أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)















المزيد.....



ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7520 - 2023 / 2 / 12 - 12:23
المحور: الادب والفن
    


(1)
دموع لينين
*
إنّه التاسعُ من تشرين الأول لسنة 1920، والساعةُ تشير إلى الثامنة صباحا. ليالي الخريف في موسكو طويلة، وضوءُ النهار لم ينتشر بعْدُ في الطرقات. وداخل محطّة كازانسكي ثمّةَ رجل يجوب الرصيف بحركة قلقة ذهابا وإيابا، ويرفعُ بين الفينة والأخرى عينيْهِ لينظر من حوله ثمَّ يخفضهما مرّة ثانية، ويعودُ إلى مشيه المضطرب. وعلى مسافة قريبة منه يوجدُ حشد من الناس، يتتبّعون خطواته بنظراتٍ خاشعة، ويراقبونَ في الوقت ذاته عينيه الضيّقتيْن الحمراوين، ويديْهِ المُتوتّرتيْن وحركتهما اللّاإراديتيْنِ حول عُنقه من حين لآخر.
وهاهو القطارُ القادمُ من القوقاز يدخلُ ببطءٍ شديدٍ إلى المحطّة، كما لو أنّ الأمرَ فيهِ علامة احترام منهُ للصّمتِ المُخيّم عليها وفيها. والجميعُ ممّنْ ينتظرُهُ هُنا بمَن فيهم الرّجل القلق، كانَ يعلمُ أنّ مدّة سفر هذا القطارِ قدِ استغرقتْ ثمانية أيّام قبلَ أن يصلَ إلى موسكو، وأنْ لا أحدَ سينزلُ منه، إذ لا أحدَ من المسافرين الأحياء يوجدُ داخل مقطوراته!
فوق عربةٍ مغطّاة بثوبٍ أسود وأحمر، يُسافرُ تابوت يوجدُ بداخلهِ جسد امرأةٍ اِسمها إينيسّا؛ إينيسّا أرماند. إنّها المرأة التي ينتظرُها الرّجل وحشده الصغير من الناس، والتي ما إن وُضعَ تابوتُها في سيارة سوداء مزخرفة بعددٍ كبير منَ الزّهور، حتّى تَكوّن الموكبُ الجنائزي بسرعة فائقة، وبدأ بعبور ساحة كلانتشيفسكايا أوّلا، ثمّ دخلَ إلى شارع مياسنيكايا، واتّجهَ بعد ذلك إلى قصرٍ مصبوغ باللونين الأخضر والأبيض، كانَ قبل الثورة ناديا خاصّا بنبلاء موسكو، أمّا اليوم فهُو مقرّ اتحاد نقابات العُمّال.
لمْ تكنِ المسافة قصيرة، وقد اقترحَ أحدُهم على الرّجل أن يركبَ سيارةً جُلبت خصّيصا لهذا الغرض، لكنّه رفض بإشارة من رأسه وفضّلَ أن يتبع النعش مشيا على قدميه. نظرتُه الغارقة وسط معطفه، وقبّعتُه التي كانتْ تغطي كلّ رأسه وجزءا كبيرا من جبهته، وقسماتُ وجهه المُتقلّص من شدّة الألم، كلّ هذه الأشياء كانتْ تجعلُ من الصّعب أنْ يتعرّف عليهِ أحدٌ وهو يمشي خلف النعش. إلّا أنّ طرقات موسكو الآنَ قد امتلأت بالنساء والرجال الذين بدأوا يومهم، وأصبحَ من المستحيل ألّا ينتبِه للأمرِ أحد، حتّى أنّ شخصاً منَ المارّين حينما دقّق النظر في الرّجل بشكل مُلحّ، صاحَ مندهشاً: «إنّه لينين!». توقّف البعض من الناس، والبعض الآخر انضمّ إلى الموكب، فالرّجل الذي كان يُغالبُ دموعه ويترنّح من شدّة الحزن هو حقيقة فلاديمير إيليتش أوليانوف؛ زعيم البلاشفة ورئيس الاتحاد السوفييتي.
في المكتبةِ السّمعية البصرية الخاصّة بمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيطالييْن، يوجدُ محفوظاً فيلم قصير ولكنه مؤثر جدّاً، يُوثِّقُ لهذه الجنازة التاريخية، فضلا عن بعضٍ من الأشرطة التصويرية المتآكلة، وصور أخرى، وإن كانت تبدو بالية جدّا ومضبّبة، إلا أنّها مازالت تختزنُ كلّ شيء عن لينين ووجعه الدفين، وقلقه الذي لم يكنْ يعنيهِ أبداً إخفاءَه عن العيون المُصوَّبة نحوه من كل جانب. فكلّ شيء عنْ شخصيّته المهيبة اختفى آنذاك في تلك الثواني الخاطفة: وقارُهُ كزعيم فوق المنصّة، سبابتُه التي كان يرفعها أثناء إلقائه لخطبه الرّسمية المجيدة أمام الجماهير الغفيرة، وفخامتُهُ كرجلِ دولة يجلس إلى مكتبه داخل مبنى الكرملين في موسكو. انمَحقَ كلّ شيء، ولمْ يتبقّ من الزعيم في تلك اللحظات الموجعة سوى صورة رجل ضائع شارد، بوجه شاحب حفر الدّمعُ فوق صفحته تجاعيد وأخاديد عميقة من الحزن والكمد.
هاهو لينين يستلمُ التّابوت الأبيض، ويبدأ في المشيء بمحاذاته ملقياً عليه نظرات شاردة، ومن حين لآخر كان يلمسُهُ أو يتكأ عليه ليسند به جسده المتهالك. وحينما وصل أخيراً إلى الكرملين اقترب من الرجال الذين كانوا يحملون الجثمان وبدأ يساعدهم في دفنه، وإلى جانبه كان يقف أبناء إينيسّا؛ أندريه، فارفارا، وإينّا. ابتسم لهم ابتسامة حزينة ومفعمة بالمحبّة والحنان.
