أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - في الشرّ وقضاياه















المزيد.....



في الشرّ وقضاياه


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7539 - 2023 / 3 / 3 - 13:53
المحور: الادب والفن
    


(1)
الحرفُ جاهز والطّارقُ خلف الباب

ليست هذه هي المرّة الأولى التي أكتبُ فيها فصول دراسة ما تُناقش قضيّة فكريّة معيّنة وأجلسُ أنتظرُ صاحبَها الّذي سيطلبُها منّي، وإن كنتُ لا أعرفُ عنه شيئاً، لكنّ ذاتيَ العليا تُعْلِمُني بأنّ الطّارقَ لا حتمَ سَيَأتي وبأنّ ما أنا بصدَد كتابته مُوَجَّه له بشكل خاصّ، إذْ من خلاله سيصلُ إلى أكبر عدد من القرّاء لتعمّ الفائدة وينتشرَ وهَجُ الحرفِ في كلّ مكان، وهو الأمر الّذي حدثَ لي هذه المرّة أيضاً بشأن هذه الدّراسة التي بين يديك. وإنّي لأذكُرُ كيفَ أنّني في الوقتِ الّذي كنتُ منهمكة في كتابة فصولها بشكلٍ تلقائيّ وتسلسُليّ رامية إلى هدم بعض المفاهيم المتجذّرة في الفكر الإنسانيّ والتي أعتبرها من بين أهمّ أسباب هذا الخراب الروحيّ الّذي أصاب الإنسانيّة، وَجَدْتُني أُمَحْوِرُ كلّ الفصول حولَ قضيّة الشرّ من وجهة نظرٍ خيميائيّة إيزوتيريّة محضة إلى أن أتى "صاحبُ الأمر" وطرَقَ بابي، وأعني به هنا المفكّر والفيلسوف العراقيّ د. عبد الجبّار الرّفاعيّ (1): عرضَ عليّ بعض كتبه القيّمة، وأرسلَ لي أعداداً معيّنة من مجلّة (قضايا إسلاميّة معاصرة) (2)، ثمّ اقترحَ عليّ الكتابة عن "الشرّ" في العدد الجديد منها. ابتسمتُ وسألتُ نفسي سؤالاً مجازياً لا أقلّ ولا أكثر: أيُّنا كان أعلمَ بما يشغل بال الآخر، وأيّنا كان ينتظرُ الآخر حقّاً؟ أجبتُ على الفور وقلت: هذا عارفٌ باللّه يطرقُ بابي، وحرفي جاهزٌ الآنَ ورهن إشارتِهِ، وقد كتبتُ الكثير في الموضوع الّذي اقترحه بشأن المجلّة، وما بقي قابعاً في بئري، وجب اليوم قبل الغد سكبه فوق اللّوح الإلكترونيّ. وهكذا فعلتُ، وأنا أتساءل: هل يلتقيان شرٌّ مُطلَق وعِشق مطلَق؟! وهل يُمكنُ لعاشق محترق بالمحبّة، أن يتحدّث عن الشرّ وقضاياه في الكون والوجود؟! إنّها حقّاً معضلة المعضلات، لا سيما وأنّ العارف الحقّ لا يرى في الوجود أيّ شرّ، بل الكلّ عنده خيرٌ، يراهُ إزاراً من النّور والبهجة والفرح قمّط به الخالقُ الكونَ منذ الأزل. لكن والحال أنّ الكثير من النّاس لا يرون ما يراه العارفُ، ولا يؤمنون بما يؤمن به، فلا بدّ له أن ينزلَ هذا الأخير من العالم الأعلى إلى العالم الأدنى، ويخرجَ من رحابة النّقطة، ويدخل على مضضٍ إلى ضيق العبارة للتّعبير عمّا لا يُعَبَّر عنه بالكلمات، ويُقَدِّمَ أجوبةً لمن يسأل عن هذا الله الذي أصبح النّاسُ ينعتونه بغير العادل، المختفي خلف صمته المريب أمام كلّ ما يجري في الكون من شرور بما فيها الحروب والكوارث الطبيعيّة والأمراض والمصائب الحياتيّة اليوميّة وما إليها، ممّا دفع بالغالبيّة العظمى إلى إنكار وجوده بالكامل، ماداموا لم يستطيعوا أن يجدوا لليوم إجابات كاملة وتفسيرات منطقيّة تُبرّر سماحَه بحدوث كلّ هذه المآسي في حياة البشريّة دون التدخّل من أجل إيقافها وهو الّذي نسب إليه أهل الإيمان واللاهوت والعرفان خلق الكون بكلّ عوالمه!
من حقّ أيّ شخصٍ أن يرى الأمور بهذه الطّريقة ويفسّرها من منظوره الخاصّ، ومن حقّه كذلك أن ينكرَ الخالقَ مادام لا يرى فيه الأهليّة للحيلولة دون وقوع الشرّ، وحدوث الألم، وتفشّي الأمراض والأوبئة، واندلاع الحروب في كلّ مكان. ومن حقّه أيضاً أن يطالب أهل الحقيقة بالإيضاح، وسؤالهم من أين لهم بالفرح في عالم يضجُّ بالألم، وبالسّكينة في كوكب تفجّرهُ الحروب، وتقتلهُ الأمراض. ومن حقّ أهل الحقيقة أن يدلوا بآرائهم في هذه القضيّة الشّائكة كلّ وفق إشراقة النّور في قلبه وعلو همّته وقوّة عزيمته وعمق عرفانه. ومن هذا المنطلق أقول إنّ أوّل طريق لكشف السّتار عن هذه الإشكالية معرفة النّفس، ومالم يعرف الإنسانُ نفسَه فإنّه لن يمكنه بأيّ شكل من الأشكال أن يعرفَ ربَّه، ولن يمكنه بالتّالي أن يفهمَ الكون وآليات الخلق وحركة الخالق فيه، وسيبقى هكذا يخاصِمُ خالقَه ويراه السبّبَ في كلّ ما يلحقُه من أذى إلى الأبد، وإذا ما تعبَ من الأمر، فإنه سيبحث غالباً عن قوّة غيبيّة أخرى يُعَلّق عليها أسباب فشله وآلامه، ولعلّ أشهرها إبليس!
اعلم يا أيّدك الله بلطفه ومحبّته ورحمته، أنّ معرفة النّفس هي من أشرف العلوم وأرقاها، ولا تُعطَى مفاتيحُها إلّا لمن انتسب إلى المدرسة الإلهيّة؛ مدرسة العرفان والولاية والأسرار الكبرى وهي لا تحتاج منكَ أن تكون مدجّجاً بالشّهادات الأكاديميّة والألقاب العلميّة الطنّانة وما إليها، وإنّما تحتاج منكَ فقط إلى قلب طفلٍ وعقل وليّ عاشقٍ، وهما معاً من أصعب الشّهادات العرفانيّة التي يُمكن أن يحصل عليها سالكٌ في طريقِ الله، وهما المفتاح إلى عوالمك الدّاخليّة للتعرف عليكَ وكيف صنعك الخالقُ معجزة ليس في الكون لها مثيل، من هنا البداية ومن هنا سنمشي معاً خطوة خطوة لنعرف معاً: ما الشرُّ، وهل يوجد حقّاً، وهل وجوده مرتبط بتجلّي الأضداد، ممّا قد يدفعنا لتكون لنا وقفة مع الخير أيضاً من باب الحبّ والمحبّة!

