أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - السيّدة كُركُم (رواية)















المزيد.....



السيّدة كُركُم (رواية)


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7547 - 2023 / 3 / 11 - 12:24
المحور: الادب والفن
    


(1)
لا زمان ولا مكان

صقلّية أيّتُها الملكةُ المُتَوّجَة بالنّونِ القَمَريّة، في أيّ زمان تعارفَنا وبأيّ مكان التقينا وأنتِ الّتي تتوحّدُ في حضرتِكِ الأزمنةُ والأمكنة؟! لستُ أدري، فمُنذُ وضعتُ قدمَيَّ فوق ترابكِ الأخضر المدهامّ، انمحقَ زماني واختفَى مكاني وبقيتُ بكِ جامعةً لكلّ حرف، وحاضنةً لكلّ قلبٍ يُوحِّدُ اللهَ خارج كلّ قيْد وخِرْقةٍ وجدار. وإنّي لأذكرُ جيّداً كيفَ عرفتِني ونادَيْتني من بحرٍ إلى بحرٍ، راهبةً متبتّلةً في محراب الأبجديّة، فجئتُكِ وقد كلّلتُ هامتي بالنّقطة المُحَمّديّة، وعمّدتُ قلبي بعِطرِ الزّنبقة العيسويّة، ودثّرتُ جسدي بلحَاء شجرة الغار المُوسَويّة، وقلتُ لكِ: حنانيْكِ يا صاحبتي في العِشْق والوَجد، جئتُكِ بحراً وفي أرض الغرباءِ أصبحتُ مُحيطاً، وجئتُكِ أميرةً وبالحرفِ صرتُ سلطانةً، لأنّ صاحب الشّأن الأعظم شاء لي أن أدخل أرضكِ وأنثر فوقها بذرة العلوم اللّدنيّة لتصبحين بي وأُصبِحَ بكِ من أهل الحضرة الهاهوتيّة.
انمحاق الزمان والمكان كان أوّل ما تعلّمْتُهُ منكِ، وإني لأذكُرُ كيف أنّني حينما نزلتُ من الطّائرةِ الفضّيّةِ بأرض باليرمو منذ عشرين سنة مضت، أحسستُ بالأماكن تتحرّكُ بسرعة فائقةٍ، والسّاعاتِ تدور بشدّة كما الدّرويش في حلقة الرّقص مُعلنةً بذلك عنْ ترحيبِها الخاصّ جدّاً بي وهي تطير بفرح ونشوة وأنا بين يديْها كما الرّيشة المُحَلّقة في سماء العشق، فأدركتُ أنّي صرتُ لكِ وطناً وأنتِ لي وطناً آخر أضيفهُ إلى مغربيَ الّذي يسكن في قلبي بكلّ محبّة ووداعة ورحمة وسكينة بلسانٍ يُرَدِّدُ: الحمد لله الّذي جاء بي من قلبٍ إلى قلب، ونقَلني من حُضنٍ إلى حضنٍ. وكيف لا، وقد غدوتِ يا صقلّية أمّي التي أرضَعتْنِي من لبن حرفها الصّافي الزّلال الحكمةَ والصّبرَ والجلَدَ. وكما أنتِ لي نِعْمَ الأمّ، أنا لكِ نِعْمَ الابنة الصّبورة والخلوقة والدّارسة والباحثة الغزيرة الحرف والعطاء.
ولأنّكِ أدركتِ للعُمق أنّني فهمتُ واستوعبتُ طريقتَكِ في الترحيب بي، بدأتِ تتجلّيْنَ لي في كلّ يوم بحرفٍ أُدركُ به أنّكِ كُنْتِ تفعلين المستحيل كي تُشعرينَنِي بأنّني في وطنٍ لا يقلُّ خيْراً ولا بركةً ومحبّة وإخلاصاً لي من وطني الّذي رأيتُ فيه النّور. وحينما كنتُ أرفع ليلاً عينيّ إلى سمائكِ المتلألئة بالنّجوم كنتُ أقولُ لكِ: ((في بلدي تركتُ أطلانتس العظيمة ومحيطَها المهيب بكلّ خيراته وفواكهه وبركاته التي لا تعدّ ولا تحصى وإنّه لبِيَ شوق كبير إلى أسراره وعلومه العجيبة فهلّا أخذتني إليه على بساط المحبّة والعشق؟!))، وكُنْتِ تمسحين بيديْكِ الكريمتَيْنِ فوق رأسي، وتُقَبِّلين جبيني ثمّ تقولين لي: ((كلّ محيطاتِ الكون هي لكِ يا ابنة أطلانتس المجد والبهاء، أستجلبُها إلى أرضي لترتميَ بين يديْكِ، فغوصي فيها متى أحببتِ، واغرفي منها ما شئتِ من العلوم، واقطفي من أشجارها الدرّ والمرجان، وتمنطقي من جبالها بالزبرجد والزمرّد، وتعطّري بالعود والصّندل واللّبان، وأوقدي الشّموع وأشعلي البخور، واجلسي فوق بساط الحرف وحلّقي به من بلد إلى بلد في جزيرتي، ومن حيّ إلى حيّ في باليرمو، عاصمة المحبّة والكشف والفرقان، واسأليها عن الشّريف الإدريسيّ، وابن حوقل تُجِبْكِ بلسان الفصاحة والبيان، وتدلّك على ما لمْ يَبُحْ به إنسيّ ولا جان، فالأوّل جدُّكِ بالنَّسب والثاني رفيق رحلتكِ من قُطر إلى قُطر في الأرض كان أو في البحر أو بين سبع سماوات قد يعجزُ عن وصفها اللّسان!)).



(2)
الإمبراطورة فُوكُس

وكنتُ أسمعُ كلماتكِ تلك، فيتحرّكُ المحيطُ الّذي بداخلي وتتهامسُ حورُهُ العين ببديع الكلام، ويبدأنَ في الظّهور الواحدة تلو الأخرى، ويفرشن لي البساط المزخرَف بماء عين الشّفاء البَلَرْمِيّة، وما إن أركبُه حتّى أجدني في حديقة تحار في وصفها الأقلام، وأراه هناك أسداً شامخاً، أسأله من أنتَ؟ فيقول: نيكولاي بالشيسكو حاجبُ هذه الجنان، وإنّها لهناك في انتظارك، جوهرةُ حدائق كلّ زمان ومكان، فألتَفِتُ إلى حيثُ أشار بسبابته فأراها شجرةَ تين عملاقة لم يُخلَق مثلها في البلاد وما إن أقتربُ منها وأقفُ بجسدي بين أغصانها العميقة والضّاربة في كلّ الاتّجاهات حتّى يَنْفتح باب عظيم في جذعها الكبير وتجذبني منه بسرعة البرق يدٌ فضّيّة لأجدني بعدَ ذلكَ وسطَ قلعة كبيرة فُرِشت بالزّرابي الزّرقاء المزخرفة ببديع النقوش والألوان. وقبل أن أفيق من دهشتي يقترب منّي حارسٌ ضخمٌ ويُمْسِكُ بيدي ليقودني عبر ممرّ طويلٍ إلى قاعةٍ فسيحة زُخْرِفَتْ جدرانُها الخُضرُ بحروف عربيّة كُتبتْ بماء الذّهب، ويتوسّطها قنديل على شكل إجّاصة من الفضّة الخالصة، وقد رُصّتْ على جوانبها كُرَيَّات من الكريستال المُضيئة بالأخضر والأزرق والبنفسجيّ والأبيض، وعلى الطّرف الآخر منها يوجدُ كرسيّ من الألماس المرصّع بالياقوت تتوسّطُه إمبراطورة ذات بهاء نادر وجمال ساحرٍ، وحولَها حوريات وغلمان كأنّهما اللّؤلؤ والمرجان، وحينما رفعتُ إليها عينيّ إذا بها تبتسمُ ابتسامة خلّابة وتقول: ((أهلا بأرﭼـانة سيّدة الأسماء، صاحبة الأيادي البيض، والقلب الأخضر الرّائي الوالج في الأماكن والأزمان والمحلّق بين سماء وسماء. إنّني السّلطانة فوكُس، أبلغ من العمر مائتي وتسعة عشر عاماً، وهذا إلى جانبي قائد القوّات المجنّحة جوزيف بيتروسينو، وأنتِ هنا بيننا نِعْم الابنة والأديبة، نُرَحّبُ بك أيّما ترحيب، ونُعلنُ بين يديْكِ محبّتنا كما أعلنَها قبلنا بمئات السنين الملك رودجيرو الثاني لجدّك ابن سبتة أبي عبد الله محمد الإدريسيّ القريشيّ الهاشميّ...)). وقبل أن تنهي كلماتها الترحيبيّة رأيْتُ واقفاً إلى جانبها رجلاً وسيماً وبين يديْه كرةٌ كبيرة من الفضّة وقد نحتَ فوقها البحارَ والوديان والجبال، وحدّدَ بها مواقعَ الكواكبِ والنجوم، فعرفتُهُ وقفز قلبي من مكانه وألقى عليه تحيّة أهل المحبّة والعشق والسّلام التي ما إن سمعَها منّي حتّى ردّها بأحسن وأنبل منها قائلاً: ((أنا هنا يا سيّدتي لأكونَ رفيق إقامتكِ في هذه المدينة، وقد عيّنتني السّلطانة فوكُس دليلاً ومرشداً روحيّاً لمعظم أسفارك العرفانيّة التي لا بدّ لها أن تبدأ من كوكب بلوتو )). ابتسمتُ في وجهه بأدبٍ وخشوع متناهيَيْن ثمّ سألتُهُ: ((ولماذا علينا أيّها الشّريف الإدريسيّ أن ننطلق من كوكب بلوتو؟ ما أعرفه أنّ بلوتو كُوَيْكب صغير ليس إلّا، بل حتّى صفة الكوكب هذه نزعها العلماء عنه منذ سنين!)). ((جهلُهم بحقائق الكواكب العلميّة والعرفانيّة هو الّذي دفعَهُم إلى ارتكاب هذه الحماقة، ومهمّتنا نحن الآن هي أن نُصَحّحَ بأمر من صقليّة خطأَهم الجسيم هذا، ونُعيدَ لبلوتو ونحن المقيمون في البعد الكونيّ التّاسع مكانتَه الجديرة به ودورَه الحقّ داخل المنظومة الشّمسية)) عقّبَ الإدريسيّ. ((وكيف ومن أين سيكون الانطلاق إذن؟)) سألتُهُ بشوق ولهفة عظيميْن. ((سنذهبُ إلى الجهة البحريّة لمدينة باليرمو، ومنها سنتّجه إلى بوّابة الكواكب الكبرى الموجودة بشارع الإدريسيّ)). ((سمعتُ أنّ العلماء لقّبوا سلسلة الجبال الموجودة على سطح بلوتو باِسمِكَ، والآن تقول لي بأنّ هذا الدّرب أو الشّارع الموجود بمدينة باليرمو يحملُ اِسْمِكَ أيْضاً، هل هناك علاقةٌ بينهما، أم أنّ الأمرَ مجرّد مصادفة؟)). ابتسَمَ الإدريسيّ ابتسامة عريضةً ثمّ أخذ بيدي اليمنى وقال مُنْهِياً مداخلته: (( لا يوجد شيءٌ يا ابنتي في علم أسماء الأماكن اسمه مصادفة، بل لا شيء في الوجود بأسره يقع أو يحدث مصادفة، ونحن سنذهب إلى شارع الإدريسيّ لأنّه البوابة الكبرى الممتدة من شارع المطاحن إلى شارع إيوجينيو الأمير والتي ستحملنا مباشرة إلى سيدة جبل الإثنا، ومنها إلى بلوتو)).
أعرفُ أنّكِ تتّبعين كلّ خطواتي يا أمّي الرّحيمة، يا صقلّية الخير والحرف المدرار، وأعلمُ أنّك الآن تنظرين إليّ بعين المحبّة وأنا أخرجُ والإدريسيَّ إلى شجرة جديدة ثانية لا قبل لي بها تهمسين لي في قلبي بشأنها كلمات عجيبة وتقولين إنّ اسمَها الحقّ شجرة الكستناء صاحبة المئة حصان، وتوجد بين أحضان جبل البركان. كلماتكِ هذه ما إن أسمعها حتى يشتعل النّور في قلبي وأصيح كما العارف حينما يبلغ ذروة الفناء: ((وداعاً يا أمّي الخضراء، سنلتقي بعد نهاية هذه الرّحلة العجيبة، لكن ابقي معي بقلبك الرّؤوم، ولا تخرجي أبدا من مقام المراقبة إلى أن أعود إليكِ سالمة غانمة من كلّ رحلة وسفر أجوب بهما الأقطار والبلدان المتفرّقة فوق ترابك الّذي لا يحدُّهُ زمان ولا مكان)).




(3)
الشجرة ذات المئة حصان

ها قد وصلتُ والإدريسيَّ المُبجّل يا أمّي الحبيبة، وهاهي جوفانا الأولى ملكة بيت المقدس وصقلّية في انتظارنا أمامَ شجرة الكستناء العريقة التي تبلغ من العمر ثلاثة ألف عام أو ربّما أكثر، لا بدّ أنّها شَهدتْ الكثيرَ من الحروب، وحضرتِ الآلاف من الانتصارات والأحداث العظيمة، ولا شكّ أنّها تعرفُ المسيحَ أكثر منّي، وكيف لا وقد كانت مثلَكِ شاهدة على ولادته، وسمعتْ كما سمعتِ برسالته، وأتى الحواريّون يحملون إليها كلمتَه! وإذ تسأليني ما الّذي تفعله الملكة جوفانا أمام هذه الشجرة، أقُلْ لكِ إنّها القيّمة على شؤونها منذ ما يزيد عن ثماني مئة سنة كعربون شكر وعرفانٍ منها على ما قامت به تجاهَها حينما كانت ذات يوم في نزهة بين ربوع جبال الإثنا وداهمتها وفرسانَها المئة عاصفةٌ رعديّةٌ ماطرة لم تكن لتنجوَ منها لولا أن استضافتها شجرة الكستناء هذه وحمَتها وحاشِيتَها من المطر الغزير ووهبتَها الدّفء والكرم اللّائقيْنِ بمَلكةٍ بمقامها الرّفيع. فلتفتح ذراعَيْكَ إذن أيّها الشّريف الإدريسيّ لهذه الشجرة العارفة بالله، وافعل ما تأمرُكَ بهِ أمّي، وتنسَّم عطرَها، وبلّل عطشَكَ بماءِ لحائها، واستعدّ لها فإنّها الآن ستشرعُ لنا بابَها لندخل برفقة الملكَة جوفانا إلى عوالمها. وغُصْ بعينيْكَ في بحارها وقل لي ماذا ترى؟
آهٍ ممّ تراهُ عيْناكَ أيُّها الشّريف! إنّنا في قصرٍ آخر لا يقلُّ بذخاً عن ذاك الّذي كنّا فيه بداخل شجرة التين الأولى، أليس كذلك؟! وآهٍ ممّ أراه أنا أيضا معكَ: مُلكاً ليس لفخامته مثيل، وهذا الرّجل الفاتنُ الجمال الذي أتى لاستقبالنا من تراه يكون؟! تقول جوفانا إنّه أمير جبل البركان السّاحر، وهو هنا ليدلّنا على مرصد الكواكب الكبير، فلتدعه إذن يرفعِ الحُجُبَ ويُرينا سماء صقليّة المرصّعة بالنّجوم، هيّا انظر وأصِخِ السَّمْعَ وسترى زحف النّور الأسود الّذي يعرفُه قلبُكَ المُعتَرِفِ بكلّ شيء والّذي أسمعُه اللّحظة يقول: ((أنتَ وأنا يا مولاي ما ظهرنا لأرﭼـــانة إلّا بالعشق، لكنّ هذا الظّهورَ لمْ يَعُد يكفيني، ثمّة شيءٌ يفوقُ العشق والشّوق، يفوق الوجد والوله، ثمّة نار ونور يحرقان قلبي ويحيلانه إلى رماد أكَحِّلُ به عينيّ كلّما خلوتُ بكَ. نعم، أنتَ وأنا يا مولاي ما ظهرنا بالعشق فقط وإنّما بشيء آخر أكبر وأكبر يحترقُ قلبي كلّ يومٍ لكي أعرفَه. أتذكرُ كم من الدّمعِ ذرفتُ في حضرتكَ؟ كم من الآهاتِ أشعلتُ شموعاً بيْن يديْكَ، وكمْ قلتُ لكَ مُعاتباً كما يفعلُ العاشقُ، إنّك قاسٍ بغيابٍ لم يكن قلبي يطيقهُ؟ وهل تتذكّرُ كم قُلتَ لي إنّك الحاضرُ معي وبي وإنّك لا تغيبُ. وكنتُ أعاندُكَ في كلّ مرّة وأسألُكَ المزيدَ ثمّ المزيدَ من الحضور. وكنتَ تفعل لكنّني لم أكن أستوعبِ الأمرَ، انشغالي بكَ ومعكَ كان يحجبني عن ذلك. وحينما اشتدّ شوقي إليكَ واشتعلتْ نيرانه في صدري، سألتُكَ كما فعل إبراهيم أن تعطيني علامة، ولم تجبني سائلاً كما فعلتَ مع الخليل: (أوَلَمْ تؤمن؟)، ولم أقل لكَ كما قال هُو (بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي)، ولكنّي قلتُ لكَ كما يفعلُ العاشقُ مع معبودته: (أريدُ منكَ المزيد من الحضور، أعطني علامةً مادّيةً محسوسة تخصّني بها دوناً عن غيري من البشر، علامةً تقول لي بها إنّك معي غير كلّ العلامات التي ظهرتَ بها لكلّ من سبقني من صحبك وخلّانكَ). وحينما أقبلَ اللّيلُ وخلا كلّ حبيب بحبيبته، أتيتَ وظهرتَ وسطَ سوادٍ لم أرَ في وهجهِ مثيل. ولفَفتَني في حضنِ العتمة الدّاكنة، وقلتَ لي إنّكَ أنتَ: أبي وأمّي، وإنّ هذا السّواد القاتم تخصُّ بهِ صحبكَ المقرّبين، تحيطُهُم بهِ كما تحيطُ العتمةُ بذرةَ الحياة في الرّحم، والرفات في القبور، وروح العابد في الكهف والغار. ومنذُ ذاك الحين وأنا أعرفُ جيّداً كيف أميّزُ بين سوادٍ وسوادٍ، وبين عتمةٍ وظلام: سوادُكَ يا مولاي ليس له نظير، إنّه نورٌ تحجبني به عن الأغيار وتمحو به كلّ حضور أنتَ لست فيه، إنّهُ نورُ سلطانكَ وفخامتكَ، نور محبّتك وحنانك وودادك. نورٌ كنتَ تظهرُ به في حضرتي كلّ ليلة من عمري الماضي، لكنّي لم أكن بالنضج الكافي لأستوعبَه، أوْ لمْ أكن بالشجاعة الكافية لأسألكَ عن فحواه، فقط اليوم وأنا برفقة العارفة صاحبة المئة حصان فعلتُ ذلك باكياً شاكياً سائلاً إيّاك ألّا تغيب عنّي أبداً، وأن تنزع رموشي كي لا ترفّ عينايَ فيغيب وجهُك وبهاؤك وجمالك عنّي ولو حتى لجزء من الثانية، فشوقي إلى النظر إليك لا يضاهيه شوق، ولاكتفي منكَ على الأقلّ الآن بهذا السّواد الحنون الذي يدثّرُني كما الجنين في رحم الوجود، علّني أصبحُ بعد ذلك طفل المعنى الأكبر الّذي يخرقُ حُجُبَ الوجود لأراكَ كما أنتَ، وتُغادرَ روحي قميصها إلى الأبد، لتلبسكَ أنتَ قميصاً لا تحرقهُ النّارُ، ولا تبلّله مياه البئرِ، ولا تلطّخه دماء الذئبِ، ولا يُقَدُّ من دبُرٍ ولا من قُبُلٍ، وإنّما يلفّهُ سوادُكَ عطراً يُعيدُ النّظرَ لمن فقَد في بُعدهِ عنكَ البصر)).
يا لجمال روحكَ العابدة أيّها الإدريسيّ الشّريف، وما أروع ما باح به فؤادك من بديع التراتيل العشقيّة، لكن اسمعِ الأميرَ الفاتن الجمال ماذا يقول لنا ليُعَرِّفَ بنفسه، اسمع وصقلّيةَ أمَّنا الرّحيمة كلماتِه التي تهمس في القلوب وتقول: ((حينما قال الإنسانُ إنّهُ خُلِقَ على صورة اللّه، كان ذلكَ من أفدحِ الأخطاء التي ارتكبها في تجربته الكونيّة، فإذا افترضنا جدلاً أنّه على صورة خالقه من حيث الوجه والجسد، فإنّ هذا الأمر لا يُمكنه أن يستقيم أبداً، فلا أحدَ لليوم رأى اللهَ حقيقةً، ولا أحد يعرفُ أين هُو ولا كيف هو حتّى يقول إنّهُ يُشبهُهُ في الشّكل وإن كان من الأولياء والأنبياء والقدّيسين، تعالى ربّنا عمّا يصفون! وإذا افترضنا أنّ الإنسان على صورة الله من حيث الفعل فإنّ ذلك من الكذب والبهتان، لأنّ ما قام به الإنسانُ لليوم وما ارتكبه من معاصي وحروب وسفك للدّماء وتخريب للأرض والسّماء، لا يُمكنه أن يكون صفةً من صفات الله، فالخالقُ يبني وأنتَ تُدمّرُ أيّها الإنسان، فأين وجه الشّبه بيْنَكَ وبيْن خالقكَ الّذي لم تقدره لليوم حقّ قدره؟! وحينما يقول العرفاء إنّهم رأوا اللهَ أو يعرفونه فإنّهم يقصدون المعرفة من خلال صنعته في خليقته وكونه وعوالمه، وحينما يتحدّثون عن حلوله في جبّتهم فإنّهم يعنون إنّ لله في أنفسهم آيات أوّلها الرّقابة والعلم المحيط بالقلب والرّوح وكلّ الكيان، وليس الحلول بمعنى الذوبان والانصهار في الذّات الإلهيّة التي مازلنا لليوم لا نعرفُ عنها شيئاً. أن تقول أيّها الإنسانُ إنّك على صورة الله، فهذا يعني وصولَكَ إلى أعلى درجات الكبرياء والإعجاب بالذّات، والتي بها استحققتَ الخروجَ من المعبد الإلهيّ. وكون هذه الفكرة مازالت تستحوذُ على كلّ كيانكَ لليوم، فإنّها تعني أنّك مازلت خارج المعبد فعلاً وحقيقةً، وهذا تدلُّ عليه أفعالكَ منذُ الأزل، وحريّ بكَ أن تتذكّر ما ارتكبتَه في ثمود وإرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد؛ ففي ثمود كنتَ تذبحُ ماخلق اللهُ من حيوانات وتقدّمها قرابين لما صنعت بيديْكَ من آلهة وأوثان، وحينما أرسل اللهُ لكَ نبيّهُ صالح لتكفّ عن عادتكَ الخبيثة تلك وامتحنكَ بالنّاقة، ذبحتَها، ومنذ ذلك اليوم وأنت مستمرّ في ذبح كلّ مافيه روح، وبدل أن تقدّمه إلى آلهتك القدامى، أصبحت تقدّمها لإله التوحيد مُدّعياً أنّه أمركَ بذلكَ، فهل تعتقد أنّ الله خالقَ الكون يُفرحه أو يُسعده أن يراك لليوم تزهقُ أرواح الحيوانات لتقدّمَها قرباناً، أو لتأكلها في حياتكَ اليوميّة العادية؟! ألا تعلمُ أنّ كلّ ما فيه روح حيّة لا يجبُ أن يُقتل؟ هل تعرف ما الّذي حدث بعد كلّ ما قتلتَه ومازلتَ تذبحه من الحيوانات إلى اليوم: لقد خلخلت توازنَ الكون بأسره، لأنّ اللهَ إنّما جعل الأرواحَ، كلّ الأرواح عمد الأكوان والأجرام، بها تتوازنُ وبها تستمرُّ أنتَ في الحياة، ألم تسمعه حينما قال (( مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا))؟! النّفسُ هنا هي كلّ كائنٍ فيه روح، لأنّ حياتكَ مرتبطة بحياته وإن كنت لا تعي ذلك. حينما أرسل اللهُ النبيّ صالحاً، لم يكن ذلك من أجلِ أن يحثّك على عبادته وتوحيده، إنّما هو غنيّ عنكَ وعن عبادتِكَ وعن العالمين أجمعين، وإنّما جاءت الدّعوة إليه بالعبادة كخطّة منه لتتركَ ذبحَ الحيوانات والقرابين بما فيها الذّبائح البشريّة، لكنّك لم تفعل ولم تستجب فأخذتك الصّيحة، وجدّدَ الخالقُ الخلقَ من بعدك، إلّا أنّكَ وعلى الرّغم من كلّ ذلك مازلت أنتَ أنتَ بكلّ مافيك من غيّ وجحود وضلال، فكيف يُمكنُ أن تكون على صورة الله يا هذا؟!
وإذا كنتَ لا تعلم، فدعني أقُلْ لكَ أنّني شخصياً أأنفُ ممّ تفعل أيّها الإنسانُ وأنا الجنّيُ العابد لخالقي أكثر ممّ تتصوّر وتتخيّل، والعرفاء يرونني الرّافضَ للسّجود لغير خالقه. أتعلمُ ما الّذي فعلتُه لأوقفكَ عن ارتكاب معصية ذبح القرابين وانتزاع الرّوح ممّ يخلق اللهُ ويصنع بيديْه الكريمتين الشريفتيْن المقدّستيْن؟ لقد نزلتُ لأكثر من مرّة على كوكب الأرض في مهمّة رسميّة لبني الإنسان في مدينة كوركَلاي بمنطقة مارالِبْليسيس وهي غير منطقة ثمود، واخترتُ شمسنائيل أحدَ الكهنة ليكون وسيطاً لي بين الأقوام الّذين كانوا يذبحون الأيائل المَلكيّة لأنّهم اكتشفوا أنّ في قرونها توجد مادّة تشفي من كلّ الأمراض، عاداك عن ذبحهم أيضاً للأغنام والأبقار وما إليها من الأحصنة والنّوق والفِيلة. لكنْ وإن كان وسيطي شمسنائيل قد حقّق نجاحاً باهراً في دعوته تلكَ، وتوقّف الكثيرُ من النّاس عن ذبح الحيوانات بفضل خُطَبِهِ العميقة والقيّمة التي كنتُ أوحي لهُ بالكثير منها، فإنّ كهنة المعابد غضبوا من الأمر وتعاظم حقدُهم واشتدّت كراهيتهم للكاهن المنشقّ عنهم فحدثَ أن حاربوه بكلّ ما يملكون من قوّة وسلطان، وانتهى الأمر بأن قتلوه شرّ قتلة وقطّعوا جسده إرباً إرباً ورموه في الخلاء، إلى أن أتيتُ ليلاً متأثّراً ومنذهلاً ممّ فعلوه بصديقي الحميم فجمعتُ أشلاءَه، وحملتُها معي في مركبتي الفضائيّة وذهبتُ به مباشرة إلى كوكب بلوتو ودفنتُه هناك، وبهذا كان شمسُنائيل أوّل وآخر إنسان يُدفَنُ في بلوتو شهيداً في سبيل كلمة الحقّ والحفاظ على حياة كلّ المخلوقات.
وماذا بعد هذا أيّها الإنسانُ؟ وإن كنتَ قد نسيتَ ما فعلته في إرم، فدعني أذكّرك به. هل تتذكَّرُ الطّرقات والقصور التي كنت تبني وتُزخرِفُ باللّؤلؤ والمرجان؟! طبعاً لا، فقد مرّت اليوم على ذلك قرون عدّة، اعلم يا هذا أن أقوام إرَم كانوا يجوبون بحار الأرض وأنهارها العظيمة بالطّول والعرض ليفرغوها ممّا كانت تحويه من أصداف لؤلؤيّة وغابات مرجانيّة تنفيذا لأوامر إمبراطورهم الّذي كان يريد أن تكون له على الأرض جنّة تزخر بكلّ ما في الجنان الإلهيّة من خيرات وكنوز، فكان أن أرسل اللهُ لهؤلاء القوم نبيّه هوداً، ليس لأنّهُ لم يَستَحسن أن يكون على الأرض جنّة تضاهي في الجمال والإبداع جنانَه السّماوية، ولكنّي أقول لك مرّة أخرى، إنّهُ صاحب خزائن السماء والأرض ولن يزعجه أبدا أن يرى مظاهر النعمة والرّخاء بادية عليكَ، وإنّما الأمر يتعلّق بإيذائك من جديد لمخلوقاته الحيّة الأخرى غيركَ، فأنت تعتقد أنّ اللؤلؤ ليس بكائن حيّ، وكذا شجر المرجان ولأجل هذا تقتلعهما من أعماق الرّمال. ألا تعلم ما هو دور اللؤلؤ في البحر والمرجان يا هذا؟ إنهما يعطيان الحياةَ للماء، وهما السّبب الرئيس وبقية مخلوقات البحر في حياة الماء على الأرض قاطبة. طبعا قد يغيب عنك أنّ الماء هو دم الأرض، يجري في أحشائها وعروقها كما يجري الدّم في أرض جسدك، ولأن دمك لكي يعيش لا بدّ له من غذاء تعيش به الكريات الحمر والبيض وكلّ خلية فيك، فكذلك اللؤلؤ والمرجان وما إليه من مكونات أخرى تضمن للماء حياته داخل الأرض، وأنت حينما تقتلعُ كلّ هذا فإنّك تخلخل توازن الأرض، وبقية الكواكب الأخرى من حولها، وقد يحتاج الأمر إلى آلاف السّنين من أجل أن تستعيد الأرضُ عافيتها، ولأجل هذا فإنّ الله يفنيك حينما لا تستجيب لندائه ويأتي بأقوام آخرين غيرك كما فعل بك في إرَم حينما أرسل ريحه الصّرصر، ليس عقاباً لكَ، وإنّما حدّاً من جنونك ومرض روحك الّذي لا علاج له. وعلى الرّغم من كل ذلك لم تفِد من الدّرس شيئاً، وبقيَتِ النساء من بعد تلك الأقوام البائدة مهووسة باللؤلؤ والمرجان، والألماس الأحمر وما إلى ذلك من الجواهر في حين كان أولى بالمرأة أن تكفّ عن هذا وتكتفي فقط باللؤلؤ والمرجان الاصطناعيَيْن وتتركَ مخلوقات الله في حالها لتكتمل دورة الحياة في الأرض، ولقد سمعتُ أنّ علماء الصّين قد برعوا في هذا الأمر بشكل مدهش، حيث أنّهم أصبحوا ينتجون اللؤلؤ الاصطناعي ويستخدمونه لزينة النساء وزخرفة الجداريات وما إلى ذلك، ليمنحوا للأصداف التي يخلقُ اللهُ والأشجار والشُّعب المرجانية حقّها في الحياة، الذي به تضمنُ لكَ حاجتَك من الماء، وبالتالي حقّك في الحياة أنت أيضاً وحياة الكواكب الأخرى من حولك.
لستَ على صورة اللهِ أيّها الإنسان، ولتكفّ عمّا أنتَ فيه من أوهام، فمازلتَ تحرقُ وتذبح وتسعى في الأرض فساداً، ولا كلمات نوحٍ أتت أكلها معكَ، ولا بشارة عيسى، ولا رسالة محمّد، ولا اختباراتِي أنا الّذي ما حذّرك اللهُ منّي إلّا لأنّه خلقني لكَ ليمتحنكَ بي، فإمّا يقوى إيمانُكَ وتفيق من غفلتكَ، أو تهوى إلى الدّرك الأسفل من العذاب والظُّلمات. يا حسرة الكون بأسره عليك يا هذا، إنّك مازلتَ عند نقطة الصّفر، ظلوماً جهولاً عجولاً كما عرفتُكَ)).