لقد كان حزن لينين عظيماً، ولمْ يتمكّنِ الكثيرُ من الناس -وإن بدافع من الحياء والتحفظ- التغاضي عنه أو عدم الإشارة إليه. فمثلا ألِيكساندرا كولونتاي وهي واحدة من أبرز نساء البلاشفة قالتْ بعد مُضيّ سنة على وفاة إينيسّا: «في ذاك الموكب الجنائزي، لم يكن باستطاعة أحد أن يتعرف على لينين؛ لقد كان يمشي بعينيْن مغمضتيْن، لدرجة أنهُ كان يُخَيّلُ لنا أنه سيقع صريعاً على الأرض بين الخطوة والأخرى!». أمّا أنجيلكا بالابانوف، وهي شخصية تاريخية معروفة لدى الحركة العمالية الروسية والإيطالية على حدّ سواء، فقالتْ: «لم يكن وجههُ وحدَهُ يتألّمُ بشدّة، بل كلّ كيانه، ولا أحدَ كان يجرؤ على تحيّتهِ ولو بمجرّد إشارةٍ خفيفة من رأسه. لقد كانَ يظهر جلياً للجميع أن لينين يريد أن يبقى مختليا لوحده مع مأساته. وكان يبدو كما لو أنّه تقلّصَ فغطّتْ قبّعتهُ وجهَهُ بينما اخضلَّت عيناهُ بالدموع التي طالما حاولَ عبثاً أن يحبسَها في المآقي. وفي كلّ مرّة من تلكَ اللحظاتِ التي كانَ فيها موجُ حشدِ الناس المُتدافعين يُحرّك مجموعتَنا، كان لينين يستسلمُ لهدهدتهِ، بدون أدنى مقاومة منهُ، ومَنْ يدري لعلّ الرّجلَ كان يجدُ في الأمر سلواناً لمُعاناته، مادامتْ هذه الحركات ستقرّبه أكثر فأكثر من جثمان إينيسّا».
كانَ فلاديمير إيليتش أوليانوف كلّما ألقى نظرة على التابوت المغطّى بالزهور، شعرَ بوخزٍ في قلبهِ، لقد كانَ النّدمُ والحسرةُ يأكلانهِ بلا هوادة، فإينيسّا لمْ تكن ترغبُ في الابتعادِ عن موسكو، لكنه ألحّ عليها وأقنعها بالذهاب لقضاء عطلتها في القوقاز، هناك حيث أصيبتْ بمرض الكوليرا. وليس هذا فحسب، فآلامه المتواصلة كانت تأخذه إلى لحظات أخرى من الماضي، كان يحسبها غير ذات أهمية: إنه الآن يتذكّرُ إينيسّا وهي وحيدة في عمق شتاء موسكو القاسي، وليسَ ببيتها خشب تضعه في المدفأة، ولا تملك جراميق تلبسها وهي تتأهّب كل يوم لقطع مسافات طويلة من طرق المدينة. كلُّ هذا كان قد اكتشفه لينين على سبيل المصادفة، فأرسلَ لها كمية قليلة من الخشب ووعدَها بأن يتدبّر أمر الجراميق أيضا.
عديدة هي الأسئلة التي كانت تلاحق ذاكرته: ما نوع تلك المشاعر التي كانت تطفو فوق أديمِ عينَي إينيسّا حينمَا أرغمها على ترك موسكو والذهاب إلى القوقاز؟ هل هي مزيج من الاستسلام والاقتناع؟ أو هي نوع من الاستكانة والارتياح؟ لكن السؤالَ الحارق الذي ظلَّ يترددُ بداخله كان: متى استمع إليها وهي تعزف للمرة الأخيرة مقطوعات لبيتهوفن؟
وحينما وصل الموكب الجنائزي أخيرا إلى مقرّ اتحاد نقابات العمّال، لم يكن فلاديمير إيليتش قد انتبهَ بعدُ إلى ناديا التي كانت تمشي إلى جانبه منذ أولى لحظات انطلاق الموكب بعينين دامعتين.
وفي صباح اليوم التالي أصبحت مراسيم التأبين رسميّة، وتناولتها وسائل إعلام الدولة وصحفها بما فيها جريدَتَي «الخبر» و«الحقيقة». وقد حضر الموكب الرسميّ العديد من الرؤساء فضلا عن رفقاء من جريدة «العامل الاشتراكي»، وكذا أعضاء المجلس المركزي لتحرير المرأة سواء منهم أولئك الذين كانوا في النقابة أو في الحزب، ذلك أنّ إينيسّا كانت رئيسة هذا المجلس قبل وفاتها. كما رُفعت خلال هذه المناسبة الأليمة الأعلام واللافتات التي كُتبت فوقها عبارات مُؤثّرة من قبيل «يموت الزعماء وتبقى أفكارهم»، وعزفت الفرقةُ الموسيقية للقوات المسلحة نشيدَ الأممية، أمّا فرقة مسرح البُولْشُوي فعزفت مقطوعات لكلّ من شوبان وموتسارت ثمّ بيتهوفن. وانطلقَ الموكبُ بعد ذلك من مقرّ اتحاد نقابات العمّال مُتّجها نحو السّاحة الحمراء حيثُ ستتمُّ وقائع احتفال التأبين الرسميّ.
لا أثر لِلينين بين الحضور، وقد تعمّدَ هذا الغياب، ذلك أنّه فضّل ألّا يظهر إلا بعد أن تنتهي الخطابات والمداخلات الرسمية. وهاهو قد أتى أخيراً وجلس بالقرب من القبْر الذي حُفر حديثاً بين برجيْ نيكولسكايا وسباسكايا. كانَ متسمّراً في مكانه بدون قبّعةٍ، وبمعطف مغلقة أزراره حتّى العنق. وإلى جانبه في ساحة الكرملين تجلسُ كمَا العادة ناديا كروبسكايا.