(2)
لا بدّ من الفراغ
لكي تعرف نفسكَ، لا بدّ لكَ أن تتجرّد من كلّ شيء كشجرةٍ ضربتها ريح صرصر في ليلة عاصفة ولم تترك منها أثراً، وإذا تجرّدتَ دخلتَ إلى مقام الفناء، واتّصلتَ بملكوت القُدس في حضرة الأسماء والصفات الإلهيّة وأصبحت ممّن يُؤثّرُ في الخلق جميعاً دون أن يلحقَ بكَ أثرٌ ولا تأثير من أيّ مخلوق كيفما كان ومهما علا شأنهُ، لأنّكَ تكونُ قد بنيتَ فراغك الكامل، والّذي هو أقصى ما يرنو العارف الحقّ إلى بلوغه حيث لا شيء بعد ولا قبل، ولا حول ولا فوق ولا تحت سوى الفراغ. وهو هذا الفراغ الذي به يمكنكَ أنت أيضا أيها القارئ أن تدخل إلى عالم الحقيقة الحقّة. حيث لا ماضي ولا مستقبل، ولا شيء يعنيكَ سوى الحاضر، ليس أيّ حاضر طبعاً، وإنّما حاضر الحضرة الأزليّة الأولى، حيث الحُكم فيها ليس على صورتك ولا هيكلكَ الطّيني لأنهما زائليْن، وإنما على قلبك وهيكلك الأثيريّ، وعلى نفخ الحقّ فيك عند بلوغ سدرة المنتهى. واعلم أنّك معي في حضرة المحو؛ لا شيء يدوم، ولا شيء يبقى، وأنا الحاضرة والغائبة في الوقت نفسه، وأنا الوجود والعدم. ولكي تدركَ قولي هذا، عليك أن تكون من أهل هذا الفراغ المطلق، والمحو والانمحاق الكامليْن، بحيث لا يبقى منكَ شيء، ولا تتعلّق بشيء، ولا يتعلّقُ بكَ شيء كيفما كان أصله أو نوعه. ولكي تستوعبَ فكرة الفراغ هذه دعني أروي لك حكايةَ قريةٍ مازال أثرُها عالقاً بين ثنايا القلب رغم كلّ هذه الأعوام والسنين، قرية بِكر لم يُخلق مثلها في البلاد، ولا رآها قبلي ولا قبلكم إنس ولا جان، فيها اكتفتِ الأمّهاتُ بولادة الذّكور فقط، دون أن يعرف أحد لذلك سبباً، لكن الأمر الذي لا شكّ فيه، أنّ هؤلاء الذكور أصبحوا اليوم في سنّ الزواج وما من أنثى يقترن بها كلّ واحد فيهم تكون من بنات جيله أو تقربه في العمر والتفكير. وهكذا باتت هذه المشكلة شغلَ النّاس الشّاغل، وحار في حلّها الفقهاء والحكماء، لا سيما وأنّ القرية أصبحت في طورها إلى الانقراض بسبب ما لحق بقاعدتها الديمغرافية من شيخوخة، وعزم العديد من شبانها على مغادرتها بحثاً عن نساء للاقتران بهنّ يكنّ من أراضي أخرى بعيدة عن هذه القرية المغرقة في عزلتها الصوفية التي لا أوّل لها ولا آخر. وتوالت الأعوام الواحدة تلو الأخرى، وشاءت العناية الإلهيّة أن تبعث لرجال هذه القرية فتاة ليس لبهائها وجمالها وحسنها الفتّان مثيل أو نظير، ظهرت في حياتهم هكذا بدون سبب ولا مقدّمات، فحار الجميع في أمرها: من تكون، وكم عمرها، ومن أين أتت وما اسمها، وهل هي من الإنس أو الجان أو من جنس الملائكة البررة الكرام؟! لكن لا جواب يشفي عطش السائل الحزين اللهفان، لذا توقف الشباب عن السؤال واتفقوا جميعهم على التقدّم لطلب يدها من أجل الزواج بها، وبات كلّ واحد يحلم بها عروساً له تشاركه ما تبقّى من العمر. وهكذا ما إن بزغت شمس اليوم التالي، حتّى وجدتِ الفتاةُ شبابَ القرية كلّهم أمام بيتها، ففزعت من الأمر فزعا شديداً، وخرجت لهم تخاطبهم بلسان الحصافة والعقل والحكمة وقالت لهم:
- جميل جدّاً أن تكونوا قد اتفقتم كلّكم على زيارتي في هذا اليوم طالبين يدي للزواج، لكن كما تعلمون فهذا أمر يستحيل تحقيقه بهذه الطّريقة، فأنتم كُثر وأنا واحدة ولا يمكنني أن أكون لكم جميعاً وإنما لواحد منكم فقط لا غير، وعليه فإنني أقترح عليكم ما يلي: عودوا إلى بيوتكم ولا ترجعوا إليّ إلا بعد ثلاثة أيّام، تكونون قد حفظتم فيها عن ظهر قلب كلمة الوحي المقدّس التي نزلت على كلّ الأنبياء والرّسل والأولياء المطهرّين، ومَنْ سيُظهر براعته في هذا الأمر فإنني سأكون زوجته.
عاد الشّبّان إلى بيوتهم وبعد مرور ثلاثة أيام كانوا في الموعد المحدّد أمام بيت العروس الفاتنة الجمال والفائقة الذّكاء، واستظهر كل واحد منهم كلمة الوحي المقدّسة ومن بين خمسمائة شابّ أسفر الفرز النّهائي عن خمسين شابّ أظهروا جميعهم تفوقهم في حفظ كلمة الوحي بالتمام والكمال. شعرت الفتاة بسعادة كبيرة وقالت لهم:
- يا لبراعتكم أيها الشباب المجدّون، ويا لسعادتي بهذه النتيجة التي توصلتم إليها، لكنّ المشكل مازال قائماً: أنتم خمسون، وأنا واحدة، لذا لا بدّ من إجراء مسابقة أخرى: عودوا إلى بيوتكم ومن يستطيع بعد مضي ثلاثة أيام أخرى أن يُظهر لي مدى قدرته على تطبيق كلمة الوحي فإنّني سأكون له زوجة طيلة الحياة.
عاد الشبّان إلى بيوتهم كما أوصتهم الفتاة وبعد مرور ثلاثة أيام كانوا في الموعد المحدّد أمام منزلها، وحينما خرجت إليهم تحدّثت إليهم ولم تسفر نتيجة المسابقة سوى عن عشرة شبّان كانوا قادرين على تطبيق كلمة الوحي حقّا وحقيقة، وحينذاك نطقت الفتاةُ من جديد وقالت:
- لقد حقّقنا نجاحاً مبهراً، وأصبحتم اليوم عشرة، لكنني لا يمكنني أن أكون سوى لواحد منكم، لذا فإنّ امتحاني الأخير سيكون كما يلي: عودوا إلى بيوتكم، ونلتق هنا من جديد بعد ثلاثة أيام يتقدّم لي فيها من يستطيع أن يظهر لي أنّه ليس فقط يحفظ كلمة الوحي أو يسهر على تطبيقها، وإنما يُظهر لي أيضا أنّه يفهم معانيها الكامنة جميعها.
مرّت الأيام الثلاثة الأخيرة من المسابقة، وعند الموعد خرجت الفتاة ولم تجد أمام بيتها أحداً، فاستغربت الأمر كثيراً، ومرّت ساعة ثم ساعتان ثم ثلاثاً، وفي السّاعة العاشرة ليلاً طرق بابها شابّ واحد لا غير، أظهر لها حقاً قدرته على استيعاب معاني الوحي الإلهيّ الكامنة والباطنة، ففرحت به فرحا جمّاً وهتفت منتشية بهذه النتيجة المذهلة:
- أنا لكَ أيها الفتى الشجاع، هيّا بنا إذن لنغادر هذه القرية ونذهب معا إلى لقاء والديّ لتطلب يدي منهما بشكل رسميّ.
غادرا القرية وحينما وصل الشابّ إلى المدينة التي تقيم فيها عروسه وجد بيتها عبارة عن قصر ملكيّ باذخ، وفيه تسكن مع والديها المسنّيْن. وحينما تمّت مراسيم الاحتفال به زوجاً لابنتهما الوحيدة، خاطبت الأمُّ الفتى العريس وقالت له: ((هيّا اصعد إلى غرفة الطّابق العلويّ فزوجتك تنتظرك هناك)). صعد الفتى وفتحَ الغرفة لكنّه لم يجد أحداً، التفت وإذا به يرى بابا مفتوحا مطلّا على حديقة شاسعة، دخلها وبقي يمشي إلى أن انتهى إلى بحيرة كبيرة حام حولها ولم يجد لحبيبته من أثر سوى حذائها الفضّيّ: أخذه بين يديه وألقى به في الهواء، ثم غطس في البحيرة وعبرها كاملة وحينما وصل إلى الضفّة الأخرى التفت إلى القصر فلم يجد له أثرا هو الآخر، فضحكَ، وهو يشعر في داخله بسعادة كبيرة لأنّه فهم بأنّ العروس الحقّة التي على كلّ إنسان أن يصل إليها هي الفراغُ الكامل، الذي لا يتحقّق إلّا بالتخلّص من كلّ شيء: الأفكار المسبقة، الأحكام الجاهزة، تاريخ الخلق المزيّف، السياسات المعلّبة، غسيل الدّماغ على كلّ المستويات، وثقافات الاستكبار والطّغيان.