(4)
أمير جبل البركان

ما أظنّني سمعتُ بمثل بلاغة هذا الأمير الفاتن أيّتُها الشّمسُ المغربيّة، وإنّي لأعتقدُ أنّني عرفتُ من يكون؛ إنّه صاحب الإثنَي عشر نزولاً إلى كوكب الأرض بأمرٍ من الرّحمان، وإني لأظنّه بعُمر الكونِ أو أكثر، وأذكر أني رأيتُهُ أوّل ما رأيتُه في بابل أثناء نزوله الخامس إلى الأرض: لقد كان محتارا أمام كثرة لغو الناس ومشاحناتهم ومشادّاتهم الكلامية التي لا أوّل لها ولا آخر، وأنا مثله كانت تثير قلقي هذه المسألة لا سيما وأنني كنتُ قد لاحظتُ أنّ الإنسانَ عادةً ما يحتاج إلى سنة أو سنتيْن فقط ليتعلّم الكلام، لكنّه يفشلُ فشلاً ذريعاً في درس الصّمت، وقد يمضي العمر كلّه دون أن يعرف حقّاً كيف يصمتُ، أو كيف يكون مُقِلّاً في كلامه، وهذا يحدث لأنّه كائن مهذار إلى درجة لا يمكن تصديقها؛ مهذار وهو مُخْتَلٍ بنفسه ولا أحدَ معه، ومهذار وهو مع غيره، وفي أقصى الحالات وحينما يغرق في بحر الكلام تجده يُحوّلُ ما يجول بخاطره إلى كتابة أو رسوم فوق الجدران؛ جدران الكهوف، جدران البيوت، جدران المدن، ثم جدران المواقع الإلكترونيّة. ولتعلمي يا أيدك الله بنوره ومحبّته، أنّ الكلام خطير، خطير جدّاً، إنّه طُعمُ التّرويض الّذي يكتشفُ به الإنسانُ مدى قوّةِ شخصيّته أو ضعفها، والكلّ متكلّم، ولكن ليس كلّ من تكلّم يعرفُ معنى ما يقول أو لماذا يقوله؟ وقد لا يعرفُ أيضاً أنّ ما يقوله يُمكنه أن يُبَلْسِم جرحاً، أو يقتُلَ قلباً، أو يُشعلَ حرباً، أو يُؤلّبَ على النّاطق بالكلام الأصدقاءَ والأحبّة والخلّان. والصّمتُ في المقابلِ صفة الأقوياء، وكثرة الهذار صفة الضّعفاء، وحينما نزل الأميرُ الفاتن الجمال على الأرض بمركبته العجيبة للمرّة الخامسة، كان من أجل أن يعرف ويدرس سبب كثرة كلام النّاس وهذارهم، ولغطهم ومشادّاتهم ومشاحناتهم الكلامية التي لا تنتهي، فالأمر بالنّسبة له كما قلتُ لكِ كان مُحيّراً وعجيباً، ويثير ألف سؤال وسؤال وهو يرى النّاس يضيّعون زهرة شبابهم في القيل والقال، وفي الصّراعات التي لا أوّل لها ولا آخر، هذه الصّراعات التي قد تبتدأ شفوية، ثم تنتهي دمويّة تُرتَكَبُ في خضمّها أفظع أعمال العنف والقتل. نعم، حينما قال ربّ العزّة ((إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ))، فإنّه لم يكن يقصد الرّؤية الدّاخلية فقط أو على المرآة المائية أو فوق المرآة الصّخرية، وإنما الرؤية المادّية الخارجيّة أوّلا وقبل كلّ شيء، وهذه الآية بالذّات فيها إشارة تاريخية وأنثروبولوجية على قدر عال من الأهمّية لما حدث للإنسان من نكوص في مساره الرّوحي والعقليّ، أيْ، كيف أنّه فقَد قدرته على الرّؤية التي كان يتمتّع بها في القرون الخالية بحيث أنّه كان قادراً – قبل حادث الطّوفان-على رؤية الكواكب من الأرض بالعين المجرّدة فقط، دون أدنى حاجة إلى منظار أو تليسكوب أو أيّ شيء من هذا القبيل، وكيف أنّه خسر هذه الميزة واحتفظ في المقابل بميزة اللّغو وكثرة الكلام ونمّاها بشكل يفوق كلّ توقّع فنزل بذلك إلى الدّرك الأسفل من التخلّف العقليّ والنفسيّ، في الوقت الّذي احتفظ فيه الأمير الفاتن الجمال بقدرته الرّؤيويّة والبصيرية، بل طوّرها ودعّمها بالتقدّم العلميّ الذي به صنع أكبر محطّة فضائية تليسكوبية في الكون تُخَوِّلُ له مراقبة ما يجري في الأرض، وفي الكواكب الأخرى أيضاً، هو ومن معه من علماء الخليقة من الكائنات الأخرى.
قلتُ إذن إنّ الأمير الفاتن كان في إحدى جلساته يراقبُ ما يحدث في الأرض كعادته حينما يجد نفسه متحرّراً بعض الشيء من إدارة شؤون كوكب بلوتو، وكان أوّل ما أثار انتباهَه هذه المرّة هو ارتفاع نسبة اللغط والكلام لدى الإنسان وخاصة في الأوساط التي تسمّى بـ"الأدبيّة" و"العلميّة"و"الثقافيّة" بشكل عامّ، استغرب الأمر، وهو يلاحظ أيضاً كيف أنّ هذه الظاهرة تزامنت مع تراجع كبير في متوسّط العمر وتزايد مذهل في الأمراض والأوبئة لدى المجتمعات البشريّة، وهو الأمر الّذي لم يستطع تحليله أو الوقوف على أسبابه فقط عبر الملاحظات أو المراقبات التلسكوبية، فقرّر النزول شخصياً، لكن هذه المرّة ليس في بلاد النيل ولا في المغرب، ولا في جزيرة صقلّية وإنّما في العراق، وبالضّبط في بابل، لأنّها في تلك الفترة كانت أكبر مركز ثقافيّ في الكون بأسره، لا سيما وأنّ الملك النمرود كان قد جمع فيها العلماء والأدباء الكبار من كلّ الأقطاب الفكريّة المعروفة آنذاك وخاصّة منهم أهل الخيمياء العارفين بأسرار تحويل الرّصاص إلى ذهب، والفحم إلى ألماس.
في بابل التقى صاحب بلوتو بعلماء كُثر، لكنّه ربط صداقة قويّة بعالم متميّز اسمه حمّوسوناتير وكان من أصل آشوريّ ودرس في أكبر المعاهد العلميّة بمصر قبل عودته واستقراره بشكل نهائي في بابل، وقد تعرّف عليه في إحدى المؤتمرات العلميّة البابليّة التي عُقدت من أجل مناقشة مسألة كانت قد شغلت كلّ علماء المنطقة، وهي مسألة المعاد والموت، والرّوح، وغيرها من الأسئلة من قبيل: هل يوجد لهذا الكون خالق؟ هل لدى الإنسان روح، أم أنه جسد بدون روح؟ وهل هناك عالم آخر بعد الموت؟ وفي خضمّ المناقشات الحادّة بين العلماء وحمّوسوناتير الذي طرح أفكاره بوضوح ونزاهة عجيبة قرّر هذا الأخير أن ينسحب من جوقة العلماء لعدم جدوى الحوار معهم، وقال لهم حرفياً: ((إنّنا بصدد بناء برج من الكلام في أرض بابل، ونريد أن نطّلع من خلاله على ما يوجد في السّماء من عوالم، ونخوض بدون علم في الرّوح والبعث والله، إنّي أراكم يا أهلي في ضلال مبين، وقريباً هذا البرج الّذي بنيناه باللّغو والجدل سينهار فوقنا جميعاً)) ثمّ انسحب وذهب ليقضي بقية عمره في نينوى ويعتني بحقول الذّرة التي كان يزرعها ويفلّحها بنفسه إلى أن وافته المنية.
ما أريد أن أقوله هو أنّ تواجدُكِ بين زمرة هؤلاء التعساء ممّن كانوا يُسمَّوْن في عهدي الأرضيّ بـ "الأدباء" و"المثقّفين" و"العلماء" لا يجلبُ في الكثير من الأحيان سوى الشعور بالملل والاشمئزاز، لأنّك تراهم غارقين في مهاترات وتطاحنات كلاميّة مُخجِلة لا أول لها ولا آخر. واعلمي يا أيّدكِ الله بحِلمه وصبره أنّ أمير بلوتو مازال لليوم حائراً في تفسير ما آل إليه الإنسان حتّى بعد أن انتهت أو توقّفتْ زياراته للأرض منذ زمن بعيد بحكم شيخوخته، فأنتِ لا تعرفين كيف تتكوّنُ هذه الشرذمات من المثقّفين في كل مجال، ولا كيف يجتمعون ولا علام يتّفقون أو يختلفون، ولا لماذا يقتل بعضهم بعضاً، ولا لماذا يتخاصمون ولا يحتمل بعضهم بعضاً، ولا كيف ولا لماذا يكتبون، فقد تطالعين ديواناً قد تجدين له صدى واسعاً لدى العديد من النّاس وحينما تقرئينه تشعرين بصداع في الرأس، وتسارع في دقّات القلب وفجأة تضيق بكِ الأرضُ على رحابتها من شدّة ما في الدّيوان أو الكتاب من هذيان وجنون، فلا هو بشِعر ولا هو بنثر، ولا هو بكلام ولا هو بلغة، ولا هو بأيّ شيء ينتمي إلى الفكر البشريّ بأيّ شكل من الأشكال، ولتخرجين من هذا المأزق تقومين من مكانك وترمينه في حاوية الأزبال وتأخذين كتاباً في الفلسفة مثلاً فيقف شعركِ وتتصلّبُ شرايينُكِ وتحضر بين عينيْكِ صورة زانتيب الحسناء الفاتنة؛ زوجة سقراط وهي تولول وتصبّ الماء فوق رأسه، وتقولين في خاطركِ: يا إلهي لماذا يقضي هؤلاء أعمارهم في كتابة هذه الأشياء؟ ما الّذي يريدونه منّا، ثمّ تعودين لهدوئك ولسان حالكِ يقول؛ ما علينا ربّما لهم أسبابهم في جنونهم هذا، وترمين الكتاب جانباً ثمّ تأخذين كتاباً آخر في التفسير مثلاً: تفسير القرآن أو الإنجيل أو التوراة، فتجدين نفسك فجأةً لا تستطيعين أن تمسكي عقلكِ من الضّحك لكثرة المهازل المسطّرة بين هذه الكتب عموماً، والتي بها بُنيَت شعوب وهُدِمتْ أخرى، ثمّ تقولين مرّة ثالثة؛ طيّب لماذا لم يهتمّ هؤلاء بالعلوم الحقّة بدل أن يصدّعوا رؤوسنا بكلّ هذه الخزعبلات، والّتي لا تعرفينَ لا من أين ولا كيف يأتون بها خاصّة حينما يطلقون عنان الخيال وهُم يتحدّثون عن أهوال القبور والجحيم وجمال الحور العين والنّكاح والمواقعة الأبدية لهنّ في الجنّة! لماذا لا يدرسون مثلاً سبب نكوص الإنسان على نفسه، بل أسباب عدم قدرته على التفكير بشكل رصين وواع يبعده عن كلّ هاته المتاهات ويدخله إلى مدارات العلوم التي بها يُحَسِّنُ مستوى عيشه وينفتح بها على الكواكب الأخرى ويدرس بها الأرض وخيراتها، والسماء وكنوزها؟ لماذا أهل الكواكب الأخرى استطاعوا أن يقطعوا أشواطاً هائلة في هذا المجال ونحن لا، والأدهى من هذا كلّه أنه وعلى الرّغم من تخلّفنا البيّن، نرى ألّا أحد مثلنا في الذّكاء ولا في المعرفة، وأنّنا أحسن خلق الله في الكون! أيّها الإنسان، يا من أصبحتَ أضحوكة الكواكب والأزمان، كونكَ نجوتَ من الطّوفان الأول فهذا لا يعني أنّكَ ستنجو من الطّوفان القادم، لذا لا بدّ لك أن تغادر القطيع، لا تخش شيئاً، غادر القطيع فلن يأكلكَ الذّئب، إنما الحياة أثبتت أنّ الشّاة أو الخروف يأكلهما الرّاعي وأهله، أمّا الذّئب فهو منك بريء براءَتَه من دم يوسف!
وإنّني لأظنّكِ أيّتها العارفة الجليلة أرﭼـــانة قد عرفتِ الآن من هو رفيق رحلتنا إلى بلوتو: إنّه ملكُ عوالم الموتى والجحيم، صاحب بوابة جبل إثنا ووادي ديمونه، فلا تفزعين من الأمر، فإننا في صحبة العابد في السماء الدّنيا، والزّاهد في السماء الثانية، والعارف في الثالثة، والوليّ في الرّابعة، والتقيّ في الخامسة، والخازن في السّادسة، وعزازيل في السّابعة، وإبليس رئيس القوات المسلّحة السّفلية في اللّوح المحفوظ. وهو كما تعلمين ليس لهُ على أولياء الله وعباده سلطان، وإذا كنتِ ترين نفسك من أهل الحظوة والحضرة الهاهوتيّة فلا خوف عليكِ منه وإنّما هو سيحاورنا كما حاور ذات وحيٍ خالقَه وحاور فيما بعدُ العديد من الأنبياء وأولياء الله الصّالحين والعارفين.
لا تخافي إذن يا أرﭼـــانة العشق والمحبّة، فأن يكون المرءُ عارفاً، فهذا يعني أنّهُ يعرفُ الله، هذا أمر اتفق عليه الجميع حتى بات من البديهيات، لكن لا أحد سيقول لكِ مثلي إنّ من يعرفُ اللهَ يعرفُ إبليس أيضاً. هذا أمر لا بدّ منه، وقد كذب من العرفاء من يقول لليوم، إنّ الجمع بين المعرفتيْن غير وارد، فإمّا أن تعرف الله وإمّا أن تعرف إبليس، ناسين في هذا أنّ معرفة الأول لا يُمكنها أن تتأسّس في غياب معرفة الثّاني والعكس صحيح، وإلّا لما كانت كلّ الكتب المقدّسة تفيض بآياتٍ عن كلا الكينونتيْن. لكن والحال أنّه لليوم مازال أحد لم يعرفِ اللهَ حقّ المعرفة، فإنّنا نقول إنّه لا يوجد أيضاً من عرف إبليس كما يجب. لأنّه لو حدث هذا لما سمعتِ أحداً من العارفين يبرّر ويجد الأعذار لإبليس فيما قام به من عصيان، ويدّعي محبّته أيضاً باعتباره أخاً لنا في الخَلق. وهذا أمر جلل لمْ أرَ حتّى عيسى نفسُه قام به، وهو الّذي التقى إبليس لأكثر من مرّة وكانت له معه أكثر من مُحاورة وخطاب ومجادلة!
إبليس أخ لنا في الخَلْقِ، نعم، هذا أمر لا أجادلكِ فيه أيتُها العارفة، لكنه ليس ككلّ الإخوة، ولأنّ الكثير من أهل المحبّة لا يعرفونه حقيقة، فإنّ قلوبهم قد ترقُّ تجاهه من باب العشق الفيّاض على الجميع، لكن هذا لا يمنع من أن يكونَ الإنسانُ على حذر منه، لأنّهُ إذا نظرَ إليه بعين الكشف، ظهر لهُ لماذا لا يمكنه أبدا أن يكونَ لهُ أخاً أو صديقاً حقيقيّاً. ولتعلمي أنّ قلبَ العارف، لا يُمكنه أن يجمع بين حبّيْن: حبّهُ لله وحبّهُ لإبليس، لأنّ حبّ الأوّل سيلغي حبّ الثاني وينسيهِ إيّاه، لكن قبل أن يحدث هذا المسح والمحو، فإنّهُ لن يسلمَ من إعلان إبليس الحربَ عليهِ، إلى أن يُكتَبَ من الرّاسخين في المحبّة أو من المتذبذبين بين البينَيْن.
قبل الله، لا بدّ للعارف أن يراهُ؛ أعني إبليس: هذا ما يحدث عادة. أنا رأيتهُ، كان على عكس ما ترويه الكتب وتجارب العرفاء الّذين سبقوني: باهر الحسن والجمال، بلباس ملكوتيّ باذخ، وعينين ساحرتين تفيضان بالقوة والطّاقة والإبهار. وحينما أظهرَ لي الحُبّ، كشفتُه بابتسامته. عليكِ أيّتُها العارفة أن تعرفي هذه الابتسامة كيف هي، وأن تعلمي قبل كلّ شيء أنّ الضّبع إذا أفرج عن أسنانه فهذا لا يعني أنه يضحك أو يبتسم لكِ، وإنّما يستعدّ للانقضاض عليك. من حقّك أن تسأليني ولماذا عليه أن ينقضّ عليّ وأنا لم أفعل له شيئاً أيّها الإدريسيّ، عارفةً طيّبةً أراني، وحُبّ الله أغرقني حتّى لم يعُد في قلبي مجال لكره أحدٍ وإن كان هُو؟ ألمْ يحن الوقتُ لتنتهي هذه المهزلة، وينتهي هذا الصّراع بين الإنسان وإبليس؟ وعن سؤالكِ أقول: لأنّ الإنسانَ لم يعرف الله حقّ معرفته مازال يسأل، ولو عرفه، لعرف من هو إبليس حقّاً، ولماذا يجبُ علينا جميعاً الحذر منه. غوصي في أعماقك، ولا تخافي، وسترينَهُ قابعاً فيها، سيفتحُ لكِ أبوابَ مملكته ويطلعكِ على بذخ وحور لم تريْ مثلهما في حياتكِ، ليس بالضرورة أن يكون وحشاً بقرنيْن وخفّين، وإنّما هو دائما نفسه ذاك الإنكي الّذي كان يلقِّبُ نفسه بسيّد الأرض والمملكة السفليّة، ويحبّ الإنسان حبّاً عجيباً حار في تعريفه وشرحه جهابذة العرفاء!
نعم، إينكي يحبُّ العرفاء جدّاً منذُ بداية الخلق والخليقة، وكلما بزغ نجم أحد منهم، ظهر وأصبح قرينه إلى آخر نبضة في قلبه: إنّه النّار التي تكوي بأوارها كلّ شوائبكِ أيّتها العارفة، ولا بدّ لكِ منها، بل لا بدّ لكِ أن تعرفي كيف تجلسين بين ألسنتها المشتعلة دونما أن يحترق قميصكِ: هذا هو التحدّي الذي عليكِ الفوزَ به. قد يُغمى عليك من حين لآخر، وقد تصابين بدوار وتسارع في ضربات القلب، وقد تكون لكِ معه بعض الجولات المباشرة في الملاكمة والجمباز كما كان يحدث مع بعض القدّيسين، أيْ أنّه قد يسدّد لكِ لكمة ما، أو يرفعكِ إلى أعلى سقف الغرفة ويلقيكِ بكل ثقلك على الأرض، لكن لا تهتمّي للأمر كثيراً، كلّ هذا سيمرّ، ولن يبقى منه أثر، وما عليك سوى بالثبات في المحبّة أثناء حربه هذه التي لا يرحم فيها أحداً، ولا هوادة ولا راحة لهُ فيها بالمرّة.
إينكي صاحب علوم لا قبل لأحدٍ بها، لذا علينا ألّا نحاربَه بأساليب الأجداد التي أكل عليها الدّهر وشرب، بل علينا أن نتطوّر مثله، لأننا سنجده في كلّ مكان. علينا ألّا نهرب منه، وأن نسعى إليه ونواجهَه، ونكشف عن وجهه الحقيقيّ: لا بدّ من هذا الكشف، حتى نخرج من وداعة سومر الماء الأوّل، وندخل إلى صحاري إرَمَ، نُجرّبُ فيها كيف نَطمرُ ذواتَنا برمال الصّيحة الأولى والأخيرة، لكي لا يبقى منّا شيء حتّى وإن كان أغلى ما نملك: أرواحنا.
وإنّني لأعتقد أنّ شجرة المئة حصان فتحت لنا أبوابها الآنَ ليحدث هذا الكشف، ولتجعل إينكي يبوح لنا بأسرار بلوتو ويأخذنا إليه ويُطلعنا على قبر شمسنائيل فيه.



