أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصلان الثاني والثالث















المزيد.....



تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصلان الثاني والثالث


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7529 - 2023 / 2 / 21 - 18:48
المحور: الادب والفن
    


الفصْلُ الثاني

بنية الصّورالوصفيّة وظاهرة التّواصل الحسّي

1.1 صورة المرأة

صورة المرأة داخل نصوص أديب كمال الدّين هي نوع من أنواع العودة إلى الجوهر الأنثوي للكون، فهي ليست مُشتهاة بالمعنى الحسّي للكلمة ولكنّها بالدّرجة الأولى الصّورة المُثلى التي يُحَبّ فيها الله ويُدرَكُ بها وعبرها جماله بشكل يجعل من القارئ يعيش مع الشاعر تجربة النشوة والانخطاف، نشوة تصبح فيها المرأة رمز معرفة لا رمز هوية ووجود، إذ بالصورة يتصوّر الإنسان المعرفي نفسه متجسّداً، وهذا التجسّد يسهّل عليه التعبير عن المعنى لقوة حصوله في الخيال. الشيء الذي يؤدي إلى حدوث امتزاج أو انصهار هذا الأخير وسط الصورة كي يتحقق الستر والإخفاء للطافة المعنى ذاته، لأن الستر الذي يقابله الرمز والإشارة هو النقطة التي يلتقي فيها الشكل والمضمون. لذا فإن التعرّف إلى الجمال الإلهي عبر العنصر الأنثوي، فيه اكتشاف لأرقى درجات التكوين والخلق، مما يجعل من المرأة عند البعض ثمرة معرفة وعند البعض الآخر سبيلاً إليها، سبيلاً غالبا ما تكون مغرقة في السواد والتيه والبحث عبر الألم والبكاء والاحتراق عن الوجه المشرق للحقيقة الأنثوية والحقيقة المعرفية، ولعلّ هذا ما يفسّر كون المرأة عند أديب كمال الدّين تظهر لنا بوجهين، واحد مغرق في الشهوانية وآخر عائم في بحار الأنوار والجذب الإلهي اللطيف، كيف لا والأنثى في داخلها كوامن لا يعرفها إلا خالقها: تجدها ناعمة تارة وشرسة تارات، شهوانية مثيرة حيناً وباردة كالموت أحياناً، فلا الأساطير أنصفتها ولا الأديان حوت عظمتها وأسرارها. فهي الكاملة وهي الناقصة وهي المُدمرة وهي البانية. إنها ببساطة شديدة نقطة حمأ الكون وسرّ الله الأبدي.

ـ المرأة الريح عند أديب كمال الدّين

يقول أديب كمال الدّين في نصه "امرأة بشعر أخضر":
"(1)
لخمسين عاماً
كان يرسمُ اللوحةَ ذاتها: لوحة الموت:
امرأة دون عمر محدد
تسوق سيّارة سوداء،
سيّارة مسرعة
تسوقها امرأة عارية.
عبر نافذة السيّارة
ترى ثديي المرأةِ عاريين
وترى شعرها أخضرَ منثوراً
وترى ملامحها الساذجة.
خلفها توابيت
توابيت من؟
السيّارة مسرعة
والرسّامُ مرتبك
لأنّ المرأة ذات الشعرالأخضر
بثدييها العاريين
بعينيها الكبيرتين
بملامحها الساذجة
تحدّق فيه طوال الوقت.
هل كانتْ تدعوه؟
لأيّ شيء؟
(2)
مرّ خمسون عاماً
ولم يكمل اللوحةَ بعد.
لكنّه في صباحٍ عجيب
رأى عبر شبّاكه ما رأى:
آه، إنها شجرة الليمون مثمرة، يا إلهي!
بسكينٍ حادة
قطع ليمونتين من الشجرة
وبسرعة
قطعهما إلى أربع شرائح
وبسرعة
أخذ أنبوبةَ الصمغ
ليضع الصمغ
على الجانبِ الرطبِ من الليمونتين
ثم لصقهما كعجلاتٍ لسيّارة الموت.
الآن اكتملتْ لوحته
لم يعد ينقص سيّارة الموتِ أيّ شيء!
(3)
كان فرحاً كطفل
كطفلٍ حقيقي
لكنّ وجهه يشحبُ بسرعة
ليصبح بلونِ الليمون.
فيما كانت المرأة
بشعرها الأخضر المتطاير
بثدييها العاريين
بعينيها الكبيرتين
بملامحها الساذجة
تسوق السيّارة بسرعة
لتطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ شيء!"








ـ الشفرة الزمنية للنّص

تقوم هذه الشفرة على دلالات مصطلحية تتوزع بين زمن قارّ ثابت وآخر سريع برقي وثالث لانهائي:
ـ الزمن القار: (خمسون عاما /// ذكِر هذا التعبير لمرّتين على طول أجزاء النّص الثلاثة)
هذا بالنسبة للتعبير الدال على هذا الزمن، لكن هناك أفعال وظروف زمانية لها نفس وظيفة الإيضاح الدّلالي يمكن جردها كما يلي:
(كان (2) + مرّ+ رأى (2) +قطع+ قطعهما+ أخذ+ لصقهما+ كانت /+ بعدُ+ الآن)
ـ الزمن السريع: (سيّارة مسرعة // ذكرت هذه العبارة ثلاث مرات على طول النّص + قطع ليمونتين من الشجرة وبسرعة + وبسرعة أخذ أنبوبة الصمغ + لكنّ وجهه يشحب بسرعة)
أما عن الأفعال الدالة على سرعة الحركة داخل هذا الجزء فإنها كالآتي: (تسوق(3) + ترى (3) + تحدّق + يكمل + يصبح + تطلق)
ـ الزمن اللانهائي: (امرأة دون عمر محدد + طوال الوقت + الموت)
من هذا التبسيط للصفة الزمانية داخل النّص، يمكن الوصول إلى طبيعة الحركة بداخل المعنى وإلى ما يكون قد نتج عنها من تطوّرات أو تمفصلات، وهذا لن يتمّ إلا عبر استدعاء شخصيات النّص واستنطاق أفعالهم داخله وخارجه.
في النّص توجد أربع شخصيات وسيتمّ الغوص في دواخلها عبر التفكيك التالي:
الشخصيات حركتها وأفعالها داخل النّص
الرسام يرسم لوحة الموت
مرتبك
مازال لم يكمل اللوحة
في صباح عجيب رأى
قطع بسكين حادّة ليمونتين إلى أربعة شرائح
أخذ أنبوبة الصمغ
ألصق بها الليمونتين كعجلات للسيّارة
يشحب وجهه بسرعة

المرأة ذات الشعر الأخضر تسوق سيّارة سوداء
عارية
تحدّق في الرسام طيلة الوقت
تطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ شيء

ـ الشاهد المستتر يرى ثديي المرأة عاريين
(ربما يكون القارئ) يرى شعرها الأخضر المنثور
يرى ملامحها الساذجة


ـ الرائي المتبصّر المحيط بكل شيء يصف كل شيء
(ربما الشاعر) يقول : لخمسين عاماً
كان يرسمُ اللوحةَ ذاتها: لوحة الموت
آه، إنها شجرة الليمون مثمرة، يا إلهي!
الآن اكتملتْ لوحته
لم يعد ينقص سيّارة الموتِ أيّ شيء!

كل هذا يعني أن هناك تطور وتمفصل داخلي في مسار فكر الرسّام، فهو من الجمود (الماضي) ينتقل إلى الحركة (الحاضر) ومن الحركة ينتقل إلى التحوّل ومن التحوّل ينتقل إلى القرار ومنه إلى تقرير المصير، مصيره ومصير الشاعر والمتلقّي معا (المستقبل). الوحيدة التي حافظت على تباث حالتها هي المرأة ذات الشعر الأخضر، فهي منذ ظهرت في النّص وهي تسوق مسرعة سيارتها السوداء ولا تنتظر أحدا.
ـ الشفرة الطلسمية
لوحة الموت التي يقدمها أديب كمال الدّين للقارئ تبدو سوداء في ظاهرها بل مربكة ومقلقة، وكأنّها كابوس ليلي مخيف، لكن القراءة المتمعّنة لها ولألوانها من خلال ما سبق جرده في الشفرة الخاصة بالزمن الداخلي والخارجي للنّص تفتح نوافذ جديدة يمكن الاطلاع عبرها على ما يخفيه النّص في صحرائه الخاصّة باللاوعي وباللاشعور الإبداعي، وهذا ما يمكن إيجازه وفقاً لما يلي من الإيضاحات:
ـ السيّارة السوداء :
هي في حقيقة الأمر ليست بسيّارة موت وإنما سيّارة حياة. والدليل على ذلك سرعة حركتها ونوافذها المشرعة. وهذه الحركة تعني رغبة في التغيير والتقدم نحو الأمام والتخلص من رتابة الماضي.
ـ المرأة ذات الشعر الأخضر:
هي شجرة الليمون وفي أثدائها أو ثمارها خير كثير وعميم، ولو أنها كانت بدون شعر طويل أو بدون لون أخضر، لكانت في النّص دليل شؤم وفقر ومرض. أما كونها عارية فهذا يعني أنها حبلى بسرّ عظيم يخصّ الرسام فقط أو الشاعر أو متلقّيا من نوع خاص له استعداد لتلقّي مفتاح المعرفة والجمال.
السكّين القاطعة:
هي فحولة وولوج ونكاح وانصهار وامتلاك لحقيقة رمز المرأة الخضراء والسيّارة السوداء، وبالتالي حركة فاصلة بين فترة ما قبل الخمسين سنة التي قضاها الرسام في الارتباك والتذبذب وما بعد هذه الفترة، أي حركة فاصلة بين الماضي والحاضر.
ـ الشفرة الأسطورية
في محاولة لمحاذاة مكنونات الشفرة الأسطورية سيتمّ في البداية التساؤل عن الكينونات التالية:
مّن يكون الرسّام؟ ومن تكون المرأة ذات الشعر الأخضر؟
للجواب عن هذين السؤالين ربما يقتضي الأمر التساؤل عن الكيفية التي صاغ بها أديب كمال الدّين هذه الصور وعن الأسس التي انطلق منها لحظة تنفيذ فعل الكتابة بل عن الميكانيزمات والآليات التي كانت تتحرك داخل ذهن الشاعر نفسه؟
في النّص كلّه ثمّة عنصر واحد يحمل بداخله مفتاح هذا السؤال، ولعلّه يكون عنصر الريح وإن كان غير واضح في أبيات النّص، إلا أنه ثمّة مصطلحات ستسمح له بالانبثاق والتجلّي عبر حركة توليدية تستكنه البنية اللفظية لما يلي من العبارات:
ـ تسوق سيّارة سوداء + سيّارة مسرعة /// لا يمكن للمرء أن يتصور سيّارة مسرعة دون أن يستحضر حركة الريح أو الهواء خارجها وهي الفكرة التي تجد ما يؤكّدها في العبارة التالية:
ـ شعرها أخضر منثورا + بشعرها الأخضر المتطاير /// لا يمكن للشعر أن يتطاير إذا لم تكن هناك ريح. الشيء الذي يعني أن نوافذ السيّارة كانت مفتوحة ومشرعة وهذا دالّ على أن السيّارة ولون شعر سائقتها وعريها، هي سيّارة حياة لا موت، وتقدم لا تقهقر.
لكن مهلا، ما لعملية التفكيك هذه وعنصر الريح؟ هذا سؤال يجد له جوابا في سؤال آخر: من تكون امرأة الريح هذه؟ وهذا سؤال آخر يجد الجواب عنه في الأساطير السومرية التي تغذّى منها لاشعور الشاعر في سنوات الشباب الأولى وربّما الصبا، وخاصة أساطير جلجامش التي لا تخلو مجموعة شعرية من اسمه. لكن ما لجلجامش وامرأة الريح؟
إنها المرأة التي ارتبط اسمها منذ حوالي 3000 سنة قبل الميلاد بالرياح والعواصف فعُرفت ب "ليليتو" في سومر، وب "لي ـ ليتو"عند الأكاديين أو(سيدة الهواء) أو الربّة "نينليل"، ربّة الرياح الجنوبية وزوجة "إنليل". وقديما عثر الأركيولوجيون على اسم "ليليتو" في قرص طيني سومري من مدينة (أور) يعود إلى 2000 سنة قبل الميلاد وفيه يحكى عن إله السماء الذي أمر بإنبات شجرة الصفصاف على ضفاف نهر دجلة في مدينة أورك وبعد أن كبرت الشجرة اتّخذ تنين من جذورها بيتاً له بينما اتخذ طائر مخيف من أغصانها عشاً له، لكن في جذع الشجرة نفسها كانت تعيش المرأة العفريتة "ليليث"، وعندما سمع (جلجامش) عن تلك الشجرة حمل درعه وسيفه وقتل التنين واقتلع الشجرة من جذورها فهربت "ليليث" إلى البرية.
ربّما تكون هذه هي الأسطورة التي استخرج منها الشاعر نسغ نصه لكن ليس ليعبّر عن الجانب المظلم للأنثى أو جانبها الشهواني كما صوّرته الأسطورة نفسها، ولكن ليصوغ للمتلقّي شكلا جديدا من أشكال الخلق والتكوين معتبراً الأنثى فيه عنصر صراع يتحقق من خلاله تنوّع الحياة ونظامها، فالعالم جاء إلى الوجود نتيجة فعل خلق إلهي، أما بنياته وإيقاعاته فهي نتيجة لحوادث جرت ولم تزل تجري في الزمان، لذا تجد الشاعر وظّف صيغة "السيّارة" كتعبير عن معاصرته لرموز الزمن الذي يعيش فيه، أما قيادتها فأعطاها للمرأة لتجسيد قدرتها الفاعلة والفعّالة في النظّام العام للحياة. وهكذا يُصبح جلجامش هو الرسّام أو الإنسان بشكل عام وفأس جلجامش التي قضى بها على القوى الشريرة التي استوطنت شجرة الصفصاف هي السكّين التي قطع بها الرسّام ليمونتين من شجرة الليمون، وهذا كلّه للدلالة على تمجيد العمل الإنساني الذي هو ليس فقط الجوهر الفعلي للإنسان وإنما كذلك سبب وجوده، أي حياته لا موته أو دماره. وليس هذا فحسب، فحركة السكّين داخل النّص أعطت للمعنى نفسه بُعدا شبقياً مرتبطاً بحركة التواصل مع الأنثى، أي حركة عودة الجسد المنفصم إلى وحدته الأصلية البدائية، وهي حركة تعبّر عن اغتراب الجزء أي المرأة ـ عن الكلّ (آدم/الرجل)، وهذا ماعبّر عنه أديب كمال الدّين في النّص بالمرأة ذات الشعر الأخضر التي تحدّق طويلا في الرسّام وتنتظر منه حركة (هل كانتْ تدعوه؟ لأيّ شيء؟)، أي تواصلاً أو نكاحاً كونيا باعتبار الأنثى تطابق الأنوثة السارية في العالم، لذا فإن حركة السكّين داخل الليمونتين أو ثديي المرأة هو اتصال معرفي وليس وجودي ولهذا حدث الانفصال (قطع الليمونتين إلى أربع شرائح) وتقيّدت الرغبة بالموت الذي هو حياة وبالألم واللذة وبكشف وهتك الحُجب.








1.2 المرأة والحرف

لابدّ لكلّ متتبع لنصوص الشاعر أديب كمال الدّين، أن يعثر فيها وإن يطُل أمد البحث والدرس على ذاك البرزخ العجيب الذي يقف متهادياً بين كل ما هو حرفي ومجازي، برزخ لا يمكن أن يُسمى أو يوسم إلا بـ "الرمز" الذي ينضح دائماً بالحقيقة التي يمثلها، لكن ليس هذا وحده ما قد يكون الاكتشاف الأكبر للمتلقّي بقدر ما يُتوجب الالتفات إلى أمر آخر في غاية الأهمية والدقة، ويقصد به التساؤل عن ماهية السبب الذي يجعل من نصوص الشاعر نصوصاً رمزيّة بامتياز؟ أو ما هي طبيعة هذا الكنز الذي تنطوي عليه رؤية الشاعر للحقيقة بشكل تجعله قادراً على رؤية حياة ما من نوع ما داخل الإنسان وخارجه، ليؤكّد بالتالي للمتلقّي بأن حقيقة ما سواء أكانت مادية أو روحية هي مرتبطة أساساً بكل الحقائق الأخرى، وأن الإنسان يعيش في عالم من الرموز وبالتالي من المعرفة الرمزية؟
الجواب عن هذا التساؤل واحد لا غير: كل السرّ يتجلّى في ما يمكن أن يُسمّى بمبدأ وحدة جوهر الوجود. ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعل من أديب كمال الدّين شاعراً يزجّ بنفس كل قارئ ودارس في دائرة العمل والحفر عبر إخضاع معظم قدرات هذه النفس لما يتبقى منها من قدرات أخرى و ذلك بهدف أن يبثّ بداخلها عند نهاية الرحلة طابع الوحدانية الإلهية وروحها بفعل قوة الصورة الرمزية، فتكون النتيجة أن يكشف الرمز عن نفسه بانكشاف الخاص في الفردي والعام في الخصوصي والكوني في العالمي. وهذا المعنى هو ما ستتمّ محاولة مقاربته عبر القصيدة التالية:
يقول أديب كمال الدّين في نص "غزل حروفي":
"(1)
هذي المرّة
لن تكوني مثل كلّ مرّة
امرأة من لحم ودم.
فلقد تعبتُ من دمكِ العاري وجحودكِ الأسطوري،
من خيانتكِ التي تشبه مشنقةً دون حبل.
وتعبتُ أكثر
من انتقالاتكِ المرّة الحامضة بين البراءة والذنب
ومن أغنيتك: أغنية الكأس والسكّين.
ولذا
هذي المرّة
ستكونين امرأةً من حرف
أخرجكِ متى أشاء
أمام جمع الوحوش
بيضاء من غير سوء
بيضاء لذة للناظرين.
(2)
عسى -
حين تكونين حرفاً -
أن أمسك طير الفرح بقلبي
بعد أربعين قرناً من الطيران الأعمى.
عسى
أن ألتقي نقطتي فألتقط منها
طلسماً للحبّ والطمأنينة
وألتقي هلالي فأراهُ يركض نحو العيد
بدشداشة العيد.
وعسى
أن ألتقي دمي
فلا أجده أسود
ككفّ قُطِعَ منها الابهام.
(3)
هذه آخر محاولات جغرافيتي الممزّقة
وتاريخي الذي يشبه معناي الذي لا معنى له.
هذه آخر محاولات الطفل فيّ
وآخر محاولات الساحر فيّ
والمجنون والشاعر
والوليّ
والزاهد والراكض من بحرٍ لبحر.
هذه آخر محاولات دمي:
أنتِ الآن امرأة من حرف
لا دم عندك ولا لحم
لا مؤامرات، لا مكائد، لا دسائس
لا هرطقات،
لا نزوات
لا ولا.
(4)
أنتِ الآن امرأتي
وشمعة داري!"

يمكن تقسيم هذا النّص إلى مرحلتين مهمّتين في حياة الإنسان ككل وليس الشاعر فقط باعتبار هذا الأخير هو صوت يحكي لنا عبر قصائده عن رحلة الإنسان وسفره المضني داخل ظلمة هذا الكون الشاسع المهول: مرحلة ماقبلية وهي التي تبدأ من البيت الأول وحتى البيت الثامن، ومرحلة مابعدية تبدأ من البيت التاسع إلى نهاية النّص. إلا أنّ ما يشدّ الانتباه هو هذه الطريقة الغريبة في التعبير عن مفهوم "المرأة" هنا: ففي المرحلة الأولى نجد الشاعر يطلق عليها كلّ الصفات السلبية فهي:
ـ امرأة من لحم ودم
ـ عارية الدم
ـ جاحدة
ـ خائنة
ـ حامضة ومتقلبة بين البراءة والذنب
ـ ولا تجيد الحديث سوى عن الكأس والسكّين.
أما في المرحلة الثانية فهو يتحدث عنها وكأنها دمية مسلوبة الإرادة وهو الوحيد القائم على أمرها يتصرف فيها وبها كما يشاء ويحلو له:
ـ فهو يضعها في "جيبه" متى يشاء
ـ ويخرجها منه كي يعرضها أمام الغير ويتباهى بها متى يشاء
فهل هكذا يتعامل العارفون مع "المرأة"؟ طبعا لا، خاصة وأنه سبقت الإشارة إلى أن الأنثى بالنسبة للعارف وللواقف هي تجلّ إلهي وأن هناك العديد من المتصوفة ممن حاول ولم يزل تصحيح أخطاء السابقين في الكتابة عن المرأة والأنثى بشكل عام، وبالتالي معالجة ما ارتكبته الأساطير والخرافات سواء منها ذات الطابع الدّيني أو الفلسفي من ظلم وإسفاف في حقها، الشيء الذي يجيز القول بأن ما يتحدث عنه أديب كمال الدّين وبهذه الطريقة في نص "غزل حروفي" ربما قد لا يكون له أيّة علاقة بمفهوم المرأة العام المتعارف عليه لدى الجميع، كيف ذلك؟ هذا ما سيُحاوَل إيضاحه فيما يلي من القول:
يقول أديب كمال الدّين:
"ولذا
هذي المرّة
ستكونين امرأةً من حرف
أخرجكِ متى أشاء
أمام جمع الوحوش
بيضاء من غير سوء
بيضاء لذة للناظرين."
يوجد في هذا المقطع أثر للتجربة الموسوية أمام فرعون مصر وكهنته وسحرته، أي أن الأبيات تذكّر بالآيات القرآنية التي قال فيها عزّ وعلا:" وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" ثم "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ" ، و"يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ. بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ. لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ " وبناء على هذه الملاحظة يمكن إجراء مقارنة تناصيّة بين ما ذكر في هذه الآيات من ألفاظ وبين العبارات التي ذكرت في مقطع الشاعر:

الألفاظ الواردة في الآيات العبارات الواردة في المقطع الشعري

ـ وأدخل يدك في جيبك ـ أخرجك متى أشاء
ـ تخرج بيضاء من غير سوء ـ بيضاء من غير سوء
ـ فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ـ أمام جمع الوحوش
ـ بيضاء لذّة للشاربين ـ بيضاء لذّة للناظرين

من هذه المقارنة يمكن استنتاج ما يلي:
هناك من الألفاظ ماهو غائب في مقطع الشاعر لكنه يوجد في المقاطع القرآنية، فمثلا حينما قال الشاعر: "أخرجك متى أشاء" هذا يعني أن "الشيء" محطّ الحديث كان داخل الجيب وهذا يقود مباشرة إلى التعبير القرآني"وأدخلْ يدَك في جيْبك"، لكن هناك في المقابل ألفاظ أخرى تمّ اقتباسها أولاً من آية قرآنية معينة وإضافتها ثانياً إلى ألفاظ قرآنية مستقاة من آية أخرى مختلفة عن الأولى وذلك بغرض الجمع بينها ثالثاً في تعبير شعري واحد، ويقصد بهذا الجمع قول الشاعر: "بيضاء لذّة للنّاظرين"، بالرغم من أن المتعارف عليه عند دارسي القرآن الكريم أن لفظ "لذة"، ذُكر في القرآن مقرونا بعبارة "الشّاربين" ولم يذكر أبداً مقترنا بكلمة "الناظرين"، لذا وجب طرح السؤال التالي:
ما السبب الذي دفع أديب كمال الدّين إلى اختيار هذا المنحى اللغوي الغريب؟
للجواب عن هذه الإشكالية سيتم الاشتغال على التعبيرين معا، القرآني والشعري:




ـ بيضاء لذّة للشاربين ـ بيضاء لذّة للناظرين

في هذا التعبير إشارة لخـمـر الجنة يتلذذ الشارب بما يشرب ويسكر
ولبياض لونها ولذيذ مذاقها، إلا أن والنـاظر أيضاً يتلذذ بما ينظرإليه
الأمر قد يبدو غير كذلك إذا مـا تمّ وقد يُسحر به ويذهب لبّه.
الـتساؤل عن الـكأس الـتي تـوجـد
بها هذه الخمر، فلربما تكون هـي
البيضاء اللون وليست الخمر ذاتها.