(3)
انظر الآن إلى أبيك وأمّي

أن تتخلّص من كلّ شيء يعني أن تلتصق بالماء لتعود إلى بداية الحكاية كلّها، أيْ إلى بيضة الخلق، وإذا كُنتَ تعتقد أنّ كلّ شرور العالم بدأت بسقوط أبويْكَ آدم وحوّاء، فدعني من مبدأ البيضة الكونيّة الأولى أمط اللّثام عن الحقيقة وأعرّفكَ بوالديْكَ كما لم ترهُما أو تسمع عنهما من قبل حتّى يظهر لكَ ألّا شيء في الكون بأكمله اسمه شرٌّ بالمفهوم المتداول بين النّاس.
في البدء كانتِ البيضة، وكانتْ هي النّعيم والفردوس، وكان فيها قطبٌ ذَكريّ، وكينونة أنثويّة تعوم في الماء، وكان هناك صمتٌ كامل مُطلق، وفجأة شاء الوعيُ التخليقيّ الإلهيّ الأكبر أن تظهرَ الحركة، فظهرت بسرّ وأمْرِ من يقولُ للشّيء كُنْ فيكون، وبهذا الظّهور وُلدَ الزّمان ثمّ المكان، ولمّا كانتِ الحركةُ لولبيّة الاتّجاهات نتجت عنها دوّامتان كانتا في تذبذب مستمرّ ونبض يتسارع أكثر فأكثر كلّما اقترب نحو المركز ممّا عجّل بولادة نواة شمسيّة، لم يكُن لها أن تولد لولا تلاقح القطب الذّكرّي الّذي سقط من القسم العلويّ للبيضة ليلتحم بالقطب الأنثوي الرّابض في القسم السّفليّ (3). وهو الإخصاب الّذي ذكره الله عزّ وجلّ في محكم كتابه حينما قال: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) (4)، والنّفسُ الواحدة هي ماء التّخليق في البيضة، والزّوجيْن هما المبدأ الذّكريّ ثم الأنثويّ، والحمل الخفيف هو الإخصاب، أمّا "مرّت به"، فإنّما تعني هبوط القطب الذّكري نحو القطب الأنثوي بفعل الحركة الزمكانيّة المتلولبة، وهي هذه الحركة التي رمز لها أهل الأسرار بالأفعى، وسمّاها أهل الظّاهر بإبليس.
هكذا فقط يظهرُ لكَ إنّ القطبَ الأنثوي رُمِزَ له في النصّوص الدّينية بحوّاء، ولا يعني بتاتا الأمّ التي منها خرجت البشريّة جمعاء وإنّما المبدأ الأنثوي الّذي به حصل التخصيب في البيضة الكونية أثناء عملية خلق العوالم بأسرها، والشيء نفسه بالنسبة لآدم الّذي أصبحت تعرف الآن أنه ليس بأبيك الّذي خرجت من صلبه وإنّما القطب الذّكري الّذي خرج من هناءة الماء التّخليقيّ الأولى المرموز له بالفردوس ليهبط بحركة ماء التّخليق إلى الأنثى، كي يتمّ الظّهور الكلّي للكون.
وهو القول الّذي يجد تأكيداً لهُ في حديث أهل الشّام حينما قال أبو جعفر (عليه السلام) إنّ الله خلق الماء وجعل منه كلّ شيء حيّ، فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه وخلق الريح من الماء ثم سلّط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا نقب ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة، ثم طواها فوضعها فوق الماء، ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا نقب ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا سحاب، ثم طواها فوضعها فوق الأرض ثم نسب الخليقتين فرفع السماء قبل الأرض، وكانت السماء رتقا لا تنزل المطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت الحب فلما خلق الله تبارك وتعالى الخلق وبث فيها من كل دابة فتق السماء بالمطر والأرض بنبات الحبّ (5).
الآن وقد عرفتَ أباك وأمّكَ، وعرفتَ أنّ ما يُرمزُ له بإبليس ليس هو الشرّ المُطلق وإنّما كناية عن خلق الحركة والرّيح والنّار وشقّ متن الماء الأنثويّ بهما، أعلم أنّك ستسألني وتقول هذا كلام لا يستقيم ومازال يلفّه بعض الغموض، لا سيما وأنّ الله نفسه تحدّث في أكثر من نصّ له عن شرّ الخلق، وأعلم أيضا أنّك ستستشهد بسورتَي النّاس والفلق، وهنا أيضا أقول لكَ إنّ شرّ الخلق وشرّ الغاسق إذا وقب والنّفاثات في العقد المذكوريْن في سورة الفلق، إنّما المقصود بهما الاحتجاب بالأهواء واستيلائها وتأثيرها على جسدك بشكل يجعلك بعيدا تماما عن نور الصّبح وسطوع شمسك الباطنيّة بعد أن تكون القوى النّفسية قد نفثت في عقد عزيمتك وعلوّ همّتك لإفشال كلّ خطوة لك نحو الإزهار والتنوّر الحقيقيَيْنِ، أمّا شرّ الوسواس الخنّاس في سورة النّاس، فالمقصود به تلوينُ الأنا الّذي يحول دون بلوغ مقام الفناء، حيث لا صدور ولا وسواس وموسوس له. وإذ تسألني عن شمسك الباطنية من تكون أقل لكَ، عرّج على أخيك القلب الكونيّ المرموز له بيوسف وستجد عنده الجواب، وكيف لا وهو الّذي رأى أمّه القمر وأباه الشّمس ساجديْن لهُ، أمّا عن إخوته الأحد عشر، فهم المقامات والدّرجات الرّوحية التي يسلكها القلب في شجرة الحياة قبل أن يصل إلى المقام الثاني عشر الّذي هو سدرة المنتهى (6) حيثُ يتجلّى الأب المخلّص المرموز له بالشّمس، التي تتقدّم وتخلّص كلّ إنسان من أسْر العالم الدنيوي من خلال التجلّي فعلياً بداخل شخصيّته فتتغيّر كامل طبيعته إذ تشعّ بالنّور الإلهي، وتفعم بالحيوية. هذا الأب الشّمسُ هو الذّات المركزيّة والقدرة الباطنيّة على التطوّر والنموّ الرّوحي، وإذا نظرتَ إليه من الجانب الفلسفيّ فستجده القدرة على الإدارك السليم والفهم الصّحيح، أمّا من النّاحيّة الصوفيّة العرفانيّة فهو التنوّر وقوة الحبّ الخلّاقة.

(4)
عانق أخويْكَ

مازلتَ في مرية ممّا أقول، أعلمُ هذا يا أيّدك الله بنوره وعلمه ومحبّته، وأعلمُ أيضاً إنّك ستسألني عن جريمة تعتقدها ثاني ما وقع في الوجود من شرّ بعد سقوط آدم وحوّاء ومازلتَ لليومِ لا تجدُ لها تفسيراً وتراها السّبب فيما يعيشه الإنسان المعاصر من حروب وأهوال وتقتيل وتذبيح في كلّ مكان من الأرض: قتلُ قابيل لأخيه هابيل. وهنا أيضاً دعني أقل لكَ، إنّه لا يوجد شيء في الوجود اسمه أوّل جريمة ارتكبها ابناء آدم وحوّاء، وهذا لأنه فعليّاً لا يوجد شيء اسمه حوّاء وآدم وقد سبق لي أن شرحتُ هذا في حديثي عن المبدأين الأنثوي والذّكريّ، ثانيا لا يوجد أيضاً شيء اسمه قابيل ولا هابيل، وإنما هما اسمان يرمزان إلى حقائق عرفانيّة جديدة، سأرفع عنها السّتار الواحدة تلو الأخرى لتظهر لك البشارة كما هي: قابيل هو الأنا النّفسية، وهابيل هو الذّات العليا القلبيّة، أمّا الأختان اللّتان اقتتلا من أجلهما فهُما الوهم التخيّلي المرتبط بالنّفس، والعقل والإدراك الرّوحي المرتبط بالقلب، وقد قتلتِ الأنا القلب ومنعته من الاقتران بالقوى العقلية الإدراكيّة فحدث الشرّ الحقيقيّ، إظلام الرّوح وبُعدها عن بلوغ مبتغاها الّذي هو إشراقة شمس الحقّ في كامل الكيان الإنسانيّ. والآن وقد أدركت معنى أخويْك، فعانق هابيل، وصالح قابيل ودعه يذعن لك ويأتمر بأمرك لتأخذ بيده وتصل به إلى شمس الحقيقة وتعرّفه حلاوة انفلاق القمر وعبور البرزخيْن (7). ولا تنس أن تاريخ الأجداد حافل بقصص كهذه تستخدم الرّموز ذاتها وإن بأسماء مختلفة كقصّة أوزيريس وإيزيس التي يخطفها إبليس أو قابيل أو تايفون أو سمّه كما تشاء، بعد أن يكون قد قتل أوزيريس أو هابيل (القطب الذّكريّ)، فيظهر حورس الابن المخلّص، آدم، أو محمّد، أو عيسى، أو المهدي المنتظر سمّه كما تشاء، وذلك ليُخلّص القطب الأنثويّ ويُشَخّص بذلك الانبعاث الإلهيّ والرّوح الكامنة التي ذبحتها طبيعة الإنسان الطّينيّة.
الآن وقد اكتملت الصّورة دعني أقل لك إنّ الشرّ الأكبر الّذي لحق البشريّة، إنّما ظهر بسبب سوء تفسير الكتب السّماوية، وحَجْبِ الأخرى العرفانيّة التي كتبها أهل الحقّ وأصحاب الأسرار الإلهيّة الكبرى، انظر حولك، وسوف ترى ما الّذي لحق بالقطب الأنثوي في الوجود، إنّ الاعتداء عليه بهذه الطّريقة البشعة من طرف العديد من رجال الكهنوت والفقهاء بكتم وتحريف الحقيقة التأويليّة، عجّل باستفحال قوةّ المبدأ الذكريّ، وطغيانه وظهور شخصيّات تاريخية أضرمت العالم بنيران الحروب والإرهاب والحرق والتدمير، ممّا جعل القوة الأنثوية الخلاقة تتراجع بيديْن مكبّلتيْن، وتشوّهت صورة القطب الذكريّ، وضاع المبدأ الأنثوي دون أن يتذكّر أحد ما كان يقوله أهل الله في الماضي البعيد القريب صارخين: (احموا إناثكم من الآخرين واحجبوهنّ عن الغرباء)، فاعتقد الجهلاء بواجب تكفين المرأة من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها، وحجبوا زوجاتهنّ وبناتهنّ وأخواتهنّ، ولم ينتبهوا إلى أنّ الحكماء الأوائل كانوا يقصدون الأنثى العقليّة التي مازالت لليوم مكشوفة للجميع ومعرّضة في كلّ حين للاغتصاب بدون حسيب أو رقيب ممّا عجّل باندلاع الحروب في كلّ مكان وظهور السّبي والقتل والحرق والإرهاب والفوضى التي لا أوّل لها ولا آخر.

(5)

شرور الحروب التكفيريّة إلى أين؟!