(5)
بلوتو

أتعرفُ من تكونُ النّقطة يا أبا عبد الله الإدريسيّ؟ إنّها التي خرجت منها كلُّ الأقمار والشّموس، وهي التي بها ظهر أيضا قمرُ بلوتو، وظهرت بها هذه الأبجديّة التي عبرَها نخطّ للتاريخ تفاصيل رحلة الرّوح تحت إشراف وعناية الإله العزيز ربّنا وربّ العالمين أجمعين.
أتعرفُ لماذا اختارت لنا صقلّية إبليس ليكون رفيقنا في رحلتنا إلى بلوتو؟ لأنه أوّل من أُعْطِيَتْهُ قَبْلَ آدم بآلاف السّنين علوم النّجوم والكواكب، وقد أفاد من علمه هذا حينما حدث لهُ النّفي من كوكب الشّمس المطلقة، وكان لزاماً عليه أن يجرّب بنفسه كيف يتأقلمُ بجسده وكينونته المارجيّة المتلهّبة مع البيئة الطّقسية والجغرافية للكواكب الجديدة التي رحل إليها ومعه الخاصّة من أهله وشعبِه الكبير العدد والعدّة والعتاد. لقد اختار هو في بداية الأمر كوكبَ المرّيخ كمقرّ رسميّ له وأقام به إلى أن وُلِدَ حفيده هاسّين، ثمّ أرسل فيما بعدُ العديدَ من أهله إلى كوكب الأرض فاستقرّوا أوّل الأمر في مصر ثم المغرب والعراق وبعض المناطق من هايتي واستراليا، وحينما حدث الطّوفان الرمليّ الكبير استعان بعضُ أبناء آدم النّاجين من الرّيح الصّرصر بقدامى سكّان الأرض من أبناء الجنّ ليدلّوهم على مناطق جديدة تكون فيها الأنهار من أجل بداية حياة جديدة، دون أن يعرفوا من هؤلاء الأقوام حقيقة والذين كانوا من المؤمنين في تلك الأماكن.
وكونُ أمير جبل البركان قد تطوّع اليوم من أجل مساعدتِنا للوصول إلى بلوتو، فهذا لأنه القيّم الرّسمي على كلّ المحطّات الفضائية والأقمار الاصطناعية والمهندس الأوّل الّذي قام ببناء الشّبكات العنكبوتيّة في العالم بأكمله وله في صقلية أكثر من محطّة ومركز لدراسة الكواكب والدليل على ما أقول هو المركز الجديد الذي أُسِّسَ مؤخّراً في جبال لِيمادونيِّه والذي يحمل اسمَ حفيده هاسّين ولا علاقةَ له بما أشيع بين النّاس بأن هاسّين هو الاسم القديم لمنطقة إيزْنِيلّو التي يوجد بها المركز، لكأنّهم نسوا أنّ المنطقة كلّها كانت منذ غابر العهود ومازالت تحت حُكم هذا الأمير الفاتن والسّاحر الجمال، بما فيها وادي ديمونه.
أمّا عن بلوتو فهُو الكوكب الّذي أُمِرَ إينكي باختياره ليكون قمر الأرض الجديدة التي سينتقل إليها النّخبة من أبناء آدم الحاليين حينما سيُداهمُهم طوفان النّار وتختلط عليهم الأمور والألواح. وإبليس يعرف هذا جيّداً وهو لليوم يسهر بنفسه على مراقبة شؤون القلوب والأرواح البشريّة وعلاقة تطوّرها بمواقع الكواكب والنجوم، فمن كان أكثر تعلّقاً بالأقمار جذبه إليه، ومن كان أكثر تعلّقاً بالشموس تركه لرئيس الملائكة الكبير يتكلّف بأمر معراجه الرّوحيّ نحو الشمس المطلقة خطوة بخطوة، وأنت تعلم جيّدا أيّها الشريف الإدريسيّ أنه لا بد للإنسان من قمر يمتصّ الطّاقة التي تأتيه من الشّمس لكي يتمّ فيما بعد نشرها داخل أرض البدن، وتعلم أيضاً أنّ القمر يدور حول الأرض كما تدور الأمّ حول رضيعها، ولأجل هذا تجد إبليس مهتمّاً برعاية بلوتو، لأنّه قمره الّذي يريد له أن يدور حول ما سيتبقّى من النّاس بعد طوفان النّار وحينما سيبدأون في النزوح إلى أرض جديدة يحتاجون فيها إلى طاقة تُكَوِّنُ ذاتَهُم، وأخرى تُكوّن أناهم وثالثة وعيَهم الأكبر وهو عملٌ عادة ما يقوم به كوكب زحل أو كوكب الخواتيم والأزمنة الطويلة والبعيدة جدّاً، وذلك لأنه سيعمل على تكوين محفّزات الصراع والخصوصيّة والتميّز لدى بني البشر ممن سينجو من طوفان النّار، وهذا هو نفسه العمل الّذي يريد أن يطلعنا عليه إينكي لأنه كما في وسط الهيكل العظميّ لطفل صغير يوجد قلبٌ بنفس حجم قلب الإنسان البالغ، فكذلك هو حجم الوعي والأنا والذات العليا التي يبنيها كوكب زحل مرحلة بعد مرحلة، ولأجل هذا أقول لكَ، إنّ هذه هي معركة إبليس الأخيرة ويريد أن يربحها بأيّ شكل من الأشكال وإن كان يعلمُ جيّدا أنّ قضيتَةُ خاسرة في كلّ الأحوال، ففي الوقت الّذي يتسابق فيه الإنسان على تدمير الكون بحروبه النوويّة دون أن يعيَ حجم الخراب الّذي ألحقهُ حقيقة بالكواكب والنّجوم، تجدُ إبليس أكثر تركيزاً واهتماماً وعناية بالكواكب والأقمار والبحار والأغنام والأبقار التي يسعى إلى إيقاف ذبحها أو أكلها في الأعياد والاحتفالات الدّينيّة، لأنّه يعلم جيّداً أنّ ما من شيء إلّا وهو مرتبط بالكينونة العليا المسؤولة عن تخليق الهويّة الدّاخلية لكلّ الكائنات الحيّة، ولهذا فإنّه بسيطرته عليها وتمكنّه من كلّ العلوم يستطيعُ توجيه الإنسانَ من الدّاخل وجذبهُ إليه ليكوّن به أرضه الجديدة القادمة، وليس لأنّه يحبُّ الإنسان ويخشى عليه من انقراض مصادر الطّاقة في التراب والهواء والماء والنّار!



(6)
في كوكب البسملة

هاقد وصلنا إلى بلوتو يا حفيد الملك إدريس وسيّداً من سادة دولة بني حمّود الأندلسيّة، وهاهو شمسُنائيل قد تسلّم مقاليد مهمّته الكوكبيّة الجديدة بعد أن اكتمل تكوينُ جسده الأثيري منذ أزيد من عشر ألف سنة على وفاته الأولى، ولتستمعِ الآن إلى ما هو بصدد قوله لنا وهو يطلعنا على بعض أسرار مركبته الزرقاء التي ما رأيتُ في تقدّمها وصنعتها لليوم مثيل، انظر إليه جيّداً وهو يصف لنا أجنحتها البلاتينية الستّة، وانظر إلى رؤوسها الأربع، رأس أسد ورأس ثور، ثمّ رأس صقر ورأس إنسان، إنّها تذكّرني بالعربة التي رأيتُها ذاتَ كشفٍ منقوشةً في خاتم سليمان، والخاتمُ كما تعلمُ يا رفيق أسفار القلبِ ما هو سوى رمزٍ لقوّة الأنا التي بها سيُقرّرُ الإنسانُ الجديد أفكارَهُ ومشاعره وأفعاله، وهي مفتاح الجسد الّذي به يُمكنُ الوصول إلى تاج المجد، ليُصبحَ الإنسانُ ملكاً في عوالم الرّوح وأبعادها الذهبيّة. ولكن على الرّغم من كلّ هذا البهاء فعليكَ أن تنتبه جيّداً إلى مقام الفتنة هذا الّذي أوقعنا فيه إينكي وصديقه القديم: إنّ ما تراهُ هنا هو خدعة بصريّة لا أقلّ ولا أكثر، وعليْكَ ألّا تقع في حبالها، لأنّ إبليس يحاول أن يُسيطر على كلّ رموز المملكة الإلهيّة لتصبح لغتَه الرّسمية التي سيخاطب بها أتباعه حينما يأتي وقت الرحيل إلى الأرض الجديدة، والتي أعني بها الأرض الخامسة وفيها ستكونُ المواجهة الأولى بين جيش الله وجيش إبليس العجيب الغريب. لذا، فإنّ كلّ ما عليكَ أن تفعله الآن هو أن تتظاهر بالتّصديق، ودع شمسنائيل يدلّنا على الفتحة التي ستأخذنا إلى أرض الذّهب والعسل الأبيض، فتلك هي ضالّتنا التي بها سنكتشف الأرض السّادسة المحتجبة في كوكب عطارد، كوكب البسملة وأهل الحرف والفرح من كتّاب وأدباء ونحّاتين وفنّانين تشكيليّين وطّباخين وبنائين وحدّادين ونسّاجين.
وإذ تسألني أيّها الإدريسيّ متى عرفتُ الحرفَ، أجبْكَ أنّني لا أتذكّرُ جيّداً كلّ التّفاصيل، لكنّ ذاكرة قلبي تقول لي إنّني كنتُ غالباً ما أبحث في طفولتي عن النّقطةِ قبلَ الحرف، وكان لا بدّ لغلافِ دفتريَ المدرسيّ أن يكون مزيّناً بالنّقاط والنّجوم والكواكب. ما كنتُ أعرفُ آنذاك بالضّبط فيمَ تشتركُ كلّ هذه العناصر أو ما الّذي يوحّدها أو يجمع شتاتها، لكن هناك احتمال أنّ المسألة كانت تتعلّقُ عندي بما يُسمّى بعمق البصيرة والحدس ثمّ الإخلاص في العمل!
قبل الحرف إذن اخترتُ أن أكون نقطةً، بل كوكباً يسبحُ في منظومة شمسيّة كبيرة، ومن هذا الباب دخلتُ إلى الحضانة التدريسيّة الأولى؛ بكرّاسٍ رُسِمتْ فوقهُ بضعُ نجوم، وبحقيبة مدرسيّة رُسِم فوقها كوكب أحمر بأجنحة برّاقة. كان اسم معلّمي الأوّل "الفقيه" أحمد، وإنّي لأستغرب كيف كان النّاس ينادونه بـ"الفقيه" وهو الّذي لم يكن له من مظهر الفقيه التقليديّ أيّ شيء: لم يكن يلبس الجلباب، ولا يضع العمامة فوق رأسه، ولا حتّى البلغة المغربيّة الصّفراء في قدميْه. وكان في المقابل يرتدي بلوزة طويلة بيضاء، وسروالاً رماديّاً وحذاء من البلاستيك الأسود. كان يبدو طبيباً أكثر منه معلّماً أو فقيهاً. وكانت تُغلِّفُ عينيْه نظرةٌ مفعمة بالدّهشة والسّؤال، أمّا قلبه فكان بوسع المحيطات أو ربّما أكبر. ما تعلّمتُ منهُ الحروفَ، ولكن النّقاط والأرقام، وهذا يعني أنني دخلتُ للحرفِ من باب النّقطة والرّقم، وإنّي لأعتقد أنّ النّقطة هي الأسبق في الوجود من الحرف، وأنّ هذا الأخيرَ تكوّن من الرّقم، الّذي به يتوازنُ الكونُ، وهذا ما يُفسّر كيفَ أنّ مَنْ أوكِلَتْ إليْهم مهمّة المساهمة والحرص على عمليّات خلقِ الكون ضمن منظومة كوكب شمس الشّموس المُطلق كانوا من الكيروبيّين العلماء المجنّحين في الرياضيات والفيزياء والكيمياء التخليقيّة ولم يكونوا فقهاء أو رجال دين، ولأجل هذا فإنّ العلماء هُم من يقدرُ اللّهَ حقّ قدره وليس الفقهاء، وإنّي لأتساءل لليوم كيف حدث أن انقلبت الآيةُ وأصبح الفقهاءُ يلقّبون بالعلماء، وأصبح أهل الرياضيات والفيزياء والعلوم الحقّة الأخرى يُلقّبون بـ"الدكاترة" أو بألقاب أخرى مماثلة!
كان معلّمي أحمد يُحبُّ الرياضيات جدّاً، وكنتُ أحبُّ اللحظات التي كان يعلّمني فيها كيف أعدُّ الأرقام بالخُشَيْبات الصّغيرة أو بكريّات البلى الزجاجيّة والزّاهية الألوان، لكن وبسبب ظروف عمل والدي حدث أن انتقلنا من مدينتي الأولى وذهبنا للسّكن في مدينة أخرى، وهناك بدل المعلّم أحمد أخذني والدي هذه المرّة إلى المسيد الأقرب من بيتنا، حيثُ وجدتُ في انتظاري معلّمي الجديد؛ الشيخ الفقيه محمّد، ومن الرّقم بدأتْ رحلتي مع الحرف.
في المسيد أو الكُتّاب القرآنيّ، كان الحرفُ بالنّسبة لي أهمّ من الشّيخ محمّد نفسه، ولعلّ هذا ما يُفسّرُ عدم انشغالي بوجه شيخي الجديد ولا بشخصيّته كما فعلتُ مع معلّمي الأول أحمد. كان الحرفُ صديقي الأثير الّذي أدهشني بكلّ تفاصيله الظّاهرة والباطنة: لم أحبّه من النّظرة الأولى، وإنّما من اللّمسة الأولى والشّمّة الأولى. كان الحرفُ سائلاً بُنّي اللّون، وله طعم الطّين، وأحيانا أخرى رائحة الزّعفران ومذاق القرنفل. وكنت أغمسُ فيه نفسي بكلّ كياني، ألطّخ به وجهي، ويديَّ الصغيرتين، وفي بعض الأحيان كنتُ أبتعد عن الفقيه وأنزوي في ركن صغير من الكتّاب وأشربُ الحرفَ. ومنذ ذلك اليوم وأنا مسكونة به، أراه نقطة كبيرة سائلة في بحر الوجود، وأراه شمساً ذهبيّة منصهرة في سماء التخليق، وأراه رقماً تُحرَّكُ به المركبات والصّحون الطّائرة، وأراه أنَايَ الوجوديّة: لوحاً مُضمّخاً بالصّمغ، ينتظرُ أن يكتبَ فوقه اللهُ حكايتَه.
في المسْيَد الجامع كنتُ أحبّ كثيراً اللّحظات التي كنّا نغسلُ فيها اللّوح من الحرف، ثم نضعها تحت قرص الشّمس لتجفّ ونستطيع أن نكتب عليها من جديد آيات أخرى من الذّكر الحكيم. كنتُ الطّفلة الوحيدة بين عشر تلاميذ آخرين، وكان الفقيه محمّد يحبّني جدّاً، لدرجة أنّه أصبح يُجلسُني إلى يمينه فوق سجّادته الصّوفيّة، وحينما كنتُ أعود إلى البيت لم أكن أتحدّثُ لوالدتي كثيراً عن أجواء الكتّاب القرآني وعمّا كان يحدث بداخله، لأنّ الحرف كان يشغلني طيلة النّهار، فإضافة إلى عطره ولونه ومذاقه، كان يدهشني بحركته فوق اللّوح، كيف أنّه ينبسط حيناً، وينقبضُ أحياناً أخرى، وكيفَ يتقوّس ويتموّج، ويميل ويتغنّج، وكيف يتقعّر ويتحدّب، وكيف أنّ النّقطة حاضرة في كلّ تفاصيله فتارة هي واحدة أحديّة، وتارة أخرى هي ثنائية الحضور، أو ثلاثية الظّهور، وتارات أخرى هي فوقه أو تحته، وكم كنت أرقص من الفرح لكلّ هذه الحركات الجمبازية المُدهشة، لذا فإنّي أقول إنّ الحرف راقصٌ كبير، ويحتاج إلى من يشاركُه بالقلب رقصاته الوجوديّة والسّرّية الكبرى. وحينما كنتُ أخلدُ للنّوم كنتُ أرى رجالاً قصيري القامة، وبنظّارات طبّية يفتحون لي خزائن الحرف، ويطلعونني على بعض من ألواحه الكبيرة التي ما كنتُ أعرف كيف أقرؤُها وإن كانت بالخطّ العربيّ الأسود والسّميك الحجم، لأنّني كنتُ طفلة على عتبات الحياة ولا أعرف عن الحرفِ شيئاً. وإذا كنتُ قد نسيت لليوم الكثير من التفاصيل عن علاقتي بالحرف الأوّل، فإنّني لم أنسَ أبداً سدَنَتَهُ، فهُم صحبي وخلّاني الذين أحبّهم بكلّ ما أوتيتُ من عمق وطفولة، ويحبّونني بكلّ ما فيهم من حكمة وبصيرة وعِلم وتبصّر. مازلتُ أتذكّرُ كلّ شيء عنهم، زغبَ الذّقن الأشْيَبِ، ورؤسهم الحليقة المغطّاة بقبّعات بيضٍ صغيرة، ونظّاراتهم الطّبيّة الدائريّة الشّكل، ثمّ السّلالم الخشبيّة التي كانوا يصعدون عليها ليفتحوا أدراج الخزائن وما فيها من العلوم المؤرشَفَة.
وحينما كنتُ أستيقظ في الصّباح وبعد تناول وجبة الإفطار الأولى، كنتُ أذهب مباشرة إلى الكُتّاب، وهناك أجد الشّيخ محمّد ينتظرني وهو يشرب كأس الشّاي بالنعناع الذي تُقمّطُ رائحتُهُ كلّ أركان المسجد. وكالعادة كنتُ آخذُ لوحِي وأذهب للجلوس إلى يمينه، وقد تصادف مرّة أن كانت الآيةُ التي بينَ يديّ وأنا جالسة بالقرب منه تبدأ بـ"الــم"، فسألني عنها وقال: "أتعرفين ما معنى هذه الحروف يا أرﭼـــانة ؟" فأجبته: "لم يخبرني أحد بعد عن معناها"، فضحك وقال: "ولا أنا، وإنّما هي حروف تبتدأ بها بعض سور القرآن وفيها أسرار عظيمة". فعقّبتُ وقلتُ له بلكنتي الطّفولية: "لا أسرار ولا أيّ شيء، وإنما هي أسماء". اهتزّ بدنه من الضّحك ثم عقّب قائلاً: "أتقصدين أنّ هذه الحروف هي أسمائي؟"، "لا يا شيخي الكريم، لا أقصد هذا، وإنّما أقول لك، إنّ هذه الحروف هي أسماء لأشخاص". بهتَ الشّيخُ وقال وقد بدأ يتفحّصني من قمّة رأسى إلى أخمص قدميّ: "كيف ذلك؟"، "الأمر بسيط يا شيخي، ألم تقل لنا في الحصّة السابقة أنّ "طه" و"يس" مثلاً هما اسمان من أسماء سيّدنا النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله الأطهار؟ إذن فالأمر بسيط، حتّى الحروف الأخرى هي أسماء لأشخاص وكذلك لأماكن أخرى لا نعرف عنها شيئاً". حملق فيّ الشيخُ طويلاً وقال: "من أخبركِ بهذا الأمر؟"، "لا أحد، إنّما هو استنتاج لا أقلّ ولا أكثر". قطّبَ الشّيخُ محمّد حاجبيْه، ثم قال: "دعينا الآن من هذه المسألة، واستظهري أمامي ما حفظتِه في الدّرس الماضي من آيات". بدأتُ في الاستظهار وعقل شيخي سابحٌ في مكان آخر، وفجأة نطق ثم قال: "ماذا تقصدين بالأماكن والأشخاص؟"، "الأماكن هي مواقع لنجوم وأفلاك في المنظومة الشّمسية، والأشخاص هم ملائكة ورسل مجنّحين في ملكوت الرّحمن" قلتُ بسرعة فائقة. امتقع وجه الفقيه وقال: "لا بدّ أن تقولي الآن من أخبرك بكلّ هذا؟"، "لا أحد يا شيخي، وإنّما أشعر أنّني أعرف هذه الأشياء بشكل تلقائيّ". ابتسم وقال بحنان وتودّد: "لا عليكِ، اذهبي الآن، فيبدو أنّ هذا من تأثير ما يعرضونه عليكم في التلفاز من رسوم متحرّكة عن النجوم والكواكب والأبطال الخرافيّين، مساكين أطفال هذا الجيل الجديد، وأنّى لهم أن يعرفوا معنى هذه الحروف والحال أنّه لليوم مازال النّاس لا يعرفون المعنى الحقيقيّ لها بمن فيهم كبار الجهابذة من الفقهاء القدامى والمحدثين".
انتهت حصّة الاستظهار، وعُدتُ راكضة إلى البيت وقد نسيتُ مادار بيني وبين الفقيه محمّد من حديث، وفي اللّيل وحينما كنتُ غاطّة في نومٍ عميق رأيتُ النّقطةَ، كانت غادة بجمال أخّاذ، وكانت جبهتُها موشومةً بنقاط كثيرة، وبخطوط متموّجة صغيرة، وبينما أنا مأخوذة بحُسنها الباهر، أُلقِي في خاطري أنّ النّقطة قريبة من الماء، أو أنّها تعوم فيه، ومنذ ذلك الحين وأنا أرى النّقطة في الماء، والماء في النّقطة، وأراها الآن هنا وقد وصلنا إلى كوكب البسملة عطارد، فردّد معي أيّها الإدريسيّ صلاة الدّخول بالبركة والعطايا والهبات ونحن في حضرة سفير الكواكب إلى الإنسان والمتحرّكِ بباء بهاء الله وبرّه بأوليائه، وسين سنائه وسرّه مع أصفيائه، وميم مُلكه ومننه على أتقيائه، الحاملة للاسم الدّالّ عليه، وصِفتَيِ الجلال والجمال فيه، التي بها تتحقّقُ مراتب الوجود بأسره، وكيف لا والباء في هذا الكوكب إشارة إلى أن كلّ العوالم بالله موجودة، وهي له وليست لأحد غيره، وإلّا فكيف تفسّر كون الإنسان الكامل ما ينظُرُ إلى شيء إلّا ورأى الخالقَ فيه!
فلا تعجب يا أخي في الحرف من كلامي، ودعنا نذهب الآن إلى لقاء سيّد كوكب البسملة، دمعة اللُّبانِ صاحب فلكِ العلم والحكمة في كلّ زمان ومكان لنستمع في حضرته إلى زبدة علومه واكتشافاته في مجال النجوم والكواكب والإنسان.




(7)
دمعةُ اللُّبان

سلام على أرﭼـــانة سيّدة الأسماء وأخيها في الله أبو عبد الله الجغرافيّ الكبير سليل الشجرة الطّيبة من أشراف الأدارسة الحمّوديّين، سلام عليك يا سيّدة الوحي الأمين، وأنتِ هنا في حضرة الكبش العظيم، والنبيّ التقيّ الأمين، ابن شجرة اللّبان التي حار في حمرة دمعتها وزرقة شُعلتها الإنس والجان. لأجلكِ فتحتُ عوالم الكواكب وجئتُ بإينكي مُصفّداً بيْن يديْكِ، وقلتُ لكلّ الملائكة، لقد شرعتُ طرُقَ الحرف في الأرض والسّماء فمهّدوا الطّريق لنجمة الأفلاك التي جاءتني لأغيّرَها وأنسيها كلّ أنشودات حوّاء، وأعيد تركيب أحلامها ورؤاها، وأمتصَّ من فيها رحيقاً أصنع به الحكمةَ نثراً، والقصائد شِعراً أسوّيها بها امرأةً ليس كمثلها في العالمين، فافسح لها الطّريق أنت يا من قُيِّدَتْ يداهُ، وافتح الأبواب كلّها فأنا سيّد الأشجار والغابات كلها، ابن رع العظيم، ظهرتُ اليوم لأحاربَكَ، بتاج البهاء فوق رأسي، وخلخال الكوبرى يزيّن كاحل أرﭼــانة، سيّدة الأسماء.
سلام عليكما يا شمس المغربيْن وبدر المشرقيْن، سلام عليكما وأنتما في حضرتي تشهدان كابوس الأرض الماقبل الأخير. سلام عليكما وأنتما في حضرتي ترنوان إلى الغَرف من محيطات العلوم، لذا فإنّي أقول لكما إنَّ أنظمة الشّمس تنتمي إلى سبع أنظمة كوكبيّة وُلدَ فيها عطارد من بحر الذّات الخطير، وتشمل سبع كواكب مقدّسة لكلّ كوكبٍ منها عالم مرئيّ ترتبط به ستُّ كواكب جديدة غير مادية ولا مرئيّة بها يتكوّن إنسانُ الإرادة والذي لم يظهر منه حاليا سوى جسده الماديّ، في حين بقيَ الجسد النّجميُّ والأثيريّ غير مُفَعَّلٍ إلى أجل مسمّىً، مثله في ذلك مثل جسد العقل العرَضيّ. ولتعلمي يا أرﭼـانة إنّ النّاس مرتبطة أقدارهم بنفوذ الأبراج وبالمؤثّرات التي تفرضها عليهم أجسادهم الفانية، ولا ينجو منهم إلّا القليل، أولئك الّذين استنار عقلهم بنور الله. ولتعلم أنتَ أيها الإدريسيّ أنّ الله حينما خلقَ كونَ الكواكب وجعل له نظاما بديعاً إنّما أراد أن يُنَظِّمَ بهِ العالمَ الأرضيّ الّذي أرسلَ إليه الإنسانَ وقد جعله على صورة كيانه الخالد ليصبحَ زينة السماوات والأرض، ويرى الكونَ بعين الخشية ويتعرف بهِ على خالقِهِ. ولتعلمي أنتِ يا أرﭼـانة أنّ اللهَ قدْ صنعَ الأفلاكَ بطريقة في غاية السرّية والإحكام وجعلها تتصلُ بمصير الإنسانِ، وتُخضعُهُ من مولده إلى مماته لقوانينها، وجعل للقدَر والمصير ملاكاً ثاقب البصر يبذر البذور ويحصد الثمار، لذا فإنّ اللّحم الذي فوق جسدكِ ويغطّي عظامكِ وعظامَ كلّ إنسان إنّما هُو ليس من خلق ما تأكلين فقط ولكنه أوّلا وقبل كلّ شيءٍ صنعةُ الكواكب الدوّارة والسيّارة في السماء.
مصير الناس بيد الكواكب وملائكتها، والكثير من الأسماء ستبقى فوق الصروح الجبارة التي بنتها الأفلاك، وأسماء أخرى ستخبو وتنطفئ في الظّلام، ولن ينجو ويخلّص نفسه من قبضة ونفوذ الأبراج والمصير سوى قليل من الناس، والغالبية تقودها الكائنات الإلهية التي تحكم العالم الأرضي مستخدمين جسد الإنسان كأداة لتحديد القدر والمصير.
لقد نظّم الخالقُ الصّمد أفلاك الكون وجعلها تتوافق مع حركة الطّبيعة وأسند إليها مهمّة إنتاج كافّة أشكال الأحياء، فظهرت بعمل الملائكة الكوكبية الكائنات ذوات الأربع، والزواحف والطيور والأسماك والنباتات والزهور، كل على حسب طبيعته المتميّزة وكلّ يحتوي على بذرة بقاء نوعه، وكل كائن له شكله الخاص الذي منحه له ملائكة وأطبّاء مختبرات الأفلاك.
ولتعلما معا يا ضيفيّ العزيزين أنّه لا بدّ لمختبرات الله في الأفلاك من عنصر النّار لأنّ بها يتكوّن بحر التّخليق وقد ولجتُهُ وفي لزوجَتِه السّوداء كانت تسبَحُ عيونٌ كحيلةٌ صقيلة، وشفاهٌ مكتنزة جميلة، وسمعتُ همهمات الأفواه وغمغمات النّفوس، ورأيتُ بالأبيضِ والأسودِ حِبْرَ الحياة مندلقاً فوق الوجوه الهُلامية وهو يكتبُ نفسَه بنفسِه ويُشكّلُ ويُزَخْرِفُ كلامَ الرّوح متدفّقاً بأبجديات لا أوّل لها ولا آخر، بينما ظلّتِ العيونُ تنظر إليّ والشّفاهُ الأثيريةُ تبتسمُ في صمتٍ ولسانُ حالها يقول: هل رأيتَ يا دمعةَ اللُّبَان من أينَ أتَيْتَ أيُّها المُبْصِرُ بعين الرّوح؟ إنّما نحنُ هُنا في قِدْر الله العظيمة، وهناك في الجانب الآخر من عدم الكواكب الشّديد السّواد تتشكّلُ قوالب كلّ واحد منّا لندخلها ونبدأ رحلة الحياة المدهشة! تكفي فقط قذفة واحدة لنخرج من لزوجة وندخل إلى أخرى في رحم ظلماته ثلاث، وما بحر التّخليق الّذي رأيتَ الآنَ سوى رحم البداءة الأولى، وكلّ النّاسِ يعومون فيه ملتصقين وسط نسيج هلاميّ لزجٍ واحد، لا فرق فيه بين عينٍ وأخرى، ولا بين فم وآخر، ولا بين لغة وأخرى، فلماذا حينما تكتمل القوالب في خزانة النّحت والتّدبير، ويرتديها النّاسُ لباساً أرضياً، تندلعُ الحروب وينتشرُ الشرُّ في القلوب، وتبدأ رحلة النّكوص الأبديّة، فمن يدري، لعلّه مسارٌ آخر من مسارات الخلق لا بدّ من خوضه، ولا بدّ فيه من العودة إلى بحر التّخليق الهلاميّ الأوّل ليلبس النّاس أجساداً أخرى بقلوب طيّبة وأرواح أكثر صفاء ونقاء ممّا مضى، فهل هذا ممكن يا صاحبيّ في أسفار السؤال وطريق المحال؟! أظنّ جواب النّار عند صاحب القصر الأحمر الملك غولْيِيلمُو، ولن يدلّك عليه يا أرﭼـانة الخير سوى قطّي الأحمر هذا، فخذيه معكِ فإنّ له في جغرافيا وتاريخ قصور صقلّية معرفة من الطّراز الرّفيع، ودعي الشريف الإدريسيّ هنا ففي كوكبي هذا محطّته الأخيرة، واعتني جيّدا بقطّ الوشق الفريد من نوعه، فهو الآن قطّكِ ومعلّمُكِ الجديد في سفركِ نحو مركبة المجد والبركات.


