أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - أكلتُ الشّمسَ (قراءات في روايات صقليّة) 1















المزيد.....



أكلتُ الشّمسَ (قراءات في روايات صقليّة) 1


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7543 - 2023 / 3 / 7 - 16:47
المحور: الادب والفن
    


(I)

في حضرة آخر الفهود
*
الشّمسُ، ليسَتْ حدثًا عابرًا يتكرّرُ كلّ يومٍ بشكلٍ روتينيّ قد يبدو لكَ فيه الكثيرُ مِن المَلل، إنّها مُعْجِزةُ المُعْجِزاتِ، وعليكَ أن تكونَ حيًّا ابن يقْظَان، كيْ تراهَا تجلّيًا عجيبًا من تجلّياتِ الرّحمن، أمّا والحال أنّكَ مازلتَ ميْتًا بن نعسان، فسوف لن يُغيِّرَ هذا القُرْصُ الذّهبيّ بإيقاعاته ودوَراتهِ فِي حياتكَ شيئًا! أذكُرُ أنّني كنتُ أبْلُغُ مِنَ العُمْرِ تسعَ سنواتٍ حينما انتبهتُ إلى الجانب المُعجِزاتيّ في الشّمس، ورأيتُها كما لمْ يرَها غيْري، كانت تتدرّجُ بألوان مختلفة مُتماوِجَةٍ بين الأبيض والأخضر، والأحمر والأزرق، والبنفسجيّ والأصفر، وكان لها صوتٌ عجيبٌ، وحرفٌ ساحرٌ خلّابٌ به كانتْ تُخَاطِبُ قلبي، وأذكرُ أنّني حينما لمستُ بيَدِ الرّوحِ أعشاشَها المتكاثرةِ في عقلي الواعِي أُغميَ عليَّ، ومنذ ذلك الحين تعمّقتْ علاقتي بها أكثر فأكثر؛ وبتُّ أضحَكُ لضَحِكِها، وأُشْرقُ لإشْراقَتِهَا، وأغيبُ لمغيبِها، وكنتُ سعيدةً للغاية بذلك، فلقد غدَتِ الشّمسُ صاحبتي في طريق المحبّة العظيمة، وباتتْ تنسجُ بخيوطهَا الذّهبيّة يوماً بعد يومٍ في سجلّ الوجودِ حكاية صداقتنا الفريدة، وحينما قرّرتْ أنْ تُطلعني على وجهٍ جديدٍ من تجلّياتها في الكون أخذتني إلى صقلّية وأنا لمْ أكمل بعد سنواتي الثّلاثين، وهناك بتُّ أشمُّ عبيرها بل عطرَهَا النّفّاذ الّذي تعرّفتُ به على عوالم كونيّة جديدة، وبقيتُ هكذا لسنواتٍ أدرسُ كتاب الحُضور الصقلّيّ إلى أن أصبحتِ الشّمسُ تجلسُ إلى مائدتي كلّما هَمَمْتُ بتناول وجباتي اليوميّة طعاماً أو حرفاً، وبتْنا نتبادل أحاديث صَحْبِ المحبّة، وباتتْ تروي لي عن رجال الله من أهل العِلمِ والمعرفة والأدب، وكان السيّد إتنا الجليل، الجبلَ البركانيّ صاحب العمامة البيضاء شاهدًا على أحاديثنا هذه، فقد كان كثيرًا ما يزورُني في باليرمو لنجوبَ معاً طرقاتٍ تحملُ أسماء أدباء رأووا النّور في هذه الجزيرة الصّوفيّة؛ مازلتُ أذكر سيمونِه كورْلِيُو، حاكم مدينة ساليمي وأستاذ فلسفة الأخلاق في الجامعة البَلِرميّة وكاتبُ نصّ مشروع الدّستور الصقليّ لعام 1860، وإنْ أنسَ لا أنسى رجُلَ الفيزياء والتّاريخ الصقلّي دومينيكو شينا الّذي ألّفَ العديدَ مِنَ الكُتب أذكُرُ مِنْها (مدخل إلى الفيزياء التّجريبيّة)، و(طوبوغرافيا باليرمو ونواحيها)، ثمّ (مختصر تاريخ صقلية الأدبيّ في القرن الثامن عشر)، وماذا عن إيسودو لا لوميا؟ هو أيضاً كنتُ أقرأ اسمه على جنبات الشّوارع وكانت المدينةُ تخبرني عنه الكثير فهو من مؤرّخيها الكبار وقد كتبَ لها في عام 1864 مذكّرة عن الحقوق السياسيّة لجزيرة صقلّية، وأصبح بعد ذلك مدير أرشيف الدّولة فيها. الأسماء طبعًا كثيرة جدًّا ويحضرني منها كذلكَ اسم أنطونيو بورْجِيزِه، وسالفاتوره كوازيمودو الّذي ترجمتُ بعضاً من قصائده ضمن الجزء السّادس من موسوعتي الأنطولوجيّة الأدبيّة (ترجمتُ لكَ) الصّادرة عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل بين عاميْ 2018 و2019. وأسماء الشّوارعِ على كثرتها إلّا أنّها تتعلّقُ في هذه المدينة بأحداث تاريخيّة معيّنة شهدتْها صقليّة بل إيطاليا برمّتها في فترات مختلفة من الزّمن، وهُناك شارعٌ أينما ذهبتُ وجدتُ اسمه يتكرّر في العديد من المدن الصقليّة، وأعني به شارع الألف، أو (كورسو دِييْ ميلّه)، وحينما علمتُ أنّه مرتبط بقضيّة الوحدة الإيطاليّة، وبعثة الألف الغاريبالديّة، بدأتُ أسترجعُ في ذاكرتي كلّ الأماكن التي رأيتُ فيها نصب جوزيبّه غاريبالدي، وتذكّرتُ في باليرمو فيلّا تحملُ اسمه كنتُ كثيراً ما أقصدُها لأروّح فيها عن النّفس وأستمتع بمناظرها الخلّابة وأتنسّمَ فيها عبق التاريخ وأقرأ كتاب المعاني والحِكَم الوجوديّة فيها.
*
(في الصّورة: أسماء غريب في فيلّا غاريبالدي بمدينة باليرمو
أمام تمثال غاريبالدي عام 2019)
*
كنتُ كثيراً ما أتساءلُ كيف استطاع هذا الرّجلُ بنواة صغيرةٍ من الجنودِ أن يُقَاتل وينتصرَ على قوّات ملكيّةٍ فائقةٍ ساحقةٍ، وكيفَ بانتصاره هذا خلَقَ تاريخاً جديداً! لقد علمتُ أنّ سفنه توجّهتْ نحو الجنوب أيضاً، وأنّ أنظارَ وأفئدة كلّ الإيطاليّين آنذاك تعلّقتْ بها ورافقتها في قلقٍ شديد وترقّبٍ كبير. أذكرُ أنّ غاريبالدي وصَلَ إلى مارْسَالَة في 11 أيار 1860، وعلى الرّغم من أنّ سُفنَ العدوّ كانت تترصّدهُ إلّا أنّه استطاع أن يتملّص منها ويدخل إلى الميناء. وفي باليرمو، وبعد أن دام القتال لأربعة أيّام متتالياتٍ، أوقفَ غاريبالدي الهجومَ تمهيدًا للهدنة ووافقَ على مهلة يوم واحدٍ طالبَ جنودُ الطّرف الآخر تمديدها من أجل التمكّن من الاتّصال بنابولي، وحينما علم الملكُ بأنّ سبيله الوحيد للخلاص هو التفاهم مع انجلترا وفرنسا أصدرَ أمرًا بإخلاء المدينة، وفي 20 حزيران ركبَ آخر جنديّ من جنوده السّفينة وغادرَ الجزيرة إلى الأبد. وهكذا تحرّرتْ صقلّية وقد انتصرَ فيها ألفُ جنديّ غاريبالديٍّ على أربع وعشرين ألف من الجنود الملكيّين في شهرٍ واحد!
ولكن ماالّذي تغيّرَ في صقليّة بعد هذا الانتصار؟ سؤال كثيراً ما كنتُ أطرحه على نفسي وتجيبني عنه أسماء الفهود التي أجدُها منقوشة على طرقات العاصمة الصقلّيّة، وهاهو آخرها الأميرُ جوزيبّي تومازي دي لامبّيدوزا يجيبني في روايته (الفهد) قائلاً على لسان الشابّ الطّموح تانكريدي: ((إذا لمْ نثبتْ وجودَنا نحن أيضًا فإنّ أولئكَ سيُقيمون الجمهوريّة. إذا أردنا أن يبقى كلّ شيءٍ على حاله، فينبغي أن يتغيّر كلّ شيءٍ.))!
لا يُمكنُكَ أن تكون في صقلّية ولا تعرفُ من كان تومازي دي لامبّيدوزا؟ حينما قرأتُ روايتَه (الفهد)، شعرتُ بأنّه مَدّني بكلّ الأجوبة عن تلك الأسئلة التي كانت تدور في عقلي بشأنِ حالة الضّعف والوهن والموت التي تعيشها الجزيرة، فأجدني أمامه غريباً اقتربَ من غريبٍ فحاز مفاتيح الأفكار والأخبار. هُو فهدٌ مَلَكيّ وأنا كذلكَ، والعجيبُ في كلّ هذا أنّنا معاً أكلنا الشّمسَ ذاتَها؛ شمسَ العرفان والأسرار. والفهود التي تأكل الشّمس لا يمكنُها أبداً أن تعيش بيْنَ الضّباع، ضباعٍ بتُّ أراها في كلّ مكان، بالضّبط كما كان يراها الأمير تومازي