بعد هذا التفكيك يظهر عنصر جديد، ويقصد به "الكأس" التي ذكرت في الآية القرآنية لكنها لم تذكر في عبارة "لذة للناظرين"، وهذا الظهور هو نداء ضمني مستتر لعبارة "الكأس" التي وردت في بداية النّص حينما قال الشاعر:
"وتعبتُ أكثر
من انتقالاتكِ المرّة الحامضة بين البراءة والذنب
ومن أغنيتك: أغنية الكأس والسكّين."
فما الفرق إذن بين كأس الآية وكأس هذا المقطع؟
كل كأس في القرآن هي خمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا إناءً وقدحاً. فهل هذا يعني أن الكأس التي ذكرها أديب كمال الدّين هي كأس خمر حقاً أم ماذا؟ هذا السؤال لم يكن من الممكن طرحه لو لم تكن عبارة "أغنية الكأس" متبوعة بلفظة "السكّين". وهذا يقود إلى تساؤل آخر يتغيأ البحث عن العلاقة بين الكأس والمرأة وبينهما معا و"السكّين".
قديماً كان العرب يرمزون للكأس بالمرأة الحامل أما السكّين فغالباً ما تكون بين طياتها إشارة لعنصر النكاح وهو قد ورد هنا في البيت الشعري بمعناه المادي وليس الوصالي الاتحادي بدليل أن البيت مسبوق بعبارتي "الحامضة" و"الذنب"، لكن لماذا "المرأة" هنا في هذه الصورة تبدو من جديد وكأنها غانية أو فتاة ليل؟ ولماذا بعد ذلك "المرأة" ذاتها ستتحول إلى "حرف" وتصبح بيضاء لذة للناظرين؟ هل يعقل هذا؟ لا شك وأن الأمر فيه شفرة لابد من فكّ رموزها.
نص "غزل حروفي" كما سبقت الإشارة مقسم إلى جزئين أو مرحلتين ولفظ "لذا" الذي أتى مسبوقاً بالبيت الذي قال فيه الشاعر"ومن أغنيتك: أغنية الكأس والسكّين" يبدو وكأنه حقاً سكّيناً أخرى غير (سكّين الكأس) قطعت بين زمنين وموقفين وتجربتين. لكن إذا كان الحديث عن الكأس قد أوصل إلى الحديث عن "المرأة"، وإذا كان الكلام عن السكّين قد قاد إلى ذكر الحديث عن النكاح وعن لفظ "لذا" القاطع بين مرحلتين، فإلى أي درب سيوصلك ويوصلني أيها القارئ الحديث عن "جمع الوحوش" وعن "سحرة فرعون"؟
سبق الحديث عن يد موسى البيضاء من غير سوء وعن المرأة الحرف التي أراد لها أديب كمال الدّين أن تكون بيضاء هي الأخرى لذّة للناظرين، لكن بقي عنصر لم يتم ذكره وإن كان حاضراً بشكل قوي التخفي والتستر، إنها "العصا"، عصا موسى أولاً وعصا أديب كمال الدّين ثانياً:

عصا موسى

في الآيات التي سبق ذكرها تمّ الحديث عن موسى (ع) الذي طلب منه الله عز وعلا أن يخرج يده من جيبه بيضاء من غير سوء، وهي نفسها اليد التي ستمسك بالعصا التي سيلقيها وستتحوّل إلى أفعى كبرى تلقف ما صنعه السّحرة من إفك، بمعنى تفضح من غير التهام وتظهر أفاعي الدجالين على حقيقتها الأصلية، أي كونها حبالاً وعصياًّ ليس إلاّ. وليس هذا فحسب فبالعصا فلق موسى البحر وبها ضرب الحجر.
هذا يعني أن من هذه العناصر يمكن استخراج المفاتيح التالية:
ـ الجيب
ـ اليد
ـ العصا
ـ البحر والحجر

عصا أديب كمال الدّين

منذ البداية والشاعر يشير إلى "امرأة" أصبحت في نهاية الرحلة شمعة داره، وكما يعلم الجميع فما من حرف يشبه العصا والشمعة في اللغة العربية سوى الألف، وهذا يعني أنه ما من امرأة أو أنثى في هذا النّص، ما من شيء هنا سوى الألف وما من أنثى سوى النفس البشرية التي في طريقها إلى الكمال تركض من بحر إلى آخر وتتنقل بين الذنب والبراءة وبين الكأس والسكّين، وعليه فإن المفاتيح التي يمكن استنتاجها في هذا الجزء هي الآتي ذكرها:
ـ الكأس
ـ السكّين
ـ الشمعة
وعملية جمع بين مفاتيح المقطع الخاص بعصا موسى (ع) وعصا أديب كمال الدّين توصل إلى العلاقة الآتية:
جيب + كأس= غمد
غمد لأي شيء؟
غمد لـ: السكّين وللعصا وللشمعة كما الأنثى غمد للذكر وكما الجسد غمد للنفس التي تحولت سكينها إلى عصا وعصاها إلى شمعة وشمعتها إلى قيّوم الحروف كلّها: الألف أو المرأة التي سمّاها الشاعر بـ"امرأة من حرف"، والتي يحمل هذا المقطع من قصيدة "محاولة في العزلة" وصفا دقيقا لها:
"هكذا فأنا أجلس في نفسي
لأحرس نفسي.
ولكي لا أنسى ما صُنِعَ بي
وضعتُ رمحاً على بابي
خضّبته بدمي
وصنعتُ من الطين
رأساً كرأسي
وضعتهُ على الرمح
وبكيت..
بكيتُ حتّى سالتْ روحي
فرددتها إليه... إلى الرأس.
***
كلّ صباحٍ أركعُ أمامه في خشوع
لأقول له:
"صباح الخير
أيها الرأس المثقل بالأسى والحروف".
فيردّ عليّ في هدوءٍ عظيم:
"صباح الخير
يا صاحبَ العزلةِ السعيدة!"


1.3 المرأة النّقطة وظاهرة التّواصل الحسّي

يقول أديب كمال الدّين في نصّه "رسالة الحَرْفِ إلى حَبيبته النّقطة"

"حبيبتي:
أيتها النقطة،
أيتها الحمامة،
أيتها الصّخرة الملقاة على حافةِ النهر،
أيتها الوردة الطيّبة،
أيتها الابتسامة اللذيذة كقيمرِ الصباح،
أيتها الدمعة: اللؤلؤة،
كيف أجدكِ الليلة؟"

ليس ثمة من شكّ في أنّ هذا المقطع من نّص "رسالة الحَرْفِ إلى حَبيبته النّقطة" يحبل بالكثير من الصّور والانزياحات المُتنوّعة والمُختلفة، لكنّ الذي يشدّ الانتباه بشكل أكثر عمقاً من غيره، هو هذه الطاقة الهائلة التي يزخرُ بها المُعجمُ الحسّي للقصيدة بشكل تتحوّل فيه المشمُومات إلى ألوان، والمسمُوعات إلى عطور والمرئيات إلى أنغام تتفاعل وترقصُ فيها وبها ومعها جميع حواسِّ المُتلقّي كي تتفجّر عند نهاية الرّحلة وتتدفّق مع الشّاعر متّخذة أشكالا جديدةً من الصّور الطّازجة والخارجَة عن عالم المُدرَكات الحسيّة مُخالفة في هذا كلّ الأعراف اللغوية والتصْويرية العادية، لذا وَجب التوقف في هذا المقطع عنْد كلّ حاسة على حدة:
ـ حاسّة البصر:

إنّ أوّل ما قدْ يصلُ إلى عين القارئ من الصور هنا هي صورة عاشق يشبه ساحر سيرك بين يديه قبعة سوداء طويلة يدخل فيها بخفة يد ورشاقة حركة "النقطة" ثم يخرجها وقد صارت "حمامة" أو "صخرة" أو "وردة" أو "صحنا من القيمر" أو "دمعة" أو "لؤلؤة". كذلك يوجد داخل الصّورة نفسها عنصرٌ آخر يصل إلى العين مباشرةً وهو عنصرُ اللون: فالنقطة لونها أبيض والدليل على ذلك عبارتَي: "أيتها الابتسامة اللذيذة كقيمر الصباح" و"أيتها الدمعة: اللؤلؤة"، إذ ما من شك في أنّ لون القيمر والصباح واللؤلؤ هو أبيض، ولذا جاز القول ووفقاً لقاعدة الاستنتاج الضمني، بأنّ الحمامة والصخرة والوردة لا يمكنهنّ أن يكنّ جميعهن سوى بيضاوات اللون بامتياز.
ـ حاسة الشم والتذوق

لو لم يكن عنصر الماء هنا حاضرا عبر ذكر مصطلحي "النهر" و"الدمعة"، لكان من الصعب جدا الحديث عن نوع الرائحة الكامنة داخل أبيات هذا المقطع، التي هي بدون شك رائحة عطرة وطيبة، مادامت تنبع من الوردة ومن القيمر، لكن هذا لا يكفي، على المتلقّي أن يتوغّل أكثر وأكثر كي يحدّد طبيعة هذه الرّائحة هل هي نابعة من عنصر الملوحة أو عنصر الحموضة أو عنصر الحلاوة أو عنصر المرارة، ويحدّد أكثر وبشكل أدق درجة الرطوبة والسيلان الساكنة داخل كل هذه العناصر، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال استخدام حاسة التذوق عبر الأنف وليس عبر اللسان مادامت هناك من الروائح والعطور القوية ما تصل إلى الحلق مباشرة من الأنف.
إذن لدينا عنصران أساسيان للقيام بهذه التجربة: الدمعة والقيمر.
الدّمعة كلها ماء، إذن فهي رطبة ومتدفقة ودائرية الشكل، لها طعم مالح. أما بالنسبة للقيمر فكله حليب ومصل، وفي الإشارة لهذين المقطعين علاقة وطيدة بعناصر أخرى تمّ ذكرها في هذا المقطع من القصيدة ويُقصد بها: الوردة واللؤلؤة، باعتبار أن هذه الأخيرة لا تتكون علميا وكيميائيا داخل المحارة إلا إذا تسربت إلى محارتها حصاة من الرمل أو الصخر فيتهيج الحيوان الرخو بداخلها ويتألم بشدّة ويبدأ دفاعا عن نفسه في إفراز مادة من الخلايا الظهارية وفي بناء طبقات متعددة ومتماسكة من الأرجونيت أو من كاربونات الكالسيوم التي تصبح بعد ذلك لؤلؤاً كاملاً. وعنصر التهيّج والألم الداخلي الحاصل داخل المحارة فيه نداء لتهيّج آخر له علاقة وطيدة بالدمعة المالحة المذاق كملوحة ماء اللؤلؤة، فهي غالبا ما لا تتكون إلا إذا حدث ألم داخلي بقلب الإنسان. إذن فالأجسام التي تتخلق فيها السوائل عبر عُنصر الألم في هذا المقطع ثلاثة وهي كالآتي:
ـ المحارة = اللؤلؤة
ـ العين= الدمعة
ـ القلب = الدم
أما السّوائل فهي أربعة: ماء المحارة + ماء العين + مصل القيمر + دم القلب
وكلّها سوائل مغذّية ترمز إلى عنصر تخليق الحياة في محارة الكون، أو وسط وردته الصوفية التي احتضنتْ منذ الأزل حليب التخليق ونقطته البيضاء اللؤلؤية المنطوية على الحقيقة المحمدية والتي لا شكّ يتمنى كل عاشق أن يقضي في حضرتها ولو جزءاً من الثانية كما سبق وقال الشاعر في مقطع من (خطاب الألف):
" المغنّي يتمنّى الصفاء
ويريد أن يقضّي العمر مع حبيبته
وأنا أريد أن أقضّي معك
ساعة صفاء واحدة
أو دقيقة حبّ واحدة
أو لحظة اطمئنان واحدة
أو ثانية مسرّة واحدة."
مرّة أخرى ما من امرأة أو حبيبة بالمفهوم المُتعارف عليه في هذا النّص، لا حضور هنا سوى للنّقطة التي لولاها ما غنّى لها هذا الألف الشاعر الواقف العاشق المتيّم كل هذه القصائد المغرقة في الشوق والوله والصبابة عبر كتابة 15 ديوانا ، فهي هو، عبارتان لذات واحدة.












الفصلُ الثالث
دَلالة الألم والصّليبِ والمَوْتِ

1.1 دلالة الألم

ـ أديب كمال الدّين سيزيف السعيد بصخرة الألم
يعتبر الروائي الفرنسي "ألبير كامو"، أوّل من استخدم عبارة (سيزيف السعيد)، في بحث فلسفي من مائة وعشرين صفحة عنونه ب (أسطورة سيزيف) ونشره سنة 1942 . فهو يعتقد أن كلّ ما في الوجود عبث لا طائل منه، وأنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة، وأنّ كلّ ما يقوم به الإنسان ويكتسبه من خبرات مهما بالغ في فلسفة جدواها وقيمتها ما هي إلا تسلية لا نفع يُرجى من ورائها وفائدتها الوحيدة هي قتل الملل في انتظار خلاص لا يأتي. ما الهدف من الحياة إذن؟ وهل لهذه الأخيرة معنى؟ هكذا يظهر بقوّة السؤالان الوجوديان العظيمان اللّذان شغلا فكر "ألبير" مثلما شغلا أديب كمال الدّين. لكنّ "ألبير" في محاولة منه لإيجاد حلّ لهذه الإشكالية يتحدّث عن ظاهرة "الانتحار" باعتبارها نتيجة حتمية لتضخّم الفراغ وقوّته بل سيطرته على الإنسان بشكل يجعله يشعر بقسوة المحاصرة والعزلة وكأنّه في سجن حقيقيّ كبير اسمه "الحياة"، حقيقة توصّل إليها الكاتب الفرنسي وغيره من أدباء الضّفة الأخرى وآمن بها بشكل جعله يُلغي مصطلح الأمل من قاموسه اليومي، وكلّ خيط يمكنهُ أن يربطه بالإيمان والعلم والدّين.
الإنسان العدمي إذن لا يُؤمن بالغيبيّات، لا يؤمن بالله، لا يؤمن بالغد ولا يؤمن بأيّ شيء سوى العدم واللاجدوى ذاتهما. "ألبير كامو" يتحدث - كمفكر لا يؤمن بالله- عن الإنسان الذي يحبُّ الحياة ويتشبث بها كما يتشبث الغريق بقشّة تبن وسط بحر هائج بالرغم من شقائه بها وبعبثيتها ولاجدواها، بالضبط كسيزيف الأسطورة الإغريقية الذي يحبُّ صخرته العجيبة ويستمتع بتكرار حملها إلى قمة الجبل على الرغم من علمه بأنه كلّما وصل بها إلى القمة كلما تَحتّم عليه أن يعود إلى السفح كيْ يجلُبها منه من جديد ويحملها على كتفيه في صعود ونزول أبديين، وقد يكون هذا ما دفع بالكاتب الفرنسي إلى الحديث عن مفهوم جديد أسماه ب "الحرية العبثية" أي حرّية أن يقنع الإنسان بالحياة ويعيشها ويستمتع بها كما هي وبلامبلاة لا ترجو من الحياة شيئا سوى الحياة نفسها، أي ما يمكن تسميته بنوع من حرق الحياة حتى آخر رمق على حسب تعبيره في روايته (الموت السعيد) . إنّه نوع من الدونجوانية، أومن الانسلاخ عن القيم الروحية بشكل يجعل الإنسان يتقدّم نحو التدمير القهري للذات بدون أدنى ذرّة ندم أوشعور بالذنب، فكل شيء جميل كما هو، وكل شيء مفرح وسعيد، وما على الإنسان كي يعيش سوى أن يتخيّل نفسه السيزيف السعيد، فهل هذه هي ذاتها السعادة السيزيفية التي يتحدّث عنها أديب كمال الدّين؟ هل هي السعادة الدونجوانية والعبثية؟ أم أن سعادة هذا الشاعر بصخرة الحياة لها طعم ونكهة أخرى؟
يقول د. ضياء نجم الأسدي في مقالته (المشروع الشعري لأديب كمال الدّين/ تشابيه لواقعة الخلق): "يحاول أديب كمال الدّين في منهجه الشعري أن يصنع عالمين: أحدهما افتراضي يلعب فيه الحرف دور البطولة المطلقة ويمارس القوة الإنجازية بما أودعه الشاعر فيه من قدرة على الخلق. فهو في عالم القوة والفعل معا.(وهوبهذا يمارس) لعبة خطيرة ويحاول أن يحاكي قصة الخلق والتكوين. إنها تشابيه لواقعة الخلق. يريد الشاعر أن يجسدها أمام الخليقة (في عالمه الواقعي) ليريهم المدى الذي بلغته خطيئاتهم الكبرى والحد الذي وصلوه في التمرد على بارئهم وجحود لطفه " .
لذا فإن السّعادة السيزيفية الدّونجوانية وفق ما صورها العديد من العدميين واللّاجدوانيين لا يمكن اعتبارها سوى شكل من أشكال هذا التمرد على الخالق الواحد الصمد، هذا التمرّد الذي بموجبه تمّ التصريح بصورةٍ علنية أو ضمنيّة بمشروعية كلّ فعل يُمكن للإنسان أن يَقوم به مهما كان شاذّاً أو مخالفاً للفطرة البشرية . وهذا النوع من التمرّد بالذات هو ما أراد أديب كمال الدّين أن يسلّط الضوء عليه، عبر قصائد تشبه السيرة الذاتية يحكي فيها عن تجاربه مع حروف أخرى لم ينل منها إلا القسوة والألم والعذاب، لكن القول بهذا فقط يظلّ أمراً غير كاف ومشحوناً بالعديد من الفجوات المُقلقة، خاصّة وأنّ قراءة مجاميع أديب كمال الدّين الشعرية وقصائدها المتنوعة تجعلُ الباحثَ يشعرُ بقوّة ضاغطةٍ مستمرة ذات اتجاهين متعاكسين ومتضادّين فيما بينهما، فمِنْ أين للدارس أن يتحدّث عن فضح الشاعر، بنوع من اللّوعة والحسرة والألم، لمختلف مظاهر جحود الإنسان وجبروته وحمقه وظلمه، ومِن أيْن له بعد ذلك ترك كل هذا ليتحدّث عن شاعر تتحوّل بين يديه كلّ أشكال القسوة إلى سعادة وشمس بل إلى نقطة فرح عظيم لا يعرف كنهها إلا العارفون؟
للحديث إذن عن هذه الجبروت وعن قلب الإنسان الصّخرة التي تتحول قسوتها إلى سعادة وشمس عبر معارج يتم فيها الرقص والمشي في آن واحد على حبال الحرف والكلمة سيتمّ اختيار قصائد معينة من دواوين مختلفة للشاعر والعمل عليها بالتالي كنموذج للبحث عن مظاهر هذا التحول الإسرائي داخل الروح الإنسانية وهي في طريقها نحو ما لا عين رأت ونحو ما لا خطر على قلب بشر.