الإيمانُ بذرةُ اللهِ في قلوب البشر، والدِّينُ بدعةُ البشر في أرض الدُّنيا والحياة الفانية، لذا فإن الإيمانَ لله، والدّينَ للبشر، وما هو لله واحد لا ينقسمُ ولا يتجزّأ، وما هو للبشَر يتعدّدُ ويأخذُ ألف شكل وصورة، ولهذا كثُرَتِ الأديانُ وبقي اللهُ واحداً أبديّاً أزليّاً قيّوميّاً. لكن يبقى السُّؤالُ الحقيقيُّ الّذي يجِبُ طرحُه الآن هو: لماذا سمحَ اللهُ للإنسانِ بأن يُعَدِّد في دياناتِه وملله ونحله؟ أوَليْس منَ "الأفضل" أن يكونَ النّاسُ على ملّة واحدة؟!
من القرآن الكريم أقدِّمُ للقارئ العزيز جوابيَ- السّؤال: أوَليْسَ اللهُ هو من قال في سورة الإسراء (آية 23): ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ))؟! إذن فمهمَا عبدَ إنسانٌ وكيفما كان ما يعبدُه فإنّه لا يعبدُ حقيقةً إلّا الله، لأنّ عبادتَهُ أمر مقضيٌّ منه منذ الأزل، ولا أحد له القدرة على تغيير هذه الحقيقة المسلّمَة. وما دامَ فعلُ العبادة مظهراً وتجلّياً من تجلّيات الجمال الإلهيّ، فإنَّ كلّ عابد هو في الحقيقة مُحِبٌّ عاشقٌ لصورة الله الجميل في كلِّ شيء، وهذا هو مقامُ العارفين لأنّهم لا يكتفونَ بحبِّ الله وعشقهِ في صورة واحدة وإنّما في الوجود بأسرِهِ، وهُم بهذا يختلفون عمّن أحبّ ويُحبُّ اللهَ بشكل محدود وفي دين معيّن جاعلاً منَ الأماكن جهَةً يُقدّسُها ويحجُّ إليها، فهذا يهوديّ يوجّهُ بصرَه إلى القدس وحائط المبكى كلّما حلّت أعياد البيساح والشَّافوت والسكوت، وذاك مسيحيٌّ يقصِدُ كنيسة القيامة ونهر الأردن والفاتيكان، وآخرٌ مُسلِم يوجّهُ قلبَهُ إلى مكّة حيث الكعبة، ورابعٌ بوذيٌّ يحجُّ إلى لومبيني مسقط رأسِ المعلّم بوذا في النّيبال، وكذلك إلى بود جايا حيث نزلَ عليه الوحي أول مرّة. أو إلى سارناث في الهند، حيثُ أعلنَ عن رسالته وبدأ في نشر تعاليمه، وهكذا دواليك من الأماكن الّتي تختلفُ باختلاف ديانات من يقصدُها. وهؤلاء هُم في مراتب العبوديّة أقلُّ من أولئك الّذين يعبدون الله في كلّ تجلّيات الوجود، لأنّهم قيّدُوا إيمانَهم بقِبْلَة أو جهةٍ واحدة يستفرغون فيها كلّ جهدهم وطاقاتهم. واختلافُ قِبْلَة العبادة تشهدُ عليه آيةٌ قرآنيّة أخرى يقولُ فيها اللهُ عزّ وجلّ: ((وما خلقتُ الجنّ والإنسَ إلّا ليعبدونِ)) (8)، وهذا يعني أنّ كلّاً من الجنّ والإنس مشغول بعبادة خالقه الّتي اختلفت باختلاف مقتضيات أسمائه، والّتي يعنيني منها هنا اسميْه (الهادي) الوارد في الآية التّالية: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (9) ثمّ (المُضِلّ) المذكور في هذه الآية: (مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (10)، وكلاهما عابدٌ؛ الضالُّ والمُهْتدي، إذ المللُ ما تفرّقتْ واختلفتْ إلّا لأنّ كلّ طائفة تعتقدُ أنّ عبادتَها لله على الشّكل الذي اختارتهُ أمرٌ صائب، وإلّا فما معنى أن يقول ربّ العزّة: ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)) (11)، وهو سبحانه وتعالى المتصرّفُ في عباده من حيث تنوّع عباداتهم واختلافها، وهوَ التّنوّع الّذي تحقّقَ على الأرض من بابَيِ الولايةِ والنّبوّة. وقلبكَ المسمّى بآدم ونوح وإدريس وعليّ ومحمّد وما شئت من الأنبياء والأولياء كان أوّل من شرعهُما على مصراعيْهما، لأنّه كان ممّن جمع بين الولاية والنُّبوّة؛ فحينما كانَ في الفردوس وهناءة البيضة الكونيّة، كان وليّاً لله وكان يؤمِنُ به من حيث مقامهُ في دار الكرامة والمشاهدة والكشف، وحينما نزلَ إلى الأرض الأنثوية ومائها الأصفر وتناسلتْ وكثرت ذريّتُه، أصبح نبيّاً فأُرْسِلَ إليهم ليهديهم إلى طريق الله والإيمانِ به، ومنذ ذلك الحين والبشريّةُ منقسمة بين معتقِدٍ في الله وبين مؤمن بالطّبيعة ونجومها ومائها وأحجارها وكواكبها وبين ناكرٍ للخالقِ تماما، وإن كان حتّى النَّاكرُ عابداً لله مُسَبّحاً له وإن لم يفقهِ النّاسُ تسبيحَهُ، ألمْ تسمعِ اللهَ أيُّها القارئُ العزيز وهو يقول في فرقانه المبين: ((مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)) (12)؟!، نعم، إنّهم فرحون بأعمالهم في الدّنيا وفي الآخرة أيضاً، وإن كان مآلهم إلى الجحيم، أيْ أنّهم على الرّغم مما ذاقوه من عذابٍ في النّار، فإنّهم إذا حدثَ وأعيدوا إلى الحياة الدُّنيا، لعادوا إلى ماكانوا عليه من إنكار لله وعدم إيمانٍ ظاهريّ به، لأنّهم استلذّوا عذابَ الجحيم من باب رحمة اللهِ بعباده، وإلّا لما كان قال الخالقُ: ((أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)) (13)، فهو وحده يجيبُ المضطرَّ حتّى وإن كان في الجحيم (14) ويكشفُ عنه السّوءَ والعذاب! فسبحانه وحده جعلنا نتكلّمُ أكثر من لغة، وندين بأكثر من دين، لتتحقّق مشيئته وكلمته، ويتجلّى ملكوته!
وأمّا عمّن يكفّرُ الآخرين من أهل الديانات الأخرى لأنّهم يعبدون إلها لا علاقة له بإلههم الّذي تنص عليه كتبهم كما يحدث في كثير من الأحيان بين المسلمين والمسيحيين، فهذا ما لا يقبلُه عقلٌ ولا منطق! ومن يؤمن بهذه الفكرة معتمداً على قضيّة التَّثليث لدى المسيحيين مثلاً كحجّة ضدّهم، فإنّي أظنُّ أنّه قد وجب رفعُ حجاب الغموض والخلط والتّشكيك. والبداية ستكون من قوله تعالى حينما سأل السَّيّدَ المسيح عيسى ابن مريم:((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ، قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (15)، وهي الآية التي سأعقّبُ عليها كما يلي: إذا كان أوّل القرآن بـسم الله الرّحمن الرّحيم، فإنّ أوّل الإنجيل باسم الأب والابن والرّوح القدس، وما وقعَ الخطأُ إلّا في طريقة التّأويلِ لكلتا البسملتيْن فأخذَ قوم عيسى في بداية العهد المسيحي الكلامَ على ظاهره فظنَّ البعضُ منهم أنَّ الأب والابن والروح القدس شيئاً واحداً، وقالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، دون أن يعلموا آنذاك أنّ المُراد باِسم الأب هو الله، وباسم الابن هو ماهية الحقائق، وباسم الرّوح القدس هو الوجود المطلق لأنّهُ نتيجة عن ماهية الكينونة والجوهر مصداقا لقوله عزّ وعلا: (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (16)، وعليه يصبحُ ردّ سيدنا المسيح على سؤال الله: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) دليلا على براءته مما توهّمَهُ قومه لأنّهُ زاد في بيان وإيضاح ما التبس على الناس. فليس عيسى هو الله، ولا أمُّه كذلك معتذراً في الوقت ذاته لقومه طالبا من الربّ ألّا يلومَهم على ما فعلوهُ من خلال ما علمُوه بالإخبار الإلهي في أنفسهم، لذلك قال عيسى: (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وهو يعلمُ جيّداً أنّ قومَه لم يخرجوا عن الحقّ أبداً، وإلّا ماكان طلبَ لهُمُ المغفرةَ، واكتفى بفعل ما فعلهُ إبراهيم (ع) مع أهله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (17). وهذا ما يفسّر كيف أنّ جواب الله كان بأحسن ما يكونُ الجواب الإلهيّ دائماً حينما قال: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (18)، أيْ أنّهم لمّا كانوا صادقينَ في تأويلهم لكلام الله على ما ظهرَ لهُم منهُ، فإنّ صدقَهُم هذا نفعهم عندهُ حتّى آلوا إلى الرّحمة الإلهيّة فكانَ الإنجيلُ عبارة عن تجلِّيات الذّات في الأسماء، والّتي يُعدُّ التَّجلّي في الواحديّة إحداها، وأعني بهَا تلكَ الّتي ظهر بها على قوم عيسى في عيسى، ومريم وكذا في الرُّوح القدس، فشهِدوا الحقَّ في كلِّ مظهر من هذه المظاهر مصداقاً لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (19).
لأجل كلّ هذه الاختلافات فإنّ الأديان بشكل عامّ تبقى مؤسّسات ناموسيّة، قائمة على منطق القانون، والثَّواب والعقاب، غير قادرة على درء الشرّ عن الإنسان ولا على تحقيق السّلام في الأرض وفي قلوب النَّاس. إنّ كلّ شيء يقوم على القانون ينبعُ من منطق الخوف، وكلُّ شيء يقوم على الخوف لا يمكنه أن يعرف الطّريق إلى الحبّ أبداً. معظمُ المعتقدين في الأديان والمؤمنين بها، تتعلّقُ قلوبهم بالجنّة وتخشى النّار: لا يوجد أحدٌ يحبّ الله من كلّ قلبه ومن كلّ نفسه، لأنّه يفتقرُ إلى منطق الحياة الّذي تكبته الأديان في قلوب النّاس. الدّين كالقانون، يفرض الخوف، والحبُّ تعبير واضح وصريح عن عدم الخوف. كثيراً ما نسمعُ في حياتنا اليوميّة أنَّ القانون هو سيّد المجتمع، لكنّنا لا نتساءل أبداً عن المعنى الحقيقي لهذه العبارة، ولو تأمّلناها للحظة واحدة سنجدُ أنّها تعني أنّ كلّ المجتمعات تعيشُ في خوف مستمرّ من العقاب، لكن لك أن تتخيّل معي كيف لو كان الحبّ هو سيّد المجتمع، لا شكّ أنّ حياة النّاس ستكون آمنة وسالمة من كلّ المنغّصات والآلام.
مشكلة النّاس اليوم أنّهم يكثرون الحديث عن الحبّ دون أن يعرفوا ماهيته وحقيقته أبداً: الطّفل في البيت يجد أمّه صباح مساء توصيه بأنْ يحبَّ أباه وأقاربه، كذلك في المدرسة يحدثُ الشَّيء نفسه، لكن لا أحد يقول لهؤلاء الأطفال إنّ الحبّ لا يحتاجُ إلى تعليم، فهو إمّا ينبعُ من داخلك وإمّا لا. من يعلّمُكَ الحبّ يجني عليك دون أن يدري، لكن من يتركُ لك حرّيّة الإحساس بالحبّ والاطّلاع على نبعه الفيّاض في داخلك، يكون حقّاً قد دلّك على الطَّريق السَّليم. الحبّ لا يحتاج إلى وصايا، أو تعاليم أو نواميس وقوانين، وإنّما يحتاج إلى حلول السّلام في القلب، وهو السّلام الّذي لم تستطِع الأديان أن تحقّقه لأنّها حينما شغلتِ النّاسَ بالجنّة أنتجتْ لنا جماعات هائلة من الطّامعين، فظهر من يعلنُ الحروبَ ويشعلُها من أجل هذه الجنّة، وحينما شغلهتم بالنّار أنتجتْ لنا جموعاً غفيرة من الخائفين والمرعوبين! أرأيتَ عيسى يا عزيزي القارئ؟ هل وصلكَ خطابُه؟ هل تعرف من هو حقيقة؟ دعني أعرّفكَ به إذن: إنّه الرّجل الوحيد الّذي جاء ليقلبَ نواميس الأديان رأساً على عقب. لأنّه لم يأتِ بقانون أو شريعة أو ناموس، وإنّما جاء فقط بالمحبّة، لأجل هذا لم يتقبّله تُجّارُ الدّين حينما ظهر، وحاكموه بمنطق القانون واعتبروه مجرماً وعاقبوه على درس المحبّة، ولعلّ طريقته في تعامله مع تلك المرأة الزَّانية أصدق مثال ودليل على ما أقول: إنّه لا يُدين أحداً، لأنّ الدَّيّان الحقيقي هو الله ولا أحد غيره. ألّا تُدِينَ أحداً يعني أنّكَ أصبحتَ مُعلِّماً، وليس رجلَ دين متنوّر فقط، لأنّ الفرقَ بين الاثنين شاسع جدّاً. من الممكنِ أن تُصبح متنوّراً، لكنّه من الصّعب جدّاً أن تكون مُعَلِّماً، لأنّ مسار الحالتيْن أو الصّفتيْن مختلف تماماً. المتنوّرُ وإن كان رجل دين مقيّدٌ بالأطماع، والمُعلِّمُ متحرّرٌ بالحبّ والعطاء والكرم. وسأعطيك عزيزي القارئ مثالاً على هذا الفرق بين المتنوّر والمُعلّم، فالرّاهبُ الشّابّ مثلاً قد يكون مجرّد متنوّر يحفظ الطّقوس، ويحافظُ على العبادات، ويحرِمُ جسدَه وعقلَه من المغريات، لكنّه على الرّغم من ذلك لم يحدث بداخله التَّنوّرُ الحقيقي الَّذي يرفعُه إلى صفة المعلّم، لأنّ الطّاقة الّتي بداخله قد تحوّلتْ إلى كبتٍ يستحيل معهُ أيّ تحوّل أو تفتّح صادق وفعّال.
الرّاهبُ أو السّالكُ (بغض النّظر عن عقيدته أو ديانته) الّذي لا يتزوّج مثلاً، أو لا يعرف النّساء أبداً، قوّتُه أو نارُه الجنسيّة تتحوّل إلى كبتٍ يعوقه عن العروج إلى سماوات الملكوت، لأنّ الأنثى ضرورية جدّاً لهذا النّوع من العروج، إنّها المرآة الّتي تُحقِّقُ التَّعرُّفَ على النّفس، والشَّيء نفسه ينطبق على المرأة "الرّاهبة" أو العارفة أو السّالكة في الطَّريق. واسألْ عزيزي القارئ أهلَ الفيزياء عن هذا الأمر يخبرونَك بأنّ كلّ طاقة لا تنتهي أبداً وإنّما تتحوّلُ، والطَّاقة الجنسيّة الَّتي أنا بصدد الحديث عنها الآن، إذا لم تُوَجَّه بالشّكل السّليم فإنّها تتحوّلُ إلى كبتٍ، وكلّ كبْتٍ هو مدمّر للطبيعة البشريّة، وثمّة من رجال الدّين من يستخدمُ هذا الكبتَ في الدّخول إلى باب الطّمع وتحقيق الغايات القصوى من الحياة الكهنوتيّة أو العرفانيّة، وهذا ما يُفسِّر ما سجّله تاريخ الدّيانات من تطاحنات دمويّة قاتلة في جيراركيات الكنائس والمعابد والمؤسّسات الدِّينية الأخرى، وما قام به بعد ذلك بعض المتصوّفة من تصفيات لبعضهم بعضاً بدافع من الغيرة والحقد والحسد.
أن تتحوّل من درجة المتنوّر إلى درجة المعلّم يعني أن تحترق بنار الحبّ، ولا يكفي أن تكون من أهل العمل فحسب، أو من أهل العِلم فقط. لا بدّ أن تجمع في طريقك بين جهادك للنّفس والجسد، وبين عملكَ على العقل وناركَ المقدّسة.