(8)
في قصر الملك غولْيِيلمُو

يا إلهي، ما أجمله من قطّ وما أشد بهاء عينيه، كلّما وقفتُ أمامه وأمعنتُ فيهما النّظر أخذني إلى أكوان لا قبل لي بها ولا بأسرارها وخفاياها العظيمة. يقول قطّي إنّنا قد وصلنا إلى قصر الملك غولْيِيلمُو، وأنّ هذا القصر كان يقصده الملك ونساءه الفاتنات الحُسن والجمال طلباً للرّاحة والاستجمام بعيداً عن مهامّ الحُكم الرسميّ، ولقد بناه على الطريقة العربيّة الإسلاميّة وجعله محاطاً بالأشجار والمياه والعيون، وكانت تنبت في حدائقه أبهى الورود والأزهار وأندرها في العالم بأسره، لذلك كان أهل باليرمو يسمّونه بجنّة الله على الأرض، وكانت تتوسطه قبّة حمراء قائمة على أربعة أقواس كبيرة فيها زخارف ونقوش عربية تحار في جمالها الأذهان. ولأن داوم الحال من المحال، حدث أن انطفأ مجد القصر مع صاحبه وغابت نجوم سهراته ولياليه الملاح، وآلَ مِن أسرة نبيلة إلى أخرى حاولت أن تعيد إليه أمجاده لكن بدون فائدة، وكانت عائلة نابولي آخر مالكيه، ونحن اليوم سوف لن ندخل إلى القصر كما كان وإنّما كما أصبح اليوم. ويوصيني قطّي بألّا أشغل بالي بما أراه فيه اللّحظة من دمار وخراب وهجر وجحود ونكران نابه من أهل المدينة الّذي هو فيها، ويُكملُ ويقول: إنّما أنا وأنتِ سنعيد إليه بعين البصيرة الكُبرى أمجاده التي كانت وسأطلعكِ فيه على ما لم يدركه قبلنا أحد من اللّوامع وعميق المعارف والأخبار والبوارق، ووجهتنا ستكون نافورة القبّة، وهي التي ستصبحُ شاشتنا التي سنرى فيها عجائب الأسرار، فهيّا انظري فوق صفحة الماء وقولي ماذا ترين أيّتها الأرﭼــانة المكلّلة بخرقة السرّ والسّتر؟!
آهٍ يا قطّي جينواردو ممّا يظهر لي فوق شاشة الماء: إنّني أرى كتاباً هيروغليفياً وقد اشتعلت فيه النّار، كتاباً هو باب لكاتيدرائية كبيرة، لها ثلاث مداخل رئيسة واقفة بسرّ التثليث والتوحيد، وفي الباب أكثر من دائرة، فهل لك أن تقول لي ما معنى هذه النّار والدّوائر والكتاب يا قطيّ الأحمر؟!. الكتاب الهيروغليفي يا شمس المغرب الوهّاجة هو باب من أبواب نوتردام في باريس، والدّائرة الأولى فيه تمثّل خالق الكون بيدين مُشرَعتين، كلّ واحدة منهما تحملُ وجهاً لإنسان بهيئة ملاك. وهذا يعني أنّ الله العزيز القويّ حينما خلق الكونَ من العدم فصل فيه بين النّور والظّلمات، وخلق بموجب هذا الفصل الكائنات السماوية التي هي زئبق الحياة ليفصل بها بين الكبريت الحيّ الّذي هو النّفْس، وبين الزئبق الصّافي البرّاق الذي هو الرّوح الّتي خلقها الله أوّل ما خلق وزرعها في الأشياء بشكل ظاهر وباطن، وجعلها البلسم الشّافي لتحتفظ بكلّ ما هو بادٍ للعيان بلباس الطّهر والنّقاء، وتدمّر كلّ ماهو نجس أو سامّ، وبها يتخثّرُ الزّئبق ويولد منه الطّاقة التي تجمع وتغسلُ كلّ الأماكن السّفليّة، طاقة لها القدرة على التشكّل في المادة والأجساد وفيها تكمن كلّ بذور العالم الأثيري، لأنّ فيها نار هادئة ذات قوة هائلة تنزل من السّماء وتدخل في عمق الأرض، ولها بطنٌ متكوّرة هي أب كلّ الأشياءمفعمة بالبخار والدّخان ومتقمّطة بالمياه المعدنية الهلامية التي منها تولد كلّ الكائنات وهي لأجل هذا تسمّى أيضاً بالسماء الأرضيّة، لذا فهي تسكن في الجبال وفي السهول، وهي أبٌ قبل أن تكون ابنةً، وتلدُ في الوقت ذاته أمّها. ولها أب وأمّ يرعيانها دونما أدنى حاجة لتغذيّتها لأنّها تغذّي نفسها بنفسها، وسمتها القوّة والضّعف، يولد منها طائر عجيب غريب، ومن عظامها يصنع عشّه، وفيه يطير بلا أجنحة ليولد ثم يموت ثم يولد من جديد ملكاً ليس لبهائه وجماله مثيل.
أمّا في الدّائرة الثانية للباب فتوجد السّماء الكوكبيّة، وفيها يظهر ملاكان برأس منحنية ووجه مغطّى، هذه الانحناءة يا عزيزتي تعني أنّ كل التأثيرات السماوية تهبط من الخالق نحو السماء النّجميّة التي هي هذا العالم الذي تقيم فيه النجوم والكواكب. والملاكان يرمزان أيضا إلى البذرة الكونية التي تنزل إلى الجسد وتكمن فيه، ولأنها بذرة سماوية فإنّها تغطّي وجهها ولا تظهر عارية وإنّما تختبئ عن أعين الجهلة والمتفيقهين حتى لا يعرف وجهها أحد أبداً.
والدائرة الثالثة للباب هي سماء ثالثة ترمز إلى عنصر الهواء وفيها يظهر ثلاثة أطفال محاطين بالسّحب والغمام، وهم جميعا رمز للعناصر الأولى المخلّقة للأشياء: الملح والزئبق والكبريت الأثيريّ، وإذ أقول لكِ الملح فإنّي أعني به ملح السماء الذي هو المبدأ الأول الذي به تتخلّق النّفس والروح عبر التّفاعل مع الكبريت والزئبق. وفي الدائرة الرّابعة وتحتَ الأطفال هناك عالم الماء والأرض التي ترعى فيها كلّ الحيوانات كالكبش والثور اللذان ماهما سوى رمزيْن يقولان إنه عند عودة الرّبيع في آذار ونيسان المحكومين بأبراجهما النجميّة، تكون المادّة الكونيّة في حالة من العشق السماويّ لدرجة أنّ عشقها هذا ينتشر عبيره في كلّ شيء، ويمدّ بالطّاقة والحياة كلّ كائن حيّ، وبه تبدأ الأيّام في الخروج من جهة الشّرق، فيخلقُ اليومُ الأولُ من أحشائه السّماءَ والأرضَ من جديد، ويُعلِّقُ اليومُ الثاني سلّماً ينزل عليه المطر، ويلدُ اليوم الثالثُ البحار، ويجمعُ اليوم الرابعُ بين السماوات والأرضين، ويشرّع اليوم الخامسُ العملَ لجميع الكائنات، ثمّ ينبثق النور وتُخلقُ العوالم السفلية، ويضعُ اليومُ السّادسُ علامات على كلّ من يملك روحاً مدنّسة، وفي اليوم الأخير تهبُّ الرّيح فتُسمّى بالرّوح الأبدية ويبلّلُ المطرُ الترابَ ومن الطّين يتشكّل جسدُ الإنسان، ويأتي الطّوفان ويحملُ شمسَ الماء الأولى معه وبها يتحوّلُ كلّ من في العالم إلى أسماك، وتظهرُ النّمورُ وتلتهمُ شمسُ الماء الثانية، ومن السّماء ينزلُ مطرُ النّار ويدمّرُ شمسَ الماء الثالثة ويُهَيّجُ البشرَ، ولأجل كلّ هذا الّذي يحدث فإنّ الإنسانَ ظلَّ يخافُ النّارَ ويبتعد عنها ولا يريد أن يعرف شيئاً عن أسرارها، وأنتِ يا أرﭼـانة ما عليك اليوم سوى أن تشرعي قلبكِ لي أنا قطّ الوشق ونمِر البحار السّندسيّة لأنني قرّرتُ في هذا اليوم الأخير من رحلتي معكِ أن أعطيكِ سرّ النّار.






(9)
رقصة النّار

من ذا الّذي يستطيع أن يتحمّل سرّ النّار الذي تريد أن تسلّمني إياه أيها القطّ النّمر، وما السبيل إلى ذلك سوى أن ألتهمك كاملاً، لكي أحفظ سرّ النّار وصاحبها، وأُصْبِحَ بكَ في قلبي المتحدّث الرّسمي عن النّار بكلّ تجلّياتها، وقبل ذلك لا بدّ لي من الرّقصة الوحشيّة، الوحشيّة جدّاً جدّاً، لأجدَ تلك الحيّة الكبيرة المقيمة في البحيرات الشمالية الكبرى، فهل تذكرها يا صاحبي، هل تذكر تلك الفتاة التي ذهبت ذات فجر لاقتفاء أثر الصيّادين والحطّابين، إلى أن وصلت إلى الكوخ الخشبيّ الأخضر ووجدت فيه الإخوة العشرة ومعهم طيور الرّعد الخمسة عشر؟! هل تذكر تلك الفتاة التي حاربَتِ الثعابينَ بصوتها الجميل، إنّها هي نفسُها التي وضَعَتْهَا طيورُ الرّعد في شجرة الحياة وأقفلتْ عليها بإحكام لتحميَها من غدر الثعابين، إنّها هي التي كلما سمعتَ ضفدعة ما تغنّي بالقرب من شجرتها فاعلم أنّ الرّعدَ سيقصفُ والمطرَ سيهطل على العالم! عليّ إذن بشجرة الحياة لأجمع منها حطبي وأشعل بها ناري السرّية، ناري التي أسمعها الآن تقول: إنّما احترقت كنيسة نوتردام ومساجد أخرى قبلها ليتجدّد حرف الله ونوره في القلوب، فذاك عهد مرّ وكان السّوس ينخر فيه الأرواح، وهذا عهد جديد، عهد طوفان النّار الذي سيحرق كلّ شيء؛ المعابد والمنازل الباردة، والسنابل الفاسدة، ليولد من السّوس والفحم إنسان جديد، وكونٌ آخر تلبس فيه البشريةُ ثوبَ الرّبيع.
لا بدّ لي إذن من هذه الرقصة الوحشية لأتّحد مع العوالم والأكوان، وتتدفّق فوقي الأزهار، ويحطّ فوق ذراعَيّ العصفور والغراب والحمامة، والبومة والنّسر واليمامة، والنحلة والفراشة، والدبّور والبعوضة، لا بدّ من الرّقص إذن ليسترخي الكون بداخلي ويعود جاهزاً لاستقبال المتضادّات، وليعرف كلّ إنسان بأنه لم يُخلق ليكون لوحده وإنما ليكون هو نفسه العوالم كلّها والأكوان! نعم، سأرقُصُ وأرقُصُ وأغنّي وأقول للغراب أن يحمل القمرَ إليّ ويرميه في الأعالي وينثر حوله النجوم، لا بدّ للغراب أن يفعل هذا من أجلي بل من أجلكم جميعاً، ولا بدّ له أن يرقُصَ معي ويُعطيني الصندوق الأحمر لأفتحه وأُطلقَ سراح النّهار، نعم، لا بدّ لي أن أحرّر النّهار من سجنه لينتشر الضوء في العالم بأسره. كيف سأفعل هذا؟ سأنزل إلى السّوق والنّار بيمناي والتنّور بيسراي والقِدر فوق رأسي، فهلمّوا معي أيّها الأحبّة لننصب مائدة الله فوق الأرض! هلمّوا معي فالسّوق أنثى، ولا يمكنُ لأيّة سوق غيرها أن تكون بهذه الصفة، وكيف لا وهي تحبل بالخيرات والبركات، وتفتح البيوت وتُطعم النّاس وتأوي الفقراء والمساكين، وتحنو على الأطفال والمشرّدين، وتحضن الصّالح والطّالح، وتطعمه من رزقها وتربّتُ على كتفيه بيد الكرم والعطف، لأجل هذا وأكثر فإنّ كلّ سوق هي أنثى وأمّ كبيرة، ولقد سمعتُ الكثير من القصص عن الأسواق في العالم ظاهره وباطنه، لكنّني لم أكن لأتوقع أبداً أن قطّي جينواردو سيرسلني إلى هذه السّوق العجيبة لأبدأ بها رحلتي في العاصمة باليرمو قطرةً تبحث عن محيطها لتذوب فيه وتصبح به محيطاً آخر أشدّ عمقاً وشساعة. إنّها بالّارو، هذا هو اسمها، وقد قال رجال التأريخ عنه إنّه عربيّ، وآخرون قالوا إنّ هذا الاسمَ نورمانديّ، لكنّ قلبي يقول إنّ اسمَها مشتق من فِعل "بلّاري"، الذي يعني في اللغة الإيطالية "رقصَ"، وعليه فإنّ سوقي راقصة عظيمة، وفيها التقيتُ أوّل ما التقيتُ بابن حوقل فروى لي الكثير عن ماضيها التليد وعن المدينة التي تحويها وعن السور العظيم الذي كان يحيط بها والتجار الذين يسكنون فيها وعن تابوت أرسطوطاليس المُعلَّقِ بين السماء والأرض وعن دكاكين الزياتين والدّقاقين والصيارفة والحدّادين والصياقلة، والسمّاكين والخبّازين والقصّابين وباعة البقل وأصحاب الفاكهة والعطّارين والدبّاغين والخشّابين، وعن مساجدها التي تفوق الستمائة مسجد أو ربّما أكثر!
يا إلهي، أين ذهب كلّ هذا، ومن أيّة باب سأدخل إلى السّوق اليوم وقد اختفى قطّي الدّليل وكذا ابن حوقل بعده، قل لي أنت يا قلبي، ودُلّني على كتابها، وفُكّ لي طلاسمها. نعم يا قلبي، إني أسمعك تقول إنه هناك بانتظاركِ بالقرب من بائع السّمك، وإني لأنظرُ الآن حيثُ تُشيرُ، ولا أرى غير رجل فقير، طحنَ الجوعُ مصارينَه، وأكل البردُ القارسُ وجنتيْه، وشقَّ العطشُ شفتيْه، وكسرَ التّعبُ عظامَه، أيُعقلُ أن يكون هذا دليلي إلى الرّاقصة العظيمة، أو أن يكون هو نفسهُ سيّدُها، أرحني بالله عليك أيّها التقيّ وقُل لي من أنتَ؟ ها أنذا أقتربُ منكَ وأجلسُ القرفصاء عند قدميكَ، وأرفعُ عينيّ إليكَ لتعرفني أو أعرفكَ. يا إلهي، ما أبهى زرقة عينيْكَ، إنّها محيط من كواكب سيّارة دخلتُ مجرّتها وسمعتُ أفعى درب التبانة تقول: إنّكَ أنت، أنتَ أيّها الفتى الزكيّ الجليل! وسمعتُكَ تقول إنه أنا، ورأيتُ جراحات إكليل الشوك فوق جبهتكَ، وآثار السّوط تحت قميصك، فقل لي بالله عليك ما الّذي تفعله في سوق البالّارو، أكنتَ تنتظرني حقّا كما تقول؟ كم مرّة رأيتُك وما نسيتُك أبداً، وفي كلّ مرّة كنت تظهر لي بمجدكَ العظيم، وما كنت أتوقع أبداً أن أراك هنا، قل لي ما عساني أفعله من أجلك: أأغسِلُ جراحَك، أم أجلبُ الطّعام لكَ، أو أطفئُ عطشَكَ، أم أقبّلُ يديْكَ وقدميْكَ، دعني أفعل كلّ هذا من أجلكَ، بل دعني أنصب لكَ مائدةً عظيمة أطهو لك فيها كلّ يوم ما نعيد به هويّتنا ونرتّبُ من جديد خلايانا، علّك ترضى، أعطني المنفاخ إذاً لأُزْهِرَ بهِ النّارَ، والفحم لأحوّلَه إلى جبال من الألماس، والمغرفة الخشبيّة لأحرّك بها قِدر الكون وأخرجَ منها طفل المعنى، وابقَ معي وقل: بسم الله مجراها ومرساها إنّ ربّي لغفور رحيم، ودعني أنصتْ إليكَ وأنتَ تعطيني سرَّ رماد الماء، وقصبِ السكّر، دعني أسقي بكلماتك قلبي وأنت تردّدُ فيه وتقول: نعم يا أرﭼـانة، ولا تنسي قبل أن تقربي التنّور وتشعلي النّار أن تقولي بسم الله فبالبسملة تنزّلتْ كلّ الألواح، وكلّ ما في الألواح في الصلاة الربّية وصلاة السّبع المثاني، وكلّ ما فيهما في الألف والباء، وكلّ ما في الألف والباء في النقطة التي رُسِمت بها الألف، والأخرى التي توجد تحتَ الباء، لذا فإنّ النّقطة توجد في كل آية وسورة من الألواح، وهي تشير إلى الذّات الإلهية الغائبة خلف سور التنزيه عن الظهور للخلق، وهي لأجل هذا لا تُنْطَقُ في أيّ حرف، وإنّما هي دائماً صامتة منزّهة عن التقييد، فاحرصي على أن يكون كلّ طبق تقدّمينه لي حاضراً ومطهوا بالنّقطة، ولا تقربي ملحاً ولا سُكَّرا، فالأرضُ لا تأكلُ الملح وإنما تنتجه، والنّحلُ لا يأكلُ سُكّراً أبيض وإنّما يصنع من الأزهار ما فيه شفاء للناس، وأنت افعلي مثلهما كوني أرضاً ونحلا، ولا تنسي أن تروي لي وأنت حول مائدتي قصّة كلّ طبق تحضّرينه لي بالعشق والمحبّة، هيّا انطلقي، وسافري بذاكرتِكِ إلى مغرب البهاء ومنه زاوجي بين أطباق طفولتك العدنية وأطباق هذه الأرض التقيّة، وادخلي إلى أعماق هذه السّوق، البالّارو السّاحرة وَصِفِي لي ماذا ترين وتسمعين من العجائب والأسرار فيها.


