أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز وديوانِه (ورقةُ الحلّة) بينَ النصّ القرآنيّ والحرفِ الشِّعْريِّ الكونكريتِيّ















المزيد.....


الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز وديوانِه (ورقةُ الحلّة) بينَ النصّ القرآنيّ والحرفِ الشِّعْريِّ الكونكريتِيّ


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7483 - 2023 / 1 / 5 - 13:47
المحور: الادب والفن
    


(1)
قُبْلةُ الفجرِ

مارأيتُ مدينةً يأتِي الفَجْرُ ليُقَبِّلَ جبينَهَا كُلَّ يومٍ كما الحلّة، وإنّهَا لحقيقةٌ ذات شأنٍ عظيمٍ، لأنّي حينما وعيتُها وجدتُ قلبي يتساءلُ عن سبب هذا الوفاءِ والولَاء لليالٍ عدّةٍ مُدهامّاتٍ طوالٍ لا يغمضُ لهُ فيها جفنٌ، إلى أنْ جاءَتْهُ مِنَ القُلَيْبِ إشارةٌ تقولُ: "اسألِي الفجرَ نفسَهُ فعندهُ الجوابُ"!
واستجبتُ للإشارةِ بكلّ محبّةٍ وتواضعٍ وخشوعٍ، ونصبتُ خيمةَ السّؤالِ أمام بابِ الفجرِ وجلستُ أنتظرُ بصبرِ العارفينَ لأزيدَ من سنتيْن أو ربّما أكثر، قضيتُهُمَا وأنا أترجمُ ديوانَ جبّار الكوّاز عن هذه المدينة (1) أفكُّ حرفَهُ نقطةً نقطةً، وأشربُ نُسْغَهُ دمعةً دمعةً، وأتنسّمُ عطرهُ لوعةً لوعةً، ولهفةً لهفةً، إلى أنْ أتاني اليقينُ، حينمَا بتُّ أرى بعيْنِ الفؤادِ عندَ كلِّ ثلثٍ أخيرٍ منَ اللّيلِ ملوكاً عظاماً قادمينَ منْ بلاد الرّافدين يطرقونَ بابَ خدري ويقفُونَ صامتين بكلّ جاهِهِمْ وسلطانهم، وعيونِهم الحور الآسرةِ المزيّنةِ بالكُحْل الأسودِ الثّقيل الصّقيل، ورؤوسِهم الحليقة المغطّاة بالأثواب البيضِ الزّاهية الصّوفية الرّقيقة، وبتيجانِهمُ الفضيّة الباهيّة، وسواعدهم المحاطة بأساور الذّهبِ الأبيض، وسباباتهم المزيّنةِ بالمحابسِ الكبيرة ذات الأحجار الفيروزيّة الكريمةِ التي يحارُ في صنعها العقلُ وتندهشُ لها الأبصارُ!
وكنتُ كلّما اشتدَّ صمتُهُم وتعمَّقْتُ في نظراتهِم، مضيتُ قدُماً في ترجمتِي لديوان جبّار، وحينما شارفتُ على الانتهاء، فتحَ الفجرُ بابهُ أخيراً وأطلّ عليّ باسماً بدون حاشية ولا نوّاب ولا سلاطين، ثمَّ قالَ بكلّ ما فيه من بهاء وجمال: ((اقرئِيها))، فقلت: ((من؟))، قال ((وأنا))، ثمّ انسحبَ تاركاً لي دمعَ العينِ فيّاضاً منَ المحبّة والرّهبة والتعفّفِ، لأنّنِي عرفتُ معنى تلكَ (وأنا)!