ورجال التّنوّر في هذا لا يسلكون طريقاً واحداً، وإنّما هُم مختلفون باختلاف الطّرق الَّتي تؤدّي إلى الله، لكن الّذي يحدث أحياناً -وهذا ليس بالأمر الجيّدِ طبعاً- أنّ البعض منهم يكتفي بطريق واحدٍ، فيصبح إمّا من رجال العمَلِ وحده، وإمّا من رجال العِلم، أو من أهل القلبِ فقط، والحقيقة أنّ المتنوّر الحقّ ليصلَ إلى درجة المُعَلّم، عليهِ أن يجمع بين كلّ هذه الطّرق والمسالك. ومن لديه خبرة ودراية بماهية الجسد البشري، سيعرف جيّداً قيمة ما أقول، لأنّ هذا الجسد هو على درجتَين: فيه العقلُ؛ وهو المرشدُ الأعلى، وفيه النّار المقدّسة، وهي طاقة الحياة، والعقل هو المتحكّمُ في النّفس يُذَكِّرُها بأصلها النُّورانيّ، ويدعو مركبة الجسد إلى الصُّعود إلى أعلى، ويُذَكّر النّفسَ بأنّ كلّ عذاباتها وأمراضها هي مجرّد خيال ووهمٍ يُمكنُ حرقهُ جيّداً بالنّار المقدّسة والّتي كثيراً ما تحدّث عنها الله في العديد من نصوصه أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر هذه الآية القرآنيّة الّتي يقول فيها: ((وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ، إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)) (20). هذه النّارُ بيتُها الأوّل هو أسفل الظّهر وإذا اهتدى إليها مُوسى- العقلُ دعَاهَا إليه وأمسكَ شعلتَها بيديْه وارتفع بها إلى الأعلى ليحرق بها كلّ الشَّوائب، وأنار بها بقيّة "أهله" الَّذين هُم القلبُ والفؤاد والرّوح والحواسّ، ويجبُ أنْ أذَكِّرَ وأنا في هذا المقام بأنّ هذه النّار تَضْعُفُ إذا استهلكَها الإنسانُ كاملةً بإخراجِها من باب الشّهوة الجنسيّة المبالغِ فيها، أو عن طريق الجَشع والنّهم والأكل الكثير، لذا فإنّه من المستحسن أن يعمل كلّ إنسان يرغبُ في سلوك طريق النّور أن يحافظ على مَنْيِهِ ومائِه لأنّهُ طاقة مقدّسة وذلك بأن يقنّنَ الممارسة الجنسيّة، وألّا يحرقَ عقلَه وجسدَه بالتُّخمة الَّتي لا تجرّ إلّا الوبال والمرض، وأنْ يقلّلَ من الكلام، لأن اللّسان مُهدر كبير لطاقة الإنسان، وأن يغضّ ما استطاع بصره عن النّظر إلى المغريات لأنّها تسرقُ الطّاقةَ عبر العين.
النّار المقدّسة شيءٌ مهمّ في جسد الإنسان، لأنّ بها يتمُّ العمل على العقل والقلب، وهو ما اصطُلِحَ عليه لاحقاً بعمل الرّوح القُدُس. العقلُ والقلبُ هما كآلة العود إذا لمْ يعرفِ الإنسانُ كيف يضبطُ أوتارها جيّداً بحيثُ لا تكون مشدودةً جدّاً، ولا مرنةً أو مُرتخيةً بشكل مبالغ فيه، فإنّه لن يُقَدِّمَ معزوفتَه الخاصّة الّتي تميّزهُ عن بقيّة النّاس. ومن الأخطاء الّتي مازال يرتكبُها الإنسان لليوم، اعتقادهُ أنّ طاقتَه تنبع من قلبه فقط أو من عقله أو منهما معاً، في حين أنّها تنبع من سُرّتهِ لا غيْر. لا أحد ينظرُ إلى الوردة ولا إلى الشّجرة ويستوعبُ حقيقةً أنّ جذورَها هي سببُ حياتها. الكلّ ينظرُ إلى رأس الوردة يقطفه ويشمّه، أو إلى رأس الشّجرة يجني ثمارَه وأزهارَهُ. لِذا أقولُ لكَ عزيزي القارئ إنّ الإنسانَ هو بمثابة الشّجرة الواقفة وجذورهُ في سرّته، وهي المكان الوحيد الّذي منه يستمدُّ الطّاقة وينفتحُ بهِ على الوجود.
كلّ مجتمعٍ يعتمدُ على العقلِ فقط، يكونُ مجتمعاً فاسداً وممتلئاً بالمجانين والمهووسين، والشَّيء نفسه بالنّسبة للمجتمعات الَّتي تهتمُّ فقط بروحانيّاتِ الجَسد. العقلُ وحدَه لا ينفعُ، لأنّهُ آلة حسّاسة وهشّةٌ جدّاً، وليس لها كلّ القدرة والطّاقة اللّازمة من أجل تحمُّل ضغوطات الحياة بما فيها القلقُ والغضب والألم، والإجهاد النّفسيّ وما إلى ذلك، لأنّهُ في الأخير سيعلنُ فشَله ويتوقّفُ عن العمل الصَّحيح، وهذا هو السّبب وراء كثرةِ المختلين عقليّاً والمرضى النّفسيين في المجتمعات المعاصرة. على كلّ إنسان أن تصبح غايتُه تحقيقَ أعلى درجات الصّمت في حياته اليوميّة، وأعني هنا الصّمتَ المصاحَبِ بالسّماع والاستماع والاستمتاع. قد يبدو الأمر صعباً، لكنّ العقلَ لا يمكنه أن يعمل حقيقةً وبشكل خلّاق إلّا إذا تحقّق له الصّمتُ والسّماع الكامليْن. كلّ إنسان مطالبٌ بهذا الصَّمت من أجل التّواصل مع مركز الطّاقة الأهمّ في جسده وهو السّرّة. وهذا يعني العودة بالعقل إلى حياةِ المشيمة حيث الصّمت الّذي لا يعادله صمت، وحيث الهناءة والوداعة والسّلام. كلّ إنسان بدأ حياتَهُ هكذا، لكن الأخطاء الّتي ارتكبتْها الحضارات والثَّقافات والأديان في هذا المجال لا تُغتفرُ أبداً.
في المجتمعات البدائية كانتِ الأمُّ بمجرّد أن يُقطعَ الحبلُ السّرّي الّذي يربطُها بطفلها، تُسارعُ مباشرة إلى تعويضه بثدي الأمومة، وكانت - وهي الّتي لم تكنْ لا بالمثقَّفة ولا الفيلسوفة ولا الطّبيبة - تعرفُ جيّداً كيف تنتقلُ من مركز السُّرّة إلى القلبِ، وتربطُ قلبَها بقلبِ رضيعِها عبر الثَّدي، الشَّيء الَّذي يعني أنّ الطّفلَ كانَ ينمو بالمحبّة والسّلام. وكانتِ الأمُّ لا تحبُّ أبداً حرمانَ ابنها من حليبها إلَّا بعد أن يبدأ هو وعن طيب خاطر في الابتعاد عن الثّدي بعد أن يصبح عمرُه ثلاث سنوات وفي حالات أخرى حتّى أربع سنوات.
اليوم وقد تغيّرتْ وضعيةُ المرأة وانتقلتْ من حالة البداءة إلى حالة العقل والثَّقافة والتَّمدّن والتَّحضّر، أصبحت ما إن يُقطَعُ الحبل السّرّي حتّى تُلقمَ طفلَهَا زجاجة الحليب الاصطناعيّ فتُضَاعِفَ من ألمه وحرمانه بفصل سُرّتهِ عن سُرّتها، ثمَّ قلبِه عن قلبها. وهذا ما يفسّرُ كيفَ أنّ الثَّقافةَ السّائدة في الغرب هي ثقافة العقل، وذلك لتعويضِ ما تمّ فقدانُه في كلّ القرون الماضية من علاقةٍ بين السّرّة والقلب. بل هذا ما يُفسّرُ أيضاً كيف أنّ العديد من رجال الثّقافة الكبار والمشهورين في العالم الغربيّ عانوا في حياتهم من الجنون أو من الأمراض والآلام العقليّة المختلفة. والمرأةُ قد ساهمتْ بشكل كبير في هذا الخراب الرّوحيّ. لذا تجدُ أنّ الإنسان في مساره الحضاري قد عوّضَ صورتَها حتَّى في الدّائرة اللّاهوتيّة والإيمانيّة بصورة الإلهِ -الأب، ولم يعترفْ قطّ بصورة المرأة -الإلهة، وفي أقصى الحالات أعطاها درجة "أمّ الإله"، وليست بالإلهة أبداً. أمّا على مستوى الحياة اليوميّة، فانظرْ كيف أصبح الأبناءُ يعاملون أمّهاتِهم في كلّ ركن من العالم: لا يوجد هناك احترام، ولا محبّة، ولا مودّة. لأنّ جُرحَ الأبناء في أمّهاتهم عميق جدّاً ولا يستطيعون أن يغفروا لهنّ ما ارتكبنَه في حقّهم من جريمة حينما منعنَ عنهم الثّدي واستبدلنهُ بقنّينة زجاجيّة أو بلاستيكيّة يبحثن فيها بشكل أو بآخر عن طريق يوصلهم جميعاً؛ أمّهات وأبناء إلى ماضي السّرّة والقلب. لأجل هذا أقول إنّ ثديَ المرأة شيء مقدّس والله لم يخلقه عبثاً، وإنّما جعله بوابةً إلى عالم الرّوح وملكوت السَّلام: انظر إلى لوحات الفنّانين الكبار وستلمس بنفسكَ مدى الحرمان الَّذي تعيشه الإنسانيّة. الكثير من الفنّانين يرسمون أثداء النِّساء بشكل رائع وبديعٍ، ويعبّرون فيه جميعُهم عن مدى حاجتهم الشَّديدة إلى الحبّ والحنان والأمن والأمان.
لا يمكنُ للنّساء أن يطلبن المستحيلَ وهنّ يعانين من عنف الرَّجل وشرّه في كلّ مكان؛ عنفه في الشَّارع، عنفه في العمل ثمَّ عنفه في البيت. إنّها كارثة حقيقيّة ولن ينقذكم منها أيّها النّاس سوى المرأةِ نفسها، وهي الآن مطالبة أكثر من غيرها بالعودة إلى سُرّتها وثديها، حتَّى تقود أبناء العالم إلى مركز الطّاقة الحقّة، وحتّى يجدَ العقلُ طريقه إلى الطَّمأنينة والسَّلام.
شرّ النّاس وحروبهم المضطرمة في كلّ مكان ناتج عن هذا الشّرخ الأموميّ الكبير، وعن كراهيّتهم لأنفسهم لدرجة أنهم يرتكبون الشّرّ ويتلذّذون به وبنتائجه أكثر من فعل الخير. وحينما أقول إنّ النّاس يكرهون أنفسهم، فإنّي أقصد بالكراهيّة تلك الَّتي تستمدُّ مشروعيّتها من الوصايا والأحكام الدّينيّة. معظمُ نصوص اللّاهوت وفي كلّ الدِّيانات تُحَذِّرُ الإنسانَ من نفسه، وتقولُ له إنّها الأفعى الَّتي تسعى بين جنبيْه والَّتي عليه أن يحاربَهَا بدون هوادة ليضمن لروحه النّجاة، ولأنّ الكثيرَ من النّاس يملكونَ خيالاً خِصباً في تأويل الوصايا والتّعاليم، فإنّكَ تجدُهُم يطبّقونها بحذافيرها مكتفين فقط بالمعنى الظّاهريّ الَّذي غالباً ما يقول لهم: "أبغض نفسَكَ وأحبَّ الله، هذا هو الخلاص". ومن هذه المُلاحظة يحقُّ لي أن أتساءل وإيّاكَ أيُّها القارئ العزيز وأقول: ما الّذي استفدناه من كراهية الإنسان وبغضِه لنفسِه؟ الواقع العالميّ المَعِيش مِن حولنا يقول: آلافٌ مؤلّفة من الشّباب فجّروا أنفسَهم في الكنائس والمساجد، في المعابد والأسواق، وفي التَّجمّعات التّجارية والشَّوراع. أليس كذلك؟ كلّ هؤلاء فعلوا هذا، لأنّهم "يحبّون الله"، ويكرهون أنفسَهم.
المسلم الّذي يقتُل المسيحيّ، يقوم بذلك لأنهُ يُحِبُّ الله؛
المسيحيّ الّذي يقتل المسلمَ، يقوم بذلك لأنّه يُحبُّ الله؛
اليهوديُّ الَّذي يقتلهُما معاً، يفعل ذلك، لأنّه هو أيضاً يحبُّ الله؛
والبوذي الّذي يقتلُ المسلم، يقوم بذلك لأنّه يُحبّ الله ربّما أكثر منهم جميعاً، واللّائحة تطول طبعاً.
طيّب، إذا كانت محبّةُ الله تتسبّبُ في كلّ هذا الألم والعذاب، فمن يكون هذا اللهُ الّذي من أجله يتقاتَلُ كلّ هؤلاء؟! لا شكَّ أنّه سفّاك يحبّ الدّماء ونحن لا ندري عنه شيئاً. لأنّ اللهَ الّذي أعرفه أنا وتعرفُه أنتَ عزيزي القارئ، ليس له أيّة علاقة بهذا الإله الَّذي باِسْمِه تُرْتَكبُ كلّ هذه المذابح! ما أريدُ قوله هو أنّ من يكرهُ نفسَه، لا يمكنُه أن يُحِبَّ اللهَ أبداً، لذا فإنّي أعتقد أنّهُ من الأفضل لو يتركِ النّاسُ جميعاً اللهَ جانباً، وليبدأوا على الأقلّ بحُبِّ أنفسِهم، لأنّ طريق الخلاص الحقّ يكمُنُ هُنا، في هذه النّفس الَّتي يوصي الجميع ببغضِها ومقتها.
كونوا محبّين لذواتِكُم، ما من مُشكل في ذلك، أحبّوا أنفسكم قدر ما استطعتم، اكتشفوها، تعرّفوا عليها، ولا تنصتوا للباقي، لأنّ الولادة الجديدة تقتضي المحبّة قبل كلّ شيء، وهذه المحبّة إذا لمْ تبدأ من الدّاخل فإنّكم لن تجدوا اللهَ أبداً.
الحبّ هو الحلّ إذن، لأنّه يفتحُ عينيْكَ على الحياة، وكونكَ تعيش اليوم فهذا لا يعني أنّكَ تحيا، فرق كبير يا صاحبي بين الحياة والعيْش. انظر حولك ولو لبضع لحظات، انظر إلى حياتكَ كيف هي؟ وستجد أنّها جحيم مطلقة، لأنّك لم تعرف اللهَ الحقّ بعد، على الرّغم من إيمانك وصلواتك وعباداتك، إنّك مازلتَ على الشّاطئ، ضائع كقوقعة منسيةٍ من كلّ شيء.
لا تصدِّقْ من يقول لكَ كُنْ كعيسى، أو كُنْ كمحمّد وموسى، أو كمريم وفاطمة، أو كتيريزا ورابعة، لأنّ في هذا القول إهانةٌ كبيرة لكَ، وتقزيمٌ وتحقير لنفسكَ. أنا أقول لكَ في المقابل: كُنْ أنتَ ولا شيء غير هذا. كُنْ نفسَكَ، لأنّه ربّما بهذا ستكتشفُ أنّه قدْ تكون أفضلَ من هؤلاء جميعاً، إذا أردتَ طبعاً ذلك من كلّ قلبك وروحكَ، وإلّا فما قيمةُ خَلْقِ اللهِ لكَ؟ اللهُ بديع السّماوات والأرض، لا شيءَ يخلقُه يتكرّرُ أو يتشابهُ أبداً، وما من شيء في الكون إلّا وتوجَدُ منه نسخةٌ واحدة فقط. وهذا ينطبق عليكَ أنت أيضاً: انظر إذن بداخلك، واعرف نفسك من تكون. وتذكّر أنّ المسيح واحد لا يتكرّر، ومحمدّاً كذلك، ومريم وفاطمة وهلمّ جرّاً. هذا هو سرّ الحياة الّذي يتطلّبُ منكَ أن تعيش بقلبٍ حيّ وشجاع، وتذكّر جيّداً أنّ الحياة ليست ثابتة وإنّما هي المتحوّلة والمتغيّرة دائماً، لا شيء فيها مضمون، ولا شيء فيها يدعو إلى الاطمئنان والخمول، عليك أن تكون متيقّظاً، ومتأهّباً ومستعدّاً لكلّ شيء، وتذكّر أيضاً أنّني لستُ هنا لأعطيكَ شروحاتٍ جاهزةً، لأنّها هي أيضاً غيْرُ ثابتة، وكما هي صالحة لكَ، فقد لا تكون كذلكَ بالنّسبة لغيركَ، وكما قد تكون صالحة اليومَ فقد لن يصبح لها أيّة قيمةٍ غداً. وصايا العديد من الأنبياء كانتْ صالحَةً لفترة معيّنة من الزّمان، ولو عادُوا اليوم لا أعتقدُ أنّهمُ سيأتون بنفس الوصايا والكتب. هي هكذا الحياة، هذا هو قانُونها الأوحَد، إنّها شلّال هادر، عاصفة هائجة، أنهار متدفّقة، حركة دائبة نحو الأمام الأبديّ اللّامنتهي، لذا عليك أن تفتحَ نوافذ جديدة في أعماقك لتتحقّقَ لكَ كينونتكَ وتتفاعلَ وتَنْسَجم معها ليس بعقلك فقط، وإنَّما بقلبك أوّلاً وقبل كلّ شيء، لأنّك إذا فعلت هذا فستكون قد أدركْتَ السّرّ.
(6)
تحتَ فيء شجرة المحبّة