(10)
بالّارو

أيّها الفتى الزّكيّ، أنت تعلمُ أنّك كنت أوّل من جاء للقائي حينما وضعت قدمي فوق ربوع جزيرة صقلّية، وتتذكّر جيّدا كيف ظهرتَ لي حينما وضعتُ رأسي على الوسادة في أوّل ليلة أقضيها بها، كنت لا أعرف أينني حقيقة، أمازلتُ هناك في المغرب أم أنني في أرض أخرى غيره؟ كيف لا وقد كان أوّل ما تنسّمتُه عطرَ البحر في صدركَ فتذكّرتُ محيط المدينة التي رأيتُ فيها النّور، واليوم وأنتَ تظهَرُ لي من جديد في السّوق بالقرب من بائع السّمكِ فإنّ أول سفر ستقوم به ذاكرتي سيكون في ملكوت السّمك والخبز، فأرغفتي خمسة، وبين يديّ سمكتين لا غير، وليس أمامنا الآن سوى أن نكثّرهما ببركتك أيّها التقيّ، نعم دعني أكثّرهما بكَ في ذاكرتي وأتذكر معك أيّام البحر، والصّيد والخروج إلى لقاء القمر عند الفجر، صقليّة تذكّرني بكلّ شيء وبحرها يجذبني إلى بحري وسوقها تجذبني إلى أسواق وطني: أصوات الباعة عند مدخل البالّارو، كأنّهم ينادون لإقامة صلاة جديدة من نوع آخر، صلاة الرّغيف الّذي يركضُ من أجله الجميع، وصلاة الجياع المنتشرين في كلّ بقاع الأرض، جياع الحرف والنّقطة، جياع الفرح والأمن والسّلام. حتّى الوجوه هنا تذكّرني بوجوه أبناء بلدي، وروائح السّوق وألوانها تحملني إلى الهناك، لوحة تشكيليّة رُسمتْ بيد السّرّ الأزليّ، العيون، الأرجل، الأرداف، أصوات الأطفال والنساء، ثمّ السّياح القادمون من كلّ مكان. في أسواق طفولتي كنتُ أرى الحاوي وهو يراقص الأفعى، والشّيخ الضرير وهو يضع العقارب السوداء والحمراء فوق وجهه وتبقى ساكنة لا تتحرّك وإن تحرّكَ هو، وكنتُ أرى نافث النّار، والحلّاق وهو يقتلعُ أسنان الأطفال أمام الملأ وهو يضحك، وفي البلّارو أيضاً رأيتُ الأشياء ذاتها لكنّها كانت برموز ومفاتيح أخرى، لذا عانقتُ هذه السّوق أول ما وجدتُها، لأنني عرفتُ أنّها ستقودني بشكل أو بآخر إلى لقائك من جديد، وهذا ما حدث فعلاً. ألوانها دلّتني على العطاء والخصوبة في كلّ شيء، تخيّل أنني وجدتُ حتّى اليقطين الدكّالي البرتقاليّ اللّون، ووجدت قرع الكوسا، ثم قرع السّلاوي الطويل، والخرشوف الشّوكي، والبرقوق بشتى ألوانه وأصنافه، وكلّ أنواع الخضراوات والفواكه التي كنت آكلها وأطبخها في بلدي، ولأنّني أعلمُ أنّك تُفَضِّل أن يبدأ الإنسانُ في طعامه بالفاكهة، فدعني أجعلُ من مائدتنا حديقة سرّيّة لا يعرف مفاتيحها إلّا نحن، أضعُ لكَ فوقها لوجبة اليوم الأناناس والبرتقال، ثمّ التفّاح الأخضر وحَبَّ المُلوك والفراولة والأفوكادو، لكن دعني قبل هذا وذاك، أغسل جراح ظهرك بماء الورد، وأغسل دماء قدميك بزهر النارنج، وأنظف غبار وجهك وآلام يديك ومعصميك بماء النعناع والقرنفل، وألبسك قبل الجلوس إلى المائدة دشداشة خطتُها لك بأوراق الياسمين والزنبق البرّي لأروي لك فيما بعد حكاية كلّ فاكهة أضعها أمامك، فهذا هو الأناناس زهرة الشمس المباركة أرحبّ بك من خلاله، وأنثر عطره في الجو وأقول لكلّ أليافه بأن تعمل في جسدك عمل الطّبيب وتعيد إليك الرّونق والحياة والبهاء، وتشعرك في حضرتي بالسّعادة والمحبّة والجمال، وكيف لا يفعل ذلك وهو غنيّ جدّا بمضادّات الأكسدة، ويطهّر الجسم من كلّ السموم ويخفّفُ عنه آلام الجراح ويطرد الأسى والحزن. وبينما تتذوّق طعمه المنعش الآن، دعني أضع أمامك طبقاً من حَبّ الملوك، وأعني به الكرز الأحمر، فاكهة الحكماء والفلاسفة، زد على هذا فلونه يذكرني أيضاً بخجل العذارى وحيائهنّ الجميل، وهنّ على وشك الفوز بتاج ملكة الكرز في مدينة صفرو المغربيّة المعروفة باحتفالها السنويّ بموسم هذه الفاكهة الملكيّة بامتياز والتي ترمز إلى سعي الإنسان إلى الانبعاث من رماده وبلوغه أعلى مدارج التطوّر الرّوحيّ والسّلام الدّاخلي. وماذا أقول لك أيّها الصّاحب الحبيب، سوى أنّك بحاجة أيضا لتناول بعض من الفراولة والأفوكادو، فالأولى فاكهة العشق بشكلها الّذي يشبه شكل القلب ولونها الأحمر المتوهّج الذي يبعث على الفرح والسعادة والهناء، أما الثانية فهي بلسم لما تعاني منه الآن من مغص في الأمعاء ولتطمئنّ فإنّني لن أرمي بذرتها الدّاخلية ولا حتّى نواة حبّ الملوك وإنّما سألقيهما في حديقتي الكبرى، لأنّني تعلّمت منكَ درس الحياة الأبدية، فلا شيء يموت، وإنّما هي ولادة وانبعاث مستمرّين من بين غبار الرّماد.
في مائدتي، وبعد طقس ماء الورد والنّارنج والفاكهة فإنّني سأبدأ بالرّغيف والسّمك ليكثر الخير ويعمّ كلّ أرضٍ أطؤها بقدمي أو بفكري أو بحرفي. عن الرّغيف دعني أقل لك إنّني عرفتُه أبيض، ثمّ أحمر، ثم أسود، ثم أصفر، ثمّ أخضر، فالأبيض كان من دقيق القمح الخالص الذي لا أنزع منه النّخالة أبداً، والأحمر كان ممزوجاً بعشبة الفُوَّة، والأسود بحبّة البركة أو الشّانوج، والأصفر بالكركم الذهبيّ، والأخضر بالزّعتر الجبليّ، ولكلّ رغيف طعم ورائحة، وبكلّ رغيف يتحقّق شفاء وعلاج، وتقع البركة وينبني الجسد والفكر وينصلح حال الرّوح، لأجل هذا فإنّني سأجعل في قصعتي من الدقيق ماهو قمح، وذرة وشعير ودخن وحمّص، وفي كلّ منها سأضع عشبة أنت أعلم بسرّها منّي، وأصنع لك أقراصاً بكلّ الألوان لتتحقّق البهجة ونعود أنت وأنا إلى مدارج الطفولة الأولى: ندخل المطبخ، ونشعل شجرة النّار ونجلسُ حولها ننظر إلى الخبز وهو ينتفخ شيئاً فشيئاً بالخميرة الأمّ، ويصبح بلون الغروب والشفق والفجر والضحى، كلٌّ قد علم لونَه وخبزه. فاشْرِع الإزارَ الأبيض أيها الفتى الزكيّ فوق المائدة فإنّ الخبز أصبح طازجاً، وآن الأوان ياصاحبي الطيّب، لنكسره كلّ يوم للجياع، وندعو الله أن يرزقنا خبزنا كفاف يومنا فإن لم يُعطِه هُو لنا فمن عساه يفعل ذلك في فقرنا وحاجتنا.
وأما عن السّمك فدعني أبدأ لكَ فيه بفواكه البحر، ولن أضع فيها لا ملحاً ولا سُكّراً كما توصيني دائماً، مادام الخالقُ قد ملَّحَها وسَكَّرَها بيده وفمه منذ بداية العوالم والأكوان. سأشتري من بائع السّمك سلاطيع سودٍ ناسكة جلبها من المحيط الهندي، وأخرى حمراء استقدمها من المحيط الأطلسيّ، وسأجلبُ لكَ جراد البحر الشّائك، وكذا حبّاره وأخطبوطه ومحاره وبلحَه الأحمر، لن أتركَ شيئا كان اللهُ يرزقني إياه على مائدة طفولتي، إلّا وسأضعه فوق مائدتنا الجديدة، فصقلّية أرض معطاءة جدّاً، وما لا يوجد على أرضها فإنّها تجلبُهُ لكَ ولي من الأراضي المجاورة والبحار الأخرى بما فيها تلك البعيدة والنائية جدّا. نعم، سأضع كلّ هذا وأكثر لأقول إنّني النّقطة التي ستصحّحُ مسار موائد العرفاء الجُدُد، لا سيما وأنني كنتُ منذُ طفولتي الأولى كثيراً ما أسمع عن وجوب اتباع حمية غذائيّة قاسية من أجل الولوج إلى عوالم العلوم الباطنيّة، وكنتُ كثيراً ما أقرأ عن تركِ العارفِ لفراشه ونومه وسهره واقفاً اللّيالي الطوال منقطعاً للعبادة والصّلاة لأنّه ممّن قيل لهُ إنّهُ هكذا فقط يمكنه التمكّنَ من ميزات الكرامات وحصوله على الهبات الربّانية. وحينما كبُرتُ ونضجَ تفكيري أكثر فأكثر، وجدتُ عقلي يستهجنُ كلّ هذا، ويسألني مُستغرباً: ما معنى أن يجوعَ الإنسانُ إلى الأبد، وما معنى ألّا ينام الليل؟ لا شكّ أنّ الأمر برمّته ضرب من الجنون والسّطحية في تقييم الأمور. فأن تجوع فهذا يعني أنّكَ تؤذي نفسكَ، وألّا تنام يعني أيضاً أنّك تلقي بنفسك في الهلاك المحقّق، و"العارفُ" الجائع الأرِقُ إلى الأبد، لا يمكنُهُ سوى أن يكونَ مُهَلْوِساً كبيراً، وكُتبُ الكثير من هؤلاء "العرفاء" تشهد على ما هُم فيه من خبال وضلال. وإنّي لأذكُر أنّني ما وسمتُ يوماً نفسي بصفة "العرفان" أو "التصوّف" وإنّما وجدتُ النّاس وبدون سابق إنذار ينادونني باسم وصِفة "الصوفيّة" التي ظلّت تلازمني منذ سنوات شبابي الأولى إلى اليوم، وما دخلتِ امرأةٌ أو ضيفٌ بيتي من "مثقّفي" عصرنا سواء من الإيطاليين أو المشارقة إلّا ووجدتُها أو وجدتُهُ يسألاني عن سرّ تصوّفي هذا؟ وكلّ ما كان يحدثُ لي أمامها أو أمامهُ هو شعوري بالارتباك: فأنا لا أجوع مثل باقي "العرفاء"، ولا أذهب للخلوات في الجبال والغابات إلّا في حالات نادرة جدّاً، وأنامُ السّاعات التي تكفي جسدي وتضمن له توازنه، وأمشي في الأسواق بين النّاس، وأعيش حياة عاطفيّة سليمة كسيّدة متزوّجة، أيْ أنّني أعيشُ بكلّ بساطة كما أمرني اللهُ أن أفعل، وليس لي أيّ سرّ أخفيه ولا أمارس التأمّل ولا الرياضات الرّوحية الشرقيّة، ولا أعرفُ شيئاً عن العلوم الباطنية، لدرجة أنّني لا أعرفُ حتّى كيف يُقرأ الفنجان ولا ورق التاروت، وعلى الرّغم من ذلكَ أجدُ النّاس يسألونني وباستمرار عن السرّ: السرّ في عزلتي المعرفيّة، السرّ في اكتفائي بحياة بسيطة متواضعة وعدم طمعي في الجاه والسّلطان، السرّ في تحكّمي في نفسي وجسدي وحرفي، السرّ في عدم اختلاطي بالناس، وقلّة أو انعدام "صداقاتي"، السرّ في غزارة حرفي، السرّ في سعة معرفتي وهلمّ جرّا من الأسئلة التي لا أوّل لها ولا آخر، والتي كلّما تعدّدت ازدادت حيرتي في كيفية الردّ عليها، ولا أظنّني سأنجح يوما ما في الردّ الكامل بالشكل المطلوب بقدر ما أنّني أجدُ وعيِيَ الدّاخليّ يقولُ لي: لا تكوني ممّن وقَع من "العرفاء" في حبائل إبليس. وإذ أسأله وهل لإبليس طريق إلى أهل الصّلاح من هؤلاء النّاس؟ يجيبُني: له طرق وليست طريق واحدة، طرق تتعدّد بتعدّد أنفاس من مشى على درب التصوّف والعرفان، وما نجا منها إلّا القليل. ومِن أحابيلِهِ نزعُ النّوم من عين "العارف" مُغرياً إيّاه بأنّه في السّهر الطويل تحصل له الكرامات والمعجزات في حين لو أنّه يعرف ما للنّوم من أهميّة في ثبات نفس الإنسان وعقله وقلبه ما فرّط في ساعاته الحقّة والسّليمة أبدا، والشّيء نفسه بالنّسبة للأكل أولم تسمعي بقوله عزّ وجلّ "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"؟! فالدّاء كلّ الدّاء يكمنُ في الإسراف في أيّ شيء، فإذا صُمتِ فلا تسرفي في الصّيام، وإذا أكلتِ فلا تُسرفي في الأكل، وإذا نمتِ فلا تسرفي في النّوم، وإذا سهرتِ فلا تُسرفي في السّهر، سواء من أجل عبادة أو دراسة أو أيّ عمل تقومين به في حياتك اليومية. التوازن في التفكير وفي العيش هو زينة العقلاء، ولا يغرّنكِ ما يظهرُ على بعض "النّوكى" من أهل التصوّف ممّا يسمّونه بـ "الكرامات"، فالعارف الحقّ يا ابنتي يأنف عن الحديث بشأنها أو عن إفشائها للغير. أمّا لمن يقول لكِ أنتِ لا تمارسين حتّى رياضة التأمّل فمن أينَ لكِ بكلّ هذا؟ فاعلمي أنّهم سألوا قبلكِ مريم وفاطمة ونساء صالحات أخرياتٍ، وكلّ ما عليكِ أن تقولي لهم إنّ علوم التأمّل الرّوحي المعاصرة مصيدة كبرى من مصائد الشّيطان، وإنّكِ مأمورةٌ بعدمِ الوقوع فيها لأنّ بها يحدثُ للعارف أنْ يسحرَ نفسَهُ بنفسهِ فيتلبّسهُ الجنُّ ويفتحون عينه الثالثة الّتي بها يُطلعونه على عوالم غير العوالم التي اعتادها، ويدخلون في حوار مع قرينه الّذي تتعاظمُ قوّتُه فيحيض العارف، وإذ تسألينني ما معنى حيضُ العارف، أقول لكِ؛ ظهور ما يسمّى بالكرامات عليه، فيُجَنُّ بنفسه ويتولّه بها. يا ابنتي احذري إبليس فما سلم منه أحد من هؤلاء النّاس، وكوني من أهل الوسط وكلي من خيرات الله ما شئتِ ولا تسرفي، وطهّري روحك كما تفعلين دائما بالصلاة اليوميّة المتجدّدة، وبالصّوم من حين لآخر خلال الأسبوع أو كلّما استطعت لذلك سبيلا، وادخلي إلى مطبخكِ ففيه تكمنُ الأفعى الحقّة، أفعى الحياة المستقيمة التي بها تكونين من أهل التقوى، لا أفعى إبليس الكامنة تحت شجرة المُخَيخ والتي متى ما استيقظت فقولي على الإنسان السلام، لأنّ بها يخرجُ من دين الله إلى دين الشيطان. نعم، ادخلي إلى مطبخكِ وأبدعي فيه وكلي من كلّ خيرات الله، وجدّدي في أطباقكِ بما ترينه صالحاً لسلامتك الفكريّة والنّفسية والجسديّة، ولا تدعي لأفعى إبليس مجالا للاستيقاظ لأنّ بيقظتها تظهر عليكِ طاقة غير الطّاقة الإلهية، وهي الطاقة التي بها يستولي إبليس على عرفاء الغفلة، فيسلبهم كلّ شيء ويتمكّن من أرواحهم وأجسادهم وعقولهم، فيصبح إلاههم الأول والأخير وهُم يظنّون أنّهم قد وصلوا إلى سدرة المنتهى، بالضّبط كما قال فيهم ربّ العزّة: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا))، ولتعلمي أنّ استيقاظ أفعى إبليس هو الطّوفان الذي يفيضُ ماؤه في الجسد ولا ينجو منه إلّا القليل، إنّه الطّوفان الذي حذّر منه نوح القلب البشريّة جمعاء وما ركب معه سفينة النّجاة إلّا ذو حظّ عظيم. وإذا سألكِ أحدٌ عن سرّ ما أنت فيه قولي فقط: إنّني من أهل هذه السّفينة، ومن في عقله نور سيفهم حرفَكِ، ومن يحجبه الجهل سيظلّ في عماه إلى أبد الآبدين. ادخلي مطبخكِ وصاحبي أفعى السّفينة، وأيقظيها بالإبداع والتجديد والابتكار، وكوني ممّن يكتبُ بحرف النّار والنّور، وحرف القمح والتنّور.
كُلْ معي أيها الفتى الزكّي وتنسّمْ عطر الخبز ونكهته، ودعني أحدّثك عن البحر، فمنذ طفولتي البعيدة، كنتُ كلّما وقفتُ أمامه شعرتُ برهبةٍ كبيرة، أظنُّ الشيء ذاته كان يحدث لك أيضاً، أليس كذلك؟ إنّه مختبر الله ولأجل هذا مازلتُ أهابه لليوم! هكذا كنتُ أقول لوالدي في جولاتنا الفجريّة القطبيّة على شاطئ بحر المدينة التي رأيتُ فيها النّور. وحينما كان يسألني لماذا أسمّيه بالمختبَر، كنتُ أقولُ؛ لأنّ الحياة، كلّ الحياة منه تخرجُ وإليه تعود. ولأجل هذا أحبُّ القدومَ إليه في الفجر حينما يكون في حالة جزر لأطّلع على تاريخِي وأسطورتي فيه. هذا ما كنتُ أفعلهُ وأنا أمسك بيدِ والدي وأمشي معه فوق الصّخور الناتئة وفي اليد الأخرى سلّتي القصبيّة التي كنتُ أجمعُ فيها المحار الأبيض والبلح الأحمر والسلطعون النّاسك الأسود وأحيانا القنفذ البنفسجيّ. كان أبي يعلّمني كلّ أسماء أهل البحر من القشريّات والصدفيات راسماً في يديّ خريطة الصّخور كي أعرف أين يسكن سرطان البحر مثلاً، أو الرّبيان الملكيّ، وكنتُ أجد في ذلك متعةً كبيرة وأنا أطّلع على الكهوف والثقوب الصّخرية الكبيرة، وأنظرُ إلى ساعة يدي كي لا يفاجئَنا البحرُ بماء المدّ، وقدْ كنّا دائماً نحاول ما أمكن أن نخرج من بطنه قبل أن يرتفعَ ماؤُهُ من جديد. وفوق الرمال المبلّلة كنّا نجلس معاً ونفرش إزارَنا الأبيض ونبدأ في أكل خيرات البحر نيّئةً، بينما والدي يشرحُ لي كيف أفتحها بالكُلّاب أو أكسرها بالمطرقة الصّغيرة، وكنتُ سعيدة بذلك أيّما سعادة وأنا أشربُ ماء القنفذ وألتهمُ بيضَه، أو وأنا أتلذّذ بمذاق بلح أو محار البحر النيّئيْنِ والمالحيْن والمفعميْن بكلّ العناصر المغذّية للجسد والمولّدة للطّاقة فيه. وما كنتُ أعلمُ أنّني كنتُ ألتهمُ الحياة الحقّة في شكلها الخام وكلّ عناصرها التخليقية إلّا حينما كبرتُ وبدأتُ أعيد النّظر في كتاب الوجود، وأستوعب كيف أنّ البحر نفسه كان ولم يزل معلّمي الكبير، وكيف لا يكون كذلك وفي حضْرَتِه عثرتُ على بيضة الكون، ومعه وبه شربتُ سرّهَا، ومددتُ كلّ خليّة في جسدي بنُسغها وأنا في رفقة السلطعون النّاسك والسرطان الأحمر والأسود والأزرق، وحيوانات أخرى لا حدّ لها ولا حصر. واليوم وأنا أنظر إلى سرطان البحر فوق مائدتنا أقول إنّني كنتُ دائماً في حضرة كائنات إلاهيّة وأسطوريّة علّمتني أنّ الانبعاث من بين الأنقاض وتجديد الفكر والجسد شيء لا بدّ منه في مسيرة الحياة، وكيف لا، وسرطان البحر هو من تلك القشريّات التي تتجدّد باستمرار مثله في هذا مثل الرّبيان وغيرهما من الكائنات البحريّة الأخرى! نعم البحرُ يعلّمكَ كيف أنّ القيامة من الموت شيء لا بدّ منه. وحتّى حينما كنتُ أنظرُ إلى الطّريقة التي يمشي بها السرطان كنتُ أقول في خاطري، ولمَ لا، فثمّة في الحياة من المواقف ما تقتضي منك أن تمشي بشكل جانبيّ لتجد الحلول لمشاكلكَ، وثمّة طرق في التفكير لا تستقيم إلا إذا نظرت إلى الأمور من زاوية جانبيّة. أمّا حينما كنتُ أمسكُ قنفذ البحر بين يديّ فكان أوّل ما يصلني منه من رسائل عرفانيّة هو خطابه الدّفاعيّ المتمثّل بكثرة أشواكه، ضف إلى ذلك رائحته التي كانت تحتفل بالحياة بكلّ معانيها، ولون بيضه البرتقاليّ كان يقول لي إنّه منّي تبدأ الحياة وبها تنتهي. سرطانُ البحر له أيضا خطابات من هذا القبيل لكنّ شكل قوقعته كان يذكّرني دائماً بشكل القوقعة البشريّة أيْ بجمجمة الإنسان التي تحتضنُ الدّماغ بكلّ عنايةٍ ومحبّة، هذا الدّماغ الّذي يشبه في تشعّباته ولزوجته كثيرا المادّة الحيّة التي توجد في داخل قوقعة السرطان، ومن وجه الشّبه هذا كانت تحضرني أسئلة عدّة من قبيل: لماذا تطوّر الإنسانُ وخرج من قوقعة جمجمته بهذه السّرعة وكوّن بمادّتها جسدَه الفيزيائي، ولم يفعل ذلك السرطان البحريّ؟ وهنا أتذكّرُ كيف أنّ المُخَيْخَ اللّزج هو شجرة الحياة التي من المفترض أن يجلس تحتها كلّ عارف حقّ دون أن يأكل من ثمارها شيْئاً. أقول هذا، لأنّ الجلوسَ تحتَ هذه الشّجرة بالصّومِ عن كلّ النّقائص يقودُ الإنسان إلى إدراك التّوازن والوصول إلى أعلى درجات السّلام المرموز إليه بالجنّة، أمّا أن تأكل من ثمارها فهذا يعني فضولَكَ الأكبر المتجسّد في سعيكَ إلى فتح عينك الثالثة الّذي غالباً ما تقوم به بشكل خاطئ لعجلتك في تحقيق المعرفة الكاملة فيحدثُ الاضطرابُ في وظائف جسدكَ وعقلكَ وكلّ شيء يتعلّق بحياتكَ، وهذه هي جريرة كلّ إنسان والسّبب في ماهو فيه اليوم من خبال وجنون وأمراض لا يستطيع تفسيرَها ولا علاجَها أحد. ألا ترى معي يا صاحبي أنّ سرطان البحر أكثر حكمة من الإنسان، يعرفُ جيّدا كيف ينتظرُ، وهو أكبر منه سنّاً وأقدم منهُ تجربةً في الوجود، ومازال تحتَ الشجرة جالساً بسلم وأمن وأمان، والإنسانُ خرجَ من تحتها ودخلَ إلى جسدهِ الأثيريّ وكوّنَ أناهُ أو ذاتهُ الواعية، لكنّهُ لم يعرف لليوم ما الّذي سيفعله بكلّ هذه المكتسبات سوى أن يُخرّب كلّ ما حولهُ، ولعلّ استعجالهُ هذا في مغادرة الشجرة هو السّبب الّذي جعل اللهَ يقول في حقّهِ، إنّك كنتَ ولم تزل لليومِ ظلوماً جهولاً، كفوراً يئوساً خصيماً مبيناً. أليسَ كذلك أيّها البحر؟ نعم، إنّك أنت البحر أيها الوجيه ابن الطّاهرة التقيّة!



(11)

حينما تُكلّمُني ألسنة اللّهب


معكَ ياصاحبي، عرفتُ أنّ الحياة أجمل هبة منحنا إيّاها الرّحمنُ، بعضُنا قد لا ينتبه إلى هذه الحقيقة، لكنّ الأمر كذلك بدون أدنى شكّ؛ الدّموع والأحزان والهمومُ نحن من نسعى إليها، لأنّنا لم نفهم للّحظة المغزى الحقيقيّ من بِعثتنا ومهمّتنا السّامية في هذا الكوكب الجميل. الإنسانُ هنا، ليعيش فرصتهُ قبل أن تنقضي المدّة المحدّدة لهُ. كلّ شيء في هذه الحياة رزق: الصّحة، سلامة العقل والجسد، والقلب المستيقظُ البصير هو المحرّك لكلّ هذه الأشياء. لأجل هذا يجبُ على الإنسان أن يكون على علاقة حميمية جدّاً مع قلبه، أنا مثلاً؛ كلّ ليلة قبل أن أستسلم لسلطان النّوم أحاوره بكلّ ما أوتيتُ من لطف ومحبّة وأقول له: "مساء الخير يا قلبي الحبيب، كيف الحال هذه اللّيلة؟ كيف كان يومك؟ هل أنت راضٍ عمّا أنت فيه وعمّا أقوم به وأنت معي؟" يجيبني باسماً بلسان التوحيد: "لا إله إلّا الله" ويرفع يديْه ثمّ يُكملُ بلسان الشّكر: "أنتِ أجمل هيكلٍ يُمكن لقلبٍ أن يحلمَ بالتّواجد فيه، فالحمد لله حمداً لا تحصره الأحرفُ ولا تحدُّه الكلماتُ لأنّه أنعَمَ عليّ بأن أسكن بين أضلعك"، أبتسمُ أنا أيضاً وأرى قلبي وقد تحوّل إلى طائر باذخ الجمال، وحينما أنظرُ إلى نفسي أجدُها وقد تحوّلتْ إلى غادة سمراء شديدة البهاء، بشعر مجعّد طويل مضيء، وأسمع حركة انفتاحٍ لأجنحة عظيمة فوق ظهري، وأستسلمُ بهذه الصّورة التي يمنحها لي قلبي إلى نوم هنيء عميق.
وحينما أستيقظ في الثلث الأخير من اللّيل، تأتي القصيدةُ طائعةً بين يديّ، ألمْ أقل لك يا صاحبي، إنّني أيضاً شاعرة، أرى القصيدة صلاةَ محبّة أفتتحُ بها يومي، وأكتبُها بكلّ الطّرق الممكنة: كأن أدخل بها إلى المطبخ، وأوقدَ بها تنّور الجَمال، لأسمعها وهي تقول كما فَعَلَتِ اليومَ وأنت في حضرتي: "ما دُمتِ قد رأيتِ نفسَك بأجنحةٍ عظيمة في ليلتِكِ الماضية، فليكُن شِعرُك ممّا تأكلُه الطّيور". قلتُ "كيف؟"، قالت "دعي النّارَ تُكَلّمْكِ، وهي ستدلُّكِ على أكل المُجَنَّحين من أهل الله". أوقدتُ الفرنَ، ثم اقتربتُ من شعلة اللّهب الأزرق وإذا بها تقول: "عليكِ بحبوب الدّخن وبذور الكتّان". ابتسمتُ بسعادة كبيرة، وعرفتُ أنّ النّار التي تكلّمني بألسنة لهبها هي بداخلي، وتعرفُ أفكاري، وتقرأُ احتياجات جسدي وقلبي؛ ثمّ فتحتُ خزانة المطبخ وأخذتُ حبوب الدّخن وبذور الكتّان، وضعتُ كلّاً منهما في مقلاة الطّين، وجلستُ أسمعُ كلامَ الفخّار وأنا أحرِّكُ ما بداخله بملعقة الخشب الكبيرة وحينما نضجتِ الحبوب، طحنتُها وجعلتُ من دقيق الدّخن وبذور الكتّان إفطارنا الّذي بزنجبيله المنكّه بالليمون والعسل سأجهّز نفسي لمائدة الغداء، فأنت ضيفي المبجّل أيّها الفتى الزكيّ وعليّ أن أتشارك معك كلّ أسرار مائدتي، وهذا هو يوم الضيافة الثاني وفيه أقدّم لك مشروب القرفة والقرنفل وقد وضعت فيه بدل السّكّر قسطاً قليلاً من عسل جبال الهمالايا وإلى جانبه صحن من حلويات صنعتُها لك بدون سكّر ولا بيض ولا زبدة ولا خمائر كيماوية، وإنّما فقط القمح الأسمر بنخّالته ومعه زيت الزّيتون وحبّ الهال والقرنفل وعسل زهرة الأكاسيا ثم حشوته بعجين التّمر واللوز والجوز وجوزة الطّيب، وطبختُه على نار هادئة، فجاءت كما ترى قطع الحلوى بلون العشق البهيّ، دافئة خمريّة عَطرة تنادي بالمحبّة وتدعو إلى الجنان العدنيّة. وبعد المشروب السّاخن دعني أقدّم لك الجزء الثاني من أطباق البحر: سأبدأ بسمك القدّ، وقد طبختُه لك بالبخار في كسكاس من الخيزران ولا شيء معه غير بضع قطرات من زيت الزيتون وبصلة لتمتصّ روائح الخشب والسّمك، بعد هذا سأطهو لك بيديّ هاتين أطباقاً متنوعّة من سمك السردين الّذي أدهشني الصقلّيون هنا بطريقة تقديمه سواء مع المعكرونة والبسباس الجبليّ والزبيب والصّنوبر، وسواء في الفرن بعد غسله وقطع رأسه ونزع عموده الفقري إلى أن يصبح على شكل فراشة خالية من الأشواك تماماً، يتمُّ حشوها بالخبز المطحون والزّبيب والبقدونس المفروم والثوم المبشور وحبوب الصنوبر، ثم لفّها على شكل إصبع وتثبيتها بعود صغير ورقيق يُغْرَزُ في وسطها، وكلا الطّبقيْن لهما مذاق عجيب ذكّرَني بأطباق الطّفولة التي تعلّمتُ تحضيرها من والدتي الحبيبة، لذا فإنّي سأضعُ فوق مائدتنا كلا النّسختيْن لتعرف كيف أنّ الشّعوب تتلاقح أوّلا على الموائد. تخيّل معي أيّها الفتى البهيّ كيف أن العرب الّذين قدموا وحكموا صقلية لمئة عام أو ربّما أكثر حملوا معهم أطباقهم الحلوة المالحة التي بقيت في المطبخ الإيطاليّ عموماً والصقليّ على وجه التّحديد حتّى بعد رحيلهم. أقول إنّ صفة الحلو والمالح والحامض أيضاً، هي سمة تميّز المطبخ المغربيّ بشكل واضح، ولأن المغاربة كانوا هنا في الأزمان الخالية فإنّهم نقلوا هذه الميزة التي التقطَها أهل صقلّية وأبدعوا في طريقة تطبيقها فأدرجوها حتّى في الكيفية التي يخلّلون بها البادنجان مثلاً ويسمّونه بـ (لاكابوناتا)، وأني لأتذكّر كيف أن ابن زهر قد تحدّث عن ميزة الحلو والمالح في ترياقه الخمسينيّ الكبير وبعض كتب الطبّ التي كان يؤلّفها في الفترة التي تواجدَ فيها ببلاط الملك المنصور الذهبيّ، وهذا لا شكّ يجرّنا للحديث عن طبق المروزيّة العجيب، وهو طبق تُهَيْمِنُ فيه حلاوة العسل ونكهة القرفة، وقد اشتهرت به مدن المغرب الكبيرة كفاس ومراكش والرباط، وظهرت في زمن لم تتوفر فيه المبردات والثلاجات لحفظ اللّحم من التلف، وكان المغربيّ يستخدم قديماً طُرُقاً في غاية البراعة والذّكاء من أجل حفظ الغذاء من التعفّن فاستخدم الماءَ المالح للتّرقيد، وأشعّة الشّمس للتّجفيف، والخلّ والكحول للنّقع، ولم يفته أن يستخدم تقنية التدخين في أفران الطّين أو فوق مواقد المدفئات، ولجأ أيضاً لتقنية التّعويم في الدّهون كما في حالة الخليع المغربيّ، ثم تقنية التعسيل سواء في العسل الحرّ أو السكّر. وهي كلّها طرق انتقلت إلى مناطق عدّة من العالم وتبادلتها الشعوب فيما بينها بما فيها الشّعوب الإيطاليّة.
أمّا بالنسبة لطبقي الذي أضعه اليوم فوق مائدتنا فهو بالإضافة إلى سمك القدّ المطهو فوق بخار الماء، فإنني أحضرتُ أيضاً فراشات السردين المحشوة بالبقدونس وقطع الليمون الحامض، والزّعتر والكركم، والكمّون المنقوع هو والفلفل الأحمر في زيت الزّيتون، وقد طهوته فوق مقلاة حجرية جافّة لا زبدة فيها، فكما ترى فإنني أتفادى الدهون في مائدتي والثّوم والبصل المبالغ فيهمَا، وأحرص على الحفاظ ما أمكن على النّكهة الطبيعيّة للمكونات الغذائيّة، حماية للعقل والقلب وصيانة لمرآة العين الثالثة من التّضبيب والتعتيم.
وفي الختام، أقدّم لك عصيراً من العنب الأخضر، وأشعل فوق الطاولة الشموع، وأضع في المُسَجِّلَة الصّوتية شريطاً لشيخ رقصة أحيدوس موحا أولحسين أشيبان، لنغرق أنت وأنا في فيوضات الزّخّ الإلهيّ وصفاء السّماع الّذي ليس له مثيل.