أيّةُ مدينةٍ هذهِ التي لَا تُفْتَح إلّا بـِ (وأنا)...؟ وقبلَ أنْ أكمِلَ سؤالي الجديد، مددتُ يدي إلى طاولة المكتبِ وأخذتُ مُصْحفِي الأحمَر، ثمَّ فتحتُهُ على سورةِ (الفجْرِ) وبدأتُ أقرَأُها كما لوْ كانتْ مرّتي الأولى، وفجأةً ظهرتْ لي غادة آسرةٌ، هي سلطانةٌ باذخة الجمال، كأنني أراها بقلبِي لأوّلِ مرّة، ووجدتُنِي أطيرُ منَ الشّوْقِ إليها، وكأنّهَا مدينتي التي رأيتُ فيها النّورَ، الحلّةَ أو الغادةَ الحسناء التي حينما حضرتْ بين يديّ بدأتْ تقرأُ معِي لمرّاتٍ ومرّاتٍ بدون كللٍ ولا مللٍ: ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ))! (2)
فهلْ وصلكَ ياترى ما وصلنِي أيُّها القارئ العزيز؟ هل عرفتَ من يكونُ الفجرُ؟ إنّهُ الحُسيْنُ وأبوه عليّ ابن أبي طالب (ع)، هذا الأسدُ المتوّجُ بالبهاء الّذي قُتِلَ بالسّيف المسموم وهو قائمٌ بين يدي ربّه ليصلّيَ الفجرَ، وإن كنتَ في مرية ممّا أقولُ فعُدْ إلى السّورةِ وأسمِعني إيّاها بصوتكَ آيةً آيةً، وقُلْ لِي: ألا يستحقُّ الاثنانِ؛ أباً وابناً، أنْ يُقسِم اللهُ لأجلهمَا بالفجرِ الذي شَهدَ واقعتَيِ استشهادِهِما؟! وإذا لمْ يطمئنّ قلبُكَ بعدُ، فاسألِ اللّيالِ العشر، أَوَلَيْسَتْ هيَ الأواخر العشْرُ من شهر رمضان التي لفظَ فيها عليّ أنفاسَهُ، وكذا الليلةُ العاشرةُ التي كانَ ينتظرُ فيها الحُسيْنُ وأهلَ بيته (ع) أنْ ينبلجَ الفجرُ بروحٍ منصهرةٍ من شدّةِ البأس والامتحان، قاضياً إيّاهَا في الصّلاةِ والتضرّعِ إلى الخالقِ، ومحوّلاً سوادَها إلى أنوار ونفحات إلاهية زكيّةٍ أمطرتْ خيراً وطمأنينةً وسكينةً في قلوب الجميع؟! وإذا كانتْ لم تزلْ بعدُ في جوفكَ ذرّةُ شكٍّ أخرى، فاسألِ الشّفْعَ؛ الحسنَ وأخَاه الحُسيْن، واسألِ الوَتْرَ؛ زينبَ الكبرى، أمَّ المصائب والسيّدة العالمة التي شهدتْ مصائب استشهادِ جدّها محمد صلى الله عليه وسلم، ووفاة أمّها فاطمة الزهراء، وقتل أبيها علي بن أبي طالب، وشهادة أخيها الحسن بن علي بالسمّ، والمصيبة العظمى‌ بقتل أخيها الحسين بن عليّ من بدايتها إلى نهايتها، واسألِ اللّيلَ إذا يسرِ، أوَلَيْسَ هو الليلُ نفسه الّذي باتَ فيه الاثنانِ أباً وابناً، كلٌّ في زمَانهِ، قائميْنِ لربّهما ولسانُ الأوّلِ يُرَدِّدُ: ((والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت بها))، ولسان الثّاني يقولُ: ((ألَا وإِنّى لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلا بَطراً ، وَلا مُفْسِداً وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأَبي عَلِيّ بْنِ أَبي طالِب)) ، واسأل أيضاً هوداً وصالحاً وقوْميْهما عاداً وثموداً، وموسى وقومه وقصّتَيْهِما مع الفرعون وسحَرتِهِ، أوَلَيْسَتْ هذه الأقوامُ كتلكَ الّتي أنكرتْ على عليٍّ وأهله من بعده حقَّهُم في الخلافة؟ أليسوا هُمْ هؤلاء الّذين يأكلون التراثَ أكلاً لمّاً ويحبّون المال حبّاً جمّاً، ولا يكرمون اليتيمَ أبداً، وأيُّ يتيمٍ بل أيُّ يتامى حاضرونَ غيرهم في هذه السورة؛ أهلَ بيت النبوة؛ محمد صلى الله عليه وسلم وابن عمّه عليّ (ع) وسبطه الحسيْن (ع)! واسألِ النّفسَ المطمئنّة العائدة إلى ربّها راضيّةً مرضيّةً، تخبركَ عنهُمَا أباً وابناً؛ اللّذيْنِ لمْ يتخلّفَا عن موعد صلاة الفجر والخروج إليها بقلبٍ خاشع متبتّل وإن كانا يعرفان جيّداً بالغدرِ الذي كانَ في انتظارهما، كلٌّ في زمانِه ؟!