ـ جدلية التجاور والجمع في قصائد أديب كمال الدّين أو سيزيف السعيد بصخرته

إنّ أهمّ ما يُميّز قصائد أديب كمال الدّين الواردة في مختلف المجاميع الشعرية حديثها أو قديمها هو هذه العلاقة المتواشجة فيما بينها وإن باعدت بينها سنوات الإصدار أو أمكنته، وهي في هذه العلاقة التكاملية لا تريد أن تؤسس لأيّ مظهر من مظاهر التكرار أوالرتابة للطريقة التي يتمّ من خلالها التطرق لمعنى معين أو موضوع ما، بل على العكس من ذلك، فالغاية هي وضع اللبنات الأولى لبناء معماري تحْتكِمُ هندسته إلى وشائج صامتة تختلف ملامحها باختلاف درجات وعي الشاعر بها أثناء ممارسته لفعله الكتابي. إذ غالباً ما تطرح قصيدة ما سؤالاً معرفياً ما في ديوان أول كي يُكتشف فيما بعد أن الجواب عنه قد يكون في الديوان الذي يليه أوالثالث أوالرابع، كما أنه غالباً ما يطرح الشاعر قضية ما أو يحكي قصة ما لا يجد الدارس لعقدتها حلاًّ إلا فيما يلحقها من الدواوين الأخرى، فما الذي يربطُ إذن قصيدة تنتمي إلى ديوان معين بقصيدة أخرى توجد في ديوان لاحق؟ ما دواعي هذا التجاور الذي تقيمه الذات الكاتبة بين قصائد تنتمي لمجاميع مختلفة؟ هل يتعلّق الأمر بتقارب في زمن الإنتاج أم أن الزمن الشعري لا يتقيد بمواضعات الزمن المقيس؟ أم هل تتعلّق المسألة بتطوّر في النسق الفكري والمنهج التركيبي التفكيكي الذي اختاره الشاعر للتعبير عن تجربته الشعرية الفريدة؟ أليس الجمع بمختلف معانيه هو أسّ الممارسة الكتابية؟ لا يُرام الغوص هنا في مفهوم التأليف بقدر ما يُراد تسليط الضوء على إشكالية التجاور الذي أقامه الشاعر أديب كمال الدّين بين قصائد متفرقة من دواوين متباعدة في سنوات النشر والكتابة سيُختار منها قصيدة (ملل) باعتبارها نصّا من بين نصوص أخرى تهمُّ موضوع سيزيف السعيد بصخرته أو سيزيف الذي تتحول صخرته إلى شمس تزداد جمالا وعظمة بسرّ قوله تعالى:} اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَولَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}

* قصيدة (ملل)

النّص هوالخامس من مجموع أربعين قصيدة تنتمي كلّها إلى ديوان (حاء) الصادر بعمّان سنة 2002 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ويتكوّن من 55 بيتا، وهو بالإضافة إلى ذلك مقسم إلى خمسة أجزاء. حسب هذه المعطيات الأولية يمكن ملاحظة مايلي:
ـ ورود الأعداد التالية:
55: عدد الأبيات
8: هو المقابل الرقمي لحرف الحاء حسب علم الأعداد والحروف.
هذه القصيدة لوحدها تحمل في طياّتها البذرة التي خرج منها ديوان (مواقف الألف) المكون من 55 موقفا، ولا علاقة للصدفة في وجود هذا الرقم أوغيره من الأرقام في التجربة الأديبة. والدليل على كون القصيدة لها امتداد وجذور بديوان (مواقف الألف) نصّ (موقف الباب) الذي يتحدّث بشكل واضح في جزئه الأخير عن (السأم) كمرادف من مرادفات (الملل) حسبما ورد في (لسان العرب) لابن منظور بالجزء الخاص بكلتي المفردتين
وللكشف عن رمزية الرقم 55 في قصيدة (ملل) كما في ديوان (مواقف الألف)، لن يحتاج الدارس إلى البحث عنها في كتب المنجّمين وغيرهم ممّن يهتمُّ بهذا النّوع من العلوم، بقدر ما هو في حاجة حقيقية للبحث عنها في نصوص الشّاعر، كي يتسنّى له تتبّع مراحل التطور والتصاعد الحركي لروح وفكر الشاعر، وبالتالي اكتشاف مختلف المعارج التي مرّ بها، بعضُها مأساوي وبعضها الآخر مغرق في الاستحالة والسريالية العجيبة لارتباطها بمشاهد الدم القاسية، ومشاهد الموت وبخيانات الأصدقاء أوالأعدقاء (كما سمّاهم الشاعر نفسه) نساءً أو رجالاً.
قصيدة (ملل) إذن خطوة نحو خلاص لن يتحقق إلا بختم 55 معراجا عبر مرحلة من التشرنق وبالتالي الولادة من بين رمل وطين، وفرث ودم، وحديد وحجر داخل رحم شديد الاتصال بديوان (حاء) الذي يرمز في رقميته الحرفية إلى التوازن الكوني والطهارة بعد الخروج من سجون أهل حاء الحرب وحاء الحقد وحاء الحمق للركون والسكون إلى أهل حاء الحُلم والحُبّ والحكمة والحق الأكبر وهي كلها معان تجد لها صدى وأثرا في قصيدة (ملل) بدءا من العنوان وحتى آخر جزء فيها.

ـ الجهاز العنواني في قصيدة (ملل)

ما ورد مصطلح "عنوان" في المعاجم العربية إلا وكان مرتبطا بمصطلح "الكتاب" ولم يسبق له أبداً أن كان مرتبطاً بكلمة "القصيدة" أوبعبارة "النّص الشعري" وسبب هذه الظاهرة شديد الالتصاق بتاريخ القصيدة العربية نفسها، فالنّصوص الشعرية منذ العصر الجاهلي لم تكن ترد مصحوبة بعنوان لأن اسمها غالباً ما كان يولد معها في المطلع أوعبر القافية، وقد سار العرب على هذه السنّة حتى عصر النهضة الحديثة حين بدأت تهبّ نفحات التجديد من الضفة الأخرى من خلال أقلام شعراء أقاموا في المهجر، وآخرين زاروه وآخرين قرأوا لرواد تحديث القصيدة والشعر بشكل عام فكان من آثار هذا التحديث ظهور العنوان كمُحدّد لفحوى القصيدة وصيرورته جزءاً من مهمة الشاعر بعد أن كان جزءا من مهمة القارئ أوالسّامع.
وعلى هذا الأساس أصبح النّص الشعري الحديث معادلة مهمّة سقفها العنوان وأرضيتها النّص، وأصبح العنوان اليوم أكثر من أيّ زمن مضى جديراً بالدراسة والتحليل من منطلق أنّه حمولة مكثّفة للمضامين الأساسية النّص، ونص مصغّر داخل نص كبير، أو بصيغة أخرى نظام سيميائي ذو أبعاد دلالية، وأخرى رمزية تدفع الدارس إلى السعي نحو استقراء رموزه والوصول إلى مفاهيمه النّصية المتراكمة داخل الحيّز النّصي.
لذا لم يكن اهتمام السيمياء بالعنوان أمراً نابعاً من فراغ أو من صدفة، بل لكونه أصبح ضرورة كتابية جعلتْ منه حقلاً لغوياً ناجحاً في مقاربة النّص الأدبي وكذا لكونه أولى عتبات النّص التي لا يجوز تخطّيها بهدف تحرّي الدّقة العلمية في التحليل وفي المقاربات التأويلية للنّص جسداً وروحاً، أو شكلاً ومضموناً
لكنّ هذا لا ينفِي وجودَ وجهة نظر أخرى ذهب إليها باحثون آخرون لا يُعَوّلون كثيراً على العنوان ولا يعطونه كل هذه الأهمية باعتبار أنّ القصيدة بشكل عام ليست تلك التي تتولّد من عنوانها، إنّما العنوان هو الذي يتولّد منها، وما من شاعر حق إلاّ ويكون العنوان لديه آخر همّ يفكر فيه وهذه المسألة هي إلى حدّ ما صحيحة لكن الغاية المتوخّاة هنا، هي البحث في مدى أهمية الجهاز العنواني بالنسبة للقارئ لا الشاعر باعتبار أن العنوان أولى العتبات التي يلج منها المتلقّي إلى النّص. ومهما تكن الحالات والإشارات العنوانية، فهذا لا يمنع من القول بأن مظهر العنوان بشكل عام قد اختلف عبر تاريخ القصيدة العربية باختلاف اتجاهات الشعراء ومدارسهم. فثمّة مَن كان يختار لقصائده عنوانا يشير إلى فحواها بشكل صريح وثمّة مَن كان يختار عناوين للإيهام والإشارة الرمزية وثمّة مَن كان يجتزأ العنوان من القصيدة ذاتها فهل هذا هو شأن أديب كمال الدّين أيضاً في قصيدته هذه؟
عنوان قصيدة الشاعر كما سبقت الإشارة هي (ملل) وهو عنوان حمّال لأوجه تفسيرية عديدة: فكما هو مجتزأ من نص القصيدة أو بتعبير أدقّ من فحواها، فهو في الوقت ذاته عنوان وهمي أو مأزقي، بمعنى أنه يضع القارئ بين فكّي سؤال التشكيك في حالة ملل الشاعر والرغبة في السير قدما من أجل البحث عن الشعور الحقيقي الذي يخفيه عنوان هذه القصيدة، هل هو حقاً (مَلل) بالمعنى المتعارف عليه أم هو شيء آخر لابد من كشفه؟
من الناحية اللغوية والنحوية (مـَلَل) هو مصدر مشتق من فعل ثلاثي (ملّ/ من ملِلْتُ، يملّ/ ملّ/ مللاً وملالة وملالا، فهو مَلّ) وقد أدرجه الشاعر مستخلصاً إياه من الصيغة الماضية للفعل ذاته والمتصلة بتاء المتكلّم (مَللْتُ) والمتكررة في القصيدة لما يزيد عن ستّ مرّات.
أما من الناحية الشعرية فعنوان (ملَل) إذا وُضع في ميزان أهل المدرسة الرومانسية فإنه يصبح دون شك عنواناً له علاقة وطيدة بالحالة النفسية الخاصة بالشاعر باعتباره يُعبّر عن شعور داخلي وذاتي يحاول إيصاله إلى القارئ.
أما إذا وُضع في ميزان أهل أدب الضفة الأخرى فالعنوان يغدو شديد العلاقة بصرح فكري عظيم خصّه شعراء الغرب وأدباؤهم وفلاسفتهم لمناقشة وتحليل إشكالية الملل من مختلف جوانبها النفسية والفكرية والاجتماعية. ولعلّ أول وأقدم من خاض غمار وبحار هذه القضية هو الفيلسوف والشاعر الإيطالي الأبيقوري "تيتوس لوكريتيوس كاروس" (96 ق.م ـ 55 ق.م) وذلك عبر الأبيات الأخيرة من ديوانه الشهير «في طبيعة الأشياء» (De Rerum Natura) والتي يتحدث فيها عن حالة نفسية غريبة تنقضّ على الإنسان فجأة فتجعله يشعر بالتعب من الحياة (taedium vitae)، تعب لا ينبع وفق تصور الشاعر إلا عن عدم القدرة على معرفة الأسباب الحقيقية لتعاسة الإنسان، هذا الكائن الذي أثبت في كل مرة فشله الذريع في استيعاب فكرة الموت وتقبُّلها بروح رضية. الشيء الذي يدفعه وبشكل أبدي إلى الجري وراء سراب الحياة وبالتالي السقوط بين مخالب السأم، فيصبح كحيوان مريض منهك القوى لا قدرة له على فعل أي شيء. وفكرة المرض الروحي هذه هي ذاتها التي أشار إليها الشاعر الإيطالي الوسيطي "فرانشيسكو بيتراركا" (1304 ـ 1374) في يومياته التي جمعها في كتاب أرسله إلى صديقه الفيلسوف "القديس أوغسطينوس" يعترف فيه بإصابته بمرض لا يستطيع تحديد هويته أو وصفه سوى بعبارات (عدم الرضا) والشعور (بالخوف من الغد) و(عدم الرغبة) في الحياة، لكن الشاعر الفرنسي "شارل بودلير" يبقى أهم شاعر قلب كل الموازين فيما يمكن تسميته بأدبيات (الملل) لأنه أول من ارتقى به إلى عالم الشعرية والفنية الجمالية، فلم يعد الملل مجرد علّة تصيب النفس البشرية ولكنه أصبح حالة من السأم والحزن العميق الذي يصيب مجتمعا بأسره، أو أهل حقبة معينة من الناس وخاصة المنتمين منهم إلى الطبقة البورجوازية، وهذا ما يعلل ظهور مجموعة قصائده النثرية (سأم باريس) التي يقول فيها مقترحا على الإنسان حلا قد يكون ناجعاً لألمه الروحي وبؤسه العظيم: "لابد للمرء من أن يكون في سُكْر دائم. تلك هي الخلاصة: تلك هي القضية الوحيدة. فلكي لا تشعروا بعبء الزمن الفادح الذي يحطم كواهلكم ويحنيكم إلى التراب، لابد لكم من أن تسكروا بلا هوادة. ولكن بماذا؟ بالخمر أو بالشعر أو بالفضيلة، بحسب ما تهوون ولكن اسكروا." إنه نوع من الهروب من عالم القبح إلى عالم الجمال الذي عبّر عنه في مواطن عديدة من قصائده سواء المنتمية إلى مجموعة (سأم باريس) أو إلى (أزهار الشر) أو إلى (الجنان الاصطناعية)، التي لا شيء فيها سوى تلك الواحة الوهمية التي يركن إليها الشاعر هرباً من صحراء ملله القاحلة. لا شيء سوى السراب والوهم، أو خدر السُكْر الذي سرعان ما ينقشع بمجرد لحظة صحو مهما كانت قصيرة أو عابرة، فهل هذا هو الحلُّ الذي يقدمه الشاعر أديب كمال الدّين للإنسان بهدف إنقاذه من داء الملل؟
دون الخروج عن الجهاز العنواني للنّص يُلاحظ أن الصيغة الاسمية للعنوان (ملل) تتجه مباشرة نحو تعيين مرجعية النّص ذاته وذلك من خلال إحالة القارئ بشكل مباشر على موضوع الرسالة التي يرمي النّص إيصالها وبالتالي اختزال الفرق التأسيسي بين دلالية اللغة الشعرية ومعنى الخطاب نفسه، لذا يمكن القول بأن العنوان الذي اختاره الشاعر أديب كمال الدّين له هنا ثلاث وظائف: الأولى تعيينيّة (Fonction de désignation) والثانية وصفية (Fonction de-script-ive) والثالثة دلالية ضمنية (Fonction sémantique et implicite). أما التعيينيّة فقد استخدمها الشاعر من أجل إعطاء اسم لقصيدته وتحديد هوية النّص. أما الوظيفة الوصفية فهي متصلة بالمعنى المعجمي لكلمة (ملل) وقد استخدمها الشاعر من بابها النفعي المحض بشكل سيجعل منها حقلاً لغوياً تستهدفه قراءات نقدية مختلفة ومتباينة فيما بينها، بين مُستحسِن للصيغة المختزلة للعنوان أو غير متقبِّل لها، وهذا ما خطط له الشاعر مع سبق الإصرار، إذ تجده قد لعب على وتر حريته كمُرسِل في أن يجعل من عنوانه هذا أمرا مختلطاً ومبهماً بشكل يجعل من القارئ والدارس معا فكرين مقيّدين دائما بفرضية الاحتمال في تأويل الدلالة الضمنية لعنوان (ملل) دون الجزم بأي شيء، إذ ما مِن أحد يمكنه القول بأنه وصل إلى مح بيضة الشاعر في هذا النّص كما في غيره من النّصوص القادمة، وعليه فإن كل قراءة تبقى قراءة افتراضية لا مجال للمطلقية فيها. هذا عن الوظيفتين التعيينية والوصفية للعنوان فماذا عن الوظيفة الدلالية الضمنية؟
عادة ما تأتي الوظيفة الدّلالية مصاحبة للوظيفة الوصفية وتحمل بعضاً من توجهات المبدع بشكل عام في نصه، وأديب كمال الدّين في أسلوب اختياره لعنوان قصيدته هذه اعتمد على الاختزالية والبساطة والزهد في استخدام الألفاظ والمصطلحات، فكانت النتيجة أن أصبح للنّص قدرة إيحائية وتلميحية منقطعة النظير ، إذ ما من قارئ يقرأ هذا العنوان المتكون من كلمة واحدة لا غير (ملل)، إلاّ وسيصل إلى ذهنه وبسرعة البرق بأن الشاعر هنا هو بصدد معالجة آفة الإنسان القديمة الجديدة الأزلية، فيتحقق بذلك هدف اختراق العمق الدلالي الداخلي لكلمة (ملل) نفسها كنعت لصيق بالصفة البشرية العقلانية للإنسان، وذلك لأن هذا الأخير يستوعب حتى الصميم قضية كونه مخلوقاً في حالة احتياج دائم، وهذا الاحتياج أو الحاجة الأبدية هي المسؤول الأول عن إحساسه الدائم بالألم. فالإنسان يَعرفُ أنه "يريد" وأنه "يحتاج" من أجل إرضاء كل رغباته، بل يَعرفُ أيضاً ألا حدّ لهذه الرغبات التي تتوالد باستمرار لا يُوقف. لذا فإنه لا يجد المتعة في أي شيء مادام إرضاء الرغبات نفسه يُولّد الألمَ، والألمُ يولّد المللَ، والمللُ في غياب القناعات الإيمانية غالبا ما يقودُ الإنسان إلى الانتحار.





ـ من العنوان إلى النّص: بين التواصل الآلي والتواصل التفاعلي

سبق وأن تمت الإشارة إلى أن قصيدة (ملل) مقسمة إلى خمسة أجزاء، لكن الذي لم تسبق الإشارة إليه هو أن كل جزء من هذه الأجزاء الخمسة يمكن تقسيمه إلى أجزاء أخرى وفقاً لمنهاج معين سيسمح بالتوقف بشكل أكثر تركيزا عند الجزء الأول من النّص، وذلك بغية تفكيكه والوصول إلى قراءة شفراته ووضع اليد على العلاقة الكامنة فيه بين الشاعر وبين ما يريد إيصاله إلى المتلقّي، ناهيك عن الرغبة في دراسة ما قد يكون من صلة بينه وبين نصوص أخرى تحتويها دواوين صدرت في فترات وأماكن مختلفة ومتباعدة، وذلك بهدف تأكيد ما قيل سابقا عن فكرة التجاور والجمع بين قصائد أديب كمال الدّين في معظم مجاميعه الشّعرية.

الجزء الأول من قصيدة (ملل):
(1)
مللتُ من النظرِ إلى الدببة
وهي تأكلُ بشراهة
من عطايا دبّها الكبير،
ومن القردة
وهي تتسلّقُ، كلّ يوم، الأشجار
لترمي الثمار
وتملأ الهواء صراخاً وزعيقاً.
مللتُ من الكلاب
وهي تتشمّمُ الجثث،
ومن الببغاوات
وهي تدهسُ الكلمات،
ومن الحمامة
وهي تتركنا، كلّ يوم، لنموت
وسط سفينة الحروف
بحثا ًعن نوح وطوفانه العظيم.
تكرار فعل (مللتُ) هو إشارة "تفصيلية" ترسل إلى الدارس نصاّ أو رسالة تفكيكية يمكن العمل عليها بالشكل التالي:

مللتُ من النظرِ إلى الدببة
وهي تأكلُ بشراهة
من عطايا دبّها الكبير

ومن القردة
وهي تتسلّقُ، كلّ يوم، الأشجار
لترمي الثمار
وتملأ الهواء صراخاً وزعيقاً.


مللتُ من الكلاب
وهي تتشمّمُ الجثث،

ومن الببغاوات
وهي تدهسُ الكلمات،

ومن الحمامة
وهي تتركنا، كلّ يوم، لنموت
وسط سفينة الحروف
بحثا ًعن نوح وطوفانه العظيم.