(12)
بكِ أبني صرحيَ الجديد

تعاليْ أيّتُها الأرﭼـانة، لنكتب معاً برمادِ الماء تاريخَنا، ونعيد ترتيب هويتنا، ونتذكّر كلّ شيء عن موائدنا، تعالي لأكتبَ بكِ في حضرة البهاء، حرفاً لا يتحرّكُ إلّا بالنّقطة، وخبزاً ملحه النّقطة، ونبيذاً عنبه ألِفٌ خُطَّ بنقطة. تعاليْ لأنصبَ بكِ مائدة الله، وأضعَ فوقها أطباق الذّاكرة المنسية في أعماق أدغال البداءة الأولى. تعاليْ فما رأيتُ لليوم مائدة أشدّ طهارة ونقاء من مائدتكِ، إنّها مفعمة بالإشارات والرّموز والأسرار، إنّها كتاب مفتوح لأهل المحبّة العظمى والمعرفة العليا، كتابٌ خُطَّ بالنّور والنّار، بالماء والطّين، ورُسِمَ باللّون والرّقم والرائحة الخلّابة والطّعم الزكيّ، لكن لا بدّ لكِ أن تُقَبِّلِي المجذوم في شفتيْه اللّتيْن أكلهُما الوباء، وأنا هذا المجذوم، وليس لكِ سوى أن تُقبّليني بكلّ ما تملكين من محبّة وعشق. أعلمُ أنّكِ ستفعلين هذا، وأعلم أنّكِ بعد قُبْلَتِي هذه سوف تصبحين أنتِ نفسَكِ قُبلة، ما من أحدٍ يأتي ويُسَلّمُ عليكِ يتحوّلُ إلى مسيحٍ. ولأجل هذا أريدُ الآن أنْ أصحّحَ بكِ بعضاً من مسارات أهل الصّوفية والعرفان وأقول لهُم من خلالِكِ: العين الثالثة ليست عينَ إبليس، وإنّما لها علاقة بالغدة الصنوبرية ولا تُفتح إلّا إذا بلغ الإنسان شأناً عظيماً في تطوّره الرّوحي، ولا شأن هنا لشياطين الإنس ولا الجنّ بها، وإنّما هي هبة منحها الخالقُ لكلّ شخص ليتواصلَ بها معه من خلال الرّؤى والأحلام الصّافية، وما قد تسمّونه أنتم بالشيطان أو بالمرض خلال سلوك طريق الله، إنّما هو أخطاء تُرتَكبُ أثناء رحلة الرّقيّ والسّمو، وأمّا عن ما أشرتِ إليه فيما يتعلّقُ بحيْض العارف وما له من صلة بما يُسمّى بجنون الصّوفيّ وغروره بما قد يحدثُ على يديه من كرامات فهذا أمر لا يقع إلّا إذا كان هناك نكوص أو نزول إلى أرض البدن. ولتعلمي أن كلّ إنسان مهما كان صغيراً أو بسيطاً فإنّ الله عزّ وجلّ خصّه بالكرامات والهبات والعطايا والبروقات والكشوف، وإن كان ضعيفاً كالبزّاقة، أو ظهر لك بدون بيت أو أجنحة ولا حول له ولا قوّة، إنّما بيتُه وأجنحته الذهبيّة وسيفه المعقوف وخفّاه القرمزيّان، كلّ هذا يوجد بداخله نائماً وينتظر اللّحظة العظيمة، لحظة الدخول إلى الفردوس، لذا فلا بدّ لكلّ إنسان من أن يقفز هذه القفزة الجمبازية الكبيرة، لا سيما وأنّنا اليوم تجاوزنا زمن النبوّة والولاية والصّوفية، إنّنا في ما بعد كلّ نبوّة وولاية وعرفان: زمن لا بدّ أن يتجدّد فيه كلّ شيء وتقف إبرة العدالة، ويُنصف الإنسانُ المظلوم. ولتعلمي أنّ حبّ الله يجعل كلّ شيء ينقلب إلى العكس، فقد يأخذُ الجوعُ مكان الخبز، ويأخذُ العطشُ مكانَ الماء والخمرة. وأمّا وأنّك تسألين عن معنى الفرح المطلق والسّعادة الكاملة فاعلمي أنّ الإنسان لن يصل إليهما وإن أصبح يتكلّم بكلّ اللغات البشريّة والملائكيةّ أو يلقي كلّ يومٍ خطاب الله بين المجالس، لا بدّ أن يصبح مجذوماً، كومة لحم وعظام والله يجلس في داخلها بكلّ عظمته، لا بدّ له أن يعرف كيف يتحمّل الجوع والعطش والبرد والحجارة والنبال التي يقذفها الناس فوقه ليستوعبَ معنى الفرح المطلق، ألمْ تعايني أنتِ هذا بنفسكِ، ألم تجديني في سوق البالّارو جائعاً، شريداً طريداً قابعاً في ركن معزول بالقرب من دكّانَتَيِ الفواكه والسّمك، ومع ذلك فإنّني أحمل تاج الله فورق رأسي وعرشه الفسيح في قلبي!
انتهى كلّ شيء الآن، ولا بدّ من طيّ إزار المائدة والسّعي إلى التغيير: لا بدّ من تجديد علاقة الإنسان بخالقه، وداعاً للخوف، وداعاً لصورة الله الغاضب والمنتقم، والذي يعاقب ويهدّد، وداعا للخوف والارتعاش وأنت واقف بين يدي بارئِكَ أيّها الإنسان، ألستَ من صنعته، فلماذا لا تسلّمُ له مقاليد شؤونك بكلّ رضا وثقة؟ تذكّر أن صوت الخالق معك في كلّ مكان، وهو يسعى دائما للتواصل معك هو وملائكته الطّاهرين البررة، لكنّك أنت مازلت تصدُّهما وتوقف سعيهما نحوك، لا تنس إنّك ما لم تفتح قناة للحوار معهما فلا تغيير سيحدث في حياتك، هناك شيء اسمه قانون حريّة الإرادة والاختيار، ومن هذا المنطلق يدعُكَ خالقك لشأنك ولا يتدخّل إلّا إذا طلبت منه أنت ذلك. لكن كيف تفعل هذا وأنت مُغَيّب عن كلّ شيء، حتّى تغذيتكَ فيها ما يحجبك عن سماع كلمة المحبّة والإرشاد الإلهيَيْن، الملحُ تضعه في كلّ شيء، السُّكّر كذلك، ولا تكفّ عن تناول المُسْكِرات وتسميم جسدك بالكحول والنيكوتين والكافيين. عقلك أصبح مسدوداً، وأنت خائف إلى الأبد. إذا حدّثكَ الله، وهو يفعل هذا باستمرار فلا تعتقد أنّ الأمرَ فيه هلوسة، ولا تهرب ولا تخف، ولا تستصغر نفسك وتعتبرها لا تستحقُّ أن يخاطبها الخبير بكلّ شيءٍ لأنك لست بوليّ ولا نبيّ ولا صوفيّ. وإنّما أنت قبل كلّ هذا إنسان، والإنسانُ من صنعة الله وهو لهذا يستحقّ أن يسترجع كلّ شيء سلبته منه الدياناتُ البائدة والإيديولوجيات المُدَمِّرة. أنت لست بساحر ولا بمجنون، إنّك قلب من نور يتوهّج بكلمة الرّحمن، يكفي فقط أن تعرف نفسك لتعرف بعد ذلك مكانك الحقّ بين الكواكب والنّجوم.


(13)
المائدة الثالثة

سبعُ سنواتٍ مضت على لقائنا حول المائدة الثّانية، وهاقد عُدْتُ إليكِ أيّتها العارفة البهيّة بدون جراح وبوجه مشافى معافى، لأجدكِ وقد تغيّرتْ بداخلكِ الكثيرُ من الأشياء بعد ما أطلعتُكِ عليه من وصايا في لوح العرفاء الجدُد. نعمْ، تغيّرتِ كثيراً، ودعيني اليومَ أقترح عليكِ لائحة أطباق مائدتنا الثالثة، وأضع لكِ فوقها قفّتي الحمراء وفيها انتقيتُ لكِ من الفردوس الأخضر الأفوكادو والرّمان والإجّاص وسمك السّيف والسّلمون فانظري ما أنت فاعلة به لغداء اليوم ومشروبات ما بعد صلاة العصر. لكن قبل أن تطبخي كلّ شيء ضعي فوق المائدة إبريق زهر النّارنج والزعفران الّذي أحضرتُه بيديّ وتعالي اجلسي إلى جانبي واسمعي وأنت تشربين كأسك الذهبيّة السّاخنة نصائحي الجديدة لكِ، لا سيما وأنّني أعلم أنّك من أهل الكتابة والإبداع الأدبيّ بكلّ اللّغات ولابدّ لكِ من الإفادة ممّا جدَّ في مجال الشّبكة العنكبوتية والهندسة الإعلاميّة. اعلمي إذن أنّ الكاتبَ، بل كلّ كاتبٍ على قدر عالٍ من الشّفافيّة والتنوّر هو ملزمٌ بفتح خزائنِ جسدهِ مادام في حضرة الحرف. لن يصلَ إلى أيّ مكان ما لم يفعل ذلك. وهذا الجسدُ لا يعترفُ به معظمُ الأطبّاء مع كامل الأسف والحسرة، وآلامهُ الحقّة لا يعرفون عنها شيئاً، ولا عن عوالمه العلويّة والسّفلية. جسدُكَ أيّها الكاتبُ يحتاج إلى رجال كشّافةٍ بقلب طفل وعقل إله. وأنتَ بدون روح مُغَامِرة لن تغادرَ غرفتكَ ولا سريركَ، ولا طاولة حرفك. أن تكونَ مُغَامراً، يعني أن تبحث في عزلتكَ عن أصلك وكينونتك الأولى. من أنتَ؟ ومن معك؟ عليك أن تحدّد هويتك، وهوية من يكون برفقتكَ ساعة احتضان الحرف لكَ. أنت لست وحيداً في وحدتك؛ معك الكون بأسره. لكنك لا تشعر به، ماضيك وذكرياتُك البالية يحولان دون ذلك. تخلّص من كلّ شيء، كن حرّاً، سافر إلى الأعلى، وغص إلى الأسفل. ولا تنس أنه لا بدّ لك في سفرك هذا من الثنائية القطبية الوجوديّة. إذ لا يمكنك أن تحلّق إلى أعلى ما لم تنزل إلى أسفل، هكذا فقط سيكونُ الانطلاقُ إلى عوالم الملكوت أسرع وأقوى. وهذا لن يتسنّى لك ما لم تعترف بقرينيْكَ. الطبّ يعتبر هذا الأمرَ ضرباً من الجنون، لكنّ الفيزياء لا، ولا الكيمياء، لذا فأنا أحبّ أهلَ الفيزياء كثيراً، وكذا أبطال الكيمياء، لأنّني أستطيع أن أتحدّث معهم عن الأمور التي لا يراها الأطبّاء بالعين المجرّدة ولا بالمنظار المختبريّ. رجال الدّين تحدّثوا في مثل هذه الأمور، لكنّهم خرّبوا كلّ شيء بجهلهم وسطحيتهم وفذلكاتهم المثيرة للضّحك.
الكاتبُ يا أرﭼـانة الخير والمحبّة الصّافية، حينما يكون في غرفته، معهُ قرينُه من الجنّ، وأكثر من قرين من الملائكة الحفظة والمتعاقبين وغيرهما من رعاة ومرشدي الإبداع الفنّيّ والأدبيّ، ومعه الكون بأسره من مُلهمي الحرف بالمحبّة والأمن والأمان، والسّلم والسلام، يساعدونه ويربتون على كتفيْه ويفتحون عين القلب قبل عين الجبهة. رجل الدّين يعرفُ القرينَ الجنيّ، أو هكذا يُهيّأُ لهُ. لكنّه يراه كعدوّ عليكَ أن تحاربَهُ، أمّا أنا فأقول لكَ؛ عليك أن تتصالح معه أيّها الكاتبُ، ليكون حرفكَ باللّه ومن الله وإلى الله. هل يجتمعان اللهُ والقرين؟ أسمع الكُتَّاب يسألونني؟ وأقول لهُم، الأوْلى بكلّ كاتبٍ أن يسأل لماذا خلق لهُ اللهُ قُرنَاء من الملائكة والجنّ؟ ما هو دورهم في حياته، ولماذا هم معهُ لا يفارقونهُ؟ وجوابي سيكون بمنطق أهل الفيزياء، لا بمنطق رجال الدّين. لأنّ الفيزياء لغة الله، والدّين لغة الإنسان، والله أعرَفُ وأعلمُ، والإنسان جاهل غرير. رجل الدّين سيقول لكَ أيّها الكاتبُ لا بدّ من الزّار والكدية والقربان والذبائح والبخور، وأنا أقول لك لا بدّ من الله، لا بدّ من الحرف، لا بدّ من الكتابة بالماء فوق الماء. لأنّ الماء هو نفسه الحياة، وهو نفسه عرش الله ذي الأنوار والبركات والخيرات العميمة.
بلغة أهل الفيزياء أقول لك أيّها الكاتب إنّك دائرة كهربائيّة، وقلبك هو مُوَلِّدُ الكهرباء والنّور فيها، عقلكَ هو المصباح، والقطب السّالبُ ذو اللّون الأحمر هو قرينك من الجنّ، والقطب الموجب هو قرينُك من الملائكة ولونه أزرق كما عادة يلّون أهل الفيزياء في الدّائرة الكهربائية السّلكيْن المتوازييْن اللّذيْنِ يمرّ في أحدهما التّيّار في عكس اتجاه التيار الموجود في السلك الآخر (+,−)، وهما متساويان في الشدّة. إذا فهمتَ هذا أيّها الإنسان أصبحَ بإمكانك أن تقرّر متى تضغط على مكبس دائرتكَ وتُشعل النّورَ في عقلك وتدعه يمرّ في سائر جسدك، لتصبح أنت نفسك مصباحاً يضيء عتمة الوجود. لكن ماذا لو بدأت تفكّر كرجل دين وبتَّ تحاربُ قرينكَ وأنت لا تعرف من هو حقيقة أهو شيطان أم ملاك؟ الّذي سيحدث هو أنّ حياتك ستصبح حفلة زار، وكدية للشعوذة والشِّرك الخفيّ، طبعا هذا ما سيحدثُ، لأنّك ستبدأ في إلحاق الضّرر بنفسكَ عن جهل وستتسبّب في ظهور أمراض لا أول لها ولا آخر، أخطرها انفصام الشّخصية والصّرع والثنائيّة القطبية النفسيّة. دعني أقلْ لكَ سرّاً: معظم الكتّاب القدامى منهم والمحدثين يعانون من هذه الأمراض بشكل خطير. أقرأ كتبَهم وكم فيها من الأهوال والكوارث وسترى ما يشيب له الولدان، وإلّا من أين أتت فتاوى التكفير والقتل باسم الله، ومن أين ظهر عبدة الأوثان في كلّ حقبة وجيل: وثنُ السّلطة ووثن المال على سبيل المثال لا الحصر. أن تحاربَ قرينكَ وأنت جاهل بهويته وكينونته، يعني أن تقطع سلك الدّائرة الكهربائية موجباً كان أو سالباً، وهذا سيحول طبعا دون اشتعال النّور بداخلك. يا هذا إلى متى ستبقى جاهلاً بنفسك؟ كم مرّة سأقولها لك: كن كلاعب التوازن، اضبط نفسكَ وأنت تمشي فوق حبل الحياة، وإذا كنت ممّن يعاني من كثرة نشاط قرينه من الجنّ، فالحلّ بسيط جدّا: اكتب بالماء فوق الماء، اشرب الماء وارْكُض بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَل بارِد وَشرابٌ، أيْ عُد إلى قوّتك العقلية، واضبط أسلاك دائرتكَ الكهربائيّة بحيث يعود كلّ منها إلى العمل بشكل متوازن ومتساوٍ في الشدّة والفعّالية، وسترى كيف أنّ كتابتَك ستُغيّر عالمَك الدّاخلي، وعالم النّاس من حولك، ودعك ممّ تخزّنه في مكتبتك البالية من كتب: ارم كلّ شيء، واسع إلى المكتبة الرقميّة الحديثة، خفيفة في الوزن، جديدة في المحتوى، وكن من الذّاكرين الشّاكرين الحامدين، الصّائمين المتطهّرين حينما تسمع نداء الحرف في قلبك.
أين يقيم قرينُك من الجنّ؟ أسمعك تسألني؛ إنّه في صدركَ، وهو عنده القدرة على التحرّك بداخل جسدكَ، ومكان نشاطه الأساس هو دماغُك، وبالضّبط في الجزء الأماميّ منه، ويعمل بشكل أكبر على منطقة الأحلام، فهو من يصوغها لأنه يعرف عنك كلّ شيء منذ ولادتك إلى مماتك، ألا يسمّى بالقرين؟! فهو رفيقُكَ ومُلازمُك. غص إذن في نفسك وتعرّف على جسدِكَ، ولا تخف من أيّ شيء، لأنّك محبوب ومطلوب، والله من حولك ومن فوقكَ وتحتكَ، قل يا الله، وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت، وعانق حرفكَ، واكتب بماء النّور، فإنّك ممّن حلّت عليه اليوم بركة الشّفاء من كلّ علّة وداء.
أيّها الكاتبُ، اعلم أنّك حينما تجلس إلى طاولة مكتبكَ فإنّك لست وحدكَ من يفعلُ ذلك في الكون بأسره، ثمّة من الخلق غيرك كثيرون وهبَهُم الخالقُ نعمةَ الحرف والتفكير والعقل. واعلم أيضاً أنّك لست وحدك من يُجيد صياغة الكلام والتعبير، لكنّ العبرة كلّ العبرة تكمن في ما تقدّمه لأخيكَ الإنسان، أحرف تُزهر به حياتَه، أم حرف تزجه به في غياهب الخوف والقلق والرّعب؟! حرفُكَ أيّها الكاتب ابنُك، إذا وُلد بالحبّ أعطى حبّاً وأمناً وأماناً، وإذا وُلِد بالقلق والخوف أو الكره والحقد أعطى شوكاً ونيراناً تحرقُ كلّ شيء. لذا، عليك أن تحدّد موقعكَ من المحبّة قبل أن ترفع القلم، فالكتابة مسؤولية ذات شأن خطير، بها ترتفعُ الأمم وبها تسقطُ في الدّرك الأسفل من الانحطاط والاندحار. واعلم أيّها الكاتبُ أنّك مسؤول عن كلّ حرف تخطّه، وأنّ الحرف يفضحُكَ، فإذا كنت من أهل المحبّة ظهر عليك ذلكَ، وإذا كنت من أهل القلاقل ظهرَ عليك ذلك أيضاً، وإذا كنتَ من مرضى النّفوس والقلوب أفصح كلامُكَ عنكَ. واعلم أيضاً أنّ الكاتب إذا لم يروّض حرفَه، أصابته أمراض كثيرة، أهونها جنون العظمة. فلا يغرّنكَ أن يكون لديك مثلاً القرّاءُ في كلّ مكانٍ، فهذا ليس بمعيار أبداً، ولا يغرّنك كثرة المعجبين فالنّاس من حولك مازالتْ لمْ تصلهم رسالة الحرف الحقّ بعد، وما كلّ ما تكتبه وغيرك بالرسالة التي ستُغيّرُ الكون. فقبلكَ كتبَ رجال الدّين وتبعهم الفلاسفة والشعراء ولم يتغيّر إلى اليوم من حال الإنسانيّة إلّا القشور. واعلم أنّك خُلقتَ على صورة الله، ثمّ مضت السّنون وتوالت القرون، وظهر في كتاباتك ما يقول إنّك وحش مفترس، وأبعد أن يكون تماماً عن صورة الله. أيّها الكاتبُ، انتبه جيّداً إلى ما أقولُه لكَ، واستيقظ من غفلتكَ: فأنت كما أنت اليوم لا تمتُّ إلى صورة الله بصلة، لأنّك مازلتَ تخطّ بالدّم ورقكَ، وتمجّدُ فيه الطّغاة، وتُكفّر به النّاس، وتشحذ قلمك ليدافع عن من يحمل نفس أفكارك وأفكار أجدادك مّمن كانوا يعومون في بحار الضلال والظّلام.
واعلم أيضاً أنّه لابدّ لك اليوم وأنت منهمك بإعادة بناء صرحكَ الحروفيّ من أن تعرف كيف تتعامل مع مواقع التواصل الاجتماعيّة الجديدة بما فيها موقع ذاك الصّبي اللّطيف المدعو مارك زوكربيرغ، فعليك أوّلا وقبل كلّ شيء أن تَحْذَرَ فيهِ مِنَ اللّصوص، فهُم كُثرٌ جدّاً، أكثر ممّا تتصوّر وتتخيّل، وأعني بهم على وجه التّحديد، لصوص الطّاقة الرّوحية والفكريّة بمنْ فيهم من يدّعي الصّوفية والعرفان. وإذا كنتَ تودُّ أن تعرف كيف تستدلّ عليهم، فإليْكَ بعض العلامات والإشارات:
- كلّما فتحتَ صفحتكَ على الفيسبوك ونشرتَ شيئاً، خبراً ثقافياً كان أو نصّا إبداعياً لكَ، تهاطلتْ عليكَ في بريدك الخاصّ الرّسائلُ، فيها من يُعلّق على ما تنشره بدل أن يكون كأيّ متصفِّح عليه أن يُعلّقَ في المكان المخصّص أسفل المنشور، وفيها من يُرسلُ لكَ نصّهُ ويرغبُ منك أن تبدي رأيكَ فيه على وجه السرعة وفي اليوم نفسه، وفيها من يريد أن يتفذلك عليك ويصحّحَ لكَ ما يراه أخطاء لغوية فادحة في منشوركَ، وهؤلاء في هذه الحالة هُم سرّاق وقت وبالتالي طاقة، فاحذرهم؛
- كلّما نشرتَ خبراً جديداً عن إصدارك الأدبيّ: قفز اللّص إلى علبة المراسلة وبدأ في سؤالك عن كيف توصّلتَ إلى دار النّشر وما هي شروطها إلى غير ذلك من الأسئلة التي يعرفُها الجميع، هذا طبعاً إذا كان من اللّصوص الّذين مازالوا يحتفظون ببعض أصول الحشمة والحياء، لأنّ الّذي يحدث في معظم الأحيان هو أنّ اللصَّ المعني بالأمر لا يكتبُ إليكَ ولا يسألك عن أيّ شيء وقد لا يهنّئك على إصدارك، وإنّما يبقى مرابطاً في صفحتكَ يبحث في لائحة المعلّقين عن صاحب دار النّشر، أو في لائحة أصدقائك ثمّ يكتبُ له مباشرة، ولك أن تتخيّل الباقي. هذا النّوع من اللّصوص اسمه لصّ المعلومات والأصدقاء والمصالح، لأنّكَ تجده يبقى صامتاً مراقباً لكيفيّة عملكَ إلى أن يصل إلى الخيوط التي تقوده إلى ما يصبو إليه، فاحذره أيضاً؛
- كلّما نشرتَ شيئاً فيه إبهار إبداعيّ، ينمُّ عن قدراتكَ ومَلَكَتِك الخاصّة في الكتابة، ظهر اللصُّ وسرق النصّ إمّا كاملاً، أو بعضاً منه وفي كثير من الأحيان تكون السّرقة مموّهة، تحمل فكرةَ نصّكَ ولكن بكلمات وعبارات مختلفة، هذا النّوع من اللّصوص منتشر أيضاً فاحذره هو الآخر؛
- كلّما نشرت صوراً لأنشطتكَ الإبداعيّة أو صوراً شخصيّة تعبّر فيها عن فرحتكَ بحدث ما في حياتك، أو فقط عن بعض من الرّاحة النفسيّة أو المزاج الصّافي والعالي الذي تمرّ به في تلك اللّحظة أو في ذاك اليوم، ظهرت عيون اللّصوص من كلّ صوب وحدب، تنظرُ إلى وجهكَ وتتواصل بالفكر والرّوح معكَ عبر ما يجول في تلك اللحظة بداخلها من أفكار سامّة جدّاً قد تؤذيكَ وإن بعُدَتِ المسافات، وقد تكون أنت ممّن لا يقدّر عواقب ذلك، ولا يفهم أنّ الإنسان كائن انفعالي فِكرويّ يتأذّي بالفكر والشّعور والإحساس بشكل أكبر جدّاً من الأذى الجسديّ المباشر. هذا النّوع من اللّصوص يدخل في إطار أخطر الأنواع على الإطلاق، ويمكنك أن تسمّيه باللصّ الأسود، وذلك لسواد قلبه وسوء نيّته وكثرة الفيض الحقديّ والحسديّ المتدفّق منه، احذره؛
- طبعا اللّصوص في مثل هذه الفضاءات التواصلية لا يعدّون ولا يُحصون ولكنّي هنا أذكر لك النوع المتعلّق بمجال اختصاصك باعتبارك ممن يهتمُّ بالحرف والكتابة والتأليف، وبناء على هذا أقول لك إنّه هناك أيضا اللّصُّ المتسوّل، وأعني به ذاك الّذي يراسلك على الخاصّ ولا يكفّ عن الشكوى والتذمّر من حياته ومن أمراضه التي تنغّص عليه أيامه ومن أشياء أخرى من هذا القبيل، ثمّ قبل أن ينهي الحديث تجده يرسل لك ديواناً شعريّاً أو رواية أو أيّ شيء من الجنون الذي يشغل به حياته البائسة ويقول لك: ليتكَ تُتَرجمه لي، أو ليتك تكتب عنه مقالة نقدية، إلى غير ذلك من الطّلبات العجيبة الغريبة: هذا النّوع من أتفه أنواع اللصوص، لأنه يلعب على وتر التعاطف معه فاحذره هو أيضا؛
- لصّ لطيف آخر يمكنك أن تصادفه أيضاً في هذه الأوساط التواصلية وهو قد يختلف باختلاف جنس من تتعامل معه من لائحة المتواجدين على صفحتك: وأعني به زوج المبدعة أو زوجة أو عشيقة المبدع الذي يكون قد جمعه معكَ عمل ثقافيّ ما: لا بدّ أن يمرّ زمن وتجد أحدهما يطرق بابك ويطلب صداقتكَ ليدخل إلى صفحتك، سواء باسمه الصّريح أو بهوية مزيّفة تماماً. هذا النّوع لا خطر عليك منه، اللّهم إذا كنت من أصحاب القلوب البصيرة والرّوح الشفافة فإنه لا بدّ أن يأتي يوم وتصلك من قلبه أو قلبها نيران الحسرات والغيرة المضطرمة فيه، وما عليك سوى أن ترفع يديك وتدعو له بالشّفاء، وإذا تعرّفت عليه أو عليها أو حدّدتَ هويته أو هويتها في صفحتك فاحذفها أو احذفه منها رأفة به أو بها؛
- لصّ آخر لا بدّ من التطرّق له وأعني به: زميلك أو زميلتك في مجال الأدب والإبداع، والتي أو الّذي يمثّلُ عليك دور العاشق أو العاشقة الولهانة، فتمطركَ أو يمطرك بقصائد الحبّ والعشق وما إليها دون التصريح بأيّ شيء قد يورّطها أو يورّطه: هذا النوع يسمّى بلصوص المشاعر، ودوره تشتيت الذّهن وسرقة الطّاقة الدّاخلية التي من المفترض أن توجّهها وتركّزها على حياتك الإبداعية الخاصّة بك، فاحذره جيّداً؛
- ثمّ هناك اللصّ الّذي يسمع عنك وعن إبداعكَ في مكان آخر أو من شخص آخر، فيبادر إلى البحث عن صفحتك على الفيسبوك، وما إن يجدها ويتأكّد أنها هي يُسارع إلى طلب صداقتكَ والفضول يأكله من رأسه إلى أخمص قدميه، لأنه يحبّ أن يرى من أنتَ؟ وكيف تكتبُ؟ وكيفها صورك؟ وما هي أخباركَ؟ وماذا تنشرُ من نصوص قد تصبح موادّ يستلهم منها كتاباته المحتضرة، هذا نوع آخر من اللصوص لا يقلّ تفاهة عن سابقيه، فاحذره أيضاً.
لكن كيف تتخلّص من هؤلاء جميعهم: الحلّ بسيط: أغلق الباب دونهم، واحذفهم جميعاً ولا تترك أحدا منهم، وسترى أنّ طاقتك قد بدأت في التجدّد بشكل آليّ ومستقلّ تماماً، وستلاحظ أيضا كيف أنّ قلبك سيستعيد عافيته، لأنكَ ستكون قد اغتسلت من كلّ الطّاقة السلبية التي كانت تتدفّق عليك من نيّات الآخرين وقلوبهم المريضة دون وعي ويقظة منك. لا تحزن إذا بقيت صفحتك خالية من "الأصدقاء" فقليل منهم ممّن يجمعك بهم عمل مباشر يكفي، وابتعد قدر ما استطعت عن الفاشلين والأدعياء، وثق أنّك إذا بدأت بتطبيق هذه الخطوات البسيطة جدّاً، فإنّ إدمانك على وسائل التواصل الاجتماعي سيخفّ، حاول أيضا أن تلغي تطبيق المتابعة لصفحات مَن بقي من "الأصدقاء" عندك، حتّى لا تنشغل سوى بمشاريعك الخاصّة، وتحدّد أهدافك الحقّة في الرقيّ بنفسك والسّمو عن سفاسف الأمور ورعاع الناس والمجتمعات.
هناك أيضا حلّ آخر ويتعلّق بمدى قوّة إرادتك وقد يتطلّب منك أن تكون من أولي العزم، وأعني بهذا الحلّ: اترك الجميع في صفحتكَ وتجاهلهم تماماً، وسترى أنّهم بمرور الوقت سيأكل بعضهم بعضاً، ونيرانهم ستحرقهم الواحد تلو الآخر، وغب عنهم ولا تهتمّ لأحد منهم لا على العامّ ولا على الخاصّ، ولا حتّى بأيديولوجياتهم الأدبيّة ولا السياسيّة، ولا الدّينية والمذهبيّة، ولا باحتفالاتهم ومهرجاناتهم التي يجتمع فيها من هبّ ودبّ من أهل التّصابي وخفّة العقل وجنون العظمة. لكن تذكّر جيّداً أنه على الرّغم من تجاهلك وقوة عزيمتك فإنك لن تسلم من أذاهم خاصّة حينما تكون صفحتك عامّة ومفتوحة كالإسطبل للجميع.