نعم، لقد كانا يعرفانِ جيّداً بواقعتَيِ الاستشهاد قبل الحدوث، ولأجل هذا أرّخَهُما ووثّقَ لهما الخالقُ في الغيب أوّلاً وفِي محكم كتابه ثانياً، ثمَّ أعلمَ بهمَا، ولو أنّ الكثيرَ من هذا الكتاب مازال لليوم لمْ يُتَفَحَّصْ بعينِ الجِدّة والتّجديدِ والحقيقةِ، ولعلَّ هذا هو سرُّ إعجازه، لأنّهُ مهما كَثُرَ وتَعَدَّدَ وتَنَوَّعَ ماكُتِبَ عنهُ وفيهِ، فإنّ الشّروحَ والتّأويلات والتّفاسير لنْ تحيطَ بمكنوناته جميعها، وقد صدق ربُّ العزّةِ حينما قال: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (3).
وأمّا إذ تسألني وما علاقة عليّ وابنه الحسين(ع) بالحلّة، وعلاقة جبّار الكوّاز بهم جميعاً، أدعوكَ لتفتَح ديوانَ الشّاعر وستجدُ فيه مباشرة كاللّافتة الكبيرة نصّاً مُقتطَفاً من (بحار الأنوار) يقول بالحرف: ((روى الشيخ محمد بن جعفر بن عليّ المشهديّ قال: حدّثني الشّريف عزّ الدّين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة العلويّ الحسينيّ الحلبيّ إملاء من لفظة عند نزوله بالحلة السيفيّة، وقد وردها حاجّاً في سنة أربع وسبعين وخمس مائة ورأيته يلافت يمنة ويسرة فسألته عن سبب ذلك فقال: إنني لأعلم أن لمدينتكم هذه فضلا جزيلا قلت: وما هو؟ قال: أخبرني أبي عن أبيه عن محمد بن قولويه عن الشيخ أبي جعفر محمد بن الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي حمزة الثمالي عن الأصبغ بن نباته قال: صحبت مولاي أمير المؤمنين عند وروده إلى صفين وقد وقعت على تلّ عرير ثم أومأ إلى أجمة ما بين بابل والتل وقال: مدينة وأي مدينة؟ فقلت :يا مولاي أراك تذكر مدينة أكان ههنا مدينة فأمّحت آثارها؟ فقال: لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة السيفية، يحدثها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحد على الله لأبرّ قسمه، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين)) (4).
ما معنى أن يبدأ جبّار ديوانَه بهذا النصّ ويجعلَهُ مدخلاً للمدينة بأسرها؟ إنّه يريد ولا شكّ منذ البداية أنْ يؤطِّرَ المدينةَ تاريخيّاً وجغرافيّاً، ويقول إنَّ عليّاً (ع) كانَ أوّلَ من أخبَرَ بها، وأوّل من أعطاها اسمَها الحقيقيّ، وأوَّل مَنْ نسبها إلى بني أسد، وهي الحقائقُ التي دلّت عليها فيما بعدُ العديدُ من كتب التاريخ بما فيها كتب الدكتور عبد الرضا عوض (5) وكتبُ الشّيخ يوسف كركوش الحلّي (6) الذي خصّصَ لهُ الكوّازُ نصّاً يقول فيه:
((بعمامته البيضاء
وبجبّته
علّمنا قهر الليل
وفكّ الحرف
كيف هو الآن؟
والحلة نائمة في الأوراق
كيف تراه؟
والشقة قد بعدت
لا المسك يقربّها