لمْ تكنْ لدى لينين أيّة رغبة في حضور كلّ تلك الشكليات الخاصة بحفل التأبين، لأنه يعلمُ مسبقا أنّ الأمر برمّته سيكونُ عبارة عن خطب رسمية لم يكن متحمّسا لسماعها بأيّ شكل من الأشكال. وهكذا، وبحجَّةِ شواغله المتراكمة قرّر أن يأتي متأخّرا. وقدْ كان الرّجل محقّا فيما ذهب إليه، لأنه حينما وصل كان الخطباء مازالوا يتعاقبون الواحد تلو الآخر أمام رمْسِ إينيسّا وهُمْ يقرأونَ كلماتهم وخُطبهم وفقا للترتيبِ المُمِلّ لأسماء عدّة من الفئة البيروقراطية الحاكمة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ألقى فلاديمير إيفانوفيتش نيفسكي كلمةً تجاهل فيها التزام إينيسّا بقضايا النساء وكفاحها من أجلهنّ سواء من خلال رئاستها لجريدة «الخبر» أو لجريدة «المرأة العاملة»، إلّا أنّهُ ركّزَ بشكل أكبر على الجانب الثوري المقدام من شخصية الرّاحلة التي عَرفت كيف ترفع راية الشيوعية عاليا. أمّا بوليدروف فقدِ امتدح دور الفقيدةِ كمديرة لمجلس موسكو الاقتصادي، وهي المهمّة التي كانتْ مُجبَرةً في حياتها على تولّيها بالرغم من بُعدها تماما عن ميولاتها واهتماماتها، وقد تركتها بعد ذلك غير آسفة عليها أبداً. وإلى جانب هذا، جاءت كلمة أليكساندرا كولونتاي مفعمة بالحماسة وفقا لما صرّحت به جريدة «الخبر» وهذا جزء مقتطف منها: «لا يوجد شخص في روسيا لا يعرفُ اسم إينيسّا أو غير مُلمٍّ بفكرها [...] سيُكملُ الملايين من العمّال مسيرتَها النضالية، وسيتقدّمون في غيابها إلى الأمام دائما نحو الشيوعية سيْراً على نهجها الذي رسمتهُ لهم في حياتها». إلا أنّه يبدو أنّ أليكساندرا على الرّغم من اتّقاد كلمتها واندفاعها نسيتْ أن تتحدّث عن المشاحنات والمناقشات المحتدمة التي كانت تطبع علاقتها بالرّاحلة، بسبب الاختلاف في وجهات النظر لدى كلّ منهما بشأن العديد من القضايا السياسية. ولمْ تُشِرْ أيضاً (ولربّما كانت الوحيدة التي يمكنها القيام بذلك) إلى المشاريع الجديدة التي كانت إينيسّا تنوي تحقيقَها بخصوص القضية التي كانتا تخدمانها معاً بحماس منقطع النظير، أيْ قضية المرأة وتحريرها وعلاقتها بالحزب تحتَ ظلّ دولة اشتراكية جديدة.
وفي الختام وتبعاً لترتيب أسماء النومينكلاتورا ذاتها، استلمت الكلمة نساءٌ من الشعب وقلن إنّ الفضل كلّه يعودُ إلى إينيسّا في التغيير الشامل الذي طرأ على حياتهنّ، فلولاها ما عَرفْنَ شيئاً عن الحركة الثورية، ولا عن حرية المرأة، ولا حتّى عن العملِ داخل مؤسسات المجتمع المختلفة بما فيها السياسية.
وبالإضافة إلى كلّ هذا لمْ تتناولِ الخُطب أيّ شيء عن حياة إينيسّا كامرأة مستقلّة وثورية، ولا عن تجاربِها التي نقلتها من حياة موسكو البورجوازية إلى حياة مجتمع الثورة، وتمّ التغاضي أيضاً عن كيْفَ أنّها كانت تهتمُّ بأبناء الفلّاحين والمزارعين لدرجة أنها قامت ببناء مدرسة خاصة بهم في قرية إيلديجينو، على الرغم من أنّها كانت سيّدة ثرية وزوجة لصاحب أشهر وأكبر مصانع الغزل والنسيج في روسيا. وليس هذا فحسب، فلقدْ تمّ التعتيمُ أيضاً على دورها القيادي إبّان العهد القيصري كامرأة سعتْ بكل ما فيها من قوّةٍ إلى حماية النساء ضحايا تجارة البغاء. كما طوى النسيانُ فترات شديدة الأهمية من حياة إينيسّا، ولم يتحدث عنها أحد من هؤلاء الخطباء، لا سيما منها فترتَيِ المنفى والسجن، وكذلك الفترات التي كانت تهتمُّ فيها بالأقليات الروسية المهاجرة إلى فرنسا والمقيمة في باريس. هكذا، وبكلّ بساطة دُفنت إينيسّا تحت ثقل دورها كامرأة قيادية بلشفية مُطيعة لا أقلّ ولا أكثر. فحتّى القدّاس الجنائزي كان بارداً، وكانت مشاعر الناس فيهِ مُقيَّدة، ولا مكان فيه لأحد، اللّهم لتلك الأعلام التي كانت ترفرف وسطَ صقيع طقوس ومراسيم الدولة السوفييتية.
دفنت إينيسّا بتوصية وقرار رسمييْنِ من لينين أمام أسوار الكرملين، ولقد كانت الأجنبيةَ الوحيدة التي حازت على هذا الامتياز الفخريّ، ثم دُفن إلى جانبها بعد مرور أيام قليلة جدا الصحفي الأمريكي جون ريد، صاحب الكتاب الشهير «عشرة أيّام هزّت العالم».
«لمْ يكُنْ لدى لينين أولاد»، هكذا قال المؤرّخ والصحفي لويس فيشر ضمنَ كتابه الذي ألّفَهُ عن سيرة زعيم الثورة. «وبعد وفاة إينيسّا لمْ يعُد لينين يحبّ أحداً، ولا حتّى نفسه»، عقّب أحدُهم بمرارة شديدة وهو يبتعدُ عن السّاحة الحمراء فــ «بغيابهَا الأبديّ ماتتِ الثورة».
*

(2)
في مقهى بباريس
*
في بدايات القرن العشرين عرفتْ مدينة باريس توسّعاً معمارياً سريعا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ومِنْ داخل قاعات مقهى دي مانيّور أو "لاعبي الورق والشطرنج"، كانت تصلُ حادّة ومزعجةً أصواتُ ذاك الضجيج الصادر عن الأشغال المفتوحة في قلب المدينة آنذاك من أجل بناء محطة مترو بورت دو أورليان. هذا المقهى واسع ورحب، حارّ وصاخب، وهو مكتظ دائما بالزوار. إنّه المكان الذي يلتقي فيه المنفيون الرّوس، وهُم يحبّون الاجتماع هنا منْ أجلِ الحديث عن الأوضاع في الوطن الأمّ وتبادل الأخبار الجديدة فيما بينهم.