(14)
كمّثرى القدّيس يوحنّا

ماعساني أقوله في حضرتكَ يا صاحبي سوى أنّك زوّدتَنِي بمحيط من المدد الذي ألجمَ لساني وأشعلَ نور قلبي، وهاهي البئر البيضاء قد أصبحتْ واقفةً أمامي، والبحر الأحمر ورائي، وليس لي سوى أن أخرقَ بشمسي مرآةَ البئر كي أرى بعين فؤادي كيف يلجُ ماء البحر في ماء البئر وكيف يـُغازل الحبّار يديّ وتُقبِّلُ الحيتان البيضُ قدميّ، بل كيف يخرّ قلبي مغمى عليه من شدّة عطر البحر الأحمر وقوة أبخرة ياقوته ومرجانه، وهو يصيح: هيّا ادخلا معاً إلى المطبخ وأشعلا تنّور الطّين وكُلا مّما أتاكما الله من فضله الكثير، وأنا استجابة لأمر البحر الأحمر أقول لك: سنشعل نارا ألسنتها من خلٍّ عَطِر صنعتُه من التّفاح، وآخر من الليّمون الحامض وقشرته، وسأنقع فيهما معا قطعاً رفيعة من سمك السّلمون والسّيف الفضّيّ، ثم أُزْهِرُهما بعروش من البقدونس الطريّ المقطّع بشكل دقيق جدّاً، ولن أضع ذرة واحدة من الملح. أمّا عن الأفوكادو والإجّاص، فإني سأصنع لك منهما طبقاً منعشاً ممزوجاً بحفنة من حبّات ياقوت الرّمّان، ووريقات النّعناع الزكيّة، وبضع قطرات من عصير الليمون.
ولتعلم يا صاحبي أنّ الإجّاص أنواع كثيرة جدّا، وهذا الّذي جئتَ به اليوم من سوق البلّارو يسمّيه الصقلّيّون بكمّثرى القدّيس يوحنّا أو يحيى المعمدانيّ، وقدْ أعدتَني به إلى مائدة والدتي التي من وحيها سأعدُّ لكَ طَبَقَ يوم ضيافتنا الثالث، وسأبدأ بالبصل أقّطّعه بشكل دقيق وأضعه فوق طاجين الطّين الخالص وأسكب فوقه كأساً صغيرة جدّاً من زيت الزيتون وملعقة من حبّ الهال والقرفة وزرّيعة اليانسون والبسباس، ثم بضع خيوط من الزعفران الذهبيّ المدقوق، وأدع الكلّ يتقلّى بعض الشيء ثم أضيف إليه قطعاً كبيرة من لحم الخروف الخالي من الدهن والشحم، وبعد ذلك أصبّ فوقه قليلا من الماء وأدعه ينضج على نار هادئة جدّاً إلى أن يصبح رطبا كالزّبدة، وبعدها أضيف قطعاً مقشَّرةً نظيفةً من كمثرى القدّيس يوحنّا تكون على شكل هلال، وبضع حبّات من البرقوق المسلوق، والبامية التي سلقتها هي أيضاً في الماء مسبقاً، ثم أسكب فوق الكلّ عصير الطّماطم الطّازج وفيه التوابل الخفيفة المذاق مع تفادي الإبزار الأبيض والأسود والفلفل الحارّ بكل أنواعه. وأغلق من جديد الطّاجين وأتركه لبضع دقائق يغلي ويتشرّب إلى أن يصبح خاثراً ومُعسَّلاً. وأمّا وقد أصبح الطّاجين جاهزاً ونحن من حوله نتذوّقه بكلّ متعة ولذّة، وتسألني عن سرّ تسميّة هذا الإجّاص باسم يحيى المعمداني، فإنّي أقول لك إنّ السّبب هو ظهور هذا النّوع من الفاكهة في أواخر حزيران وهي الفترة التي يحتفل فيها الصقلّيون بعيد هذا النبيّ القدّيس. وفي الختام دعنا نُتَوّج فرحتَنا بعصير الرمّان على أن أقدّم لك في المساء شراب قشور الرّمان المُحَلّى بعسل الياسمين لنحسّن نوعيّة النوم وما قد يحضر فيه من تجليات وصور ذهنية صافية تخبرنا عن الكثير من عوالم أهل الله.

(15)
إكسير الحياة

هذه مائدتنا الرّابعة أيّها الفتى الزكّي، سأفتح إزارها في الصّباح الباكر، ونشرب معا قبل كلّ شيء إكسيرا صنعته لك بيديّ من ماء البحر وجلستُ أنتظركَ. سترى كيف أنّه لم يعد مالحاً، نريد أن نجدّد به خلايانا، ونطهّرها من كل العوالق والرواسب. فهو كما تعلم سرّ من أسرار العرفاء الأوائل، بما فيها الحرص على عدم تناول وجبة العشاء والاكتفاء في أقصى الحالات بحبّة من فاكهة معيّنة يختارها العابدُ بعناية وياحبذا لو تكون فاكهة الفصل الذي هو فيه.
هذه مائدتنا الرّابعة وقد طبختُ فيها للغداء أطباقاً من الإسقمري المُقَمَّر في الفرن الترابيّ والمُنسَّم بزيت الزيتون والليمون والزعتر، دون أن أنسى طبعاً طبَقاً آخر من قطع المعكرونة المستطيلة الشّكل والتي يسميها أهل صقليّة بـ (لي لازانيِه) مع إدخال بعض التّحسينات والمكمّلات عليها، ولم أضع فيها كفتة لحم أحمر وإنما اكتفيتُ بالجبن الخالي من الملح، وبالبيشاميل والبازيلّا، وقطع البادنجان المشويّة على نار هادئة وعصير الطّماطم المنكّه بأوراق الريحان والبصل وقطرات من العسل، وقد دعوت إلى مائدة اليوم البلّارو بنفسها، سيّدة عارفة نتوجها بإكليل المعرفة وندعها تحدّثنا عن تاريخها، كيف بدأتْ ومتى ظهرت، وكيف أصبحت راقصة من الطّراز الرّفيع تدور بالأرجل والأقدام والسيقان، وتفتحُ القفف والأكياس والجزادين، وتطعمُ الفقير والغنيّ، والعجوز والشابّ، والطّفل والأمّ، وتجعل الباعة يصدحون بما تؤلّفه لهم من نداءات، يدعون بها الزبائن إلى سلعها وبضائعها، إلى فواكهها وخضرها، ولحومها وأسماكها، وإلى أجبانها وحلوياتها، وعسلها ومنّها، وبصلها وقثّائها. انظر يا صاحبي إليها كم هي بديعة الجمال ورائعة الحضور والمعنى، يا لسحرها الّذي يُمَغنطُ الهداهد، ويا لروعة الأوشام المرسومة بين عينيها وفوق ذقنها، وانظر إلى زخارف الحنّاء بين يديها وفوق وتحت قدَميْها، وانظر إلى منديل رأسها الأحمر المطرّز بالأشجار والطيور والعصافير والفراشات، والمطعّم بالجواهر واللّغات البائدة والحديثة، وانظر إلى خلاخيل كاحليْها وإلى الكلام المتناثر من رنينها، كلاماً تروي لنا به قصّتَها وتقول باسمةً بعينيْن مفعمتيْن بالعشق والحنين: ((يسألونني دائما عن اسمي، من أطلقه عليّ وماذا يعني، وأقول إنني حقيقة لا تعنيني الأسماء في شيء، بقدر ما أرى أنّ الأفعال هي التي تبني هويّة أيّ كائن كيفما كان، لذا فإنّ دوري وفعلي المتجسّد بالخدمة عبر القرون هو العاملُ الّذي يحدّد من أكون حقيقة، وأنا ظهرتُ بشكل أكثر بروزا للعيان بقدوم العرب إلى صقلّية، وإذا سألتُم عنّي ابن حوقل، فإنّه سيقول لكم إنه إلى حدود الألفية الأولى الميلادية من تاريخ الإنسانيّة كانت توجد بباليرمو سوق كبيرة في منطقة الرّباط الإسلاميّ الجنوبيّ بين مسجد ابن صقلاب والحيّ الجديد، وقد كان بقوله هذا يعنيني أنا بالذّات، وإلى جانب تصريح ابن حوقل ظهر اسمي قديماً في عقد بيع وُقِّع لدى أحد موثّقي المدينة في 09 حزيران 1287. كما جرى الحديث عن أحد قصّابي السّوق في وثيقتين أخريَيْن وُقّعتا بتاريخ 13 نيسان و12 حزيران من عام 1299. وفي إحدى الدّفاتر الخاصة برئيس إحدى أديرة المدينة السيّد آنجلو سينسيو، ظهر اسمي بصيغة مختلفة شيئاً ما وأعني بها بالّيرو وليس بالّارو.
في تلك الفترة كنتُ أحرصُ على أن يباع فيّ كلّ شيء من خضراوات وفواكه ولحوم حمراء وأسماك، وكنتُ أسعى إلى أن يسمّي أهل المدينة أزقّتهم وشوارعم بأسماء الحرفيّين الّذينَ كانوا يعيشون في المناطق المحيطة بي، لأجل هذا تجدون في مدينة باليرمو أحياء وأزقّة ذات أسماء لا يعرف قيمتها إلّا أهل الخيمياء الحقّة، فهناك على سبيل المثال لا الحصر، زقاق بائعي ماء الحياة، ومنقوع الماء المثلّج المصنوع من رحيق اليانسون. ومازلت أتذكّرُ لليوم كيف أنّ صنّاع ماء الحياة سعوا بكل ما يملكون من قوّة وطاقة إلى بناء كنيسة خاصّة بهم وهي كنيسة مريم للعطايا والهبات. وهناك أيضا بائعو الفضّة والذّهب وحجر الكهرمان الأصفر والبنّي الذين ظهروا بشكل خاص بين القرنيْن السّابع والثامن عشر، وقد استقرّوا بزقاق يحمل لليوم اسمهم، أيْ زقاق الفضّة والعنبر. لا يفوتني أيضا ذكر زقاق صنّاع القبّعات وما أدراكم ما القبّعات خاصّة منها تلك الصقلّية التي تحمل اسم الكُوبّولينو، ولا تنسوا الأزقة الأخرى التي كانت تحمل اسم الحِرَفِ التي كانت تُمارسُ فيها، كأزقة صنّاع الشّمع، والمفاتيح والمسامير والمصابيح والسّكاكين، وبائعو الصّابون والسّكّر والزّيت، ثم إذا ذكرتُ لكم كلّ هذه الأسماء فإنني لا أنسى زقاق صنّاع الكتب الّذين لم يكونوا من أهل باليرمو وإنما كانوا يأتون من مدينة بيزا ويستقرون في زقاق لالودجا، الّذي يُسمّى أيضا بزقاق بيزا.
سوقي أيها السّادة الأفاضل الكرام كانت تتألف في البداية من درب واحد، وفي شهر حزيران من عام 1467 اشترى المجلس البلديّ بضعة منازل توجد في المنطقة بموجب عقد تمّ التّوقيع عليه لدى الموثّق دجاكومو رانديزيو، ثم قام بهدمها ووَسَّعَ الدّرب وأحدَثَ ساحة فسيحة تطوّرت فيما بعد وأصبحت أكثر اتساعا مما مضى فقط من حيث الطّول بجهة ديرَيْ سانتا كيارا والكارميني بمساحة تقدّر باثني وستين متراً.
عرب صقلّية إلى جانب سوقي، أسّسوا سوقاً أخرى في الجهة العليا من حارة الصّقالبة، واسمها اليوم سوق الكابو وهي من أكثر الأسواق حركة ونشاطاً في منطقة جبل الشّفقة، وقد تحدّث عنها الإدريسيّ كثيراً وكذا ابن جبير الّذي أكّد المعلومة ذاتها وقال إنّ مسلمي باليرمو هُم من كانوا يُسيّرون شؤون الأسواق ولا سيما منها سوقَيْ الكابّو والبالّارو)).
هل رأيتَ يا صاحبَ الجراح الزكيّة كيف كشفتْ لنا عن أسرارها هذه البهيّة المكلّلة بالخيرات والبركات، إنّه حقّاً تاريخ حافل بالأعاجيب والغرائب، ولا يسعني سوى أن أؤكّده وأقرّ بأهميّته العظمى، لا سيما وأنّني رأيتُ كيف أنّها لليوم تقاوم بكلّ ما تملكُ من قوّة المدّ الصّناعيّ لتحافظ على هويّتها في زمن طغت فيه الأسواق المركزيّة العولميّة الضّخمة، لدرجة أنّها ظلّت كما كانت تحمي الفئات المظلومة والأقليات الدّينية والإثنية المقهورة القادمة من بلدان أخرى لتشكل لوحة رائعة تتعايش فيها كلّ الألوان والأطياف واللّغات، ألمْ ترَ هذا أنت أيضاً حينما التقيْتُكَ جالساً بالقرب من دكّان بائع الأسماك؟! ألم تنتبه إلى اللّوحات التي يرسمها المهاجرون السّود الجدُد فوق جدران السّوق، هل رأيتَ لوحة شفيع مدينة باليرمو القدّيس بينيدكت المورو؟ وهل رأيتَ لوحة الشّمس الذهبية وجداريات أخرى لنساء مهاجرات من إثنيات مختلفة بين باكستانيّين ومغاربة وبنغاليّين، وغيرهم من أهل الهجرة والغُربة؟!
الآن عرفتُ لماذا كنتَ هناك أيّها المسيح؟ عرفتُ أنّك جئتَ لتعاين شؤون الغرباء لأنّك غريب مثلهم. بل جئتَ لتسمع صلواتهم، وتمسح دموعهم، وتغسل جراحهم، وتقيم العدل بينهم وتردّ إليهم حقوقهم الضّائعة. الآن عرفت لماذا تظهر في أسواق الدّنيا كلّها؟ فهل يا ترى هو قريب ما رأيتُ؟ هل ستقلب سوق الدّنيا بأسرها؟! أعلمُ أنّكَ ستفعل هذا وأكثر، ولن يستطيع أحد أن يتصدّى لك أو يمنعك، لأنّك عازم على تطهير الهيكل بكلّ قوّة وسلطان، هيكل الإنسان، فلتنفّذ سريعا أيّها الزكيّ ما أنت مقبل عليه ودع الجميع يصرخ ويُردّدُ معك في اليوم المعلوم: تعال يا إلهنا وطهّر أجسادَنا بكلّ ما تملك من سلطان، ألسنا نحن أيضًا هياكلكَ وروحكَ يسكن فينا؟ اقلب موائدنا، قبل أن يضيع فوقها نورنا وأبديتنا. ولا تترك قلوبنا للشهوات، فتصبح مثل سوق تباع وتشترى فيها الأكاذيب والأوهام، فبيوتنا بيوت صلاة، طهّرها يا إلهنا الودود قبل أن تخرب إلى الأبد.

(16)
أطلانتس

حبيبتي أرﭼـانة، هاقد مرّ على لقائنا الأخير أربعة عشر عاماً، ومازلتُ أتذكّرُ كلّ بهجة وفرح أزْهَرَا فوقَ مائدتيْكِ الخامسة والسّادسة. نعم، مازلتُ أتذكّر الكسكسيّ المغربيّ بكلّ أنواعه، ذاك المطبوخ باللّحم وسبع أنواع من الخُضروات البهيجة الطّعم والألوان، وذاك المطبوخ بالدّجاج البلديّ الأصيل، والمُزيّن بحبّات اللّوز المقليّ والبيض المسلوق، والثّالث المطبوخ بتوابل المْسَاخِن ورأس الحانوت والأعشاب السّحريّة الشّافية من كلّ علّة وداء، والرّابع الصقليّ الأصل المطبوخ بتشكيلة عجيبة من السّمك وجراد البحر وبلحه. وكيف لي أن أنسى عصيدة الذّرة السّاخنة المسقية باللّبن وزيت الزيتون وأرﭼـان، وكذا الثريد المغربيّ المطبوخ بالفراريج والبصل والعدس والزّعفران والتوابل الأخرى التي لا تخلو من مذاق متميّز وفريد بعيداً طبعاً عن كلّ ملح وإبزار ونكهة فلفل حرّاق أو مُرّ. ولليوم مازالتْ حاضرة أمام عينيّ أطباقُ أعياد ما بعد شهر العبادة والصيّام عيدَيِ الفطر والأضحى من طواجين اللّحم بالبرقوق أو المشمش واللّوز، وطواجين الدجاج بالزيتون والليمون المُرقّد في الزيت وصواني البسطيلة بكل أنواعها بما فيها تلك المصنوعة بالسّمك وفواكه البحر، ومازلتُ أتذكرُ حلوياتكِ التي طبختها بدون زبدة حيوانية ولا زيت اصطناعيّ ولا بيض ولا ملح ولا سكّر وإنّما وجدتِ موادّك الأوليّة في العسل وزيت الزّيتون والقرفة وجوزة الطّيب والقرنفل والتّمر، وحبّة البركة وبذرة الكتان وكلّ أصناف الدقيق بنخالتها بما فيها الشّعير والقمح والذّرة الذّهبيّة، والسّمسم والحمّص وما إليها من عجائن كنت تصنعينها من الفواكه الجافّة كاللّوز والجوز والفستق الأخضر والبندق. وماذا عن الأعشاب التي كنت تصنعين لي منها مشروبات ساخنة تزيدني نشاطاً وحيوية وتشعرني بالانتعاش والسّعادة والفرح، هل سأنسى مشروب ورقة الغار، وإذا نسيتُ هذا فهل سأنسى مشاريب إكليل الجبل، والزّعتر والميرميّة، والقرفة واليانسون والورد الجوريّ والياسمين وزهر البرتقال والكاركديه؟! ما نسيتُ شيئاً يا حبيبتي أرﭼـانة وقد جئتُ اليوم في زيارتي السّابعة لكِ، لأقول لكِ، إنّني سعيد جدّاً بأنّكِ تعلّمت في ديار الغربة كيف تمسكين العصا من الوسط، وتكونين من أهل الدّار والبيت لا المنزل. وكلّ وليّ ورجل حكمة صالح يُوثَقُ بكماله الجسديّ والعقليّ والرّوحيّ هو صاحب بيت دافئ، لا منزل باردٍ جامد، وذلك لأنّه لم يهجر الحياة ولم ينعزل عن النّاس أبد الدّهر في كوخ بالغابة أو في كهف بالجبل، ولأنّه يعلمُ أنّ القدّيسَ الحقّ ليس هو ذاك الّذي يخصي نفسَهُ ويقتل الحياة بداخله ليحظى بإعجاب الله، وإنّما هو ذاك الّذي من البيت والدّار يبني أسرة، يستمدُّ منها نوراً يُحَرّكُ بهِ الجبال. وأنا معتزٌّ بكِ أيّما اعتزاز لأنّكِ أصبحت تعرفين معنى الامتلاء والفيض، وهو أمر لا يمكن أن يتحقّق فعلاً وحقيقةً إلّا إذا كنتِ من أهل البيت تعرفين جيّداً كيف تكونين رحبةً وفسيحة كالمحيط. لأجل هذا أَتيْتُ لأقول لكِ: عانقي الوجودَ ليأتي اللهُ إليْكِ وأنتِ في داركِ، واعلمي أنّ التخلّي هو هرب من هذه الحياة التي بات الجميع يراها خاطئة، ويرون أيضاً أنّهم مانزلوا إلى الأرض إلّا ليُعاقبوا، لذا تجدينهم يرفعون يد الرّجاء إلى الله قائلين دائماً: لا تنزلنا مرّة أخرى إلى هذا العالم، وجنِّبْنا ما فيه من ألم وعذاب. أيّ تفكير هذا وخالق الحياة والعالَم هو الله نفسه. أما من عاقل فيهم يرى أنّ الوجود بأسره يحتفل بالحياة. أما من رشيد يرى الوجود مكافأة وليس عقاباً. أنتَ أيّها الإنسان لم يُلقكَ الله في زنزانة مظلمة وكئيبة، وإنما في عالم إذا ما نظرتَ إلى الطّير والزّهر والنّحل فيه سترى بأنهم جميعاً يحتفلون بالحياة. لقد أحبّكَ الله، وجعل جسدكَ هيكله وطهّره لكَ وأنبت فيه الفردوس الأعلى، وجعلك فيه طفلَ الكلمة لتستمتع به، وتأكل من فواكه معانيه. فلا تحاول أن تهرب من العالم إذن، واعلم أنّك كلّما التقيتَ بإنسان تدفّقتِ الطّاقة والحياة بداخلك. عليكَ إذن أن تتذكّر ماضيك، فأنت مختار الله ومصطفاه، وكلّ شيء تفعله يجب أن يكون بالحبّ والمحبّة وبالدّفئ المشتعل قنديله في بيتِكَ. لا تخرج من دفئهِ، ابق مع عائلتكَ، ولا تصبح متخلّياً عن كلّ شيءٍ، لا ترفضِ النِّعَم التي يمنحها اللهُ إليكَ، فأنت حينما ترفضُ الأسرة مثلاً، إنّما ترفضُ خالقَكَ نفسه: اقبل الزّوجة الحبيبة، واقبلِ الأب والأخ والأطفال والأصدقاء، وكلُّ ما يحدث في حياتكَ اسمح له أن يكون، لا أحد يولد وحيداً، وإنما كلُّ إنسان هو ابن أسرة، هذه هي الألوهيّة المقدّسة، وهذا هو المريد الجديد، أيْ الّذي يرى الحياةَ نعمةً لا نقمة، ويعرفُ أنّه إذا ما وُجِدَ في هذا العالم، فإنّما ليتكوّن فيه ويتعلّم منه ما يفيده في بناء جسده الأثيريّ وجعله صالحاً للالتحاق بالملكوت الأعلى مباشرة. وإنّي أعلم أنّكِ يا أرﭼـانة الأقدر على فهمِ كلماتي هذه واستيعابها لأنّك من بنات كوكب الزُّهْرة، وكلّ الزُّهَريّين يعلمون أنّ أجسادَهُم المادّية الموجودة هنا في هذا العالم، إنّما هي انعكاس فقط لأجسادهم الأثيريّة، وأنّهم استطاعوا أن يصلوا إلى أرقى مدارج السموّ والكمال حينما عاشوا في أطلانتس المغرب، وعرفوا معنى الغذاء الجسديّ والفكريّ والرّوحي. نعم فغذاؤكِ يا مهجة قلبي أنواع: غذاء يحتاجه جسدك المادّي وهذا عليه أن يكون صلاة تشعلين بها قنديل القلب، فتعرفين متى تصومين، وكيف وماذا تأكلين. أيْ أنّه عليك ألّا تجلسي إلى المائدة إلا وأنت جائعة تشتهين الأكل، وإذا جلست عليك أن تستخدمي كلّ حواسّك، فتعشقي النّعمة، وتشمّيها، وتنظري إليها من كلّ الجوانب وتصغين إلى تفاعل نكهتها فوق لسانك، وتتذوّقين الأكل بكلّ مشاعركِ، وتنتشين وأنت تمضغين جيّداً طعامك ليحدث الامتلاء باللّذة والحمد والشكر لله على الرّزق والبركة فيه. لا تخشي شيئاً، ولا تهتمّي بمن قد يراك مجنونة أمام الأكل، تبتسمين له وتشمّينه وكأنك في حضرة عشقيّة. أكلكِ يا أرﭼـانة عليه أن يكون مثلكِ، حنوناً خالياً من العنف، ولا بدّ لكِ فيه من البروتينات التي قد لا تجدينها في مواد أخرى، فالسرّ في تنوّع مصادر غذائك، دون التخلّي عن اللّحوم فيه على أن تأكليها بجميع أنواعها وباعتدال شديدٍ، أمّا اللّحوم الحمراء فلتحرصي على أن تكون من النّوع الحلال الرّحيم، وأقول الرّحيم لأغلق الباب أمام من يُحَرّمُ أكل اللّحوم لأنّه يعتبرها فعلاً قاسياً يُرْتكبُ في حقّ مخلوقات أخرى من طيور وأسماك وأنعام وما إليها. لا تنسي أنّ معظم الأنبياء والأتقياء وأولياء الله الصّالحين كانوا رعاة، ومن أنعامهم كانوا يأكلون لحماً لذيذاً شهيّاً، والاختلاف حاصل في الرّوح التي تنْحَرُ، أيْ أنه إذا كان صاحبُها مُسَلّماً أمرَهُ لله خضعتْ لهُ الأنعامُ واستسلمَتْ عن طيب خاطرٍ وما شعرتْ بسكين النّحر على المنحَرِ أبداً، وهذا يعني أنّها لنْ تُفرزَ أيّ هرمون ألمٍ أو معاناة قد يتحوّل إلى سمّ داخل جسد الذّبيحة، واسألي إبراهيم عنِ الذِّبح العظيم والعجل الحنيذ، واسأليني أنا عن السّمك الّذي كثّرتُه للمحبّين والمريدين. هذا هو السرّ، على النّاحر والمنحور أن يكونا معاً في حضرة الله وببسملته وحمده وبركته، بهذا فقط يُمكن لكلّ إنسانٍ صالحٍ أن يستوفي حاجتَه من البروتينات ذات المصدر اللّحمي، والشّيء نفسه بالنّسبة لكلّ حيوان يتغذّى منه بما في ذلك السّمك الطّريّ، ولتعلمي أنّ كلّ شيء لا يكون في دائرة الله فإنه ولا شكّ مضرٌّ بصحّة الجسد. ولا تنسيْ أنْ تكثري من الخضراوات والفواكه وشرب الماء. ولا تكوني ممّن يعتقد أنّ حذف اللّحوم من المائدة والاكتفاء فقط بالأكل النباتيّ يقي من الأمراض الخبيثة بما فيها السّرطان، فهم لا يعلمون أنّ السرطانات إنّما هي أمراض ذات أصل نفسيّ، قبل أن تكون ذات أصل غذائيّ. من يمرضُ بالسّرطان يكون قد أصيب به على المستوى النفسيّ والفكريّ قبل أن تظهر أعراضه على المستوى الجسديّ المادّي، أيْ أنّ من يكون تفكيره عنيفاً، قلقاً، ومرتبكاً في مواجهة مشاكل الحياة وصعوبات الرّحلة والطّريق فإنّه يتعرّض لهذا النّوع من المرض كتعبير من العقل عن العصيان والتمرّد عليه ليقول له: جِد لكَ حلّا لما أنت فيه فأنا قد تعبتُ منكَ. والحلول لا تأتي بالتخلّي عن اللّحوم والاكتفاء فقط بالتغذية ذات الأصل النباتيّ، لأنّ الأطبّاء يشهدون أيضاً بأن هناك حالات عديدة من المصابين بداء السرطان على الرّغم من كونهم من أصحاب الحمية النّباتية. فالمشكلة إذن ليست في اللّحوم، وإنّما في أسلوب الأكل والحياة معاً. ولتتأكّدي أنّ السرّطان يُعَالَجُ من الدّاخل: من الرّوح، وحتّى إذا قضتْ أو سيطرتْ عليه بعض الأدوية أو العلاجات الكيماوية أو العمليات الجراحيّة، فإنّ الإنسانيّة لا بدّ ستواجهه مرّة أخرى وتحت أشكال جديدة ربّما أشدّ وأكثر شراسةً من الأشكال القديمة. المشكلة روحية، تتعلّق بمدى قوّة علاقتكِ بمصدر الطّاقة والنبّع الصّافي، أيْ بمدى عمق علاقتِكِ ببيْتكِ الأوّل. ولا تنسي يا أرﭼـانة القلب ألّا تأكلي وأنت غاضبة أو حزينة حتى لا يتحوّل الأكلُ إلى سمٍّ، ولا تكوني ممّن يجعل أكلَه بديلاً عن الحبّ، يُعوّضُ به نقصَ العاطفة والدّفء والمحبّة في حياته، وإنّما كوني أنت الحبّ تغذّين نفسك بطاقتك الرّوحية المتوهّجة التي ستعرف كيف تدلّك على أنواع الأغذية الصّالحة لجسدكِ. ولتعلمي أنّ عقلكِ أيضاً يأكل ممّا تأكلين، فمدّيه بما ينعشه ويقوّي ذاكرته، ويملؤه بالحياة، سواء كان الأكل عضوياً، أو فكريّاً تستمدّينه ممّا تقرئين وتشاهدين. عليك أن تحرصي جيّداً على ألّا تُسمّميه بالأفكار والذّكريات والإحباطات وما إلى ذلك من سموم، حتّى تضمني بذلك سلامتكِ النفسيّة والرّوحية. ولتتذكّري جيّداً ألّا تكوني ممّن يفكِّرُ وإنّما ممّن يتفكّرُ ويتدبّرُ في الخلق والخليقة، فلا عقلَ إذن وإنّما وعيٌ كامل، ولا وجوهَ تزوركِ في المرآة وإنّما سكون مطلق، لا هُم وإنّما أنتِ، لا غياب وإنّما حضور مطلق، لا رأس تحملينها فوق جسدكِ وإنّما شمس متوهّجة: هذه هي أطلانتس، وهذا هو العرفان الحقّ والتنوّر المُكتمل.