لا الأشواق
كنتُ أراه :
مدينة تعمّمت
واختارت الجبّة
في الأزياء (7)
الحلّةُ إذن هي مدينة عليّ (ع)، ولا يوجدُ ركنٌ فيها إلا ويعرِفُ عليّاً ويتحدَّثُ بهِ وعنه، وهي لهذا استحقَّتْ أن تكونَ رفيقةَ الفجْر وأهلِه الذي يُعَدُّ الكوّازُ من أقطابهم الكبار، ليس فقط لأنّه فَقِهَ هو الآخرُ سرَّ الفجر منذُ صباه، ولكن لأنّهُ يُجَسِّدُ فجراً جديداً في تاريخ القصيدةِ الحِلّية والعراقيّة بشكلٍ عامّ، مادامَ قدْ ظهرَ لي هُنا مِنْ أوائلِ مَنْ كتبَ عنْ هذه المدينة بحرفِ الثيولوجيا والتّاريخ والجغرافيا والأسطورةِ والشِّعْرِ الكونكريتيّ. ولمنْ يسألُ كيف يكونُ الفجر هو سرُّ هذا الشّاعرِ حقيقةً وواقعاً أقولُ: لستُ وحدي من اكتشفَ هذا الأمر، بل أخبرتْنِي به ورقةُ حلّتهِ في الصفحة الثانية والعشرين منها حينما نطقتْ قائلةً لي وللجميعِ:
((- خطاي مجمرة وخطاك ماء
"أنت شاعر آل البيت"
- سرُّك لجةُ وسرّي فجر
"أنا شاعر التهلكة "
- حداؤك همُّ وحدائي عويل
"من علمّني البكاء ؟"
- أنا روحُ الحلة
أين هي الآن؟)) (8)
إنّهم آل البيتِ حاضرون جميعاً في هذا الديوان، ليعلنوا المدينةَ مقرّاً لهم بكلّ ما فيها من وقائع وأحداث ومقامات ومراقد كتلك التي جاء ذكرها على لسان جبّار في نصوص عدّة كنصّ (دار الغيبة) و(مشهد الشّمس) و(باب الحسين) و(المقام).
(2)
ورقة خضراء فيحاء

كان الرّحالة الطّنجي المغربيّ ابن بطوطة من أوائل الرّحّال الذين زاروا مدينة الحلّة، وقال عنها إنّها: ((مديـنة كبـيـرة مسـتطـيلة مـع الـفـرات، وهـو بـشـرقـيّهـا. ولهـا أسـواق حـسنة جامعة للمـرافـق والصّـنـاعات. وهي كثـيـرة العـمارة. وحدائـق الـنّخـل مـنـتظـمة بـهـا داخلاً وخـارجاً. ودورهـا بـيـن الحدائـق. ولهـا جـسر عـظـيـم معـقـود عـلى مراكـب متّـصـلة مـنـتظـمة فـيـمـا بـيـن الـشّـطّـيـن، تـحـفّ بـهـا مـن جـانـبـيهـا سـلاسـل مـن حـديـد مـربـوطة في كـلا الـشّـطّـيـن إلى خـشـبـة عـظـيـمة مـثـبّـتة بـالـسّـاحـل)) (9)، وقد جاء ذكر هذه المدينة في العديد من كتب الجغرافيا والتاريخ ككتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي (ت626هـ/1228م) الذي يحوي بين دفّتيه معلوماتٍ قيّمة عن موقعها وعن المناطق التابعة لها. وعُرفت لدى المؤرّخين بكثرة نخيلها ووفرة مياهها وشساعة حدائقها الغنّاءة (10)، فاستحقّت بذلك أن تسمّى بالفيحاء، واستحقّت أيضاً أن يرمُزَ إليها جبار الكوّاز في ديوانه بالورقة، ويعتمدَ لأجلها اللونَ الأخضر كلون لغلاف الديوان، ليدلّ بذلك على أنّه بصدد الحديث عن ورقة خضراء فيحاء، من شجرة كبيرة، هي شجرة الحياة.