عبر هذا التقسيم لهذا الجزء من القصيدة يتضح ما يلي:
التدرُّجية في الإلقاء وفي إيصال الفكرة عبر مراحل وكأنها تخرج من أقماع ترشيحية تقطر منها رسائل الشاعر قطرة تلو الأخرى، وهذه المراحل يمكن تقسيمها إلى ما يلي:
مراحل خاصة بعنصري الفعل والحركة داخل الأبيات، وأخرى خاصة بالعنصر الطبيعي بمختلف مكوناته الحيوانية بشكل خاص.
عنصر الفعل والحركة: ويُقصد به كل الأفعال التي استخدمها الشاعر في هذا الجزء الصغير الكبير والتي يمكن تقسيمها بدورها إلى حقلين، الأول خاص فقط بفعل (ملّ) وبصيغته الماضية، والثاني خاص ببقية الأفعال.
الحقل الخاص بفعل (ملّ)
وقد تكرر بصيغة ظاهرة لمرتين (مللتُ) وبصيغة ضمنية مرتبطة بواو العطف ثلاث مرّات (انظر العبارات المخطوطة باللون الأسود الغامق).
كون الفعل قد ورد في صيغة الماضي مرتبطاً بتاء المتكلم فهذا يعني أن خطاب الشاعر يحمل رسالة موجَّهة، لها أكثر من شفرة، ولها أكثر من متلقٍّ. فصيغة الفعل الماضي هنا هي من النوع الدّال على الحاضر والمستقبل أيضاً، وذلك لتمام وكمال حالة "الملل" وسيطرتها على المتكلم بحكم هذا التكرار المستمرّ لذات الفعل على طول القصيدة وليس فقط في هذا الجزء الأول. أما عن تعدّد وحدة المُرسَل إليه، فيقصد بها أن رسالة الشاعر موجهة أولاً إلى نفسه، وثانياً إلى القارئ العادي، وثالثاً إلى متلقٍّ آخر هو الدارس والباحث الناقد. وكل هذه الصور يمكن تجسيدها كما يلي:
الباث الرسالة المتلقّي رقم 1
أنا الرسالة أنا

أما الدّال على هذا التمازج الحاصل بين الشاعر وذاته المتلقّية فإنه يوجد في الجملة الأخيرة من القصيدة كاملة:
"ومللتُ منّي: أنا الملولُ العظيم!"
أي أنّ الشاعر بعد أن استعرض كلّ المظاهر التي جلبت له داء الملل قفل دائرة الشكوى بتوجيه الخطاب إلى نفسه باعتباره العين الراصدة لكل ما يحيط به من آفات ومظاهر لا تبعث في النفس سوى التعب من الحياة والسأم منها. وهذه الطريقة في ختم القصيدة يسميها أهل المسرح ب "النهاية المفاجئة" أي (A plot twist)، إذ أنّ القارئ لا يتوقع أبداً من الشاعر بعد كل هذا الصّبر والنفس الطويل في سرد كل دواعي (الملل) أن يوجه الرصاصة إلى نفسه، ثم يضم نفسه إلى لائحة الأشياء الباعثة على الملل فيصبح هو أيضاً سبباً من أسباب السأم، وهذا ما يجعل الدارس يتساءل عن سبب هذا التحوّل المفاجئ وهذه الرصاصة غير المتوقعة. وهو أمر سيُلقى عليه الضوء في الأسطر القادمة من التحليل والتفكيك.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإنه تمكن الإشارة إلى تقنية إيصال الرسالة إلى المتلقّي الثاني وفقا للطريقة التالية:




الباث الرسالة المتلقّي رقم 2
الشاعر الرسالة القارئ

إنّ التفاعل المقصود هنا بين الشاعر والمتلقّي (رقم 2 ) هو تفاعل كامن وضمني، وهو قائم أساساً على عملية استحضار المتلقّي (المرسل إليه) من طرف الشاعر (الباث) لحظة كتابته القصيدة، وهذه العلاقة التفاعلية هنا هي من نوع الأنظمة التي تشتغل من ذاتها (systèmes autoréglès). أي أنّ الشاعر يُخبر المتلقّي من خلال نصّه فيُثير لديه مجموعة من ردود الأفعال التي تعمل على انبثاق معطيات جديدة تتوالد إلى ما لانهاية، ذلك لأنّ هذه الأخيرة كامنةٌ سواء داخل النّص أو خارجه. لكن حصر النّص في هذا النوع من التفاعل وحده يظل أمراً غير ذي وزن لأنه سيشلُّ عملية القراءة ويحصرها في مجرد تأويلات يمكن أن يعطيها القارئ إلى "آفة الملل" حسب وجهة نظره على ضوء ما يحمل من تقاليد فنية وقيم تاريخية وأخرى دينية وما إلى ذلك من الاعتقادات أيّاً كان نوعها. لذا وجب طرح السؤال التالي: هل من تفاعل متنوع ومتعاقب وممتد عبر التاريخ يسمح للقارئ ألا يكتفي فقط بتفاعل يضمن له الاستجابة البديهية للنّص ولمكوناته بل تعدّيها إلى خلق طاقة تفاعلية تُعطي للقصيدة من جهة قيمتـَها الفنية وتُبلوِرُ من جهة أخرى أجهزةً جديدة ترمي إلى تفسير الأبيات وتأويلها؟
هذا النوع من التفاعل لا يمكن تحقيقه إلا عبر القارئ الدارس أو الناقد كما توضحه المخطوطة التالية:
الباث الرسالة المتلقّي رقم 3
الشاعر الرسالة الناقد
هذا النوع من المتلقّي سوف لن يكتفي بهذا النّص فقط ولكنه سوف يسعى إلى دراسة التجربة الشعرية والأدبية للشاعر حتى يتقصّى معاني إشكالية (الملل) لدى أديب كمال الدّين، ويبحث عن أثرها في نصوص ودوواين أخرى علّها تُعطيه مفاتيحَ تُمكّنه من التقرب إلى الجوهر، أو على الأقل محاذاته، فمنْ يدري ربما يكتشفُ أنّ الشاعرَ قد ملّ حتى من القارئ أو من الدّارس والناقد نفسه، أليس هو من قال في الجزء الأخير من هذه القصيدة: " مللتُ منكَ أيّاً تكون/ وأينما تكون"!
هذا ما تمّ حصادُه بعد ضربات عديدة من معاول ومناجل التمحيص والتفكيك في حقل البنية الخاصة باستخدام الشاعر لفعل (ملّ) وتكراره على مرّ أجزاء القصيدة. ماذا الآن عن المجالات الخاصة بالأفعال الأخرى؟

الحقل الخاص بالأفعال الأخرى
سيتمّ التركيز على الأفعال الخاصة بحركة الدببة والقردة كمثال لتقنية استخدام الصورة الحيوانية في الكثير من نصوص أديب كمال الدّين:
ـ (تأكل):
" مللتُ من النظر إلى الدببة
وهي تأكل بشراهة
من عطايا دبّها الكبير"
قرن الشاعر فعل الأكل بالدببة وبصورة الشراهة. والمقطع الخاص بهذا الفعل على الرغم من قصره والاختزال الشديد لعباراته وتركيباته فهو يشكل لقطة أو صورة كاملة ومكتملة العناصر التي يمكن إدراج أهمها حسب ترتيب ظهورها في هذا المقطع كما يلي:
ـ الشاعر الملول
ـ الدببة الشرهة
ـ الدب الكبير
لكن قبل الاستمرار في تفكيك بنية هذه الصورة، هناك سؤال مهم لابدّ من طرحه:
ما للشاعر والدببة؟
على الرغم من أنّ تاريخ الأدب العربي حافل بالقصص والأشعار التي تمّ فيها استخدام تقنية الحكي على لسان الحيوانات وأسلوب استعارة الصورة الحيوانية بغرض تمرير العديد من الأفكار والخطابات ذات الطبيعة التاريخية أو السياسية بأقل الخسائر الممكنة، إلا أنه لم يتمّ الاعتناء كثيرا بصورة "الدب" في العديد من نصوص الشعراء والأدباء قدماءَ كانوا أو محدثين، ولربما هذا مردّه إلى ارتباط الصورة الرمزية لهذا الحيوان بالبيئة الغربية أكثر منه بالبيئة العربية، لذا فورود اسم "الدب" في هذا المقطع قد تكون له دلالة رمزية خاصة يمكن استكناه فحواها دون الابتعاد عن النّص وذلك عبر الاشتغال على صور المقطع ذاته ودراسة المسافات الفاصلة بين شخصياته:

الصورة رقم 3
كما يوضح هذا المثلث، الذي يبدو أنه مثلث سلطة سيتم الإفصاح عن طبيعتها في الأسطر القادمة، فإن الشاعر في الوسط يقوم بدور الشاهد الذي ملّ من "الدب" الرئيس ودببته النهمة التي لا همّ لها سوى انتظار عطاياه مقابل خدمتها وولائها ومبايعتها المتجددة له.
القراءات المتعددة لرمزية "الدب" في النّصوص الغربية وخاصة منها المرتبطة بالأساطير البريطانية والهولندية تؤكد بأن لهذا الحيوان أكثر من دلالة مرتبطة خاصة بالطبيعة الذئبية والظلماتية للنفس البشرية، لكن بالإضافة إلى معنى الذئبية، هناك دلالة أخرى لا يمكن التغاضي عنها ولربما هي الأكثر توافقاً مع ما ورد في هذا المقطع باعتبار علاقتها الوطيدة بمفهوم السلطة العسكرية التي غالبا ما تكون في صراع وتطاحن قاتل مع رجال علوم اللاهوت وفلاسفتهم وشعرائهم وهذه الأطروحة تجد صداها في ديواني (جيم) و(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) ، إذ تكفي قراءة قصيدة (مطر أسود.. مطر أحمر) ، كي يُصدم القارئ بهول ما ارتكبه "صاحب الجند"، أو "الدب الكبير" الذي كان يقود العديد من الجنود بما فيهم "الشيوخ" والشعراء إلى الحرب ويدعوهم إلى القتل والنهب وسفك دماء الجيران "النائمين في العسل". فالصورة إذن هي صورة حرب، فيها الموت والدم والغنائم التي تصبح "عطايا" يوزعها "الدب الكبير" على "دببته الشرهة".
ويعود رمز (صاحب الجند) للظهورفي نص آخر هو (شعراء الحرب) الذين فرّوا إلى مشارق الأرض ومغاربها حين ألقى البحّارةُ أصحابُ العيونِ الزرق القبض على صاحب الجند هذا، حيث فرّ كبير شعراء الحرب إلى بلادِ الظلام وفرّ صغيرهم إلى بلادِ الضباب، والثالثُ إلى بلادِ الواق واق، والرابعُ إلى بلادِ الأسكيمو، والخامسُ إلى بلادِ الراياتِ السود، والسادسُ إلى بلادِ الراياتِ الصفر والسابعُ إلى بلادِ الفلافل، والثامنُ إلى بلادِ القلاقل، والتاسعُ إلى بلادِ العماليق والعاشرُ إلى بلادِ المنجنيق. وهكذا انتشرت جرثومةُ الحرب في أرضِ اللهِ كلها!"
توضّحت الرؤيا الآن وخرج الشاعر هنا في مقطع (الدببة الشرهة وصاحبها الدب الكبير) بزي الرجل العسكري الذي ملّ من كل هذا الظلم والطغيان، ومن هذه الألوان المُغرقة في السريالية العجيبة داخل مثلث السلطة المجنون بكل تشكلاته وتمظهراته سواء تلك التي لها علاقة بالرغبة الذئبية النارية الدموية أو تلك التي تدور في فلك القوة البطشية الحديدية، ولا أدلّ على ذلك ما ورد في نص الشاعر الجديد الموسوم (مثلثات) والذي يقول فيه مشيرا إلى داء السأم والملل مرّة أخرى:
"على مائدةِ الخوف
أرى مثلثَ السُلْطة:
رأسه إلى الأعلى،
ومثلثَ الرغبة:
رأسه إلى الأسفل،
ومثلثَ القوّة:
رأسه إلى اليمين،
ومثلثَ العبثِ والسأم:
رأسه إلى اليسار."

ـ ( تتسلق/ ترمي/ تملأ)

"ومن القردة
وهي تتسلّق، كلّ يوم، الأشجار
لترمي الثمار
وتملأ الهواء صراخاً وزعيقاً"
في فعل التسلق إذن نوع من الوصولية ومن الطموح التملّقي الخبيث، وفي ربط هذا الفعل ب"القردة"، محاولة للمزاوجة بين صورة القرد وبين الصورة الباطنة للظل القاتم الساكن في اللاوعي البشري، هذا الظل الذي يتحرك وسط ظلمة النفس متحرراً من كل قيد وسلطة روحية وعقلية، ولا أدلّ على ذلك من "القردة" التي باعت نفسها بأبخس الأثمان في سوق السلطة حينما ظنّت بأن في قربها من "الملك" وحصولها على هداياه، قرب من المجد والجاه، دون أن تدري بأن الانسلاخ عن الأصل، أو عن الصّحراء كرمز لصفاء النفس هو انعدام أصل وتسلّق لا شيء فيه سوى فقدان دم الوجه ومجلبة للمهانة والعار: "ساخرةً/ من قردِ الملكِ الذي يشعر،/ وقتئذٍ،/ بالخزي من نفسه".
أما عن فعلي "ترمي" و"تملأ" ففيهما إشارة للمظاهر البدائية غير المتحضرة لمساحة اللاشعور الخاص بالأفراد الذين اختاروا لأنفسهم الصورة الظلية القردية، لذا تجدهم ممن يغلب عليهم طابع الدهاء المصحوب بالانفعالية غير الخاضعة لرقابة الوعي والشعور، وطابع العنف الشهواني.
كما ترى فكلّ الصور الخاصة بالمقطع الأول من قصيدة "ملل" بدءاً من صورة الدببة والقردة وصولاً إلى صورة الكلاب والببغاوات، ما هي إلا صور خاصة بنوع معين من الأشخاص الذين يدورون في فلك أهل السلطة والسياسة بكل هياكلها وأجهزتها الرسمية وغير الرسمية، قدمها الشاعر بشكل رمزي جديد مستفيداً في هذا من خبرة من سبقه من أدباء العرب والهند وفارس في مجال استخدام الحيوان كرمز أدبي من أجل تسليط الضوء على بعض من الآفات التي تنخر جسد المجتمع البشري بدون هوادة ولا رأفة أو رحمة.
ولربما هذا هو السبب الذي يجعل من أديب كمال الدّين في استخدامه للرمز الحيواني (ليس في نص "ملل" أو "قرد الصحراء" فقط وإنما في نصوص كثيرة أخرى) يبدو وكأنه يحدد مسبقا قرّاءه دون أن ينسى أن يقيّدهم بمستويات معينة من القراءة التأويلية بشكل يجعلهم يتوزعون بين رتب مختلفة وفئات معينة يمكن حصرها فيما يلي:
ـ الفئة التي تبحث عن النادرة والمستملحات في سلوكيات وحيل الحيوانات التي وظّفها أديب كمال الدّين كصورة رمزية في العديد من قصائده كما هو الحال بالنسبة لصورة القردة والدببة والكلاب.
ـ الفئة الثانية وهي الخاصّة ببعض من القرّاء المثقفين وبعض من أهل السلطة والحكم التي تبحث في نصوص الشّاعر عن أشكال جديدة من التعبير الشعري المعاصر بغرض التنزه في الصور التخيلية للحيوانات غير معتنية بالفكرة العامة للنّص الشعري ذاته.
ـ والفئة الثالثة والأخيرة وهي الخاصة بالنقاد والفلاسفة والحكماء وبعض من رجال السلطة ممن عُرفوا بالعلم والثقافة والفكر، وممن أثارتهم تجربة أديب كمال الدّين الشعرية ففضّلوا قراءة رموزها وفكّ شفراتها بمفاتيح الحكمة والتصوف والفلسفة والعرفان.

ـ الألم ومعارجه

نص "خسارات" يعدّ من أكثر القصائد التي لخّص فيها أديب كمال الدّين حكايته وتاريخه مع الألم. إذ تكفي عملية مقارنة بسيطة بينه وبين باقي نصوص المجاميع الشعرية كي يمكن القول بأن هذا النّص بالذات لا يحتاج لا إلى فكّ شفرات ولا إلى قراءات تأويلية أو تخمينية، لأنه واضح وضوح الشمس في عمق النهار، فصاحب الخسارات بامتياز، هو الشاعر نفسه، أما عن إشارات الخسارات فيه، فهي حقيقية ولها صلة وثيقة بما عاشه الشاعر في فترات مختلفة من حياته، وهي طبعاً كلّها أحداث قد تركت من الألم في قلبه ما يفوق كل تصور، لكن السؤال الذي يحاول أن يجد لنفسه مشروعية الوقوف بين أحرف كل بيت من هذا النّص فهو كالتالي: ما الدافع الكامن وراء تطرّق الشاعر إلى مظاهر شتى من معاناته الشخصية داخل العديد من نصوصه بشكل جعلها تبدو وكأنها نوع من كتابات السيرة الذاتية؟
لاشكّ أن في هذا النوع من الإخبار والتوثيق لمختلف مراحل الألم والعذاب في حياة الشاعر، بدءاً من ألم اليتم عند الطفولة، وسطوة جثمان شبح الخوف والقمع والموت على عين الروح في فترة حالكة من تاريخ العراق السياسي والعسكري، وصولاً إلى عذابات "المنافى" وما سبقها ولحقها من أحداث مغرقة في السريالية، رسالةٌ ملحّة أراد ولم يزل الشاعر يريد إيصالها إلى المتلقّي، لدرجة جعلت منه صورةً وحضوراً أشبه بصوت النبي داخل حكايات الألم والعذاب التي لا تخلو منها صفحة من كتاب مقدس قرآناً كان أو إنجيلاً أو توراةً أو زبوراً. ولعلّ هذا الشبه هو ما يجعل كل دواوين الشاعر كتاباً كبيراً يصوّر مختلف مظاهر الألم البشري وخاصّة منه المعنوي والروحي. لذا تجد في معظم قصائد هذا الكتاب وصفاً وتأريخاً لهذا الألمِ المُرتبط بمفهوم بل بمُعضلة الشرّ ، إذ كلّ ماهو شرّ لابد تكونُ نتيجتُه الآلية الألم والعذاب والمعاناة الروحية الشديدة التي لا شك تنعكس بعد ذلك على الجسد البشري: فتفشي العديد من الآفات وخاصة منها خيانة الأصدقاء التي يبدو أنها من أكثر الآلام التي تركت في قلب الشاعر ندوباً وشروخاً عميقة، ونكران الأحبّة والأهل الجميل، وانتشار سلوكيات مرضية غريبة بين الناس الذين أصبحوا لا يجدون لأنفسهم متعة ولا رضا، إلا في تعذيب وتحقير بعضهم بعضا، كلّ هذا لابدّ أن يقود إلى سؤال فلسفي كبير ربما تصعب الإجابة عليه: لماذا الألم وما سرّ هذه العلاقة التوأمية بينه وبين الشرّ؟
في نص "خسارات"، مفتاح ربّما يقرب القارئ من الجواب عن هذا السؤال، وهو مفتاح له علاقة وطيدة بالألم العيسوي (فارتبكتُ لأنني لم أهيىءْ نفْسي لدور الفادي/ ولم أكنْ أتصوّر أنّ دورَ يهوذا/ سَيُعاد عرضه في كلِّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق)، ولكن قبل التوقف عند هذا المفتاح تجب محاولة تفكيك النّص بمختلف صوره الشكلية والمعنوية:
يقول أديب كمال الدّين في الجزء الأول من نصّه (خسارات):
"خساراتي لم تعدْ تُحْـتَمل
فأنا أخرجُ من خسارةٍ لأقع في أخرى.
فأنا – على سبيلِ المثال – متّ،
متُّ منذ زمن طويل
وشبعتُ موتاً.
وحين قررتُ أن أقوم من موتي
لابساً الأخضرَ بدل الأسود
وراكباً الغيمة بدل الدراجة الهوائية،
صدمتُ بفسادِ الغيمة
وتمزّقِ ثيابها الداخلية."
يمكن تقسيم هذا المقطع إلى ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الوعي، مرحلة الوعي، ومرحلة ما بعد الوعي بالواقع الحاضر.
مرحلة ما قبل الوعي
وهي مرحلة عُرفت بالموت والجمود (متُّ منذ زمن طويل/ وشبعتُ موتاً) وبطغيان اللون الأسود، وبقضاء الشاعر فترة ليست باليسيرة وهو يركب دراجة السعي الحثيث في الحياة معتمداً على مجهوده الشخصي وقدراته الذاتية وتحمّله لوحده أعباء العيش اليومي بصبر أيّوبي عجيب.
مرحلة الوعي
وهي التي تنبّه فيها الشاعر إلى أن دراجته الهوائية ليست بالوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تقوده إلى برّ النجاة فقرر أن يركب بدلها الغيمة علّها تحمله ببركتها الغيثية إلى حيث مملكة وعرش الماء، وتحقيق أمنية تحوّل الموت إلى حياة والسواد إلى خضرة.
ومرحلة ما بعد الوعي بالواقع الحاضر
الخروج من مرحلة الحلم والرجاء والتمنّي إلى مرحلة الاصطدام بالواقع كما هو بما فيه من مرارة "فساد الغيمة وتمزّق ثيابها" وهذه هي أولى الخسارات التي سردها الشاعر على سبيل المثال لا الحصر وسلّط الضوء عليها بشكل تجعل القارئ يتساءل عن كيف يمكن للغيمة أن تنعت بالفساد والتمزّق، بالرغم من أن كل القواميس العربية تشير إلى الرمزية الإيجابية للغيمة لارتباطها بالسحاب وارتباط السحاب بالمطر وارتباط هذا الأخير بالغيث الإلهي، فهل يعقل أن يكون الغيث الإلهي فاسداً؟
للجواب عن هذا السؤال لابدّ من التوقف عند طبيعة وماهية هذه الغيمة بالذات، والقول بأنّ في مصطلح الغيمة نفسه حركة وسير بل طيران وهذه الحركة تـُذكّر بحركة أخرى ارتبطت بمفهوم الدّراجة الهوائية التي ذُكرت في المرحلة الأولى، وهذا يعني أن هناك مستويان من الحركة: الأول مقترن بحركة الدّوس، والثاني بحركة الطيران، وفي كلّ هذا تعبير عن الرغبة في التغيير والقيام من الموت والتحول من المشي والدوس إلى الطيران، هذا الأخير الذي يجد له صدى في قصيدة أخرى شديدة الارتباط والتجاور بهذا المقطع من قصيدة "خسارات" ويُقصد بها قصيدة "أعماق" التي يقول فيها الشاعر:
"في أعماقي
طائرٌ أبيض
يسقطُ مذبوحاً في أعماقِ المسرح.
وفي أعماقِ المسرح
صراخٌ وأنين وثيابٌ ممزَّقة
وفي أعماقِ الثيابِ الممزَّقةِ حلم
وفي أعماقِ الحلمِ نهر
وفي أعماقِ النهرِ صَبيّ
وفي أعماقِ الصَبيّ قلب
وفي أعماقِ القلبِ قصيدة
وفي أعماقِ القصيدةِ حرف
وفي أعماقِ الحرفِ نقطة
وفي أعماقِ النقطةِ متصوّف
وفي أعماقِ المتصوّفِ إله،
إله ينظرُ إلى طائري المذبوح بعينين دامعتين."
الغيمة إذن هي الطائر الأبيض المذبوح في أعماق الشاعر، ولذا قال عنها أن ثيابها ممزقة (صدمتُ بفسادِ الغيمة/ وتمزّقِ ثيابها الداخلية (نص خسارات) // وفي أعماق الثياب الممزقة حلم (نص أعماق)).
إذن فالشاعر صُدِمَ حينما اكتشف أن غيمته قد أُصُيبت بداء الفساد من كثرة ما نالها من المصائب، بل أن طائره الأبيض مذبوح داخل قلبه المتصوّف الذي ينظر إليه الإله بعين باكية، إذ كلّ ألم يصيب أحبّة الله هو ألم يلحق بروح الله المُحبّة الرؤوفة بعبادها باعتبار أن الله يكره لهم الظلم بكل أشكاله وصوره، أليس هو القائل عز وعلا في حديثه القدسي: " من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"؟
يكمل أديب كمال الدّين سرد خسائره ويقول:
"خساراتي لم تعدْ تُحْـتَمل.
دخلتُ في النارِ واحترقتُ كما ينبغي.
وحين قمتُ من رمادي
وجمعتُ رمادي
وذرّيته في دمي كي لا أموت من جديد،
صدمتُ حين عرفت
أنّ مَنْ ألقاني في النار:
أصدقائي الذين أعطيتهم نورَ الأخضر
وأحبّتي الذين منحتُهم شمسَ الغيمة"
ها هو الشاعر يخرج من خسارة الطائر أو الحلم الجريح المسفوح دمه على مسرح الحياة كي يدخل دوّامة خسارة أخرى أشدّ إيلاماً، وهي صدمته الكبرى في كلّ من منحهم شمس قلبه ومحبته تحت مظلّة الصداقة، فما كان جزاؤه على صنيعه مع الأصدقاء سوى خيانة هؤلاء له وطعنهم إياه في العلن والخفاء .
ويبدو أن هذه الخيانات المتكررة كان لها وقع شديد على قلب الشاعر بشكل يفوق كلّ احتمال لدرجة أن الصّورة نفسها تكررت بأشكال مختلفة في قصائد متنوعة كما هو واضح في هذا المقطع من قصيدة "الموكّل بفضاء الله" :
"ما أجملكَ، إذن،
وأنتَ في طائرةِ الزمن
تتسامى بلطفِكَ النبويّ
وابتسامتكَ الإلهيّة،
تنظرُ إلى أعدائكَ السفهاء
بعيني المسيح الدامعتين
لتعبر المحيط
متماهياً مع زرقةِ الماءِ والسماء
ومع الغيم الذي يُسبّح
من خلالِ نبضك
بسمِ الله."
إذن فالأصدقاء بعد وقائع الخيانة المتكررة يتحوّلون إلى أعداء أو أعدقاء ، أما طائرة الزمن فهي هذه الحياة التي يركبها البشر، وهي أيضاً كوكب الأرض، وهي قلب الإنسان، وهذه أيضاً ليست المرّة الأولى التي يستخدم فيها الشاعر هذه الصورة للإشارة إلى مفهوم الحياة وكأنها رحلة سفر، وقصيدته (حوار) تشهد بهذا، وفيها يقول:
" حين طرقتُ بوابةَ مقصورةِ الطيّار
قالَ الطيّارُ بهدوء:
ماذا تريد؟
هذه رحلةٌ مليئةٌ بالمحاذير
وستستمرُ دونما توقّف.
ولكنْ كيفَ دخلتَ هنا؟
قلتُ بصوتٍ مرتبكٍ: بالصدفة!"
لماذا الطائرة إذن وليس وسيلة أخرى من وسائل النقل المعروفة؟ ربما لأن فيها إشارة لمفهوم الصعود والتسامي، فثمّة من يركب طائرة الحياة حقاً، لكنها تبقى في مطارها الأرضي تدور وتدور على غير هدى، وثمّة من تقلع طائرته ولكنها تبقى معلّقة في السماء الدنيا، سماء الغازات والأبخرة، وثمّة من تقلع طائرته وتطير رويداً رويداً، وتتجاوز معارج السماء، وكأنه في رحلة إسرائية محمّدية على ظهر براق ليلي، يخترق السماء ويصعد به نحو أعلى درجات الجمال والبهاء. وهذا شأن من "يتسامى بلطفه النبوي" و بدمعه اليسوعي تاركاً الأعداء غارقين في طين أحقادهم وشرّهم.
في قصيدة (حوار) ذاتها هناك عبارة قال فيها الشاعر:
" هذه رحلةٌ مليئةٌ بالمحاذير" فما تراه يقصد بهذه المحاذير، هل هي هذا الشرّ البشري الذي سبّب له من الألم أقساه أم ماذا؟
الجواب يوجد في كلّ النّصوص الثلاثة التي تجاورت فيما بينها وتلاحمت من أجل الحكي عن رحلة أديب كمال الدّين السريالية مع الألم والعذاب ويقصد بالنّصوص: ("خسارات" و"الموكل بفضاء الله" و"حوار"):





