج عطرها: يحلم على الأثر أنه رافقها إلى مدينة الاصطياف البحرية ( أغادير أو الصويرة )، ثمة أين سيتمتعان بالسباحة بين الأمواج المزبدة ومن ثم يستسلمان لساعات الحب في الفندق الفخم.
بالرغم من معرفته الأكيدة لعقم أحلامه، إلا أنه كان يواظب عليها بمتعة ساعات الحب الحقيقية، التي يحظى بها غيره من الشبان المحظوظين. وكان على معرفة بأحد هؤلاء؛ جارٌ من جيله، ابتسم له القدرُ في خلال فترة عمله بالفندق، ليسوق إليه سائحة هولندية تكبره قليلاً بالعٌمر، وما لبثت أن اقترنت به ثم أخذته إلى بلادها، ليعود بعد عام واحد كي يتراقص بسيارته في شوارع مراكش.
وإنها ساعةٌ من الظهيرة، أفاقَ حامو في أثنائها من أحلام اليقظة حينَ دهمته حاجةٌ ملحّة للتبوّل. كان آنذاك مقتعداً على جانب مدخل محطة حافلات البولمان، المحميّ من الشمس اللاهبة بأفياء الأشجار، المشكّلة سياجاً طبيعياً للمحطة من جهة الشارع العام. عادةً، في مثل هذه الحالة، كان يستخدمُ حمّامَ المحطة. لكنه في أوقات زحام المسافرين، كان يقطع الشارع في طريقه لمكانٍ مُنعزل، يستطيع فيه تلبية حاجته. ذاك المكان، تنهض فيه أطلالُ بناءٍ قديم لم يبقَ منه تقريباً سوى الجدران ذات الأشكال المثلثة، الشبيهة بأسنان سور باب دُكالة. وهوَ ذا يتهيأ للنهوض كي يتوجه إلى تلك الخرابة، عندما أوقفه مرأى إحدى الحوريات الأوربيات، وكان على جسدها الرشيق قطعتان رهيفتان من الملابس الصيفية. خطرت بعضَ الوقت أمام عينيه، وما عتمت أن دخلت إلى المحطة هرباً من أشعة الشمس. عند ذلك استسلمَ لأحلام اليقظة، المعروفة مآلها.
أيقظه من ثمّ الضغطُ الحاد في مثانته، فهب واقفاً وخطا باتجاه الشارع العام. عندما كان يهمّ بقطع الطريق، في غمرة زعيق زمامير السيارات والدراجات النارية، تذكّر ملهوجاً أنه ترك عدّة العمل هناك في المحطة. ثم استدرك سريعاً: " مَن سيسرق عدّة ماسح أحذية، تافهة؟ ". هيمنت إذاً حاجةُ التبوّل على نفسه، ودفعته للهرولة باتجاه الخرابة. أحسّ بقشعريرة خوفٍ ( كانت دخيلة عليه في السابق )، وهوَ يجتاز مدخلَ المكان، الذي لم يكن فيه ما ينمّ عن الحياة سوى بعض شجيرات النخيل والليمون، المتبدية كأنها حارسته الأزلية. حقّ عليه ذلك الشعور بالرهبة، طالما أن الشمسَ كانت قد غربت فجأةً، لتمتلئ الأطلالُ بالظلال الزرقاء ومن ثم بالعتمة الكحلية. هواجسه المعلومة، جعلته يختارُ الجدارَ المقابل للمدخل كي يرش بوله على هيكله المتفتت. لكن عائقاً ما، لعله خوفه، منع ماءَ مثانته من الخروج. محاولاته المتكررة باءت بالفشل. وكان يستعدُ للانسحاب من المكان، والعودة إلى المحطة لاستخدام حمّامها، لما سمّره صوتُ وقع أقدام. الصوت، كان آتٍ ولا ريب من أعماق الخرابة. أضواء الشارع القريب، ما عتمت أن كشفت لعينيه ظلَّ شبحٍ، يتنقل بتثاقل وهوَ ينوءُ بحمل حقيبةٍ كبيرة. بدَوره، خطا بأثر الشبح، مدفوعاً بالفضول وقد زايله شعورُ الرهبة. الأضواء الشاحبة، ميّزت لعينيه بعدئذٍ ما يُشبه الحجرة، في صدرها قوسٌ حجريّ، أو محراب؛ وفي قاعدته هناك، بدأ الشبحُ بالحفر. الحقيبة الكبيرة، ما لبثت أن دُست في الحفرة ثم أهيل عليها الترابُ. الشبح، وكان يلوح أنه مرهقٌ ومكدود، ألقى نظرة أخيرة على القبر الاعتباطيّ ومن ثم تحرك بخطواتٍ مترنّحة باتجاه مدخل الخرابة. هنيهة على الأثر، مديدة أو مبتسرة، وكانت يدٌ أخرى تُخرج الحقيبة من الحفرة. ودائماً على أضواء الشارع ( وبالرغم من الضغط الهائل في مثانته )، تحققَ لماسح الأحذية أنه أضحى الآنَ في عداد أغنياء هذه المدينة، التي تجذب السيّاحَ كما تفعل الحلوى بالهوام: لقد كانت الحقيبة متخمة برزم، يحتوي كل منها على أوراق مالية بمئات الدولارات.
في تلك الظهيرة عينها، فتحَ حامو عينيه ليغمرهما ضوءُ الشمس الحاد، المتسللة بعضُ أشعتها خللَ أغصان الأشجار، التي تحجب محطة حافلات البولمان عن الشارع العام. ضغطُ مثانته، كان ما فتأ في أوجه. وكان من الممكن أن يُصاب بالجنون، بعدما فقدَ الكنزَ، لولا أنه سبقَ وخاضَ مراراً لُجَجَ أحلام النوم واليقظة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السبت المستحيل
- مساء شتائي دافئ
- الوصيّ
- مفتاح الفردوس
- لعبة الموت
- نظرة جنونية
- فتاة الحديقة
- الورقة الخضراء
- منزل في الأزقة العُلوية
- المكتبة المهجورة
- الأخدود
- سفير جهنم
- شباب إمرأة: ريف ومدينة ورغبة
- غزل البنات؛ فيلم الكوميديا الخالد
- المومياء؛ الفيلم المصري الفريد
- العزيمة؛ فيلم الريادة الواقعية
- ليلة ساخنة؛ إغتصاب آمال الغلابة
- تمصير الروايات الأجنبية: تيريز راكان
- المشاكل النفسية، سينمائياً
- عادل إمام وظاهرة التحرش الجنسي


المزيد.....




- الرباط تحتضن الدورة ال 23 لجائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية ...
- الإعلان الأول حصري.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 161 على قناة ا ...
- -أماكن روحية-في معرض فوتوغرافي للمغربي أحمد بن إسماعيل
- تمتع بأقوي الأفلام الجديدة… تردد قناة روتانا سنيما الجديد 20 ...
- عارضات عالميات بأزياء البحر.. انطلاق أسبوع الموضة لأول مرة ف ...
- نزل تردد قناة روتانا سينما 2024 واستمتع بأجدد وأقوى الأفلام ...
- عرض جزائري لمسرحية -الدبلوماسي زودها-
- مترجمة باللغة العربية… مسلسل قيامة عثمان الحلقة 161.. مواعيد ...
- علماء الفيزياء يثبتون أن نسيج العنكبوت عبارة عن -ميكروفون- ط ...
- بعد نزول مسلسل عثمان الحلقة 160 مترجمة عربي رسميا موعد الحلق ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الخرابة