في (ورقة الحلّة)، لم يظهر الكوّاز كرجل شِعْرٍ فقط أو رجل مُلِمٍّ بالحيثيّات الدّينيّة والثيولوجية لمدينة الحلّة، وإنما ظهرَ أيضا كرجلٍ مسّاح مسَحَ لنا كلّ مناطق الحلّة وفق تصميمٍ جغرافيّ معيّن ومدروسٍ بدقّة متناهية، حدّد لنا من خلاله مُعْظَمَ مواقعها المهمّة، حتّى ليبدو وكأنه يأخذنا معه في رحلة رقميّةٍ، بدَأَهَا من باب عشتار، فلماذا عشتار وبابها إذن؟
عشتار بغض النّظر عمّا روته عنها الأساطير وكتبُ التأريخ القديمة والحديثة، فهي قبل كلّ هذا، شجرةُ الحياة، والحلّةُ ورقةٌ من أوراقها وتمَثّلُ هنا روح الغاب، التي هي عندَ جبّار الكوّاز، روح الإبداع والخيال والشّعْر، ولقد ورد اسمُها -أيْ عشتار- في الدّيوان لخمس مرّات (11)، وجاءت كرمز للثراء والخصوبة الفنية لهذه المدينة، لأنّ عشتار نفسها هي آلهة الخصوبة وهي أمٌّ قمريّة كبرى مسؤولة عن العطاء والزّرع والكتابة والفنّ كما يبدو في هذا المقطع من قصيدة (هادي جابك) والذي يقولُ فيه جبّار: ((دع عشتار تطير وتفتح أفق الوهم / دع الوهم يصير تويجات مسك / دع المسك ينقلب سمّاً / دع السُمَّ في الخمرة / دع الخمرة يشربها جمع المنفيين [...] دع الغصة في الكأس / هات لنا كأساً / يا تموز .. يا نابو .. يا عشتار .. يا بابل ]، وهو المقطع الذي ختمه باِسْمِ بابل، ليعلنَ الحلّةَ وريثةً شرعيّة لبابل التاريخ والأسطورة والإبداع، وتصبحَ بالتالي رديفتَها، فإذا ذُكِرَتْ هيَ ذُكِرَتِ الأخرى، وإذا حضرتْ بابل حضرتِ الحلّة.
بابُ عشتار هو بابٌ عرفانيّ، يحتاجُ إلى قراءات إيزوتيريّة من نوع خاصّ تُيَسّرُ فكَّ شيفراتِ ما فيه مِنْ شموس وأسُود وتنانين، وكائنات ونقوش أسطوريّة ذهبيّة أخرى، إضافة إلى لونه الفيروزيّ الدّاكنِ العجيب الرّامز إلى عنصر الألوهة الحاضر في كلّ مكان من الحلّة. وإذا كانت عشتار هي شجرةُ الحياة، فهي أيضاً شجرةُ الكون، وإذا كانَ للكونِ باباً فإنه هناك في الحلّة؛ مهد الحضارات الأولى والمعرفة، والعطاء اللامحدود، ومهد الشّعر والشّعراء الذين حظوا بنصيب وافر من الاهتمام في ديوان جبّار بدءاً من عبّاس الوحش ومحمود الطحلب وعبد الرزاق عبد الواحد وصولاً إلى كلّ من صالح وحمادي الكوّاز، إضافة إلى ما أدرجهُ جبّار نفسه من نصّ يبرزُ أهميّة الشعر ووقعه في نفوس الحليين كافّة (12)، حتّى أن محلّتهم الجامعين كانت تعرف أيضا بمحلّة الشّعراء:
((من ألبسها ثوبين؟ !
ومن حاك عباءتها الرثة؟ !
ما زال النهر يصلي
وهو يراها في أرذل العمر
ذاك زمان مضى
حين تباهت بالشعراء)). (13)

(3)
جبّار الكوّاز شاعراً كونكريتيّاً

كونكريتيّةُ النصِّ الجبّاري نابعة من كونه نصّ مكانيّ بامتياز، وهو هنا ليس عبارة عن مجموعةٍ من النّصوص كما قد يوحي بذلكَ شكل الدّيوان وفصوله، وإنما هو نصّ واحد مطوّل مقسّم إلى أماكن عدّة وإلى ثلاث فترات تاريخيّة هي، فترة البزوغ، ولها صلة وثيقة بما هو أسطوريّ في التاريخ البابليّ – الحلّيّ، وعهد الإشراق، ولهُ علاقة وشيجة بما يسمّى بالعهد الذهبيّ الذي ازدهرت فيه الحلّة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، ثمّ عهد الأفول، الذي يحكي عن ما آلت إليه هذه المدينة من تدهور في بعض مرافقها ومؤسساتها العمومية بما فيها الحدائق والمقاهي والمستشفيات، وما إليها.