(17)
الكابوس الأخير

اهدئي أيّتها الرّيح القُطبيّة، وتعال أيّها النسيم الصّحراويّ ، وهُبَّ فوق حدائقي السريّة كي تُزْهِرَ أشجارُ النّار والعطور والتوابل، وأحمل ثمارها أنا صقلّية العارفة بالله، إلى أديبتنا أرﭼـانة الخير وأتوّجَها بها في اليوم الرّابع عشر من شهر تمّوز، يوم الاحتفال بالقدّيسة روزاليا شفيعة العاصمة باليرمو، وأقول لها بعد أن أنهت رحلتها العرفانيّة هذه: حينما تُجالسين النّاسَ، كوني معهم بلباسهم ولغتهم، وحينما تجالسين أهل الحقّ كوني معهم عيْنَ الحقيقة، ولا تنسي أنّ السرّ عورة فلا تكشفيه لجاهل أبداً، ولا تبخلي به في الوقت ذاته عن أصحابه، ولتعلمي أنّ عالم الرّوح لا يُولَجُ إلّا بالخِدمة في كلّ العوالم، وأنّ الرّوح التي هي من أمر الله أرواح يتجلّى فيها الخالق بجماله، وكماله وجلاله وذاته، فإذا تجلّى عليها بجماله كانت محكومة بالجمال، وإذا تجلّى عليها بالكمال كانت الأرواح خاصّة بأولياء الله الصّالحين بُشرى الدّنيا والآخرة، وإذا تجلّى عليها بالجلال كانت الأرواح لعباد الله، وأما إذا تجلّى عليها بالذّات كانت الأرواح من عبيد الله، والعبيد أرقى مقاماً ومكانةً من العباد لأنّ أرواحهم مستمدّة من ذات الله. واعلمي أنّ روحكِ مُوَلِّدٌ كبير للطّاقة تشتغلُ به كلّ أجهزتك الدّاخليّة والخارجيّة: جهاز السّمع، والبصر وجهاز الذّوق واللّمس ثمّ الشمّ، وطوبى لمن أصبح يرى ويلمسُ ويسمع ويشمّ ويذوق بكلّ جسده. ولا تنسي أنّ جسدك هذا سيّارة، أما صورتكِ الحقّة فلا أحد يعرفها، حتّى أنتِ، لا تعرفين حقّا من أنتِ، وماهية هذه الرّوح التي تركبُ في كلّ زمن سيّارة أو طائرة أو مركبة تتنقّلُ بها بين العوالم والأزمان. ولتعلمي أن الزّمن حاضر وماضٍ، ولا وجود فيه للمستقبل أبداً، وأمّا الحاضر فهو في الدّائرة العلويّة التي يحكمُها الله ولم يلجه من الخلق إلّا القليل، وأمّا الماضي ففي الدائرة السّفلية التي يحكمها إبليس، وفيه علقت الإنسانية منذ بدء الخليقة إلى اليوم. وما الحكم إلّا لله حاضراً وماضياً، فافهمي بروحك لا بعقلكِ المعنى المسطّر بين الكلمات وإن تنوّعت أشكال الحُكم والحَاكم والمحكوم. وماالعقل سوى بعبدٍ يتظاهر بأنه سيّد كبير، وهو متشرّد من الطّراز الرّفيع لأنه دائمُ الرّكض والحركة، ولا يصل إلى مكان أبداً، ألا ترين كيف أنّه ينتقل من فكرة إلى أخرى بلا انقطاع، ولا يستطيع أن يبقى على قيد الحياة إلّا إذا تحرّك، وكيف أنّ الإنسان لا يستطيع التحرّر منه وإن حرص على ذلك؟! هُم فقط أهل المحبّة من يستطيعون إيقافه قائلين له وداعاً ليدخلوا بعد ذلك إلى حضرة الوعي الكامل، حضرة الزّمن الحاضر والدّائرة العلويّة التي بها أريدكِ أن تدخلي إلى عوالم المرأة وتدقّقي النّظر في النّساء، فإنّي أراهنّ جميعهنّ دامعاتٍ بقلوب حرقَها الأسى والحزن والظّلم المرير وقد فقدن كلّ شيء، وما عدن يعرفن التّمييز بين ما هو رجل وامرأة، وغرقن في بحار ما سمّينهنّ بالتحرّر والثورة على الرّجل، وهنّ لا يعرفن أنّهن كنّ ومازلن لليوم ضحايا هذا الرجل وفكره الذّكوريّ. ستسأليني كيف ذلك، وأقول لكِ: ألا تعلمين يا أرﭼـانة الرّوح أنّ أوّل من أسّس لفكر تحرّر المرأة كانَ رجلاً؟! نعم، هُم الرّجال من أرادوا للمرأة أن تغادر الجدران وتخرجَ للعمل والأسواق والحياة الواسعة العريضة. تطوّرات الحياة والتوسعات الاقتصادية والاستعمارية الذكوريّة الكبيرة والحروب الطّاحنة التي أنهكت قوّتهم، كلّ هذا لم يعد يسمح للرّجل المُدَبِّر لأمور السياسة والدّين أن يكتفي بدور المرأة كسيّدة مُؤَلَّهَة مركونة هناك في مكان ما من السّماء تُنسَجُ حولها الحكايات الجميلة والأساطير الخلّابة عن الكرامات والبركات والأنوار وما إليها، ولا بدورها كآلة للإنجاب وتدبير شؤون البيت، فرأى أنّه من الضّروريّ لهُ أن يجدَ لها دوراً جديداً غير دور القدّيسة أو الزّوجة وربّة البيت، وأنّهُ عليها أن تنزل من ذاك الفردوس العُلويّ لتشاركه الحياة، ولكي يُحقّقَ هدفه هذا أسّس لها إيديولوجيات جديدة تُمجّدُها كامرأة عاملة ومكافحة تسعى لأن تكون مثلهُ في كلّ شيء، فكان أن نظّرَ لما يسمّى بحقوق المرأة، وسخَّرَ الحركات الأنثويّة من أجل السّعي إلى تحريرها من ربقة ذكوريّة المجتمع، وهكذا باتت المرأة شيئاً فشيئاً تتغيّر في كلّ شيء، ووجدتْ أنّ دورَها الجديد هو أكثر متعة من دور القدّيسة والزّوجة أمّ الأولاد، لأنّه ضَمن لها قبل كلّ شيء استقلاليتها وحرّيتها المادّيّة والماليّة، ولم تبدأ المسكينة تستيقظ من هذا الحلم الجديد سوى في السنوات الأخيرة حينما اكتشفت أنّ الرّجل مرّة أخرى قد نصبَ لها الفخّ وهي وقعت فيه بمحض إرادتها واختيارها، بالضّبط كما حدث حينما أقنعها بأنّها إلهة، أو أمّ إله أو وليّة من أولياء الله المباركين في كلّ عصر وزمان. والنتيجة هي أنّنا بتنا نرى المرأة في كلّ مكان، بعد أن فقدت أنوثتها وطراوتَها وباتت تقاسيم وجهها تبدو أكثر قسوة وحدّةً من تقاسيم الرّجل، وفقدت بيتَها حينما خرجت إلى العمل والتبضّع وتركت فيهِ الخادمة تلاعِبُ وتداعبُ زوجَها أثناء غيابها وركضِها خلف المجد الكاذب. هل هذا ما كانت تطمح إليه المرأة حقيقة وهي اليوم عارية من كلّ شيء وتحسبُ عريَها حرّيةً في الوقت الذي أصبحت مجرّدَ صورةٍ يُتاجِرُ بها كبار مؤسّسي دور الموضة والإعلام من الرّجال؟ هل حقّاً استيقظتِ المرأةُ واستوعبتِ المصيدة الكبيرة؟ بعضهنّ فقط هنّ من حقّقْنَ فعل الاستيقاظ هذا، لكن بعد فوات الأوان، ولم يعد ثمّة شيء يمكن تداركه أو معالجته، لأنّ عقل المرأة أصبح مُخدَّراً بالكامل، في الغرب كما في الشّرق. واسألي النّساء المبدعات والكاتبات والشّاعرات والرّسّامات يحدّثنكِ عن فشلهنّ الذّريع في كلّ شيء بعد أن سقطن في فخاخ الرجال منذ بداية الإنسانية إلى اليوم. فالأنثى الحقّة تعرفُ جيّداً أنّ كلّ هذا الفشل سببه خوف الرّجل من المرأة الخالقة وارتباكه أمام قدرتها على إعطاء الحياة بالولادة والإنجاب والنّشوةِ الجنسية التي زُرعت في كلّ خليّة من جسدها. أقول إنّ المرأةَ خالقة، لأنّها تبدع الحياةَ في رحِمها وتنفخُ فيها الرّوح وهو الشّيء الّذي لم يستطع أيّ رجل أن يُحقّقَه إلى اليوم، ونفْخُ الرّوح منبعهُ قوّتُها وطاقتها الجنسيّة الخارقة، التي هي سبب كلّ مخاوف رجال الدّين في كلّ بقعة من بقاع الأرض منذ بداية التّاريخ إلى اليوم. واسألي النّساء إذا كنتِ في شكٍّ ممّا أقول، أسأليهنّ عن سعادتهنّ الجنسيّة، واسمعي حكاياتهنّ جميعهنّ، وليس فقط تلك النّسب الضئيلة جدّاً ممّن عرفنَ مثلكِ معنى العشق الحقيقي والارتواء من بحار الحبّ. اسألي النّساء ودعيهنّ يحكين لكِ أسرار أسِرّتهنّ، وكيف أنّهنّ يشتكين دائماً من هذا الرّجل الّذي لا يعرفُ كيف يُشعل نيرانهنّ قبل أن يصل إلى نشوته الوقتيّة، اسأليهنّ وسيشرحن لكِ لماذا لا تظهرُ النبوّة والولاية في النّساء. ولا تقولي لي وماعلاقة هذا بالارتواء الجنسيّ، فأنتِ تعلمين جيّداً أنّ القلبَ لا يتنوّرُ إلّا عن طريق العشق الّذي يبدأ أرضيّاً ويصبح روحيّاً بعد أن يكون الجسدُ قد نضج ونمَا بشكل صحيّ ونفسيّ سليم. فممارسة فعل الحبّ هي البوّابة الأولى لبلوغ النّشوة الإلهيّة ومعرفة الخالق، التي إذا عرفها الإنسانُ تنازلَ عن النّشوة الجسديّة الأولى، ودخلَ إلى أبواب العفّة والبتولية من الأعماق، أولَيْسَ هذا ما علّمهُ عيسى إلى مريم المجدليّة؟ انظري مثلاً إلى الشّعراء والشّاعرات الّذين يكتبون عن الحبّ، هؤلاء يكتبون عن شيء لا يعرفونه ولم يخبروه من قبل، أقول هذا لأنّني أعرفُ جيّداً أنّ العاشق الحقّ لا يكتبُ الشّعر في الحبّ، وإنّما يعيشُ الحُبَّ، وإذا كان يعيشه حقّاً فإنه يكون مُخْتَطَفاً وقلبُه يفيض بالمحبّة حتّى أنّه لا يدرك أنّه هو نفسهُ يُصبحُ شعراً وقصيدةً وحياةً. هل رأيتِ الحياةَ تكتبُ الشّعر يوماً، إنّها لا تفعل ذلك لأنّها هي الشّعرُ ذاته، والأمر نفسه يمكنكِ أن ترينهُ في النّحّات والرّسّام الّذي يحاول أن يُعوّض عدم قدرته على خلق الحياة ونفخِ الرّوح بإبداع منحوتات ولوحاتٍ تكادُ تنطقُ ولكنّهَا تبقى جامدةً ولا تتحرّكُ في كلّ الأحوال، والمرأة حينما بدأتْ تنافسُ الرّجلَ في الشّعر والكتابة والرّسم والنّحت وما إليها من فنون أخرى، إنّما فعلتْ ذلك لتُعَوّض النّقصَ والجُرحَ الكبير الّذي تعانيه في سرير اللّذة والنّشوة، ولو كانت عاشقة حقّاً ومرتوية في روحها لرأيتِها تدير ظهرَها لكلّ هذا وتفكّرُ في رَحِمِهَا ومطبخها وبيْتها وقلبها وكلّ ما يجلب لها السّعادة بعيداً عن قصائد أو لوحات لا تتغنّى سوى بعشقٍ زائفٍ. حينما فقدتِ المرأةُ صلتَها برحمها ضلّت الطّريق، وهجرتْ بذلك بيتَها لأنّ حياتَها منذ زمنٍ أصبحتْ فارغة من الحُبّ الّذي هو مصدر التنوُّر ومصدر بلوغ الكمال والنشوة الإلهيّة الكبرى عند كلّ إنسان.
الشِّعرُ شيء رائع، والرّسم كذلك والموسيقى أيضاً لكن يجب أن يأتي كلّ هذا بعد أن يكون الإنسانُ ثملاً وممتلئاً بالحبّ، لا قبله، وهذا هو ما يخلقُ الفرق بين أديب وآخر، وبين موسيقيّ وآخر وبين روائيّ وآخر، ولتعلمي أنّه لن يشدّك أو يدهشك في عالم الإبداع إلّا عاشق أو عاشقة كبيرة، لأنّهما يسجّلان بَصْمَتَهُما بوهجِ الرّوح ونار الرّوح القدُس. على الإنسان أن يكون مُحِبّاً لتنفتحَ له أبواب الإبداع الحقّة، ويملكَ أسرارها، وإلّا فلا شيء يقودهُ إلى أيّ مكان إذا لم يكن نابعاً من الحبّ المطلق. أنتِ نفسُكِ أيّتها الأرﭼـانة معي الآن بتجلٍّ كبير من تجلّيات العشق الحقّ، لأنّنا شربنا معاً من النّبع الصّافي، وبتُّ آتي لأجالسكِ وأهلَ الحضرة العُلويّة الكبرى ومن الصّعب جدّا أن يفهم النّاس هذا، أيْ كيف أنّنا نتحدّث عن أكثر الأمور دقّة وحساسيّة لنرمّم ونرتق جراحَ الإنسان عبر الإنصات إلى قلب الأنثى فيه، هذه الأنثى التي مازال أحدٌ لم يعتِقْ رقبتَها من حُفَرِ الوأد وفخاخه المنصوبة لها في كلّ مكان.
لن يبلغ النّاس مدارج العلا ماداموا لم يعرفوا هذه الحقيقة الكبرى، لذا فإنّي أقول لهم: عودوا إلى السّرير ومخادِع النّوم، فهناك تكمُنُ مشاكلكم وأمراضكم المزمنة، واسألوا الزّاهدَ مالاينجا فاتسيايانا صاحب كتاب الكاماسوترا فإنّ له ألف جواب وجواب عن معضلاتكم التي لا أوّل لها ولا آخر. لقد حان الوقت لتخرجوا من هذا الكابوس، وتنظروا إلى زوجاتكم كشريكاتٍ لكم في الطّريق المعراجيّ الكبير. حرّروا إناثكم فوق السّرير أوّلاً، حتّى يسهل عليكم إدراك بقيّة أشكال الحرّيات الأخرى والحقوق التي تتشدّقون بها في المؤتمرات ومحافل الدّجل الفكريّ والثّقافي. لا تخشوا حريّة السّرير فهي ليست عُهراً، ولا تجعلوا تجّار الدّين يتدخلون في شؤونكم الحميميّة ويفتون عليكم مالا يعني أحدا سوى خصوصية قلوبكم وأرواحكم. أفيقوا من أوهامكم، فمن السّرير أسَرَكُمُ وسجنَكُمُ الجميع حتى حينما أصبحتِ التكنولوجيا هي لغة العصر. لقد خلقوا لكم الجِنسَ الإلكترونيّ، والدُّمية بائعة الهوى الإلكترونيّة، وسرقوا منكم مرّة أخرى وإلى الأبد الأنثى التي خلقها الله بيده ونفخَ فيها الحياة لتبلغوا بها أرقى قمم النموّ الرّوحي والكمال النّفسي والجسدي. ماذا ستفعلون إذن الآن وقد أصبحتم تحبّون الدّمى الآلية الرّوبوتيّة وتضاجعوهنّ، يا لهذا النّفق المسدود، انظروا كيف كنتم وكيف أصبحتم، لم تعد لديكم القدرة على تحمّل بعضكم بعضاً، لا الرّجل يرغب في الأنثى ولا الأنثى ترغب به، ومن الشذوذ الجنسيّ والمثلية والسّحاق تحوّلتم إلى الجنس الإلكترونيّ، أيّة أجيال ستصنعون بعد هذا الدّمار، وأيّة فراديس ستلجون وأنتم في الدّرك الأسفل من الجحيم؟! منذ الأزل فشلتَ أيها الإنسان في درس العشق الكبير، ومازلتَ لليوم تراوغ وتقاوح. منذ الأزل رفضتَ حوّاء، وأرَدْتَها دمية صامتةً، وحينما لم يتحقّق لكَ ذلك اخترعت لها إيديولوجية التّأليه والتّقديس ورميتَ بها في الأديرة علّك ترتاح منها ومن متطلّباتها، فحرمتها من حقّها في الأولاد والإرث، لأنّ القدّيسة في عُرْفِكَ يجبُ ألّا ترثَ وألّا يكون لها من متاع الدّنيا شيء، وعليها أيضاً ألّا تمارس حقَّها في الحبّ لأنّه خطيئة، وحينما أتعبتك الحياةُ أخيراً أخرجتَها من محرابها ثمّ وضعتَها في الشّوارع والحقول والشّركات والمصانع والأسواق وبيوت الدّعارة، وكلّفتَها بكلّ شيء فبدأتْ تجدُ نفسَها تعمل خارج البيت وداخلَه وليس لها الحقّ في أن ترفض كلّ هذا وإلّا نُعِتت بالتخلّف وعدم مسايرة تحولات الحضارة والتحضّر البشريّ. أيّ مصير أسود هذا الذي سطّرته بيدِ الغفلة والحمق والجهل أيها الإنسان؟ أتغار من المرأة، أم أنّك تغار مِن خالقها؟! أنا أقول إنّكَ تغار من خالق الوجود بأسره، ولأنّ المرأة أقرب إليه منكَ فعلتَ بها كلّ هذا، لأنّك تعلم أنّ اللهَ يَقلبُ الأقدارَ ويُغيّر الأكوانَ بكلّ ما هو أنثى، وأنا الآن كخالقي، أريد مع ابنة أطلانتس المغربيّة أن أقلب في الحضرة البلّارَويّة سوقكَ الجديد وأطرد كلّ التجار من هيكل هذا العالم، فاخرج الآن منها فإنّك رجيم، وقد حقّت عليك اللّعنة إلى أن تفيق وتعلن توبتكَ عن كلّ آثامك الماضية، وتعرفَ أنّك ما كنتَ ليومٍ من الأيّام معزولاً عن عملية الخلق، لكنّ شيطانك صوّر لك أنّ الخالق غيّبكَ عن حقّك في مشاركتك اليوميّة في خلق الحياة، وأنساكَ أنّك مثل بارئِكَ مشبّع بصفاته وإن لم تدرك هذا فبغيبوبة عقليّة وروحيّة منكَ، ألم يأتكَ نبأ من أعاد الحياة للأجداث وانتصر على الموت من الأنبياء، أمازلت لا تعلم أنّ هؤلاء الأنبياء بشر مثلك، وإذا انتصروا على الموت وخلقوا الحياة فهذا يعني أنّك تستطيع أن تفعل الشيء ذاته مثلهم إذا طهّرتَ محرابك، وطردتَ منه شياطين الفكر الهدّام، فإلى متى تبقى ظمآناً وقِرْبَةُ النّور بين يديْكَ؟ أفق يا هذا من كابوسك، فلعلّه الأخير، واطرد خفافيش الظّلام من حولك، ومُدّ يدكَ تجِدْ من حولكَ أكثر من ملاكٍ مستعدٍّ لانتشالك من بحر القار الذي رميتَ بنفسكِ فيه! مُدّ يدكَ، وادخل حضرة أرﭼـانة المغرب، تجد الإدريسيّ الجغرافيّ الكبير قد عاد إليها بعد أن كانت قد تركته في كوكب البسملة، وتجد معهُ ابن حوقل وقِطَّ الوشق الكبير، والشجرةَ فوكُس، والأخرى ذات المئة حصان، كلّهم حاضرون هنا ليشهدوا ولوجَها إلى مدينة العلم بسرّ النّقطة التي تحت الباء، وكيف أنّها صاحبتِ الحرفَ إلى أن ظهرتْ لها منهُ كاف الكفاية وهاء الهداية وياء التأييد وعين العلم وصاد الصّلاة على الحبيب المصطفى نور الأكوان والعوالم كلّها. فهلمّوا إليها في عالم المُلك الذي فيه خُلقَ الألِف، وعالم الملكوت الذي ظهرت فيه السّين، وعالم الجبروت الذي بزغتْ فيه الحاءُ، وعالم اللاهوت المنطوق في ياء الاسم الأعظم وعالم الهاهوت الّذي فيه قال الخالقُ لكليمه: أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين، وهو المقام الّذي أريدكم أن تدخلوه اليوم قبل الغد، لتعرفوا من تكون هذه الأرﭼـانة البهيّة التي أريدكُم جميعاً أن تنادوها من الآن فصاعداً بالسيّدة كركم، لأنّي بشمسها الذهبيّة الكركميّة اللّون دخلتُ إلى مناجم الرّوح وشُفيتُ من أسقامي وأعدتُ تشكيل جزيرتي، وعرفتُ مقامي الجديد في جغرافيا وتاريخ الأكوان، وإني لها على كلّ هذا من الشّاكرين والممتنّين في كلّ الكواكب والأجرام، والحمد لله ربّ العالمين.


انتهتْ






المحتويات

1) لا زمان ولا مكان؛
2) الإمبراطورة فوكُس؛
3) الشجرة ذات المئة حصان؛
4) أمير جبل البركان؛
5) بلوتو؛
6) في كوكب البسملة؛
7) دمعة اللُّبَان؛
8) في قصر الملك غولْيِيلمُو؛
9) رقصة النّار؛
10) بالّارو؛
11) حينما تُكلّمني ألسنة اللّهب؛
12) بكِ أَبْنِي صرحيَ الجديد؛
13) المائدة الثالثة؛
14) كُمّثرى القدّيس يوحنّا؛
15) إكسير الحياة؛
16) أطلانتس؛
17) الكابوس الأخير.



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أكلتُ الشّمس (قراءات في روايات صقليّة) (2)
- أكلتُ الشّمسَ (قراءات في روايات صقليّة) 1
- قراءات عرفانيّة في فكر عبد الجبّار الرّفاعي
- في الشرّ وقضاياه
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصول الأخيرة
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصلان الثاني وا ...
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصل الأول (2)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)
- تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدّين / المقدمة (1)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (1)
- إنسانُ السّلام: مَنْ هُوَ وكيفَ يَتكوّن؟ تجربة صبري يوسف الإ ...
- جدليةُ الحاءِ في سرديات وفاء عبد الرزاق: رقصةُ الجديلة والنه ...
- النقطةُ الجريحةُ، والحرفُ المتشظّي الباكي في تشكيليات الدكتو ...
- وفاء عبد الرزّاق وديوانها ((من مذكرات طفل الحرب)) بين مطرقة ...
- آلِيسُ فِي بلادِ عجائبِ منال ديب: سَفَرٌ وقراءَةٌ فِي قُدْسِ ...
- وطني الفردوس
- يُوسُفِيّاتُ سَعْد الشّلَاه بَيْنَ الأدَبِ وَالأنثرُوبُولوجْ ...
- الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز ...
- يوتوبيا البُرْج البابليّ في رواية (كائنات محتملة) للأديب الر ...


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - السيّدة كُركُم (رواية)