في إحدى الأمسيات الباريسية الربيعية الرطبة الماطرة، والدافئة المفعمة بالحياة من عام 1909 دخلت إلى هذا المقهى امرأة، وجلست في إحدى صالاته الصغيرة التي كان يتنازلُ عنها ربُّ المكان ليقيم فيها الرُّواد المنفيون اجتماعاتهم مقابل مايستهلكونه من طلبات متواضعة الثمن.
هذه هي المرّة الأولى التي تزور فيها إينيسّا هذا المقهى، لم تكن لوحدها، وإنما كانت معها صديقتها التي تعرف المكان جيدا وكذا الرجال الذين يرتادونه.
حينما دخلت إينيسّا قلقة ممّ حولها وبرأسها ألف سؤال، لمحت رجلا يتحدث بحرارة وانفعال شديدين. كان يتحرّك يمنة ويسرة، ويتوقف من حين لآخر وقد ضمّ ذراعيه إلى صدره، ليعود من جديد إلى تحريك رأسه تارة نحو الأعلى وتارة نحو الأسفل، أو إلى الصمت تماما لبضعة هنيهات متكئا بجسده على الباب ليراقب جمهوره الذي ينصت إليه باهتمام شديد، ثم يبدأ مجددا في الحديث بصوت حماسي.
إنه بصدد مناقشة قضية إنشاء مركز يعتني بشؤون المهاجرين، وكذا الوضعية الحساسة والصعبة التي أصبح يعيشها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي والذي انسحب منه العديد من الأعضاء وغادره الكثير من المساندين، فضلا عن الهدنة التي فُرضت فرضا على البلاشفة ليصلوا إلى اتفاق مع المناشفة، اضطروا إلى قبوله على مضض. رواد تلك الصّالة كانوا ينصتون إليه باهتمام شديد. إينيسّا عرفت من يكون الرجل الخطيب وإن كانت هذه هي المرة الأولى التي تراه فيها.
في الماضي القريب كانت إينيسا قد قرأت في سويسرا كتاب (تطور الرأسمالية في روسيا)، وقد سحرها أيّما سحر لدرجة أن القضية البلشفية أصبحت قضيتها الرئيسة، ولكنها لم تكن تعلم أنها في يوم من الأيام ستلتقي بالرجل الذي أقنعها من خلال كتابه هذا باعتناق البلشفية. في تلك الليلة بمقهى دي مانيّور رأته روحا وجسدا أمامها. إنه فلاديمير إيليتش أوليانوف، المُسمّى بلينين. يبلغ من العمر أربعين سنة، وكما سبق وأخبرها عنه كل الروسيين الذين التقت بهم، ثمة شيء واحد يشغل باله ويعيش من أجله: الثورة.
إينيسا تبدأ في النظر إليه بنوع من الفضول، وتخلص إلى أنه، غير عينيه الضيقتين اللامعتين الثاقبتين والمُشَكِّكتين في كلّ ماحوله، لا شيء فيه يشدّ الانتباه حقا: مُهْمِل في الاعتناء بهندامه، سرواله طويل جدا، وفوق رأسه الأصلع لم تبق سوى بضع خصلات حُمر. صحيح أنه يبدو كمزارع روسي، لكن لا شيء فيه يوحي بصفات الرجل الثوري الرومانسي، حتّى أنه ليس باللطيف أبدا، فهو لا يبتسم، ولا يحاول معرفة إذا ماكان جمهوره يوافقه الرأي أم لا فيما يقول، إنه لا يركز سوى على أفكاره. لكن يبقى أسلوبه في الكلام جذابا وممتعا للغاية!
لم تكن إينيسّا وحدها من تراقب لينين، هو أيضا انتبه إلى وجودها، إنها امرأة لا يمكن ألا تثير انتباه من حولها في هذا المقهى، فهي تتميز عن جميع رواده في كلّ شيء: لون عينيها الواسعتين أخضر فاتح يميل إلى الرمادي شيئا ما، قامتها طويلة، وجهها رقيق، وقبعتها أنيقة جدا وتظهر من تحتها بعض من خصلات شعرها الكستنائي الناعم، أمّا فستانها الباريسي فليس بالباهظ الثمن، إلا أنه أنيق للغاية.
حينما انتهى الاجتماع وأنهى لينين مناقشاته الساخنة، تقدّم إليه أحدهم وإلى جانبه إينيسّا ليعرّفهُ بها، وفي لحظات التقديم هذه شعر الاثنان معا بأن ثمة أشياء كثيرة تجمع بينهما، وكثير من القصص التي سيتبادلانها ويتناقشانها فيما بعد؛ //مثلا التوقعات المحتملة عن مصير الثورة في أرضهما البعيدة، والأخبار التي تأتي من هناك، والوضعية السياسية الأوروبية وكذا مستقبل الديمقراطيين الاشتراكيين، دون نسيان الكتب التي يدمنان قراءتها، فلقد اكتشفا للتوّ أنهما يحبّان معا كتابات نيكولاي شيرنيشفسكي صاحب (ما العمل؟)، وهو الكتاب نفسه الذي استلهم لينين منه عنوان إحدى مقالاته الأكثر شهرة.
لا أحد منهما تحدّث بشكل مسهب عن حياته الخاصة، ماعدا الإشارة لبعض من الشذرات الخفيفة والتي كانت كافية جدا لأول لقاء تعارفي بينهما، والمهمّ في كلّ هذا هو أنّ لينين قبل أن يتمّ تقديم إينيسّا له، تلقّى من أحدهم همسا بعض المعلومات الطفيفة عنها.
حَيّتْ إينيسا الجمع وودّعت لينين بلطف، ثم غادرت المقهى. في تلك اللحظة خُيّل له أن مغادرتها كانت مفاجئة، لكنه لم يفقد الأمل في لقائها مرّة أخرى. بهذه الأمنية الجميلة حيّا هو الآخر الأصدقاء وغادر المكان قاصدا بيته الصغير في شارع بونييه حيث تنتظره زوجته.