أيُّها المحبّ، مازال قابيل يقتلُ هابيل، فيروس كورنا، الشرّ الجديد يقول لك هذا، والنفوس المسجونة في الصّدور لها رائحة البيض النيّء، أقول هذا لأنّه في العام الماضي، حدثتْ لي رؤى عرفانيّة كنتُ أحارُ في أمرها، وأطرح بشأنها العديد من الأسئلة! كنتُ أرى بعين الرّوح الكثير من الوجوه ذات السّمة الملكيّة في حالة انتظار. غرف فسيحة وقد اصطفّ فيها العديد من الأشخاص بمظهرهم الملكيّ الباهر وهم في حالة انتظار، منهم الواقفون ومنهم الجالسون فوق أرض لا يحدّها مكان ولا زمان. ثمّ شهراً بعد شهر فهمتُ بأن مكان الانتظار ذاك هُو نوع من السّجن الّذي يعيش فيه هؤلاء النّاس الّذين كانوا يأتون لزيارتي وعرض حالهم عليّ. ثمّ مرّت فترات أخرى، وأُلْقِي في قلبي أن هؤلاء ليسوا بأشخاص أو أناس عاديين، وإنما هم تجسّدات للنّفس البشرية بشتى تمظهراتها وألوانها، ولأنّها من خلق مَلك الملوك فهي تأتي بصفتها الحقّة ومظهرها الملكيّ الأوّل، أيْ بالتّيجان والعيون الصّقيلة الكحيلة والأثواب البيضاء اللامعة. ثمّ بعد ذلك عُرضَتْ عليّ القِدر الكونيّة الكبيرة ورأيتُ في مائها العديد من الوجوه المتشكّلة بعيون عديدة، وكانت له رائحة غريبة، تشبه رائحة البيض، فأصابني الدّوار والغثيان، ومرّت أيّام بعد أيّام، وبدأت الرؤيا تتّضح أكثر فأكثر وظهرتْ معاني جديدة كنتُ أسطّرها في قصائدي ودواويني الصّادرة في العراق عن دار الفرات للثقافة والإعلام، إلى أن أتى كورونا، وظهر السّجنُ الكبير الّذي كنتُ أرى فيه النّاس بتيجانهم وهم في حالة انتظار أو بعبارة أكثر دقّة في حالة حجر صحّيّ، واهتزّت الدّنيا، وانتشر الهلع في قلوب النّاس، وتوقّفت الرؤى القادمة من قِدر التّخليق، لأنّ الأمر تجاوز حدود عين الرّوح وأصبح متجسّداً على أرض الواقع المادّيّ. وبقيتُ في بيتي ثلاثة أشهر كاملة، لم أخرج فيها أبداً، ولا رأيتُ ولا كلّمتُ فيها أحداً، وانشغلتُ بحياتي الإبداعيّة والمنزليّة، وحينما كنتُ أشعر ببعض الضّيق كنتُ أخرج إلى شرفتي الكبيرة الطّويلة، دون أن أنسى ممارسة الرياضة داخل المنزل، وكنت أحرص كما العادة على أن يكون أكلي صحيّاً وسليماً، خالياً من الملح والسكّر والدهون وما إليها. ثمّ انتهى الحجر الصحّي في إيطاليا، وقررتُ أن أخرج ولو بشكل خاطف، لأرى ما الّذي حدث أو تغيّر في الخارج، وذلك ما قمتُ به فعلاً ولأكثر من مرّة ووجدتُ الحياة مستمرّة كما هي: الأسواق مفتوحة، سيارات الشرطة تجوب الشوارع، وبعضها يقف أمام متاجر التبضّع الكبرى، والنّاس هُمُ النّاس مع فارق بسيط، كانوا يرتدون الكمّامات والقفّازات، وبينما كنتُ أتجوّلُ لاحظتُ شيئاً غريباً، كانت هناك في الجوّ رائحة تشبه رائحة البيض النّيّء، أصابني دوار خفيف، وشعور بالغثيان، تذكّرتُ قِدْرَ التّخليق وفهمتُ كلّ شيء: النّفوس، كلّ النّفوس البشريّة والحيوانيّة والنباتيّة، هي الآن في حالة اختمار وتحوّل، هناك مسار من التحلّل والتعفّن الّذي سيليه موتٌ ثمّ ولادة جديدة. الإنسان الآن في هذه المرحلة من الحياة، إنه في حالة تفسّخ، ولا أعني به التفسّخ الجسديّ المادّي، وإنّما الدّاخلي الرّوحيّ، لأنّ الأجساد الماديّة حيّة وإن ظاهريّاً، ولكن الميت الحقيقيّ الآن هو النّفس وهي في حالة تحلّل ذاتي سيتبعه ولا شك تفكّك للهيكل الأثيريّ، ثمّ ولادة جديدة. كورونا وكلّ مرض أو وباء كما ترى ليسا شرّاً، إنّما هو إعلان عن ولادة جديدة في الطّريق، والشرّ الحق لا يظهر إلّا حينما تغيب المحبّة، وتجفّ أنهار الدّنيا من ماء الحبّ. لذا وجب عليكَ أن تعرف أن الحبّ هو معراجك الوحيد من الجحيم إلى الفردوس، وأنّ كلّ من يسأل عن الله هو في الحقيقة يسأل عن الحبّ، ومن عرف الحبَّ عرفَ المحبوب. ليست المشكلة في أين هو الله ولماذا يسمح بتجلّي الشرّ في حياتكَ، مرضاً كان أو حرباً أو كارثة طبيعية أو إرهاباً، إنّما المشكلة في أينكَ أنت؟ ولماذا أنت لليوم أعمى وأصمّ وبدون أيّ نوع من الإحساس لتشعر بوجود الله أو وجود الحبّ في كلّ مكان؟ فأين باللّه عليك ستبحث عنه وكل موجود هُو، إنّه الكيمياء الوحيدة التي تغيّرُ الكون. لذا أقول لك لا تنتظر التغيير في الخارج، إنّما كلّ شيء يتغيّر بداخلك وحينما ستكون ممتلئاً بالحبّ ستنفتح كلّياً على عالم جديد، وقلبك سيصبح ناياً بين شفتي الله، تخرج منه أنشودة عظيمة هي دينكَ الحقّ، ليس ذاك الّذي تلقيته في المعابد والكنائس والمساجد وعبر الطّقوس المختلفة، وإنّما ذاك الّذي ينبع من محرابك الدّاخليّ وبئركَ العميقة والتي بها سترى أن الحياة أغنية رائعة، والوجود في تناغم ووئام مبهرين. دعني أروي لك حكاية بيداغوجيّة أخيرة بها أختم رحلتي الخيميائيّة معك: [ذهب أحد الفلاسفة إلى امرأة صوفيّة حكيمة وقال لها: ((علّميني الكتب المقدّسة في جلسة واحدة))، وكان يعلمُ جيّداً أنّ هذه الكتب السّماوية واسعة عريضة وتحتاج إلى العمر كلّه لمن يريد دراستها بشكل جِدّي، لكنّه حينما لمس صمتَ الصّوفيّة العارفة العميق، أضاف قائلاً لها بنبرة فيها شيء من التحدّي: ((لا شكّ أنّك تعرفين الكتب المقدّسة عن ظهر قلب، لكنّي أريد منكِ أن تحدّثيني فقط عن الأهمّ فيها والأشدّ والأكثر قيمة في مدّة زمنية وجيزة جدّاً)). رمته بنظرة ثاقبة وعرفت أنّه كان عند فلاسفة ومفكّرين آخرين وطرح عليهم القضيّة ذاتها ولأنهم لم يكونوا من أهل العرفان والتصوّف قالوا له: ((هذا أمر لا يستقيم، ولن تجد في الأرض قاطبة أحداً يمكنه أن يُعلّمك الكتب المقدّسة في جلسة واحدة)). ابتسمتِ السيّدة ثم قبلت التحدّي، وقالت له: ((افعل للآخرين ما تحبّ أن يفعله الآخرون لك، ولا تفعل للآخرين ما لا تحبّ أن يفعله الآخرون لك. هذه هي كلّ الكتب المقدّسة، والباقي كلّه شروحات وتعليقات)). ابتسم الفيلسوف، ثم خرج من عندها وهو يعلمُ أنّها أعطته درس الحبّ الأعظم الّذي تقوم عليه كلّ الدّيانات وتنادي به كلّ الكتب المقدّسة، لقد قالت له: أحبّ الآخرين كما تحبّ نفسكَ وأكثر، ولا تنظر لهم على أنّهم آخرين منفصلين عنكَ، إنّما أنت وهم شيء واحد، أغنيّة واحدة، بحث واحد عن الله، وقلب واحد وانتشاء واحد في حضرة هذا الوجود الّذي هو الحبّ المطلق!
*