وبناءً على هذا، يمكنُ القولُ إنّ الديوانَ جاءَ ليُسَجِّلَ بحرف الشّعر لحظةَ وعيٍ عميقةٍ بكافّة التغيّرات التي طرأت على هذه المنطقة في ظلّ الظروف السياسية والتاريخية والاقتصادية منذ فجر التاريخ إلى اليوم. ولكي يؤكّد هذه الفكرةَ، لجأ جبّار الكوّاز إلى تقنية القصيدة البصريّة، بشكلٍ أصبح معهُ الدّيوان يبدو كخريطةٍ قام فيها الشّاعرُ بتبئير الأماكن وتجسيم جسد النصّ، وإشباع العناوين بالحبر الأسود لتظهر كلافتاتٍ صغيرة محفورة على جدران رأس كلّ زقاق، فجاءت لتخبرنا بأسماء الأحياء والمزارات والمراقد والمقاهي والحمّامات والشّوارع والمحلّات بما فيها محلة الجامعين، و محلّة المهدية (14).
إنه يرسمُ لنا الأماكن شعراً، ويستخدم فضاءات الورقة وبياضها وفراغاتها، ليصوّرَها لنا كما هيَ، فيضعُ الحدودَ والإطارات، ويحدِّدُ الزّقاقَ والاتجاه، دون أن ينسى عنوان بيته القديم، كما هو واضح في هذا المربّع الصغير الذي قال لنا من خلاله، إنّ بيتهُ يوجد في هذه المحلّة، تحرسُه البئرُ وتشربُه النّخلة، فأصبحنا معه نعايِنُ التطوُّرَ العمراني لمدينته، ومصير العديد من المواقع فيها ونتساءل مثله عن جنائن بابل المعلقة قائلين: أين هي الآن؟ وهي اللّازمة الشّعريّة التي يكرّرها كثيرا، تأكيداً للفاصل الزمنيّ المهول بين ماضي وحاضر الحلّة.
وعلى ذكر الجنائن المعلّقة، فإنه لا يفوتني أن ألاحظ أنّه تحدثَ عنها لمرّتين، مرّة قال فيها ما يلي (15).
ومرّة أخرى ذكرها بطريقةٍ تختلف عن الأولى، أيْ هكذا (16)
فهل يا ترى يتحدّثُ جبّار عن مَعْلَمَتيْن تاريخيتيْن مختلفتيْن، لا علاقة لهما بجنائن بابل المعلّقة التي لمْ يُحَدَّدْ مكانُها لليوم، أمْ أنّ الشّاعرَ لهُ تصوّرٌ شخصيٌّ عنها، أمْ تراهُ يقصد أماكنَ أخرى يسميها الحلّيون بالجنائن المعلّقة، لأن المنطقةَ نفسها كانت في الماضي البعيد ممتلئة بحدائق من هذا النّوع، وما تلك المعلّقات "الأسطوريّة" سوى واحدة منها؟!
أيّاً كان الجوابُ، فالجنائن المعلّقة البابليّة واحدة لا غير، وهي حلّية محضة، وإن ظهرتْ منذ فترة بعض الآراء التي تقولُ إنّ هذه الجنائن لا أثر لها البثة في الحلّة، وإنه إلى اليوم كان بحّاثة الآثار يُنقّبونَ عنها في المكان الخطأ، وإنها توجدُ حقيقةً بنينوى وعليه وجبَ تأكيدُ مكانِها هناك، وإني لأقول مُعَقِّبةً، إنّ الجنائن المعلّقة البابليّة مفهوم روحيّ ثيولوجيّ محض قبل أن يكون واقعاً، وإنّ وجودها في أرض الحلّة له علاقة وطيدة برؤيا يوحنّا، وبالمفهوم الثيولوجي والإيزوتيريّ لمدينة بابل / الحلّة وكذا بالقدس (أورشليم) نفسها، مادامتا معاً مدينتيِ الألوهيّة بامتياز منذُ القدم.