نادْيا رفيقة درب شغوفة، تعتني به وتهتمّ بكل شؤونه الصغيرة والكبيرة، وهي منذ سنوات عدّة تتفهمه وتسانده. صحيح أنها حاضرة دائما إلى جانبه حينما تشتدُّ ليلا آلام رأسه وتتفاقم كوابيسه التي تلاحقه باستمرار، لكن نفسُه تحدثه الآن وهو يمشي بخطى سريعة إلى البيت بأنّ ليلتهُ هذه لن تكون رحيمة به، وأنه سيرى فيها ما لا يسرّ أبدا من الكوابيس المرعبة، لذا، فمن الأفضل له أن يبدأ في العمل بعد الوصول مباشرة، فهناك العديد من الرسائل التي عليه أن يكتبها. وليس بالأمر البعيد أبدا أن تقابله نادْيا بالاحتجاج وتطالبه بالاستراحة من عناء العمل، أجل، فهي عادة ما تلحّ عليه في دعوته إلى أخذ قسط من الراحة دائما.
في أمسية اليوم اللاحق، كانوا كلهم هناك في مقهى دي مانيّور ما عدا إينيسّا، ممّا حدا بلينين إلى السؤال عنها، إلا أنهم أخبروه بأنها سافرت ربّما لتلتحق بأبنائها في مكان ما بأوروبا. لم يكن الجواب كافيا بالنسبة لفلاديمير إيليتش، لذا فإنه استمرّ في طرح أسئلة أخرى مدفوعا بالرغبة في معرفة المزيد عنها، لا سيما وأنه يعرف بأنّ مثل هذه المسألة لن تكون بالمستحيلة بتاتا، فالأصدقاء الروسيون من الأقليات المنفية هنا، والذين يجتمعون إما في مقهى دي مانيّور أو في مقرّ جريدة «الاشتراكية الديمقراطية»، يحبّون الخوض في العديد من القضايا والشؤون، فهم يعرفون كل شيء عن بعضهم البعض، ويكفي أن تسأل أحدهم عن شيء ما ليُجيبكَ بالتفصيل المملّ أيضا.
استغرب لينين كثيرا حينما علم بأن إينيسّا تبلغ من العمر خمسا وثلاثين سنة، فقد اعتقد لأول وهلة أنها أصغر من ذلك بكثير. قيل لهُ أيضا إنها تزوجت سنة 1893 في بوشكينو، أيْ حينما كانت تبلغ من العمر تسعة عشر سنة.
ستيفان هو اسمها العائلي، أما اسمها الشخصي فهو إليزابيت وليس إينيسّا. اكتشف لينين أيضا أنها الابنة غير الشرعية لشخصيتين من عالم المسرح؛ والدها هو مغنّي الأوبرا ثيودور ستيفان، أمّا والدتُها فهي المُمثّلة نتالي وايلد. وقد وُلدت إينيسّا في باريس وانتقلت بعد سنوات قليلة من ولادتها إلى العيش في روسيا مع جدتها وخالتها. عن أسباب هذا الانتقال المفاجئ ثمة روايتان: الأولى تُصوّرُ إينيسا كطفلة فقيرة اضطرت إلى مغادرة باريس بعد وفاة والدها، لأنّ أمّها أمام الضائقة المالية التي أصبحت تعيشها لم تكن لديها الإمكانية لإعالة بناتها الثلاث، فارتأت أنه من الأفضل إرسال إينيسّا إلى موسكو حيث ستعتني بها خالتها التي تمتهن التدريس، وذاك ما كان بالفعل، فالخالة أخذتها مباشرة لتعيش معها في بيت عائلة أرماند الذي تلقت في كنفه الطفلة الباريسية أصول التربية الحسنة، مثلها مثل باقي أطفال وجهاء أُسَر موسكو الثرية.
أمّا الرواية الثانية فتحكي عن إينيسّا كطفلة تنتمي منذ ولادتها إلى عائلة بورجوازية حقا، وإن كانت ليست بنفس ثراء عائلة أرماند الباذخ، فهي لها مكانتها بين أُسر النبلاء الروسيين من أصل فرنسي والذين كان لهم شأن كبير في مجتمع روسيا القرن التاسع عشر.
حتّى جدّ إينيسّا والّذي كان من أعضاء أسرة التعليم الروسية، رحل باكرا وترك خلفه زوجته أرملة اعتنت بالحفيدة أيّما اعتناء ومنحتها التربية الحسنة هي والخالة وكذلك عدد لا يستهان به من الأساتذة والمعلّمين.
كانت إينيسا تتحدث أربع لغات، وكانت أيضا قارئة نهمة، وعازفة بيانو بارعة. الأصدقاء المنفيون يتحدثون بصخب، كل واحد منهم يروي قصة تختلف عن الأخرى، وكلّ منهم يعتقد أنه يملك بعضا من الحقيقة عن المرأة التي ظهرت فجأة مساء أمس في المقهى. فلاديمير إيليتش يستمع إليهم جميعا، لكنّ فكره يبتعدُ فجأة عن المقهى: هل سيلتقيان مرّة أخرى؟!

(3)
طفلة في موسكو
*

وُلدتْ إينيسّا في 8 أيار 1874 بباريس، حيّ «مونتمارتر»، شارع «لا شابيل». لمْ تحظَ الصغيرة بطفولة بورجوازية مريحة بحُكم حياة والديها الفنية، واللذان لم يتزوجا إلا بعد قدومها بأشهر قليلة. ولقد عاشت معهما منذ البداية حياة الترحال والتجوال والعروض الفنّية التي كانا يقدمانها فوق خشبات مسارح مدن عديدة ومتفرقة، مما جعلها لا تنعم بالهدوء والسكينة وسط تلك الأجواء البوهيمية والفوضوية التي كانت تطبع حياة والديها ثيودور ونتالي.