الصورة رقم 4
لاشكّ وأنّك لاحظت كم هي عجيبة ظاهرة التجاور الأدبي والشعري هذه في العديد من نصوص أديب كمال الدّين، وكأن الشاعر يريد أن يقدّم لك مفاتيح القراءة من النّص نفسه دون أن يكلفك عناء البحث عنها يميناً أو شمالاً، فيحقق بذلك التواصل التفاعلي البنّاء بينك وبينه وتعثر في نهاية المطاف على مفاتيح أخرى تخصّك أنت وحدك، كي تقرأ نفسك بنفسك، مادامت ماهية الألم البشري واحدة وإن اختلفت ملامحها أو مظاهرها الشكلية.
أمّا وقد تمّ تعميق ظاهرة التجاور في أكثر من مقام، تصعد الآن نقاط وقضايا لا تقلّ أهمية عن سابقاتها، ويُقصد بها تلك المتعلقة بالبنية الدرامية لكلّ هذه النّصوص المخصصة لإشكالية الألم، والتي هي قصائد غنيّة بل صاخبة بحركيتها التفاعلية المزدوجة بين الشاعر وواقعه المثخن جسده بطعنات الأحداث والصراعات والتناقضات، الشيء الذي أعطاها قيمة أكثر ثراء وقوة من خلال تقنية درامية اشتجرت فيها الذاتية، وتعقّدت فيها الأصوات، وارتبكت فيها الرؤى، والتبس فيها الشعر بالصراع والتطاحن الشرّي للإنسان وبالصّراعات اليوميّة الكونيّة بشكل عام، والتي لولا الرّحمة التي تفضل بها الله على الشاعر وأكرمه من خلالها بالسمو، لما كان هناك أمل ولا نور يضيء عتمة الألم في هذه النّصوص.
يبدو أن السؤال عن ماهية الألم هو في الحقيقة سؤال لا يقترن بالألم فحسب، ولكنه يحاول تحديد محتواه وطبيعته البشرية، لكن الجميل في هذا السؤال هو أن الإنسان غالباً ما لا يبحث عن الجواب لدى إنسان مثله، (بالرغم من أن معظم الألم البشري سببه البشر نفسه، أو ما يرتكبه هذا الأخير من شرّ في العالم)، ولكن عند اللّه باعتباره خالقه وخالق العالم والبشر المحيط به، لكن الذي يحدث هو أن الناس غالباً لا يصلون إلى هدفهم عبر طريق واحدة أو أسلوب واحد، فثمّة من ينتهي به الأمر إلى مخاصمة الله، وثمّة مَن يصل إلى درجة التجرّؤ على نكران الله، وإذا كان في الوجود والكون إشارة على وجود الله، فإن في الألم والشرّ غشاوة تغطّي أحياناً صورة الله وتحجبها عن الإنسان الغارق في ألمه وعذابه. أما عن أكبر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الإنسان، هو الاعتقاد بأن الألم هو فقط نوع من العقاب الإلهي، يكفي فقط التذكير بقصة سيدنا أيّوب (ع)، الذي نالته آلام لا تُعدّ ولا تُحصى بدون ذنب مسبق، ولكن أصحابه كانوا يحاولون أن يقنعوه بأنّ كلّ ما حلّ به هو لاشك عقاب إلهي لإثم كبير ربما قد يكون قد ارتكبه دون أن يعلم هؤلاء الأصحاب بأنهم بشكل أو بآخر كانوا يحاولون الدفاع أمام أنفسهم عن معنى الألم التأديبي، ظنا منهم بأنه لا سبيل إلى فهم معنى الألم إلا عبر اعتباره عقابا ، وذلك في نطاق عدالة الله الذي يجازي الخير بالخير والشر بالشرّ.
لكن إذا كان هذا هو أمر أيّوب فما بال عيسى (ع) الذي خانه أعز تلامذته، وما بال سيدنا محمد (ص) الذي عرف من الألم والحزن ما لا يستطيع قلب بشر على تحمّله أثناء تبشيره بدعوته السمحاء ؟
نبي الله عيسى صورة محببة لدى العديد من الشعراء، يلجأون إليها كلّما أرادوا التعبير الرمزي أو الصريح عن آلامهم، وقصائد أديب كمال الدّين لم تخلُ هي الأخرى من هذه الصور فهو قد سبق وقال في نص "الموكل بفضاء الله" دائما:
" تنظرُ إلى أعدائكَ السفهاء
بعيني المسيح الدامعتين
لتعبر المحيط
متماهياً مع زرقةِ الماءِ والسماء
ومع الغيم الذي يُسبّح
من خلالِ نبضك
بسمِ الله."
هذا المقطع من القصيدة مُربك جداً، لأنه يرمي بالناقد في شراك أسئلة عديدة ترغب في معرفة السبب الذي دفع بالشاعر إلى استخدام عبارة "أعدائك السفهاء" في موقف عيسوي تصاعدي لدرجة أن الأمر بدا وكأن فيه تناقضاً مع الروح المعراجية ذاتها، لكن الشاعر يسعف القارئ بالجواب في نص (خسارات) نفسه ويقول:
"فارتبكتُ لأنني لم أهيىءْ نفْسي لدورِ الفادي
ولم أكن أتصوّر أنّ دورَ يهوذا
سَيُعاد عرضه في كلِّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق"
ماذا يعني هذا؟ ماذا يعني أن الشاعر الواقف لم يكن مهيأ لدور الفادي؟ وماذا يعني أن دور يهوذا سَيُعاد عرضه في كلِّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق؟
لا يمكن الجواب عن هذا السؤال إلا عبر قراءة ومقارنة تحقيقية بين كلتي التجربتين، تجربة عيسى (ع) وتجربة الشّاعر أديب كمال الدّين:

صورة يهوذا في التجربة العيسوية
كل الكتابات اللاهوتية مسيحية كانت أم لا، تحدثت عن يهوذا وصوّرت كيف أنه كان من أكثر التلاميذ قربا إلى قلب يسوع، فقد اختاره هذا الأخير بعناية فائقة وأعطاه من نور شمسه أوهجه، وعلّمه كيف يتحدث بكلمة الله وينشرها بين الناس، بل كيف يشفي المرضى بإذن الله، كلّ هذا يعني أنه بين عيسى ويهوذا كانت قد توطدت علاقة صداقة حميمة مبنية على الثقة والمحبّة والإخلاص لدرجة أن عيسى عيّن يهوذا أميناً على صندوق مال كلّ التلاميذ، والقديس أغوسطينوس (13 نوفمبر 354 - 28 أغسطس 430)، يحكي بأن عيسى لم يتوانَ مرّة عن الاعتناء بصديقه ، فقد أنقذه من الموت أكثر من مرّة، وشفى أباه من الشلل وأمه من الجذام وجعل منه أقرب المقربين بعد بطرس.
لكنْ لمَ بعد كل هذا يخون يهوذا السيّدَ المسيحَ؟ وهل حقا خانه؟ أم أنّه ثمة معنى آخر لكل هذه الواقعة الأبدية الأثر في النفس البشرية الجمعاء؟
وهل كان اليهود حقّاً في حاجة إلى يهوذا الإسخريوطي كي يسلّمهم السيد المسيح بالرغم من أنهم كانوا يعرفونه جيداً ويستطيعون القبض عليه في أي وقت دون الحاجة لا إلى يهوذا و لا إلى غيره (لَقَدْ كُنتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَومٍ فِي سَاحَةِ الهَيكَلِ، وَلَمْ تُمسِكُونِي)؟
ما تحكيه النّصوص الإنجيلية أن عيسى كان على علم بما سيحدث له: "أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ عَنْ يَهُوذَا الَّذِي صَارَ دَلِيلًا لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ، إِذْ كَانَ مَعْدُودًا بَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هذِهِ الْخِدْمَةِ" ، كما أن المسيح لم يُسَلَّم إلا في الوقت الذي حَدَّدَهُ هو بنفسه: "فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَدًا عَلَيْهِ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ"
الخيانة شرّ لا يوازيه شرّ، وهي إن تمت على يد أقرب تلميذ لعيسى فهذا يعني أن وراءها مُدبّر هو القيّوم على الشر كلّه: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً) ، إنه إبليس الذي قاد يهوذا إلى الخيانة وبعد ذلك إلى الانتحار، وإبليس قبل كل هذا وذاك دخل إلى قلب يهوذا عبر باب المال وذلك كي يتسنّى له تنفيذ مخططه الأبدي الذي أراد له أن يستقر في الكون بأسره حتى يتمكن مما يلي من النتائج:
ـ تبرير قضية طرده من الجنّة أمام أهل النار بكل درجاتها وطوابقها وأمام أهل الملأ الأعلى بكل ملائكتهم ورسلهم.
ـ محاولة إدخال الشك حتى في قلوب مَنْ نجا مِن وساوسه مِن أهل الله ومخلصي عرشه المقربين باعتبار أن الله (حسب اعتقاده هو)، لم تكن لديه القدرة حتى على إنقاذ لا عيسى ولا يهوذا من بين مخالب شرّه، فتركهم لمصيرهما الأليم دون أيّ ردة فعل تذكر.
ـ وقبل كل هذا فإن خطابه هذا عبر هذه الجريمة الشنعاء موجّه بالأساس للبشرية جمعاء، وكأنه يريد أن يقول بأنه سوف لن يكفّ عن تحطيم كل ذرة إيمان بالله عبر الألم وعبر الشرّ الذي لن يكف عن زرعه في كل بقعة من بقاع العالم. لذا فعلى كلّ إنسان ألا ينسى بأن إبليس يعرف جيدا جميع الكتابات المقدسة ويعرف الكثير عن الملكوت الأعلى ويعلم أيضاً بأن الأجيال البشرية سوف لا تنفكّ ترجع إلى ماضي الأجداد وكتبهم كي تبحث فيها عن مفاتيح تعينها على مواجهة الحياة وفهم أمور دينهم ودنياهم، وهو يعلم أيضاً أنها ستجد في هذه الكتب قصص الأولين من الأنبياء وقصة الألم الأكبر الذي مني به عيسى وقصة يهوذا، ويعلم أن كل هذا سيخلّف لدى هذه الأجيال السؤال الوجودي الكبير: "لماذا سمح الله بكل هذا الألم ولم يفعل شيئا؟" ومن هنا تبدأ من جديد مهمته التي لم تنتهِ فصولها بعد حتى لحظة كتابة هذه الأسطر. إذ في السؤال عن سبب الألم ثمة مَن ستزّل قدمه فيهوى وثمّة مَن سيرتفع قلبه ويسمو فينجو.
لكن مهلا، ماذا لو يتم التفكير في خيانة يهوذا من وجهة نظر أخرى، ماذا لو تـَرفع عنه قبّعة التجريم وتـُلبسه رداء حرية الاختيار والإرادة باعتبار أنّه إذا كان الله قد سمح بكل هذا الألم فلاشك لحكمة ما، لا يستطيع كل الناس قراءتها بين سطور قصص من مضى من الأنبياء والرسل، وباعتبار أن إبليس نفسه ماهو إلا خادم أمين لربّ العزة والملكوت نفسه، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
إن من يُفكّر في الأمر مليّاً يجد أن قضية عيسى ويهوذا هي ليست قضية لاهوتية فحسب بل هي قضية سياسية بالأساس، فلربما كان يهوذا يريد أن يبقى وفيّاً للحكومة الرومانية ولمجلس الهيئة القضائية العليا المهتمة بالتحقيق في قضايا أمن الدولة والقضايا السياسية والجنائية، لذا تجده قد اختار أن يسلّم لهم عيسى الذي كان بالنسبة للجميع آنذاك "معارضاً" للنظام السائد. إذن فالذي قام به يهوذا هو نابع من حرية إرادة وتفكير وتدبير، ولولاه لربما لم تكن لتقوم الديانة الكاثوليكية برمّتها، ولولاه لم تكن كنيسة ولا دولة فاتيكان ولا أيّ شيء مما تلا حادثة "الخيانة" هذه، إذ على ضوء نتائجها أصبح بالإمكان القول بأنها كواقعة (وإن كان في ظاهرها ألم كبير) باطنها لم يكن حابلاً سوى بالخير، مثلها مثل العديد من الوقائع التي حدثت فكانت بتبعاتها ولم تزل المحرّك الأساس لتاريخ البشرية كلها، وكتب الأدب والفلسفة على مرّ الأزمان شهدت بهذا فخلدت لأسماء ساهمت عبر مبدأ حرية اختيار تقرير المصير الفردي في تغيير مصير شعوب بأكملها، تكفي على سبيل المثال لا الحصر إلقاء نظرة على كتب تاريخ النبوة بدءاً من سيدنا آدم (ع) إلى سيدنا محمد (ص)، وعلى كتب الأدب العالمي كي تجد أسماء عديدة لشخصيات روايات ونصوص أدبية أصبحت "مخلّدة" لارتباطها بمفهوم تغيير التاريخ الجمعي عبر تغيير التاريخ الفردي.
صورة يهوذا في تجربة الشّاعر أديب كمال الدّين
يبدو أن أديب كمال الدّين على علم مسبق بنظرية الخير الكامن في الشرّ الظاهر، إذ أنّه على الرغم من كلّ الألم الذي سبّبه له الأصدقاء وغيرهم من "الحروف" التي صادفها خلال مشوار حياته، إلا أنّه سعيد بألمه هذا، سعيد بدمعه ومستأنس بحزنه الوجودي. كيف ذلك؟ هذا المقطع هو الشاهد، ويقول فيه:
"إلى أصدقائي المنافقين
"أيّها الأعزاء
شكراً لأنّكم قدتموني بكراهيتكم المرّة
إلى نهرِ الحبِّ العذب
حتّى وصلتُ إلى عمقه الخطير
وأخرجتُ جواهر كلامه جوهرةً فأخرى."
المقطع هو الثاني من تسعة مقاطع لنص كامل يحمل عنوان "برقيات سعيدة جدا"، وهو كما ترى عنوان يحتاج إلى وقفة قصيرة، علّ هذا يساعد على استكناه سبب سعادة الشاعر بكل آلامه وأحزانه:
العنوان يتكون من ثلاث حقول لغوية:
برقيات
جمع "برقية" وهي تنحدر من الجذر الأصلي لكلمة "برق"، وفيها إشارة لسرعة الإرسال وبالتالي الاستلام، ولمفهوم تسليط الضوء على حقيقة قد يكون فيها أيضاً نوع من الصعق والفجائية للرائي أو لمستلم البرقية.
سعيدة
وفيها تلميح لسعادة المرسل بمجرد تحققه من وصول فحوى الرسالة إلى أصحابها كل على حدة وباسمه.
جدّا
للمبالغة والتأكيد المبطن بنوع من السخرية وخاصة مِمّن قد لا يجد في فحوى الرسالة أيّ سعادة تُذكر اللهم نبرة مريرة من التهكّم كما هو الحال في مقطع "إلى أصدقائي المنافقين" الذي يمكن اعتباره مركز النّص بكامل مقاطعه التسعة باعتباره يحوي لبّ قضية الألم التي تبدو في ظاهرها شرّا، لكنّها في الباطن تحمل جوهرة السعادة التي عثر عليها الشاعر بعد مسار طويل وشاق من التجارب والدروس الحياتية، الشيء الذي يعني أن كل فعل يتحقق داخل حياة الإنسان يمكن النظر إليه من منظورين، إذ كل انقباض يحمل في طياته انبساطاً، ذلك أن الله عز وعلا يعلن عن نفسه من خلال صفاته المختلفة التي قد تبدو من المنظور البشري أنها متناقضة، لأن الإنسان غالباً ماينظر إلى الوقائع من الخارج فلا يأخذ منها سوى بالظاهر ونادراً ما يفكّر في القوة الكامنة التي تحركها، فهو بهذا ينظر إلى الغبار لا إلى الريح، وإلى الزبد لا إلى عمق البحر.
مقطع "إلى أصدقائي المنافقين":
في العنوان تناقض ظاهر لكنّه مدروس ومقصود، إذ كيف يمكن أن تعطى صفة "الصداقة" التي تنحدر من الصدق لمن يتسّم بالنفاق الذي هو خداع وكذب، فالإنسان إما صديق صادق وإما لا. إذن فكلمة "المنافقين" جرّدت كلمة "أصدقائي" من معناها الحقيقي ويصبح بذلك في هذا المقطع أكثر من برقية: برقية في العنوان نفسه وبرقية في نص المقطع. وعليه تجوز قراءة العنوان على مستويين: مستوى ظاهر وآخر كامن وفيه إشارة إلى عبارات سبق للشاعر استخدامها في نصوص تمّ تحليلها سابقا ويقصد بها عبارة "أعدقاء" و"أعدائك السفهاء" (انظر الصورة رقم 4).
بعد هذا يتجاوز الشاعر عتبة العنوان ويمعن في الكشف عن كذب الأصدقاء ونفاقهم لدرجة أنه يلقّبهم ب "الأعزاء" ويقدم لهم الشكر رغبة منه في السخرية المريرة من موقف "خيانتهم" "وكراهيتهم المُرّة". ومسألة الكشف هنا لها علاقة وطيدة بنص آخر تحدث فيه الشاعر بإسهاب عن آفة "الكذب" و"النفاق" كظاهرة لا تفارق الجنس البشري، ويقصد بهذا النّص قصيدة (وصايا) التي يقول الشاعر في مقطع منها:
" تذكّرْ،
أيّها الحرف،
تلك الحروف التي التقيتَها
في السيركِ أو الحلَبة،
في الجوقةِ أو الحديقة
أو على الصراط.
تذكّرْ وجعَها الأليم ومباهجها الزائلة.
تذكّرْ كيفَ كشفتَ بسرِّ العارفين
ولوعةِ المُحبّين
دموعَها،
ندمَها،
ارتباكَها،
أكاذيبها،
هلْوَسَتها،
وضياعَها الأبدي!"
لكنْ علام الشكر؟ يقول الشاعر:
" شكراً لأنّكم قدتموني بكراهيتكم المُرّة
إلى نهرِ الحبِّ العذب
حتّى وصلتُ إلى عمقه الخطير
وأخرجتُ جواهر كلامه جوهرة فأخرى."
هنا مربط الفرس، لأنه من هذا المقطع الشديد الاختزال يصبح "الشرّ" معلّما كبيرا للشاعر، وهذا هو خيره الباطن، إذ لولا نفاق "الأصدقاء" ولولا ما أضمروه للشاعر من حقد وكراهية، لما تمكّن هو من الغوص في بحار الحرف والكلم، ولما قدم للإنسانية كلّها هذه التجربة الفريدة في الشعر العربي التي استحق عليها لقب (الحُروفيّ):
"ثمّ قال: ما اسمك؟
قلتُ: الحرف.
قالَ: بل الحُروفيّ والحرف جزءٌ منه.
ثمّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الحُروفيّ.
قالَ: بل الصُوفيّ والحُروفيّ جزءٌ منه.
ثمّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الصُوفيّ.
قالَ: بل العارف والصُوفيّ جزءٌ منه.
قلتُ: أنا العارف،
فَلَكَ الحمد ملء السماوات والأرض.
وبكيتُ على السجّادةِ الخضراء
حتّى اخضلّتْ روحي.
قال: ما لكَ تبكي كلّما خاطبتُك
حتّى تخضّل روحُك؟
قلتُ: أغثْني ثُمَّ أغثنْي.
قال: إنَّ لكَ عندي وِرْداً مِن نور:
سبحانَ الله
والحَمدُ لله
ولا إلهَ إلا الله
واللهُ أكبر.
فإنْ صادفَكَ ذئبٌ بشريٌّ أو ذئبٌ كَلْبيّ
فاقرأْه بوجهِه
فسيهربُ منك
يجرُّ هزيمتَه جَرّاً.
خُذْ هذا السرَّ مِنّي
جوهرةً تتلألأُ مِن عَرشي
حتّى تصلَ إلى مثواكَ بأقصى الأرض. "
وفي الختام يبقى مقطع "إلى أصدقائي المنافقين" رسالة تصبّ فيها كل رسائل نص "برقيات سعيدة جداّ"، إذ من ظاهر الشرّ الذئبي البشري استطاع الشاعر أن يُبقي على مفهوم القلب الطفولي حيّاً بداخله، والذي لولا بياضه وطرواته لما استطاع أن يغوص به داخل بحر الكمال والبهاء والجمال ، ولعلّ هذا هو السبب الذي كان وراء تحول الألم إلى سعادة عبر وقفة مهمة تحققت للشاعر الواقف من خلال ما يمكن تسميته ب"الاستئناس بالألم والحزن": ذلك أنه داخل لباس أو قشرة محن الحياة، قوي بداخله الحنين للمحبوب فطلب الوصال وعرف ألا حزن في الدنيا كلّها يعادل الحزن على فراق المعشوق، لذا تجده أصبح هو نفسه عاشقاً جعل من هذا الألم خبزه وشرابه، وحينما اشتد عوده وقوي صلبه وقف صارخاً رامياً كلَّ ثوب وحجاب وفاتقاً لكلّ قشر، وكأنّه حبّة نمت فنقبت الحجر والأرض وخرجت كي ترى نور الشمس وتنعم بالقرب من الحبيب، وهذا غالباً ما لا يتمّ إلا إذا ابُتلي الإنسان وامُتحن إلى أن يتحقق له الوصول إلى مرحلة الكساء بكسوة الاتصاف والحصول بعدها على خلعة الاختيار عن جدارة واستحقاق، وهذا ما كانت إليه الإشارة في قوله تعالى منذ الأزل: "وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ"