وفي الختام يبقى جمْعُ جبار الكوّاز في ديوانه هذا بين متعة السؤال ومتعة العين، وبين البُعدِ التاريخيّ (الزمني) والبعد الجغرافيّ (المكانيّ)، ولَعِبُهُ على ثنائية البياض والسّواد في الورقة الشعريّة، وخلقُهُ لفضاءات هندسيّة وتشكيليّة، شأنٌ كونكريتيٌّ محض تَحَقَّقَ من خلالهِ ما يسمّى ببلوغ الهدفِ اللّغويّ والبصريّ لنصٍّ حلّيٍّ بامتياز صوّرَ لنا الحلّةَ كمكان يجمعُ بين الأصالة والمعاصرة، وبين الحوار والتعايش السّلميّ في ظلِّ دياناتٍ ومذاهب وإثنيات مختلفة، ثمّ كفضاء حاضنٍ لذاكرة تاريخيّة وثقافيّةٍ ليس لعمقهَا مثيل.
الهوامش:
(1) جبّار الكوّاز، ورقة الحلّة، دار بابل للثقافات والفنون والإعلام، ط1، العراق، 2014.
(2) الفجر: 1 / 5.
(3) لقمان: 27.
(4) بحار الأنوار، ج 104/179-180.
(5) انظر على سبيل المثال لا الحصر:
- مراقد ومزارات الحلّة، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2006؛
- الحلّة وحكّامها، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2012؛
- الحوزة العلميّة في الحلّة، نشأتها وانكماشها (951-562 هـ)، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2013؛
- ومحلّة الجامعين كما أدركتها، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2017.
وتجدر الإشارة إلى أن جبّار الكوّاز، ألّف بشأن هذا المؤرّخ كتاباً من اثني وثلاثين صفحة، بعنوان (عبد الرضا عوض باحثاً ومؤرخاً)، أُلْقِيَ كمحاضرة على قاعة جمعية الرواد الثقافية المستقلة في الحلة بتاريخ 2 / 3 / 2007، وصدر في السّنة ذاتها بالعراق (النجف الأشرف) عن مطبعة الضياء.
(6) يوسف كركوش الحلّيّ، تاريخ الحلّة في الحياة الفكرية، المطبعة الحيدرية، العراق، النجف الأشرف، 1965.
(7) جبّار الكوّاز، ورقة الحلّة، دار بابل للثقافات والفنون والإعلام، ط1، العراق، 2014، ص 50: (رقم الصفحات قد لا يكون موافقا للنسخة الورقية، لأنني في بحثي هذا اعتمدت على النسخة الرقمية للدّيوان)، إضافة إلى هذه الملاحظة أشير إلى أنّ النصّ الشعريَّ أعلاه تمّ نقله مجرّدا من تنضيده وتنسيقه الأصلي، بغرض إرجاء الحديث عن الديوان كنصّ كونكريتيٍّ إلى ما سيأتي من الفقرات.
(8) المصدر نفسه، نصّ (حمّادي الكوّاز).
(9) ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تقديم وتحقيق الشيخ عبد المنعم العريان، مراجعة الأستاذ مصطفى القصّاص، دار إحياء العلوم، بيروت، ط1، 1987، ص 230.
(10) ابن جبير، رحلة ابن جبير، دار صادر، بيروت، 1907، ص 189.
(11) انظر قصيدة (باب عشتار) وقصيدة (هادي جابك).
(12) انظر فصل الأفول: (البابليات للشيخ محمد علي اليعقوبيّ: المقدّمة).
(13) انظر نصّ (الجامعين).
(14) انظر الصورة رقم 01 في الملاحق بالجزء الخاصّ بجبّار الكوّاز.
(15) الصورة رقم 02 / الملاحق / ج. جبّار الكوّاز.
(16) الصورة رقم 03 / الملاحق / ج. جبّار الكوّاز.



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوتوبيا البُرْج البابليّ في رواية (كائنات محتملة) للأديب الر ...
- خِطابُ الجَسَدِ في ديوان (وَصَايَا البَحْرِ) للأديب عبد النّ ...
- الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود ( ...
- وادي الملوك
- رواية بوشكين (عربي قيصر) ترجمة د. نصير الحسيني
- من الإنسانِ الآليّ إلى الإنسان العاليّ في عرفانيّات #عبدالجب ...
- (26) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (25) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (24) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (23) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (22) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (21) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (20) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (19) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (18) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (17) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (16) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (15) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (14) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (13) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز وديوانِه (ورقةُ الحلّة) بينَ النصّ القرآنيّ والحرفِ الشِّعْريِّ الكونكريتِيّ