وحينما بلغت الطّفلة خمسة أعوام تغيّرت حياتها رأسا على عقب، لأنّها اضطُرّت إلى هجر والديها وأختيها الصغيرتين وباريس كلها، لتذهب للعيش مع خالتها صوفي وجدّتها في موسكو كما أرادت لها والدتها، لاعتقاد هذه الأخيرة بأنها هناك ستعيش عيشة أفضل وأهنأ، وستتلقّى على يديْ جدّتها وخالتِها أحسن وأقْوَم تربية بالمقارنة إذا ما بقيت مع أبوين مسرحييْن فقيرين. هذا التغيير المفاجئ في حياة إينيسّا كان بسبب الضائقة المالية التي أصبحت تعيشها الأمّ، وكذا بسبب تفاقم المشاكل بين هذه الأخيرة وزوجها الذي لمْ تعُدْ تثقُ به كما كانت تفعلُ في الماضي القريب. ولقد «تألّمَ الأبُ بشدّة وعانى كثيرا من رحيل طفلته» حسب ما رواه لاحقا جورج برْدَويل كاتب السيرة الذاتية الخاصّ بإينيسّا التي «لمْ تنسَ والدَها أبداً، وظلّت حتى بعد عشر سنوات من الفراق تحتفظ بصورته فوق مكتبها».
لم تكن الجدّة والخالة على قدر فاحش من الثراء، ولكنهما كانتا غنيّتين بالشكل الذي يسمح لهما والحفيدة إينيسا بحياة كريمة، لا سيما وأنهما كانتا تعيشان من عملهما ومدخولهما الشخصي وكذا ممّا ورثته الجدة عن زوجها الراحل. كما كانتا تخالطان المجتمعات الراقية والأسر ذات الأصل الفرنسي التي كانت تمثل آنذاك في موسكو الطبقة البورجوازية النبيلة.
قضت إينيسا الجزء الأول من طفولتها سعيدة في كنف الجدة والخالة اللتين كانتا تدلّلانها وتحبانها حبّا جمّا دون التفريط أبدا في تربيتها بحزم وجدّية متناهيين، فخالتها صوفي التي كانت أستاذة متمرسة في الموسيقى علّمتها العزف على البيانو حتى أصبحت من العازفات الماهرات لدرجة أن أحدهم شبّهها بالموسيقي الشهير سفياتوسلاف ريختر. أمّا جدّتها التي كانت زوجة لأستاذ مرموق فقد عملت على توجيهها نحو قراءة الكتب الجيّدة. وبحكم أصولها العائلية، فإنّ الصغيرة نشأت وهي تتحدث اللغتين الفرنسية والإنجليزية بطلاقة كما تعلّمت بسرعة شديدة اللغة الروسية في موسكو وكذا الألمانية. وأمام كل هذه المجهودات التي بذلتها الجدّة والخالة يمكن القول بأن إينيسّا تلقّت تربية راقية تستحقها كطفلة بورجوازية يتمُّ إعدادها لأن تصبح هي أيضا أستاذة مقتدرة وكذا زوجة لأحد نبلاء روسيا.
هناك العديد من صور البورتريه التي التُقطَت لإينيسّا وهي بعدُ طفلة صغيرة، فمثلا تؤرّخ الصورة الأولى لمرحلة موسكو وتظهر فيها طفلة شقراء بنظرة ثاقبة وجادّة، وتلبس فستانا أنيقا وتحزم إلى الأعلى بعضا من خصلات شعر غُرّتها بفراشة منَ السّاتان، وتحمل بين ذراعيها كلبا صغيرا. أمّا في الصّورة الثانية فتبدو طفلة وديعة مع بعض من علامات التذمّر في عينيها وقد وضعت رأسها فوق كتف الخالة صوفي التي تُشبهها كثيرا في لون الشَّعْر وكذا في شكل الفم والأنف.
في الصّورة الثالثة تظهر إينيسّا واقفة بالقرب من جدّتها، وهي تسند ذقنها بكفّها. فستانُها قاتم، وفوق رأسها قبّعة صغيرة وتنظر كما العادة بحزم إلى الأمام.
كانت الخالة صوفي تحبّ أن تصطحب معها إينيسّا إلى بيوت الأسر النبيلة التي كانت تذهب للتدريس فيها، وكانت الطفلة تستجيب لها وتذهب معها بكل محبّة وأريحية. وعلى الرغم من طبعها الكتوم، إلا أنّها كانت مفعمة بالحياة وتعرف جيّدا كيف تتفاعل وتتعامل مع الآخرين. وإذا حدث أن استاءت من أحد ما فإنّها لا تحتجّ وإنّما تبتعد في صمت عن الجميع. لقد كانت تبدو عليها منذ الصغر طباعها القوية، وشخصيتها المتميزة وإن كانت من حين لآخر تتحوّل إلى طفلة عنيدة ومتقلّبة المزاج.
كانت عائلة أرماند النبيلة من بين الأسر العريقة التي كانت تزورها الخالة صوفي، وقد كان كل أفرادها من أصول فرنسية كالصغيرة إينيسّا، وكانوا يملكون مصانع كبيرة للنسيج يعمل بداخلها الآلاف من العمّال والموظفين المتوزعين بين المقرّ الاشتراكي المركزي في موسكو والمعامل المتواجدة ببوشكينو، وهي القرية التي مازالت تحتفظ لليوم ببعض من الآثار والذكريات الخاصة بعائلة أرماند.
تبعد قرية بوشكينو عن موسكو بثلاثين كلم، وبمتحفها الصغير توجد بناية من الخشب بها ثلاث غرف جُمعت فيها كل الأشياء التي تؤرخ لما كانت تعيشه هذه العائلة من مجد وثراء، حيث يمكن الاطلاع على العديد من الصور التي يظهر فيها أرباب المصانع مع العمّال، وكذا مع أفراد الأسرة الكبيرة والأبناء والأحفاد.
في بوشكينو يعيشُ كلّ مِنْ إيفجيني إيفجينليفيتش، الأخوان إيميل وأدولف، الأمّ، ثمّ الزوجاتُ والأبناء، مُشكّلينَ بهذا تجمّعاً عائليا كبيراً تفرّع فيما بعدُ إلى عشرات من الأفراد، تجمُّعاً بدأ يتمدّدُ ويتقلّصُ في الوقت ذاته: يتمدّدُ بولادات جديدة، ويتقلّصُ ليس فقط بسبب موت أحد أفراد هذه العائلة ولكن بسبب سفر العديد من أبنائها إلى المدن الأوروبية الكبرى بهدف الدراسة وتحصيل العلوم. لكن هذا لم يكن يمنع أبدا من عودة هذه الأسرة إلى التوسّع من جديد من خلال قدوم العديد من الأصدقاء والأساتذة من الخارج لمشاركة العائلة أفراحها وكذا أتراحها.