الهوامش:
(1) مفكر وكاتب عراقي، متخصص في الفلسفة الإسلامية وله رؤية فلسفية حول الإصلاح ومناهج التفكير الديني. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ومستشار تحرير لمجلات ودوريات متعددة، يرأس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عا 1997 وحتى الآن. أصدر سلسلة كتاب "فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد". من بين كتبه: "الاجتهاد الكلامي"، و"مقاصد الشريعة "وفلسفة الفقه" و"فلسفة الدين"، و"علم الكلام الجديد"، و"إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين".
(2) على هذا الرّابط تجد أعدادا متنوعّة من مجلّة قضايا إسلامية معاصرة: http://www.sooqukaz.com/.
(3) لا يوجد فعليّاً في الكون شيء اسمه عُلويّ وسفليّ، فالقطب الأنثويّ هو التّكوين الإلهيّ النّقيّ، وهو رحمُ الإبداع الّذي منه انبعثت الخليقة، والعالم العلويّ ليس هو القسم الأعلى من البيضة الكونيّة بل الثالوث الأعلى من شجرة الحياة، التي رمز لها أهل الأسرار بشجرة حواء وآدم في الفردوس، وهي مؤلّفة من ثلاثة متواليات والعلويّ منها يمثل العالم التجاوزيّ المتحرّر من عاملي الزّمان والمكان، بينما العالم الدنيوي أو الجزء السُّفليّ من بيضة الكون إنّما هو الثّالوث الأخير وما يليه من تجسيد مادّي للكون.
(4) الأعراف: الآية 189.
(5) المولى محمد صالح المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، النّسخة الإلكترونيّة، الجزء 12، ص 9.
(6) انظر في هذا الصّدد، حديثنا عن شجرة الحياة في مقدّمة الإصدار الجديد: شجرةُ التّين والأفعى، تأمّلات نقدية عرفانيّة في دنيا أهل الحرف، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2020.
(7) أعني هُنا بالبرزخيْن، العالمَيْن الدنيويّ والعُلويّ، الأوّل عذب ونقيّ وطاهر والثّاني مالح وشديد المرارة، أمّا الفاصل بينهما فهو المكان الّذي يظهر فيه المخلّصُ: آدم، عيسى، الإمام المنتظر، وهي كلّها أسماء تعني بزوغ الشّمس الباطنيّة وبلوغ السّالك ذروة الفناء والتجرّد.
(8) الذّاريات: الآية 56.
(9) الفرقان: الآية 31.
(10) الأنعام: الآية 39.
(11) الإسراء: الآية 44.
(12) الروم: الآية 32.
(13) النّمل: الآية 62.
(14) الجحيم كالجنّة، حالة روحيّة وكلّ ما له علاقة بالرّوح تتجسّدُ صُورُه، وهذا يعني أنّ عملَ الإنسان يأخذُ صوراً معيّنةً حينما يتعلّقُ الأمرُ بالعالم الأثيريّ. الجنة والنَّار مفهومان كيميائيّان خالصان، وهمَا نتيجتان منطقيَّتان لعمل كلّ إنسان وتطوّرِه المعراجيّ، ولأنّ النّاسَ لليوم يعتمدون في عملهم على معرفتهم العقليّة، فإن حياتَهُم حالة من الجنون الخالص، وكيف لا وقد فقدوا الطّريق الأمثل إلى المعرفة الّذي هو القلبُ ثمّ الرّوح. عقلُ الإنسان اليوم أصبح عبارة عن مستنقع وا أسفاه، في الوقت الَّذي كان من المفترض أن يكون عقلُه كقلبهِ بئراً، لا مستنقعاً ولا بُحيرةً.
(15) المائدة: 116-118.
(16) الرّعد: 39.
(17) التوبة:114.
(18) المائدة: 119.
(19) فصّلت: 53.
(20) طه: 9-12.