1.2 دلالة الصّليب
إن الحديث عن الصّلب والصّليب في كتابات أديب كمال الدّين لا يخرج أبداً عن نطاق ما سبقت مناقشته بشأن الألم وعلاقة هذا الأخير التوأمية بقضية الشرّ الكبرى، إذ الصّليب نفسه هو ألم عظيم ولكن غلبت عليه المحبة باعتباره يرمز إلى الخلاص والفداء والتحرير من الشرّ ذاته، أيْ ذاك الشرّ الذي ينفذ إلى أعماق جذور الألم الفردي كي ينتشر عبره داخل تاريخ الألم البشري الجمعي المتأصلة جذوره في الخطيئة والموت، لذا فلا خلاص يُمكنه أن يتحقق أبداً إلا إذا تمّ التغلّب على الخطيئة بطاعة الله إلى آخر لحظة في حياة الإنسان يتوّجُها بالموت، وعلى الموت بالقيامة، وهو المفهوم الذي أشار إليه الشاعر في أكثر من نصّ كهذا الذي يقول فيه:
"مَن أنتِ
حتّى أكتب إليكِ الياذتي المعاصرة؟!
اكشفي عن أنانيتك
حتّى أريكِ يُتمي
واكشفي لي عن بخلك
حتّى أريكِ نخلتي
واكشفي لي عن غموضكِ ومؤامراتك
حتّى أريكِ وضوحي وسذاجتي
واكشفي لي عن موتك
حتّى أريكِ قيامتي!"
كما هو واضح في أبيات هذا الجزء من قصيدة "محاولة في الطيران" فإن الشاعر جرَد مجموعة من المصطلحات التي تنتمي إلى ما يُسمّى بالشيء ونقيضه، وذلك عبر وقفة تكاشفية بين الرّمز النبوي الكوني وبين النفس البشريّة "الفاسدة" بسيطرة العُنصر الشرّي عليها:
الرمز النبوي الكوني النفس الفاسدة
اليُتم الأنانية

اليُتم ≠ الأنانية

اليُتم ضدّ الأنانية، هكذا يقول أديب كمال الدّين في هذا النّص ولربّما يبدو هذا القول غريبا، ولربّما يدفع أيضاً إلى التساؤل عن كيف يكون اليُتم مرادفا للإيثار؟
في اليُتم كرم رباني، يتفضّل به الخالق على أحبّائه من الخلق، ولعلّ يُتم محمد (ص) ويُتم عيسى وموسى (عليهما السلام) هو أكبر دليل على عظمة هذا النوع من الكرم.
إذ لم يكن اليُتم أبداً في حياة الأنبياء والأولياء وأهل الزهد والورع والتقوى من قبيل الصدفة والارتجال، وذلك لأنّه يقع عليهم الاختيار كي يجعلَ الله منهم نموذجَ الاقتداء الأصفى والأنقى للبشرية جمعاء. وفي يُتم النبي (ص) والعديد من رجال ونساء أهل بيته من بعده فلسفةٌ ربانية أراد بها الله أن يُكرم الأيتام بمقارنتهم بخير خلقه من البشر. وكي يكون سلطانه مطلقاً في التربية بلا تأثير من أب بشري يقتدي أويتشبه به. ولعلّ هذا هو السبب الرئيس في العناية الشديدة التي أولاها الله عزّ وجل لليتامى كما توضحه أكثر من آية في كتابه الحكيم.
أما عن علاقة اليُتم بالإيثار فإن ذلك مردّه إلى كون أن من اختير من الناس بالنبوة أوالولاية أو الصلاح والتقوى وقد ذاق ألم اليتم، لا يمكنه إلا أن يكون إنساناً ذا إيثار حقيقي ورحمة كبيرة بالناس أجمعين فما بالك باليتامى، مصداقا لقوله (ص): "مَن ضمّ يتيماً بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة".

النخلة البخل

النخلة ≠ البخل

النخل رمز إلهي وقد سبق لأديب كمال الدّين أن تطرق إليه في أكثر من نصّ من نصوص مجموعاته الشعرية، فهي "رمز الله، بل هي فاتحة قصيدته الغامضة. وهي صورة حرفه وبوّابة نقطته، وبيت نبيّه وسكينة مريمه" وهي لهذا كلّه، الكرم كلّه الذي مابعده كرم وقد يكون أمرا طريفا لو تلاحظ معي أيها القارئ هذه العلاقة الحرفية والضمنية بين كلمتي:
نخل/ وبخل لما فيهما من جناس لفظي غير تام ومن تضاد معنوي، إذ كرم النخلة لا يمكنه أن يكون سوى النقيض المطلق للصّفة البُخلية للنفس البشرية الجاحدة لآيات الله.

الوضوح والسذاجة الغموض والمؤامرات

الوضوح والسذاجة ≠ الغموض والمؤامرات

النفس البشرية الغامضة الآمرة الأمّارة المتآمرة لا يمكنها سوى أن تكون نقيضاً مطلقاً لكلّ ماهو واضح في الحرف والكلمة والرسالة العشقية العرفانية، لكن ماذا عن "السذاجة"؟ هذا مصطلح قلق ومقلق، ربما تكون له علاقة أكثر علاقة بالبراءة أو بالنوم في العسل وليس بـ "السذاجة" في حد ذاتها، مادام العارف يُوكل أمره للّه، ويعتبره سنده وحرزه وغمده الحامي له من أيّ شيء وإن كان شرّاً يُصيبه أو ألماً يعذبه، فما الشرّ إلا ظاهر وما العذاب في هذا الحال أو ذاك سوى باب باطنه فيه الرحمة. ولعلّ هذه "السذاجة" لها علاقة وطيدة أيضاً بمفهوم الارتباك، داء الشاعر الأكبر لذا تراه يقول:
"فارتبكتُ لأنني لم أهيىءْ نفْسي لدورِ الفادي
ولم أكنْ أتصوّر أنّ دورَ يهوذا
سَيُعاد عرضه في كلِّ مكانٍ بنجاحٍ ساحق"
ومادام الشاعر قد أشار إلى "المسيح الفادي" وإلى "يهوذا" فإنّه يحقّ التساؤل عن الآتي: هل كان عيسى (ع) "ساذجاً" حينما ذهب إلى بستان "جتسيماني" وهو يعلم أن يهوذا سيأتي هناك كي يسلمه إلى رؤساء الكهنة والفريسيين؟ بل هل كان الشاعر "ساذجاً" أيضاً حينما ألقى بنفسه في نار الألم كي يحترق داخل بوثقتها وهو يعلم أنّ من سيلقيه فيها هم "أصدقاؤه الذين أعطاهم نورَ الأخضر وأحبّته الذين منحهم شمسَ الغيمة" وإن كان قد استخدم مجازاً مصطلح "صُدمت" في الأبيات التي سبقت هذا المقطع من نص "خسارات"؟
الجواب سيكون هنا في معادلة الموت والقيامة:





القيامة الموت

القيامة ≠ الموت

خساراتي لم تعد تُحْتَمل.
صرتُ أقلّبُ أسماءَ المدن
فأجدها متشابهةً كالموت
وأقلّبُ أسماءَ الأزمنة والأمطار
والجروح والصواعق والنساء
فأرتبك
لأنّ جسدي الذي قامَ من موته عشرات المرات
وقلبي الذي قاومَ العاصفةَ والدمَ والذهب
بكيا أمامي كطفلين يتيمين
واشتكيا لي من ضياعِ الحلم
بل صرخا من ضياعِ الحلم
وخرجا كمجنونين في الشوارع
فما الذي سأفعله سوى أن أعلن:
خساراتي لم تعدْ تُحْتَمل
لم تعدْ .. لم تعدْ تُحْتَمل.
هذا المقطع من قصيدة "خسارات" يُظهر أكثر من غيره كيف أنّه يُمكن القول باحتمال أن تكون نفس الشاعر أديب كمال الدّين من تلك الأنفس التي غلب عليها المعنى لما تحقق فيها من علو نسبة الروح الفادية وذلك تصديقاً لما قاله عيسى (ع): "لم يدخل ملكوت السموات من لم يولد مرتين" وفي قصيدة الشاعر إشارة إلى هذه الولادة التي تمت أكثر من مرّة وإلى الجسد الذي قام من موته عشرات المرّات. فما معنى هذا؟ ما معنى أن يقوم الجسد من موته؟
في هذا الجزء من نص "خسارات" توجد إشارات يجب تسليط الضوء عليها وتحديد قيمتها الفكرية، ويقصد بها: إشارة الجسد وإشارة القيامة


I ) إشارة الجسد

في إشارة الجسد علاقة وثيقة بقاموس الأرض الذي تمّ التعبير عنه بمصطلحات مختلفة تبدو ظاهرياً ألا علاقة فيما بينها ويقصد بها: المدن / النساء / الذهب.
تتشابه المدن عند أديب كمال الدّين، ولا أثر فيها لمدينة خالية من الألم والشرّ البشري، وهو وإن كان تشابها فوضويَ الظاهر وعدميّ المعنى، فإن باطنه يحملُ كلّ المنطق وكلّ النظام بل كلّ المعنى. ولعلّ هذا ما سبرته أيضاً عين الناقدة الأسترالية د. هِثر تايلر جونسن، حينما قالت: "هكذا فإنّ أحزان ومباهج وألغاز عالمنا هي شبيهة بأحزانه ومباهجه وألغازه هو أي الشاعر. فنراه حاملاً ثقلا مساوياً، معطياً معنى لفوضانا- بعظمتها المتأصّلة- من خلال فضائه الشخصيّ الخاص به. هذه القصائد المكتوبة عن الحب والموت والقبول هي مواضيع كبيرة بحيث من الممكن تخطئتها في أحايين كثيرة كحافزٍ عاديّ بسبب عظمتها المتأصّلة. يسبر الشاعر هذه المواضيع النظرية عبر إحساس سحريّ دائريّ ممهداً الطريق إلى تركيب يدعم تطوّراً استداريّاً. هكذا فإنْ بدأنا مع طائر أبيض فنحن غالباً ما سننتهي مع طائر أبيض: فالعالم منطقيّ بشكل مطلق (رغم فوضاه) وهو لذلك مثلما ينبغي أن يكون" .
أما عن إشكالية النساء فالمرأة في كتابات أديب كمال الدّين تبقى قضية كبرى، ولا يقصد بها هنا المرأة الحرف أو النقطة، ولكن يقصد بها المرأة بمعناها "المادي" الخالي من كلّ رمزية عرفانية، أو صوفية. إذ أن أديب كمال الدّين، لا يكتب قصائده فقط لأهل العرفان وخرقة العشق، وإنما يكتبها لكلّ القراء على اختلاف مستويات التلقّي عندهم، وهو لهذا يعرف كم هي مهمة المرأة في حياة كلّ إنسان، كلّ على حسب تجاربه الشخصية وعلاقته مع الأنثى حبيبة كانت أو أما أو أختا أو صديقة. والشاعر قد تطرق إلى كل تمفصلات هذه العلاقة العجيبة للإنسان مع أنثاه، التي قد تكون مصدراً للعشق والمحبّة والسعادة تارة، ومصدراً للعذاب والشقاء والمرارة تارات عدّة، وللشّاعر بهذا الصدد مقاطع عديدة يذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
"اختارتْ حبيبتي المستنقع بدلاً من الفرات
فأطلقتُ النارَ على الفرات
وركضتُ مجنوناً لأرى أثرَ الرصاصة في الحروف."
* * *
" عندكِ فقدتُ ريشَ روحي
وعندكِ فقدتُ عنقَ شبابي.
وهكذا بحثتُ عن روحي
فتشاغلتِ بحمرةِ شفتيك
وبحثتُ عن شبابي
فتشاغلتِ بالبحثِ عن حقيبتكِ الملأى بالمواعيد."
هذه بعض صور من صور عديدة للمرأة التي تتلبّسها الخطيئة والخطأ وهي حاضرة في حياة العديد من الناس ولم يسلم منها الأنبياء والأولياء، وهي كغيرها من العديد من مظاهر الألم في حياة الإنسان خطأ يتكرر في كلّ مكان وزمان، خطأ أشار إليه الشاعر بطرق أخرى أكثر بلاغة حينما قال في نصوص أخرى ما يلي:
" رأى دمعتي
مَن يسوس الناسَ كما يسوس البغال
فأرادها نجمةً تزّين كتفيه العريضتين
وسنواته العجاف.
ورآها الطفلُ فأرادها لعبة
تسلّيه وقت المساء
ووقت الصباح.
وأرادتها المرأة
لتزّين بها
عقدها المتدلّي بين النهدين."
وفي هذا البيت إشارة إلى نوع من النساء، ربما من ليست لهن القدرة على فهم المعنى الكامن للإله في قلب الرجل العارف، فهن بالتعرف إلى هذا الأخير، لا ينجذبن إلى الله في قلبه، ولكن يقعن في حب فكرة التباهي أمام الغير بمعرفتهن لمن عـُرف عنه التصوف ولبس خرقة العشق. لذا هنا أيضاً "ثمّة خطأ"، خطأ الكبر والغرور والرياء، وهي كلها صفات تتناقض تماماً مع العشق الأكبر ودرجاته العليا، ولو كان الأمر غير ذلك لما ضمّ الشاعر هذا النوع من النساء في مقطعه هذا، إلى الحاكم الطاغية الذي لا يفرّق بين أبناء الشعب والبغال وإلى الطفل الساذج الذي ليس له من دنياه سوى اللعب واللهو. هذا دون نسيان الحديث عن المرأة التي تغار من الإله في قلب العارف، فترى النار تستشيط في قلبها محاولة الدفع بهذا الأخير إلى رمي الخرقة من أجل اعتناق تراب جسدها الفاني:
" حاولتُ أن أدلّكِ على إشارةِ الكافِ الكبرى
لكنّ شيطانكِ كان قوياً
فحاول كسر ذراعي التي أشارتْ إلى الشمس."
وهنا تجدر الإشارة ولو بشكل سريع إلى أن قضية هذا النوع من النساء تضم في ثناياها إشارة كبيرة تهمّ إشكالية الجذب والانجذاب، بل أحيانا الخطف والانمحاق. ألم تر كيف أن نساء زليخة قطّعن أيديهن ما إن رأين نور الله في وجه يوسف وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم؟!
هذا وجه آخر إذن من أوجه المرأة في قصائد الشّاعر، فماذا عن الذهب الذي ضمّه الشاعر إلى العوامل التي تزيد من حجم "الخسارات" في حياة الإنسان؟
يعتبرُ نصّ "محاولة في السحر" ، من أكثر القصائد التي تتحدّث عن زيف الذهب وزيف الأنثى والتراب والأرض، لكن بتقنية أدبية عالية المستوى تمّ الاعتماد فيها على عنصر الحوار من أجل استجلاء السبب الذي يجعل من الذهب والأنثى والتراب مجرد لهو ومتاع الغرور، لذا وجب التوقف عند هذا العنصر باعتبار أنّه لم تتمّ الإشارة إليه من قبل.