لعائلة أرماند بيت ضخم وجميل، تُزيّنُه واجهةٌ منَ الخشب العتيق المنحوت والمنقوش بزخارف بالغة في الدقة والفخامة. يتكوّن البيتُ من أربع بنايات كبيرة تلتحمُ مع بعضها البعض عبر سلسلة منَ الأنفاق والممرّات التي توجد بها شرفات رحبة تطلّ على حديقة شاسعة غاية في الجمال ودقّة التصميم. بيتُ عائلة أرماند بُنِيَ بهذه الطريقة حتى يسَع جميع أفراد الأسر المتفرعة عن العائلة الأمّ، ومن الممكن جدّا الزيادة في مساحته، وتصميم بنايات أخرى به كلّما تزوج شباب الأسرة وأتوا بأطفال آخرين يزيدون الأسرة بهجة وسعادة.
من بين الأنفاق التي كانت توصل البنايات الأربع فيما بينها ثمة نفق مركزي أصبح غرفةَ الأكل الكبيرة، وتتوسّطها طاولة بطول ستة أمتار. في هذه الغرفة كان يجتمع أفراد العائلة أثناء الغداء والعشاء، ودرسوا بأفي مناسبات أعياد الميلاد؛ يستقبلون الضيوف، يستمعون للموسيقى، ويلتقون الأصدقاء والمعلّمين. وكان يوجد في خدمة المنزل الكبير أكثر من أربعين خادما يسهرون كلهم على نظام البيت، وإدارة شؤونه. وخارج الأسوار، وبعيدا عن الحديقة الواسعة، والمزارع الخضراء الفسيحة، توجد مساحات شاسعة جدا من الغابات العذراء المُقدّسة وهي كلها لروسيا، الأمَّ العظيمة.
الأب الكبير وربّ العائلة إيفجيني إيفجينليفيتش رجل ذو أفكار ليبيرالية، وزوجته هي فارفارا كارلوفنا، ولهما أحد عشر ابنا، يعيشون كلّهم في بيت كبير مفعم بالحيوية والنشاط، فالأبناء لا يكفون عن الحركة والضجيج والمرح، وهم تارة يدرسون وتارة أخرى يتخاصمون ويتعاركون. إينيسّا تعرفهم جميعا، فأليكساندر هو الابن البكر الذكر ويكبُرها ببضع سنوات، أمّا آنّا وماريّا فهما أختاه اللتان وُلدتا قبله بسنوات قليلة. وبعدهم جميعا يأتي كلّ من: فيرا، نيكولاي، إيفجينيا، بوريس، صوفيا، والتوأمان سيرجي وفارفارا، ثم أخيرا حبيب قلب والدته الابن الأصغر فلاديمير الملقّب بفولوديا.
هذه قبيلة وليست مجرد عائلة، وتسكن عمارات مشتركة لا بيتا بسيطا، إنها حقّا أسرة غريبة. ربّما قد تكون كذلك لمن ينظر إليها ويقيسُها بمعايير العصر الحالي، لكنها ليست كذلك بتاتا، إذا ما تمّ النظر إليها بعين العصر الذي كانت تعيش فيه معظم العائلات الثرية البورجوازية إبّان عهد روسيا القيصرية. ولا هو بالأمر الغريب أيضا أن يكون وسط نسيج هذه الأسرة شباب بأفكار وطموحات سياسية تقدّمية. صحيح أن رجال عائلة أرماند يملكون شركات كبرى وآلاف الهكتارات من الأراضي، إلا أنّ معظمهم ليبراليون بل فيهم أيضا الثوريون، لا سيما الشباب منهم الذين درسوا بأوروبا الغربية وتأثروا بأفكارها الثورية ويعتبرون أنفسهم ماركسيين وإن كانوا ينادون كمُلاّك لوسائل الإنتاج بالسيطرة على هذه الأخيرة وعلى طرق توزيعها وتبادلها، وهذا لا يمنع من القول بأنّ رجال عائلة أرماند كانوا يديرون شركاتهم بشكل في غاية الانفتاح والتنوّر، فهم غالبا ما كانوا يرحّبون بمطالب العمّال والفلاحين، ويتعاملون مع الشرطة القيصرية بالكثير من الحذر على الرغم من أنهم كانوا واقعا لا يحرّكون ساكنا أمام الجمود الإقطاعي للنظام المتعصّب تجاه أيّة محاولة للتغيير.
كان ربّ الأسرة وزوجته يحضران بكل ليبرالية وتسامح كلّ الاجتماعات والمناقشات الساخنة، ويشعران بعمق بكل ما يحدث داخل البيت من ذبذبات فكرية، ويتفهّمان الأسباب والدوافع، إلا أنهما لم يكونا أبدا يتخيّلان أنّ أبناءهم وأحفادهم أو حتى الأساتذة الذين كانوا يزورونهم في البيت يُمكنهم بشكل أو بآخر أن يقحموا أنفسهم في أشياء مخالفة للقانون! ولأجل هذا فإنّهم لمْ يشُكّوا ولو ليوم في أمر إيفجيني كامّير مثلا، الذي كان أستاذ بوريس الابن، وليف ابن عمّه. كان كامّير من المشاغبين السياسيين، يشيع الاضطرابات في المصانع، ويحرّض العمّال على الثورة وينظم الإضرابات، ويعطي فوق هذا وذاك لتلميذيْه النجيبين كتبا منعتها الرقابة القيصرية.
أجل، لا أحد كان يعلم شيئا عن هذه الأمور إلى أن حدثت في نيسان 1897 حادثة ظلّت مخلّدة في تاريخ العائلة: فجأة حضرت الشرطة إلى البيت الكبير مُدّعية أن بين جدران هذا المنزل توجد مطبعة سرّيّة تتمُّ فيها طباعة المنشورات الثورية. واعتقادا من الأب المُسنّ إيفجيني إيفجينليفيتش أن الأمر كلّه عبارة عن دعابة مستحيلة سمح لرجال الشرطة بالبحث في البيت بكل أريحيّة ظنّا منه أنه هكذا سيتحققُ لهُ حلمُه القديم في أن يُظهر لهم بأن شكوكهم دائمة ليست في محلها وبأن طريقة وأسلوب عملهم غالبا ما تكون مدعاة للضحك والسّخرية!