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصول الأخيرة
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصلان الثاني وا ...
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصل الأول (2)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)
- تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدّين / المقدمة (1)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (1)
- إنسانُ السّلام: مَنْ هُوَ وكيفَ يَتكوّن؟ تجربة صبري يوسف الإ ...
- جدليةُ الحاءِ في سرديات وفاء عبد الرزاق: رقصةُ الجديلة والنه ...
- النقطةُ الجريحةُ، والحرفُ المتشظّي الباكي في تشكيليات الدكتو ...
- وفاء عبد الرزّاق وديوانها ((من مذكرات طفل الحرب)) بين مطرقة ...
- آلِيسُ فِي بلادِ عجائبِ منال ديب: سَفَرٌ وقراءَةٌ فِي قُدْسِ ...
- وطني الفردوس
- يُوسُفِيّاتُ سَعْد الشّلَاه بَيْنَ الأدَبِ وَالأنثرُوبُولوجْ ...
- الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز ...
- يوتوبيا البُرْج البابليّ في رواية (كائنات محتملة) للأديب الر ...
- خِطابُ الجَسَدِ في ديوان (وَصَايَا البَحْرِ) للأديب عبد النّ ...
- الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود ( ...
- وادي الملوك
- رواية بوشكين (عربي قيصر) ترجمة د. نصير الحسيني


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - في الشرّ وقضاياه