عنصر الحوار داخل قصيدة "محاولة في السحر"
بالرغم من أنّ معظمَ التعاريف الاصطلاحية اتفقت على أن الحوار هو تبادل الكلام بين شخصين أو أكثر باعتباره نمط تواصلٍ وتبادلٍ يتعاقب الأشخاص فيه على الإرسال والتلقّي، إلا أن أديب كمال الدّين في هذا النّص، سلّط الضوء على نوع آخر مُهمّ من الحوارات، ويقصد به هنا "المونولوج" أو الحوار الداخلي الذي لا يشترط مشاركة خارجية في الحوار، ولا تعاقباً في الإرسال والتلقي، بل يُلقى من طرفٍ واحد وإليه. ولربّما تبدو هذه الإشارة غامضة أو مناقضة للنّص الشعري ذاته باعتبار تعدد الأشخاص أو السحرة الأربعة الذين دخلوا في حوار مباشر مع الشاعر. أما عن العناصر الدالّة على أن الحوار هو داخلي بالأساس فيمكن عرضها كما يلي:
1) حضور الذات الحقيقية أو "أنا الشاعر" عبر شبكة من المعارف هدفها الرئيس هو تأسيس الفعل الوجودي لهذه الذات. وهذا ما عبّر عنه الشاعر عبر مجموعة من التقنيات السردية التي وردت في العنصر الحكائي الذي استهل به قصيدته، محاولاً بذلك تقاسم أحزانه أولاً مع نفسه ثم بعد ذلك مع المتلقّي، علّ هذا يحقق له نوعا من التنفيس والتخفيف عن آلامه. ويقصد بتقنيات السرد هنا كلّ الأدوات التي استخدمها الشاعر وهو يحكي لمتلقيه تفاصيل قصة تحوّل الدموع إلى أربعة سحرة، ويمكن حصر هذه الأدوات فيما يلي:
* تقسيم زمن السرد إلى مستويين أحدهما خارجي، ويقصد به زمن الشاعر وزمن القارئ والزمن التاريخي، والآخر داخلي، ويحوي زمن السرد أو ما يسمّى بزمن المادة الحكائية، وزمن الكتابة ثم زمن القراءة.
* استخدام تقنية الاسترجاع والاستذكار وذلك بغرض طيّ المسافة بينه وبين المتلقّي واختصار الأزمنة، حتى يتسنّى له أن يحكي وبمعجم لغوي بسيط ومختزل، كيف تحوّلت الدموع إلى سحرة وكيف دخل هؤلاء في حوار مباشر وشيّق معه.
* استخدام عنصر الزيادات أو المعلومات التكميلية عبر تقنية الوصف والمناورة السردية كي يتحقق للمتلقّي جمع أكثر التفاصيل عن الحدث في أقلّ وقت ممكن. كأن يعرف مثلا أين كانت الأنا السردية للشاعر، وكيف كانت وما هي الظروف التي كانت تعيشها قبل أن تتصلَ بالسّحَرة الأربعة وما إلى ذلك من التفاصيل الأخرى المتعلقة بعناصر الزمان والمكان والأشخاص والأحداث.
2) حضور الذات الشعرية، أو "أنا الشعر" وهي أنا الشاعر الافتراضية التي ظهرت في النّص وتلعبُ دور المخاطب/ أنت، في مقابل دور المتكلم الذي تلعبُه الذات الحقيقية التي تمّت الإشارة إليها سابقاً، ولذا فإن النّظرَ في عمق البنية الداخلية لهذا النّص سيُحيل إلى نتيجة مفادها أن المتكلم هو نفسه المخاطب وهذا ما يمكن التعبير عنه عبر المعادلة التالية:
أنت (المخاطب) = ذات الشاعر (الحقيقية)
أنا (المتكلم) = الذات الشعرية
أنا = أنت
المتكلم = المخاطب
وفي كل هذا توجد دلالات تجد مصداقيتها في كون الدمعات الأربع المتحولات إلى أربعة سحرة مصدرها الأساس هو الشاعر ولا أحد غيره، أليس هو القائل:
"وسقطتْ من عيني دمعتان
انقلبتا، بقدرةِ قادرٍ، إلى ساحرين
ثم سقطتْ دمعتان
فصارَ السحرةُ أربعة
تحلّقوا حولي بهدوء" ؟
لكنّ هذا لا يكفي، إذ يجب التساؤل عن الكيفية التي أدت إلى تحقيق فعل التحول هذا. ولعلّ الجواب يوجد في الأبيات التالية:
"في ظهيرةٍ تموزية
جلستُ تحت سنّ الشمس
فطحنني الحرُّ حتّى ابتلّتْ ثيابي
وقلبي وأصابعي"
المقطع فيه إشارة للانتصار على الموت عبر القيامة من عنصر الماء، فتراب الجسد ذاب تحت نور الشمس، ومنه قام الماء ومن الماء بعد ذلك خرجت الدّموع الواحدة تلو الأخرى، حتى ليبدو الإنسان وكأنه خلق من دمع وليس من طين. والماء كما الدّمع، شجرةُ حياة أبدية أشار إليها الشاعر عبر اسم تموز (في ظهيرة تموزية)، كرمز للجمال والحب (وسلّ قلبي مرآى الجمال). ولعلّ هذا يجد تأكيداً له في قصيدة "موقف الدمعة" التي يقول فيها الشاعر:
"أوقَفَني في موقفِ الدمعة
وقال: كم بكيتَ! وكم ستبكي!
فأنا خلقتُكَ من طين يا عبدي.
وكانت دمعتُكَ هي التي امتزجتْ
بالترابِ ليكون طينا
أو سؤالاً جارحاً
أو ضياعاً خالصاً وعذاباً مُهينا.
نعم، فحينَ ولِدتَ بكيتَ
وحين ارتبكتَ،
وكم ارتبكتَ، بكيت.
وحين ضعتَ، وكم ضعتَ، بكيت.
وحين استوحشتَ أو ظُلِمتَ أو مَرضتَ بكيت.
أمِن دمعةٍ خَلَقتُكَ أم مِن طين؟"
إذن يتحوّل الشاعر "بقدرة قادر" إلى أربع دمعات وتتحوّل الدّمعات إلى أربعة سَحَرة وهكذا يُصبح مجموع الأشخاص المتحركين داخل وجدان الشاعر خمسة. وهو بتقنية الاستدعاء الداخلي هذه يسلّط الضوء على ذروة الصّراع الذي بلغته الحال الشعرية جرّاء ما بدا لها من جمال الحق وبهائه بشكل قادها إلى البكاء (قلتُ لهم: أتعبتني الشمس). وليس هذا فحسب، بل فيه أيضاً إعادة إنتاج لصورة حاضرة في النّص الأول الذي تمّ الانطلاق منه والتي فيها يتحوّل الجسد والقلب هذه المرّة لا إلى أربع دمعات بل إلى طفلين يبكيان:
"لأنّ جسدي الذي قامَ من موته عشرات المرات
وقلبي الذي قاومَ العاصفةَ والدمَ والذهب
بكيا أمامي كطفلين يتيمين"
وفي كلتي الحالتين فإنّ ظاهرة التحوّل حاضرة كما الدموع حاضرة أيضاً، دون نسيان الإشارة إلى حضور مفهوم الانتصار على الموت عبر القيامة المتكررة.
هذا عن مستويات الحوار وتقنياته السردية، ماذا عن جانبه الأخلاقي؟
لا تبدو قصيدة "محاولة في السحر"، نصاً وجدانياً تنضح كأسه بألم الحرمان وفجيعة "ياربّ هل يرضيك هذا الظمأ والماءُ ينساب أمامي زلال"، ولكنّها كذلك لوحة نورانية حُفرتْ فوقها دروس عظيمة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بأخلاقيات الحوار. إذ أن الشاعر هنا سطّر العديد من المبادئ التي توضح للمتلقّي كيف تمّت إدارة دفة هذا الحوار بينه وبين السَّحَرَة الأربعة ولعلّ أهمها:
1) الابتعاد عن الأجواء الانفعالية:
إذ من عوامل نجاح أيّ حوار أن يتمّ في أجواء هادئة حتى يتمكّن الإنسان من الوقوف مع نفسه وقفة تأمّل وتفكير بعيداً عن أيّ عوامل تقيّد وعيه ولاشعوره وتفقده استقلاله الفكري، وقد عبّر الشاعر عن هذا المبدأ في هذا المقطع من النّص مستخدماً مصطلحي "بهدوء" و"خفيض":
" فصار السحرةُ أربعة
تحلّقوا حولي بهدوء.
(لِمَ تبكي؟) سألوني بصوتٍ خفيض"
2) امتلاك الحرية الفكرية
لابدّ لكي يبدأ الحوار أن يمتلك أطرافه حرّية الفكر والتفكير التي ترافقها ثقة الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا ينسحق أمام الآخر لما قد يحسّ فيه من العظمة والقوة، فتتضاءل إزاء ذاك ثقته بنفسه وبالتالي بفكره وقابليته لأن يكون طرفاً للحوار فيتجّمد ويتحوّل إلى صدى للأفكار التي يتلقاها من الآخر. إذ في النّص عرض الشاعر مجموعة من القضايا التي تقضّ مضجعه، لكنه ركّز على قضية الحرمان باعتبارها المشكلة الأم التي تعترض كل عارف سيّار، في حين ألقت الشخصيات الأخرى منذ البداية بمفاتيحها الأولية وعرّفت بنفسها جغرافياً ثم بدأت في عرض منهجها في التفكير وانتقلت إلى مناقشة اقتراحاتها وحلولها لقضية السائل الأول (الشاعر):
"قلتُ لهم: أتعبتْني الشمس
وسلّ قلبي مرآى الجمال،
أنا المحروم حدّ اللعنة،
وعذّبني الجوع
والرغيفُ هنا مغموس بالدم
وأثقلني الفراتُ بالندم.
قالَ أوّلهم: أنا من الهند
أستطيع أن ألبسكَ ثيابَ الذهب.
وقالَ ثانيهم: أنا مِن اللامكان
أستطيع أن أطيرَ بكَ من غيمةٍ إلى غيمة.
وقال ثالثهم: أنا مِن عاد وثمود
أنا مَن يعطيكَ سرّ اللذة.
وقال رابعهم: أنا مِن الصين
أنا مَن يجعل الحلمَ بابَ اليقين.
قلتُ لهم: عجّلوا عجّلوا
فلقد دفنني الحرمان
كما يدفن الزلزال
جيشاً قوامه ألف فارس."
3) استقلالية المتحاورين ومسؤولية كل واحد عن اختياراته

وهذا ما حدث بالفعل، فالشخصية الأولى اختارت عن طيب خاطر أن تجرّب كل الحلول المقترحة من الأطراف الأخرى وأن تتحمّل نتيجة هذا الاختيار حتى آخر مرحلة:
"في اليوم الثاني
جلستُ مرتدياً ثيابَ الذهب
وتحت قدمي غيمةٌ صغيرةٌ جميلة
وامرأةٌ أحلى من العسل
وأصابعُ كفّ تجعل الحلمَ – أيّ حلم –
بابَ اليقين.
(3)
لكنّ الشمس إذ توسّطت السماء،
ذابتْ خيوط الذهب
فبدتْ ثيابي مهلهلة.
وذابت الغيمةُ الصغيرةُ الجميلة
فبدتْ قدمي قبيحة.
وذابت امرأةُ العسل
فبدتْ شفتي مرّةً كالسمّ.
وذابتْ كفّ الحلم
حتّى تحوّلتْ إلى أصابع هيكلٍ عظمي.
فصرختُ: يادموعي يا إخوتي يا أصحابي
أين أنتم؟
أين أسراركم وإشاراتكم"

4) تحديد وقفة للتأمل والتفكير
إذ يستحسن دائماً أن يُعطى لكلّ أطراف الحوار مهلة للتفكير في العروض والحلول، وهذا مبدأ طُبّق بشكل جيد في هذا النّص، إذ أعطيت للشخصية الأولى مهلة زمنية جرّبت فيها الحلول ونتائجها، ثم فرصة أخرى للتفكير مع عرض محاولة جديدة للقيام باختيار آخر يكون نابعاً من وحي نتائج الاختيار الأول، وهذا ما حدث داخل طيات هذا النّص، إذ بعد أن جرّب "الشاعر" النّعيم الزائف الذي أذابته شمس الحقّ، صرخ من جديد طالباً عون السّحرة الأربعة الذين أسعفوه مرّة أخرى عارضين عليه الثبات كحلّ نهائي:
"صمت السحرةُ الأربعة.
لكنّ رابعهم أشفقَ على قلبي المحطّم
كمرآة أعمى.
قال: أتريد الثبات لا الزوال؟
قلتُ: نعم.
قال: لا سبيل إلى ذاك المقال
إلاّ إذا تلمّستَ شيئاً من روحنا.
فأومأ الثلاثةُ بالايجاب.
ثم قام أولهم عارياً من كلّ شيء
قال: سنفعل
سنعطيكَ حروفنا أيّهذا المُعَذّب
ونعلّمكَ نقاطنا أيّهذا المحروم.
لكننا نخاف إن تعلّمتها
أن تسخرَ من الذهبِ وثيابِ الذهب
أن تسخرَ من البلدان
أن تسخرَ من الأثداءِ والسيقان
أن تسخرَ من الأحلام
فتكون مثلنا فارغاً
بارداً
ضائعاً
عارياً للأبد."

5) التجرّد في الحوار

وهذا يعني التنزيه من قيد الكثرة والرسوم والعادات، مع إخلاص النية لله عز وجل والتجرد من كل أثر فيه تعصب أو كذب أو خداع، ولولا هذا المبدأ لما أخلصت الدّمعات الأربع في نصح الشاعر وإرشاده إلى الاختيار الصحيح، وعلامة هذا التجرّد توجد فيما قامت به الدّمعة الهندية أو "الساحر الهندي" من فعل: "ثم قام أولهم عارياً من كلّ شيء".
بعد هذا التحليل، يبدو أن أول تساؤل يخطر ببال المتلقّي هو الآتي: ما كان في الأخير اختيار الشاعر، هل اختار الذهب حقاً، أم أنه رمى الذهب والأنثى والبلدان وراء ظهره؟
الجواب يُوجد في قصائد عديدة أخرى تطرق فيها الشاعر إلى هذه القضية، ولعلّ أبلغ ما يمكن الاستشهاد به هو هذا المقطع من قصيدة "وحشة الرأس":
"في عليائي
في وحشتي وشحوبي
ورحيلي العظيم
سمعتُ صوتَ كلّ شيء
وأبصرتُ بالعينِ والأذنِ والقلبِ كلّ شيء
فسخرتُ من بريقِ الذهبِ والنحاس
من بريقِ الحرس
من بريقِ الأيام
من بريقِ الكلام. "

II) إشارة القيامة

لا شك أن في الحديث عن القيامة حديث عن الجسد والروح، هذان الصديقان اللذان يعيشان معا العمر كلّه متّحدين في طبيعة ناسوتية واحدة، لا يفرق بينهما سوى الموت الذي لا جمع يتمُّ بعده إلا بوقوع القيامة. والقيامة في كتابات أديب كمال الدّين ليست دائما لصيقة بالمفهوم أو المحتوى الدّيني بل هي قيامات وقيامات، فمنها تلك التي ترمز إلى قيامة الجسد في مفهومها الإيروتيكي كتلك التي عبّر عنها في قصيدة "مأدبة السيدة" ومنها تلك التي تعادل رفع حجاب الغفلة، أو تلك التي تعني الحياة بعد الرفع أو النوم الجسدي، وهذه الأخيرة لها صلة وطيدة بقيامة الأنبياء، وعيسى (ع) باكورتهم وإن كان قد قام قبله آخرون كالعزير وأهل الكهف (عليهم السلام)، ومنها تلك التي فيها إشارة إلى يوم الحساب الأكبر أو ما يسمّى بالقيامة الكبرى. والقيامة ترفع من قيمة الإنسان وتؤكد أن حياته لا تنتهي بموته وأن هناك حياة أخرى غير هذه، وأن الموت ما هو إلا جسر بين حياتين، وليست قصيدة "خسارات" هي الوحيدة التي تحدّث فيها أديب كمال الدّين عن "قيامة الجسد" بتكراره لصورها في أكثر من بيت، ولكن هناك قصائد أخرى تنتمي إلى دواوين أخرى، ربّما يُعدّ ديوان (جيم) أكثرها اعتناء بهذه القضية، مادام يضم بين دفّاته أكثر من نص يتحدّث عن القيامة في مختلف صورها، وقد وقع الاختيار على قصيدة "الرجل" وهي التي يقول فيها أديب كمال الدّين:

"(1)
لاسمِكَ نورُ الشمسِ إذا طلعتْ..
فجراً في أكوانِ الظلمةِ أو ألقُ الشاطئ
إذ يبزغُ في صرخاتِ البحّارةْ
وسْط بحارِ الظلمةْ.
(2)
أتوجّسُ في الريبةْ
أشلاءً تبحثُ عن أشلاء..
وأنادي باسمك.
(3)
تتشرّبني الظلمة
والبحرُ بصدري يطغى
لم أضربْ بعد البحرْ
بعصايَ ولم أشربْ مِن ينبوعِ الحكمةْ.
صرخَ البحّارةُ في جَوفي: أينَ الربّانْ؟
فبكيتُ رأيتُ الناس عرايا حولي يبتسمونْ.
(4)
أقمِ الساعة
سوركَ مِن حولي..
يا مَن باسمك يهتزُّ القاع
وتغوصُ الطعنةُ في الأعماقْ
وتشيحُ بنابيها اللعنةْ.
إمنحني رأساً آخر لا يرتابُ ولا
يشكو مِن هولِ الموجِ الوحشيّ.
امنحني عينينْ،
شفةً ويدينْ
وانزعْ ما في صدري مِن غلٍّ وعذاب.
أقمِ الساعةْ
سوركَ مِن حَولي..
يا مَنْ يتركني في الريبةِ..
أحيا وأموتُ وأبعثُ كي أُقْبَرَ وسْط نباح الأموات."
مَن يكون "الرجل"؟ قد يبدو في النّص ألا شيء يدلّ عليه. لكن التأمّل في قاموسه اللغوي والنحوي، يقود إلى القول بأن هذا الرجل قد يكون وليّاً مقرّباً من أولياء الله أو نبيّاً، وإذا كان كذلك فعن أيّ نبي يتحدّث الشاعر؟ لا مفرّ، فكلّ الأنبياء يصحبهم النور والشمس والفجر، لكن هناك واحد فقط يمكن أن يعطى اسم الربّان، وواحد فقط لا أحد غيره أعطي السّور، فمن تراه يكون؟ إنه محمد (ص). كيف ذلك؟ الجواب يوجد في هذه السّورة القرآنية:
"فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ" وسيتمّ الوقوف عندها في الآتي من الشرح والتحليل.
قصيدة "الرّجل" قصيدة محيّرة لمن اعتاد تحليل القصائد بدءاً من البيت الأول إلى البيت الأخير، لأنّ هذا النّص بالذات يُجبر القارئ على استكناه المعاني انطلاقا من آخر بيت :
"يا من يتركني أحيا وأموت وأبعث كي أقبر وسط نباح الأموات"؟
وهو بيت يمكن تقسيمه إلى قسمين:
/يا من يتركني في الريبة أحيا وأموت وأبعث/ وهو القسم الأول
/ كي أُقْبَرَ وسط نباح الأموات/ هو القسم الثاني.
في القسم الأوّل هناك تسلسل منطقي للحياة البيولوجية للإنسان، أيّ إنسان كيفما كان. أيْ أنّ المسار يبدأ بالحياة ثم الموت وبعد ذلك البعث. لكن لماذا الحديث مرّة أخرى عن موتٍ ثانٍ في القسم الثاني من البيت؟
الجواب عن هذا السؤال يوجد في القرآن والأحاديث النبوية وعلوم الفيزياء. وقبل المرور إلى هذه المصادر لابدّ من التصريح بأنه من الصعب الوقوف عند نصوص الشاعر أديب كمال الدّين دون إحالتها على النّص القرآني والنّص العلمي، وفي هذا تأكيد على أن الكلمة التي تكتب باسم الله لابدّ أن تكون كلمة علميّة تخاطبُ العقلَ والفؤاد معاً، ولا مجال فيها للأوهام والتأويلات المبنيّة على الظنّ والتخمين.
يقول الرسول (ص): "لا تقوم السّاعة وعلى ظهرها مؤمن" و"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" وفي ذكر هذا الحديث إشارة إلى أن ما يحاول الشاعر نقله للقارئ متعلّق باللحظات التي تسبق قيام الساعة، ولكن أيّة لحظات وهو الذي قال في ديوان لاحق ما يلي:
"... الطائرة التي لا تكفّ
عن الطيران
منذ مليون عام
ستسقطُ عمّا قريب
وسط المحيط."
الجواب في عبارة "عمّا قريب"، وهذه العبارة تجد صداها في قوله تعالى: "أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ"
إن صيغة "أتى أمر الله" في الآية المذكورة فيها دلالة على أن كلّ ما يتعلق بالساعة قد كُتب وسطّر في الألواح، وقُضي في شأنه، لذا تجده يقول مباشرة بعد هذا الإعلان: "فلا تستعجلوه"، مفسّرا بعد ذلك لخلقه أدق التفاصيل عن هذا الأمر الذي قضي فيه منذ الأزل قائلا في آية أخرى: "يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ {6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ {7} قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ {8} أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ {9}" ، وهو الحدث الذي تنطلق معه وبه ملائكة كرام، مهمّتهم إماتة كلّ مؤمن سواء كان على ظهر الأرض أو بباطنها، كي لا يشهد من الرّادفة ولا من الرّاجفة شيئا، وفي هذا الكلام إشارة إلى ما ورد في سورة النازعات دائما حينما قال عز وعلا: "وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً {3} فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً {4} فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً {5}". أما ضمّ حتى من هو ببطن الأرض من المؤمنين إلى من هو على ظهرها ممن سيميتهم الملائكة "السابحون"، ففيه نداء على ما ورد في سورة النازعات نفسها، حينما قال ذو العزة و الجلال: "يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ {10} أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً {11}" وهذا ما أشار إليه أديب كمال الدّين في بيته: "كي أُقْبَرَ وسط نباح الأموات"، أي في القسم الثاني من البيت الأخير. إذن ففي القبر وسط الأموات مرّة أخرى بشارة للشاعر نفسه ختم بها قصيدته.
هل بهذه العبارات يمكن القول بأن قصيدة الشاعر قد وصلت إلى شاطئها الأخير دونما إيضاحات ولا شروحات من الشاعر؟ طبعاً لا، كل ما في الأمر، هو أن هذا النّص بالذات يبدأ من حيث ينتهي، إذ لابد من طرح سؤال آخر يريدُ معرفة ما الذي حدث بعد "القبر وسط نباح الأموات"؟
يقول الله في سورة النازعات: " فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ {13} فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ {14}" ويقول أديب كمال الدّين: " فجراً في أكوانِ الظلمةِ أو ألقُ الشاطئ/ إذ يبزغُ في صرخاتِ البحّارةْ/ وسْط بحارِ الظلمةْ" وهي أبيات تصور ما يقع قبل أن يُبعث الناس من جديد فوق الساهرة، أي أبيات فيها إشارة للظلام الذي سيعم الكون بعد عودته إلى العدم، وهو ظلام ينتج عن العديد من الأحداث الفيزيائية التي تبدأ بانصهار كل شيء في الكون، وتفكك الماء وعودته إلى أصله الغازي إلى درجة أنه هو نفسه يُسْجر ويصبح وقودا ومادة نارية، وتـَكوّن المادة السوداء المسؤولة عن طي السماوات (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)
والمؤمنون من كل هذه الأحداث والتغيرات الفيزيائية والكيميائية الهائلة التي تذهل لها كل مرضع عمّا أرضعت، لن يروا شيئاً ولن يبعثوا إلا بعد أن تتحقق للكون عودته إلى العدم والظلام، حينئد يخلق الله أرضاً جديدة مسطحة (الساهرة)، كي يتم عليها الحساب" يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" عند ذاك تسطع شمس محمد (ص) وهي التي قال عنها أديب كمال الدّين في مطلع قصيدته: "لاسمِكَ نورُ الشمسِ إذا طلعتْ / فجراً في أكوانِ الظلمةِ"، ويبدأ الناس أو "البحّارة" كما سمّاهم الشاعر، في الصراخ، وآخرون في التدافع والهرولة نحو نور النبي وهي الصورة التي عبّر عنها الشاعر: ب" أشلاءً تبحثُ عن أشلاء"، وآخرون في "الابتسام" وفقا لصورة النّص الثانية: "رأيتُ الناس عرايا حولي يبتسمونْ"، وهؤلاء هم المؤمنون الذين يمشون بنور الله وسط عتمة الظلام في هذا اليوم الرهيب، والذين قال الله تعالى عنهم: "يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدّين فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)" وبين المؤمنين وغيرهم من الناس يقام سور باطنه فيه الرحمة وظاهره فيه العذاب، وهذا السور هو خط الحماية بين الرسول وأهله، وبين الضالين من الناس وعنه قال تعالى:" يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)" وهو السور ذاته الذي أتى ذكره في نص الشاعر لمرتين: "سوركَ مِن حولي..".
لم يبق بعد كل هذا سوى أن يبدأ الحساب وهو ما رمز إليه الشاعر مرتين من خلال عبارة "أقم الساعة"، وكأنه في عجلة من أمره.



