تمّت عملية التفتيش أمام الجميع، وكان الأبوان والخدم ينظران للأمر بمزيد من التهكّم، وقد كان يبدو كل شيء على ما يرام إلى أن وجد رجال الشرطة تحت بلاط إحدى الغرف آلة للطباعة لاينوتايب وآلة رقن للكتابة، وحُزما من الورق وكل ما يلزم لطباعة المنشورات السرّية. عندئذ اعتقلت الشرطة كامّير وبوريس وليف وبقي الأب أمام المشهد مندهشا وعاجزا عن الكلام، ولكن ليس عن الفعل أبدا، فبمجرد أن خرجت الشرطة من البيت هبّ الوالد لإجراء اتصالاته الخاصّة سعيا منه إلى تخليص الشبّان الثلاثة من هذه المشكلة العويصة، (على الرغم من أن هذه الواقعة لم تتوقف هنا لأنه تلتها بعد ذلك أزمات أخرى في حياة عائلة أرماند).
وحينما اعترف الأستاذ كامّير بمسؤوليته عن كلّ ما حدث، أُطلق سراح بوريس وليف اللذان لمْ يكونا قد تجاوزا بعد سنواتهما الخمسة عشر. ثم تلا بعد ذلك سعي عائلة أرماند الحثيث من أجل تحرير كامّير فسخّرت له العديد من كبار المحامين في روسيا، وحينما أفرج عنهُ ساعدته على الهرب إلى ألمانيا، وأرسلتِ الشابّين إلى الخارج مع تشديد الرقابة عليهما.
أمّا بالنسبة لإينيسّا والتي كان عندها فضول وشغف للتعلم والاطلاع على كلّ ماهو جديد ومثير منذ طفولتها وبدايات سنوات مراهقتها، فقد كانت هذه الأجواء كفيلة بأن تصبح مدرستَها التي لقنتها أولى مبادئ الحياة الاجتماعية والسياسية. فعائلة أرماند تعتبُرها واحدة منهم، حتّى أنها كانت تتابع مع الأبناء كل دروس الأساتذة، فضلا عن أنها كان لديها أصدقاء مقرّبين من شباب الأسرة المفعمين بالحيوية والحماس، لكن كان بالبيت الكبير شيء آخر يجذب اهتمامها بشكل أكبر وأعمق؛ إنها مكتبة الأب إيفجيني إيفجينليفيتش الرائعة، ففيها كانت تقضي معظم وقتها لأنها سمحت لها بالاطلاع على أمهات كتب التاريخ والفلسفة والأدب الروسي، وبقراءة كُتب أسماء لامعة في عالم الفكر أمثال نيكراسوف، دوستويوفسكي، تولستوي وشيرنيتشيفسكي. إلا أنّ تولستوي يبقى كاتبها المفضّل، ليس فقط بسبب رواياته العميقة، ولكنها معجبة أيضا بتعاليمه الأخلاقية، وأفكاره حول قضايا الوجود، وكذا بمواقفه تجاه المزارعين ومحاولاته الجادّة من أجل تحسين أحوالهم والرفع من مستواهم المعيشي عبر دعوته إلى تحرير الأقنان الفلاحين، ومراقبة أشكال العمل الجماعي مع السعي إلى تحقيق نوع من التوازن والوئام بين الإنسان والطبيعة.
على ضوء هذه المعطيات يمكن القول بأن إينيسّا عاشقة تولستاوية من الطراز الرّفيع، أيْ أنّها ممّن يؤمن بأفكار التيّار الطوباوي الذي كان له تأثير كبير في روسيا أثناء بدايات القرن العشرين. وعلى الرغم من أنّ تولستوي لم يكن من المتحمسين كثيرا لهذا التيار، إلا أنّ ذلك لم يمنع من أن يظلّ هذا الكاتب من أكثر الكُتّاب الذين كانوا يثيرون قلق النظام القيصري.
وتمرّ بضع سنوات أخرى ويحدثُ أن تقرأ إينيسّا في رواية (الحرب والسلام) عبارةً قلبت محبّتَها وشغفَها بفكرِ تولستوي إلى صدمة واستياء كبيريْن، فالرجل على الرغم من إبداعه في الحديث عن قصص حبّ الأمير أندريه، ووصف مشاعر بيير، إلا أنّه كتبَ عن ناتاشا وهي إحدى شخصيات رواياته أنّ أنوتثها لم تكتمل إلا بعد أن تزوّجت. وهي العبارات التي أثرت بشكل مريع في إينيسا المراهقة آنذاك والتي لم تكن قد تجاوزت سنواتها الخمسة عشر، لدرجة أنها لم تنسها أبدا فكتبت فيما بعد رسالة إلى ابنتها إينّا تقول فيها: «ما الذي كان يعنيه تولستوي؟ ألِكيْ تكتمل أنوثة المرأة عليها أن تتزوّج؟ لقد جلدني بسياط كلماته هذه يا عزيزتي!»



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدّين / المقدمة (1)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (1)
- إنسانُ السّلام: مَنْ هُوَ وكيفَ يَتكوّن؟ تجربة صبري يوسف الإ ...
- جدليةُ الحاءِ في سرديات وفاء عبد الرزاق: رقصةُ الجديلة والنه ...
- النقطةُ الجريحةُ، والحرفُ المتشظّي الباكي في تشكيليات الدكتو ...
- وفاء عبد الرزّاق وديوانها ((من مذكرات طفل الحرب)) بين مطرقة ...
- آلِيسُ فِي بلادِ عجائبِ منال ديب: سَفَرٌ وقراءَةٌ فِي قُدْسِ ...
- وطني الفردوس
- يُوسُفِيّاتُ سَعْد الشّلَاه بَيْنَ الأدَبِ وَالأنثرُوبُولوجْ ...
- الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز ...
- يوتوبيا البُرْج البابليّ في رواية (كائنات محتملة) للأديب الر ...
- خِطابُ الجَسَدِ في ديوان (وَصَايَا البَحْرِ) للأديب عبد النّ ...
- الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود ( ...
- وادي الملوك
- رواية بوشكين (عربي قيصر) ترجمة د. نصير الحسيني
- من الإنسانِ الآليّ إلى الإنسان العاليّ في عرفانيّات #عبدالجب ...
- (26) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (25) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (24) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (23) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)