1.3 دلالة الموت
الموت هو الوجه الآخر للحياة، وقد حاول الكثير من الفلاسفة والأدباء والحكماء فكّ طلسمه العجيب، لكن هيهات هيهات، فالفشل كان دائما النتيجة المحققة التي شرب من كأسها الجميع، فمن ذا يستطيع مسايفة الموت أو مغازلته؟ إنه باب مغلق لا يلجه إلا من خمدت النار الغريزية في جسده، باب ألقى الخالق بمفتاحه في بئر بدون قرار ولم يعطه حتى للموت نفسه! لكن هذا لم يمنع أهل الفكر وبخاصة الشعراء من محاولة الاقتراب على الأقل من معناه أو بالكاد محاذاته، وأديب كمال الدّين يُعدّ واحداً من أهمّ الشعراء الذين خَصّصُوا لإشكالية الموت نصوصاً عديدة تحدّثت عنه بشتى أشكاله وتجليّاته وتمظهراته العجيبة، ليس بهدف محاذاة معناه أومحاولة فك رموزه فقط، ولكن أيضاً بغرض فضح خواء العالم ولا مبالاته تجاه الغير من البشر. لذا تجد الشاعر وهو يتحدّث عن الموت في مواطن عديدة لا يستخدم اللون الأخضر فقط، ولكن يلجأ أيضاً إلى اللون الأسود والأحمر، ويكتب بالسكّين بدل القلم، لِمَ لا وهو الذي اختار لموته أسئلةً من طين، ومرايا تفضحُ أجساداً من قطن؟ لِمَ لا وهو الذي يناورُ في تدبيجِ مقالاتٍ تتسترُ في إخفاء هزائم الكلمات كي يخرج محتفلاً والناس سكارى يرتجفون؟ لِمَ لا وهو الذي أقام بقلبه لأنكيدو وكلكامش حفلاً ساهراً وأجلس فيه الأول على كرسي الاعتراف، وتقاسم فيه مع الثاني بعضاً من أسرار حاء الحياة وخيبات لا عدّ لها ولا حصر من ميم الموت؟ بل لِمَ لا وهو الذي صوّر كيف يتظاهر الموت بالنوم وهو يتقاسم مع الناس أسِرّتهم وكيف يستقبل العالم حدث الموت، بين أناس باكية وأخرى ضاحكة أو راقصة؟ إنه الموت الذي لا تقهره سوى القيامة. هو الموت ولا أحد غيره، يستطيع أن يلبس ألف رداء ورداء ويتقنّع بألف قناع وقناع، لكنه وحده قناع الكشف أو العري الذي يليق به، مادام الموت لا يحبّ إلا العراة ومادام العري هو وحده القادر على تسليط الضوء على ما في هذا العالم من ارتباك وعبث وتناقضات. قناع العري هذا الذي تجده حاضراً في نصوص تخترق سكينها حجب الظلام، كي تصرخ وتتأوه على ألسنة شخصيات تركتْ بموتها أكبر الأثر في نفْس الشاعر. فهاهي صورة مهنّد الأنصاري تزور بشمسها قلبه، وهاهو "جان دمّو" يداعب بسخريته السوداء والمريرة قلمه، وها هي عفيفة إسكندر توقظ بداخله شمعة الألم والأسى على رمز كبير من رموز الفن والأغنية العراقية جنى عليه الإهمال والجحود ونكران الجميل ولم يجد من يد رحيمة تواسيه في سنواته الأخيرة سوى يد الموت التي سقته كأس النجاة ورحلت به إلى حيث جنان العدل والرحمة والغفران، وها هي "سيلفيا بلاث" الحمامة التي ضلّت الطريق واتجهتْ صوب البحر العظيم، إلى غير ذلك من الشخصيات التي تحدث الشاعر عنها عبر واقعة الموت، لكن التوقف في هذا القسم لن يكون عند هذا الجانب العاري بسواده من الموت، بقدر ما سيكون عند المعنى النفسي للموت ذاته، عبر اختيار نصّ شعري يكون هو حجر الأساس وسط رحلة التحليل والتفكيك، ولعلّ أكثر النصوص خدمة لهذا الهدف، نص "ساحر" ، الذي يناقش فيه الشاعر إشكالية الموت عبر تجسيد قصصي، يُتصوّر من خلاله ما يمكن أن يتقاسمه الإنسان مع أخيه الإنسان وهو في طريقه نحو النهاية الطبيعية لكلّ جسد. ولربما هذا ما أعطى للنص ما بداخله من نفس وإيقاع تصاعدي بشكل يدعو إلى تقسيمه فوراً إلى مقاطع تتوافق كل واحدة منها مع المرحلة العمرية من التجربة الإنسانية في الحياة:
ـ مرحلة الطفولة
يقول أديب كمال الدّين:
"حين افترش الأرض
وأخذَ يعزفُ موسيقاه الشجيّة،
بدأ بعزفِ الطفولة
فتساقطتْ من حوله بالوناتُ الأعياد
والفراشاتُ الملوّنة."
استهل الشاعر هذا المقطع بتعبير "افترش الأرض" وفيه إشارة إلى التجرّد والعقلانية عبر ضمان الاتصال بالأرض أو بالحس الواقعي البعيد عن العاطفة والخيال الجارف. ولربّما هذا هو السبب في عدم اللجوء إلى تكرار فعل "افترش" في بقية أبيات وأجزاء النص، إذ في ذكره مرّة واحدة إعلان عن وضع ثابت وغير متزحزح. فشخصية "الساحر"ـ التي سيتمّ التوقف عندها بتفصيل في القادم من الأسطرـ بعد أن مرّت بأحوال وتجارب معراجية عديدة، اهتدت إلى أن مركز الاستقرار وثبات الإنسان يكمن في ارتباطه والتحامه بالأرض.
بعد أن حدد الشاعر أرضية الانطلاق، اتّجه إلى وصف أفعال "الساحر":
أخذ يعزف موسيقاه الشجية / بدأ بعزفِ الطفولة
هناك تجانس بين الفعل والمعنى. ففعل "أخذ" يتوافق مع فعل "بدأ"، إذ في الأول إعلان عن الثاني وتمهيد له. أما فعل "عزف" فيتوافق مع مصطلح "الموسيقى"، وكلمة "الطفولة" تنسجم تماماً مع المعنى الكامل للبيتين، إذا ما نُظر إليها من جهة اعتبارها المرحلة الأولى في حياة كل إنسان، لذا كان من الضروري اختيار الأفعال من جنس المعنى الذي تؤديه كلمة "الطفولة ": (أخذ وبدأ).
وإذا كانت النظرية الفيزيائية تقول أن لكل فعل ردّ فعل، فإنه لابد يكون لفعل عزف "الساحر" نتيجة مباشرة باعتبار أن شجن وحزن ما عُزِفَ اخترقَ ما بداخل طفولته فتساقط ما بها من مكنون وفقاً لقول الشاعر:
"فتساقطتْ من حوله بالوناتُ الأعياد
والفراشاتُ الملوّنة"
فعل "تساقط" سيتكرر في المقطع الموالي لمرتين. أما عن جنس ونوع الشيء المتساقط فله علاقة وطيدة "بالطفولة" وهو بالتالي منسجم مع مفهومها ومعناها: "بالونات الأعياد"، و"الفراشات الملونة". وكلّها عناصر كثيراً ما تتكرر وتتردد في العديد من قصائد الشاعر وليس في هذه فقط.

ـ مرحلة الشباب
يكمل الشاعر نص "ساحر" ويقول:
"وحينَ بدأَ بعزفِ الربيع
تساقطتْ من حوله الأثمارُ والأزهار.
وحينَ بدأَ بعزفِ الصيف
تساقطتْ من حوله صيحاتُ مراكبِ البحر
وملابسُ النساءِ وضحكاتهنّ ومراياهنّ الصغيرة."
يبدأ العزف من جديد، ولكن هذه المرّة عزف الربيع والصيف أو عزف الشباب فسقطت أشياء عدّة تُسردُ كما يلي:
ـ الأثمار والأزهار.
وفيها إشارة للفواكه حتى لكأنّ في الأمر حديث عن شجرة تطرح ثمارها في فصل الربيع وعزّ الشباب والطاقة والحيوية.
ـ صيحاتُ مراكبِ البحر وملابسُ النساءِ وضحكاتهنّ ومراياهنّ الصغيرة.
وفي هذا إشارة إلى مرحلة الأنثى وجسدها وفاكهتها ومراياها وضحكها. مرحلة الدنيا، والتعرّف إليها عبر التعرّف إلى رغبات الجسد ومفاتيحه، ولكن لِمَ قرن الشاعرُ البحر بالأنثى ولِمَ قرن الأنثى بالدنيا؟ ألأن البحر أزرق؟ أم لأنه ساذج؟ أم لأنه ملآن بعطر الرغبة المالح الناري؟ ربما لأن الأنثى أو الدنيا كالبحر تماماً كما يقول الشاعر نفسه ولكن في قصيدة أخرى بعنوان (هو أزرق وأنت زرقاء) والتي يقول فيها:
"أنتِ تشبهينَ البحر.
لاشكّ في ذلك!
لكنْ أيّ معنى يختفي خلف ذلك البحر؟
خلف تلك الزرقة العجيبة التي تبدأ
لكي لا تنتهي
أو تنتهي كي تبدأ من جديد،
خلفَ تلك المراكب الضائعة
والبحّارة الذين يرقصون أو يبكون
على سطحِ سفنهم المبحرةِ أبداً،
خلفَ تلك المدن التي تنتظرهم لتنساهم أبداً،
خلفَ ذاك البياض الذي لا أفهمه،
خلفَ ذاك السواد الذي لا أتقبّله،
خلفَ ذاك الاحمرارالهابط الصاعد،
خلفَ تلك التي تعجزُ عن وصفها الحروفُ والكلمات،
خلفَ ذكراكِ الحيّةِ الميّتة،
خلفَ ذكراكِ المقدّسة!"


ـ مرحلة الكهولة والشيخوخة
يستمر الشاعر ويقول في النص ذاته "ساحر":
"وحينَ بدأ بعزفِ الخريف
اظلمّت السماءُ واكفهرّتْ
وأحاطتْ به عواصفُ البرقِ والألم."
ها قد تم الوصول إلى مرحلة الكهولة والشيخوخة، أيْ شتاء العمر وخريفه، ولم يعُد في حوزة العازف أي شيئ مبهج يتساقط منه. والشاعر للتعبير عن هذه الصورة، رفع من سرعة عزف "الساحر" ودخل في الإيقاع الخطير، واستخدم لأجل هذا وزني اِفعَلّ واِفعللّ (اظلمّت/ اكفهرّت) وكلمتي "العواصف" و"البرق" المؤذنتين بالوداع، وهي صورة تجد لها صدى قوياً في قصيدة أخرى عن الموت دائما: (في المطار الأخير) حيث يقول أديب كمال الدّين :
"حسناً نحن الآن في المطار
(أهو المطار الأخير؟)
السماءُ ملبّدةٌ بالغيوم
والشتاءُ هو الوقت.
حسناً أيّها الحرف:
هل حانَ وقتُ الوداع؟
لماذا أنتَ مرتبكٌ كلّ هذا الارتباك؟
لماذا؟"
مرحلة الموت أو نهاية الطريق
يختم الشاعر نص "ساحر" ويقول:
"لكنّه حينَ عزفَ الموت
ذُهِلَ على الفور،
إذ أحاطتْ به مئاتُ الجثث
من كلِّ جانب
وبدأتْ ترقصُ رقصةَ العذابِ الكبرى.
ارتبك الموسيقيّ
بل أصابه الفزع،
ودمعتْ عيناه
بل أجهش في البكاء
وأخذ يعتذرُ بحرارةٍ إلى الجثث.
لكنّ الجثث لم تفهمْ
أيَّ كلمةٍ من كلماته
واستمرتْ ترقصُ وترقص!"
تحرّر الشاعر من صيغة "بدأ في العزف" وأبدلها ب "عزف الموت" مباشرة، إذ السرعة وصلت إلى ذروتها والعزف اخترق الأرض ودخل إلى دائرة الجحيم. أهي حقا دائرة الجحيم؟ أم هي دائرة العالم الأخروي بشكل عام؟ ربما نعم، لكن الشيء الأكيد هو أن العازف هو الآن محاط بمئات الجثث التي ترقص حوله رقصة العذاب الكبرى بشكل أثار خوفه وفطر قلبه .
لكن بغضّ النظر عن هذا العزف التصاعدي وعن قوته الاختراقية التي وصلت إلى عمق قلب الأرض فأفاقت الأجداث وأيقظتها من سباتها العميق، إلا أنه يجب التوقف عند صورة الساحر: لمَاذا اختار الشاعر لنصه عنوان "الساحر" وفي النص بأكمله حديث عن "العازف"؟ هذا ما ستتم مقاربته ومحاذاة معناه في القسم التالي:
العلاقة بين الساحر والعازف
يبدو أن الشاعر حريص جداً في اختيار مصطلحاته وانتقاء معانيها. وكلمة "الساحر" هنا ليس لها أية علاقة بمفهومها "الشعبي" الذي يغوص في عمق الرؤى التراثية والأسطورية لمختلف شعوب الإنسانية، وهو في المقابل شديد الصلة بعلوم النفس المعاصرة، فالساحر هنا هو ما يمكن الإشارة إليه بـ"الأنا الكوجيطي الديكارتي"، وهو عازف يفترش الأرض، وهذه الصورة هي مشابهة لمفهوم الحاوي الذي يجلس أرضاً ويبدأ في العزف على نايه إلى أن تُطل "الحية" برأسها من كيس عجائبه وتبدأ في الرقص تدريجياً، وحيّة الحاوي في رمزها الكوني هي "حياة" الإنسان. وهي هنا حياة العازف، التي خرجت وبدأت تُسقط كلّ ما في جبّتها قطعةً قطعة.
إذن فعازف النص حاوٍ، وحاويه ساحر، والساحر ممسك بناي، يمكن القول عنه أنه عصا الحكمة، والساحر في الأخير هو الشاعر وأنت وأنا أيها القارئ الكريم، ونايُك هو قدرتك على شحذ الأفكار وتقوية التركيز، وكلّما أصبحت بارعاً في ذلك كلّما أصبحت لك القدرة على تبصّر الأمور وتقييمها بشكل سليم ومفيد لحياتك اليومية وهذا ما تسميه علوم النفس "بالوعي المُتّقد والمُتيقظ" المرتبط بالأرض أو الواقع (انظر عبارة "حين افترش الأرض")، أما عزفك أو بالأحرى عزف ساحر نص أديب كمال الدّين فهو هواء يخرج من بين شفتيه، وذلك للتعبير دائماً عن درجة قوة التركيز واتجاهات اللحن في الفضاء، وهذا له علاقة بما يسمى ب "العقل الكوني"، إذ أن العازف حينما كان الهواء الخارج من فيه والمتصل بفتحات الناي يتجه نحو الأعلى فإنه كان يجذب نحوه البالونات والفراشات، وجميعُها عناصر هوائية، وحينما بدأت قوة التركيز أو الهواء تتجه نحو الأسفل جذبت الأنثى، أما حينما تغلغلت في النزول نحو أعماق الأرض، جذبت إليها الموت وأجداث الأموات.
هل هذا حقّا ما كان يريده العازف الساحر داخل النّص؟ هل كان حقاً ينوي إخراج الموتى من قبورهم؟
في النص إشارة إلى أن هذا الأمر لم يكن هو المقصود: (ذُهِلَ على الفور/ ارتبك الموسيقيّ/ بل أصابه الفزع/ ودمعتْ عيناه/ بل أجهش في البكاء/ وأخذ يعتذرُ بحرارةٍ إلى الجثث)، وهذا يعني أنه حدث خطأ ما، فبدل عزف الحياة، عُزف الموت ولعلّ هذا ما عبّر عنه الشاعر في قصيدة أخرى حينما قال في مقطع منها:
" في حضرةِ الموسيقى التي تندلق
لتكتب حاءَ الحياةِ وباء الحبّ
ينبغي أن أكتبَ شعراً
مليئاً بالبحرِ والطيور.
لكنني،
ولسببٍ غير واضحٍ أو مفهوم،
أكتبُ عن الموت.
ربّما لأنّ الموتَ هو نديمي الوحيد
أو صاحبي الذي يُحسنُ الرقصَ قربي
حين أنهارُ وسط الطريق ."
ولربما السبب في هذا، هو أنّ جوهر هذا الخطأ الذي ابتِلي به الإنسان بشكل عام، هو أن باب الموت لم يُخلق كي يُغلق أو يُتجاهل، فهو هناك دائماً مفتوح على مصراعيه كي يدخل منه كلّ من خمدت النار الغريزية في جسده الترابي دافعة بقوة ضاغطة الروح إلى الخارج مساعدة إياهاً بذلك على التحرر من سجن الجسد:
"وأخيراً
وباختصار سحريّ
ثمّة خطأ يشبهني تماماً
مثلما يشبه البحرُ نفسه
والموسيقى طائرَ الفجر،
خطأ
لا ينسى ولا يتسامحُ حدّ الموت
يفتحُ بابَ الموت
بهدوءٍ أسود
ويطير ."





الساحر الشجرة

كرّر الشاعر أديب كمال الدّين فعل "تساقط" أكثر من مرّة في نص "ساحر"، حتى ولكأن العازف هو في أصله شجرة تتساقط منها الثمار والأوراق، بل هو شجرة، وهذا الرأي يجد له مصداقية في استعمال الشاعر لحقول لغوية تدل عليه، ككلمة "الأثمار" مثلاً وكلمتي "الأزهار" و"الفراشات"، فما علاقة العازف إذن بمفهوم الشجرة؟
ـ الساحر في نصّ الشاعر مرتبط بالأرض (حين افترش الأرض)، الشجرة أيضاً ضاربة جذورها في عمق الأرض.
ـ الشجرة تتغذّى من المياه الكامنة في عمق الأرض ومن الشمس والهواء الضاربين في عمق السماء. الساحر أيضاً يحوي بداخله ومن حوله هذه العناصر الحياتية القيّمة. أوَ ليس الشاعر هو الذي قال هذا؟ أي أنه قد تساقطت من الساحر العازف البالونات والفراشات وفيهما إشارة للهواء والشمس، ومنه تساقطت أيضاً مراكب البحر، وفيها إشارة إلى عنصر الماء الذي يجد تأكيداً له في نص آخر ، قال فيه أديب كمال الدّين:
"كيف أنجو منه
وهوالذي غرقَ فيَّ
قبل أنْ أغرقَ فيه؟
غرقَ في أعماقي السحيقة
حتّى صرتُ كلّ ليلة
أموتُ غريقاً
فأحملُ جثّتي على خشبتي الطافية
هائماً دون أنْ يراني أحد،
هائماً للأبد ."
ـ الساحر إذ يحمل كل هذه العناصر بداخله فهو ينمو عبر مسار معراجيّ يتطور فيه فكره ونفسه وروحه، وعبر مراحل عمرية تبدأ بالطفولة وتنهي بالموت، والشجرة أيضاً لها طفولتها وربيعها وصيفها وشتاؤها وخريفها.
ـ الساحر هو الإنسان، والشجرة هي أيضاً الإنسان والساحر معاً باعتبار أن كل إنسان يحمل بداخله شجرة تشبهه في التواصل مع السماء وتشبهه في مراحل النمو والتطور وذاك مصداقاً لما قاله الشاعر النمساوي "راينر ماريا ريلكه": "آه كم أشتهي بشوق وحرقة أن أنمو/ حينما أنظر إلى الخارج/ الشجرة التي بداخلي تنمو"، وهي الفكرة ذاتها التي عبّر عنها أديب كمال الدّين في نصّه "شجرة الثعابين" والتي يقول في مقطع منها مشيراً فيه إلى المحطة الأخيرة التي يصل إليها الإنسان الشجرة كخاتمة لطريق حياته الدنيوية المليئة بالمحطات والانتظارات والأحداث:
" فالتفّاح فاكهة الحبّ كما تقولُ الأسطورة.
لكنْ، على حين غرّة،
ضاعتْ حبيبتي
وقبلاتُ حبيبتي
ومواعيد حبيبتي.
فسقطتُ، واحسرتاه، من شجرةِ الحبّ.
* * *
كنتُ أتوّقع أن يكونَ سقوطي مدوّياً
لأنّ شجرةَ الحبّ عالية كالجنّة
لكنْ رغم مرور السنين
لم أصل إلى الأرض.
ربّما لأنني كنتُ سعيداً كما تقولُ الدعابة،
ربّما لأنني كنتُ سعيداً بما يكفي
لأسقطَ على شجرةٍ ثالثة
تُدعى: شجرة الموت. "
ها قد تم الوصول إلى نهاية الطريق، ولكنها ليس نهاية أبدية، بل بداية لطرق وسبل أخرى لا بد يتمّ التعرّف فيها على أوجه أخرى للموت عبر نصوص أخرى غير هذه التي تمّت الإشارة إليها في هذا الجزء اليسير، إذ الموت عند أديب كمال الدّين هو الحرف الأكبر الذي كتبَ من أجله قصائد بدت في ظاهرها حروفية، شاعرية ومليئة بالعذوبة واللذة المعرفية، لكنها في نهاية المطاف لم تستطع أبداً أن تخفي وجه الموت القابع بداخلها وهو يلبس رداء المحبّة حيناً ورداء الأخوّة أحياناً أخرى ورداء الصداقة أحايين ثالثة. فالموت آخراً وليس أخيراً يبدو هو خرقة المعرفة الحقيقية، فمن عرفه خرجت الدنيا من صدره ومن جهله أصبحت الدنيا جنته وأرض ميعاده ونعيمه.



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصل الأول (2)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)
- تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدّين / المقدمة (1)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (1)
- إنسانُ السّلام: مَنْ هُوَ وكيفَ يَتكوّن؟ تجربة صبري يوسف الإ ...
- جدليةُ الحاءِ في سرديات وفاء عبد الرزاق: رقصةُ الجديلة والنه ...
- النقطةُ الجريحةُ، والحرفُ المتشظّي الباكي في تشكيليات الدكتو ...
- وفاء عبد الرزّاق وديوانها ((من مذكرات طفل الحرب)) بين مطرقة ...
- آلِيسُ فِي بلادِ عجائبِ منال ديب: سَفَرٌ وقراءَةٌ فِي قُدْسِ ...
- وطني الفردوس
- يُوسُفِيّاتُ سَعْد الشّلَاه بَيْنَ الأدَبِ وَالأنثرُوبُولوجْ ...
- الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز ...
- يوتوبيا البُرْج البابليّ في رواية (كائنات محتملة) للأديب الر ...
- خِطابُ الجَسَدِ في ديوان (وَصَايَا البَحْرِ) للأديب عبد النّ ...
- الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود ( ...
- وادي الملوك
- رواية بوشكين (عربي قيصر) ترجمة د. نصير الحسيني
- من الإنسانِ الآليّ إلى الإنسان العاليّ في عرفانيّات #عبدالجب ...
- (26) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصلان الثاني والثالث