فيعتصرُ قلبُه من الألم ليجد نفسه وقد نأى بروحه وجسده عن كلّ سفاسف الأمور ورعاع الخَلْقِ، ويصعدَ إلى مرصده الكوكبيّ، ليتأمّل النّجوم ويبحث عن فينوس التي كانت تنتظرُه بشغف ومحبّة وقد لفّتْ رأسها المضيء بعمامة من أبخرة الخريف، أمينة ووفيّة على الدّوام ترافقُه في جولاته الصّباحية في دونّا فوغاتا بينما هو يخاطبها ويسألها بصوته الدّافئ؛ متى ستحمله بعيدًا عن كلّ ما في هذه الجزيرة من دمار؟! نعم يا أميري تومازي، فالدّمار الّذي وصفتَه في روايتكَ، جئتُ أنا بعدَكَ ورأيتُهُ، رأيتُ حتى شجرة لُو سْبَازِيمُو وهي تلفظُ أنفاسها الأخيرة، ولم يستطع أن ينقذها أحد، هي أيضاً كانت مثلكَ ومثلي تحترقُ في صمتٍ، أعياها الخرابُ، وأثقلت كاهلها الحروبُ والمحن. كلّ شيء بعدكَ آل إلى السّواد والقتامة، وأنا ألتفتُ من حولي، فتطالعني علامات الإهمال والإعياء والمرض في كلّ ركن من أركان المدينة، ثمّ جاء زمن الوباء الكورونيّ فاكتمل المشهد الجنائزيّ، وأصبحتُ مثلكَ أرى صقلّية كتلك الحديقة التي وصفتَها في صفحات (الفهد)، والتي كان كثيرًا ما يستمتع كلبكَ بينديكو باللّعب فيها والبحث بين ترابها عمّا يشدّ حاسّة الشمّ لديه أكثر فأكثر. وليتكَ تدري يا أميري أنّني فقط بمرصدك الفلكيّ وبحديقتكَ السرّيّة هذه عرفتُ أنّكَ رجل خيميائيّ كبير، وصاحبَ أسرار عظيمة، وبهذا الاكتشاف ظهر لي أنّك حينما اخترتَ اسم فابريتسيو لبطل روايتكَ أمير سالينا فإنّكَ كنتَ تُعلنُ لأهل الباطن أنّكَ كنتَ حدّاداً، وإنْ قُلْتَ لأهل الظّاهر أنّ الأمر فيه إشارة لجدّكَ الأمير، وكيف لا تكون حدّادًا يا أميري العزيز وأنتَ من يعرفُ معنى النّار، نار الإتنا، ونار القمصان الحُمر، ونار الحديقة والبحر، بل نيران صقلّية كلّها، تلكَ التي جعلتَ جسدكَ وما اعتملتْ فيه من تجاربَ صورةً لها، فحينما كنتَ تصفُ موتَكَ، إنّما كنتَ تصفُ الجزيرة وقد جاءت للقياك فينوس وبدتْ لك أجمل ممّا رأيتَها في المرّات السّابقة في فضاء الكواكب، وكيف لا، وهي وحدها كانت القادرة على أن تُسْكِنَ هدير البحر فيكَ! كما ترى يا أميري فأنتَ حتّى حينما كنت تتحدّثُ عن الحديقة وما فيها من روائح ونباتات مختلطة وزهور متنوّعة، وحتّى حينما كنتَ تصفُ الجنديّ الّذي عثرتَ على جثّته متحلّلة تحت شجرة من أشجارها إنّما كنتَ تصفُ صقلّية كقِدْر خيميائيّة كبيرة تتخمّرُ فيها كلّ الأحداث والأقدار والمشاعر والأفكار فتُنْتِجُ ما يؤثِّر في سَيْرِ العالم بأسره. حتّى حفلة الرّقص المحتفيةِ بتانكريدي وأنجيليكا، لم تكن بريئة أبداً، وإنّما كانت حفلة إيزوتيريّة بكلّ ما في الكلمة من معنى، وكان الرّاقصون يقدّمون فيها رقصة الفهد الذّبيح، وأنتَ كنتَ هذا الفهد الّذي جعل من مظاهر الموتِ لوحات تنطق بالجمال الجنائزيّ، وفي هذا ذكّرتني ببودلير الفرنسيّ حينما كتبَ قصيدته (جيفة) وهو يقول فيها:
((كانت السّماء تشهد هذا الهيكل العظمي الرائع
مثل زهرة تتفتّح.
وكان النتن قويّاً، حتّى لتظنّ
أنّ الإغماء سينتابك على العشب.
الذّباب يطنّ على هذه البطن المتحلّلة،
التي تخرج منها أفواج سوداء
من يرقات، تنساب مثل سائل كثيف
على امتداد هذه الأسمال الحيّة.
كلّ ذلك يهبط، يصعد مثل موجة،
أو ينطلق محتدماً،
يبدو أنّ الجثة، المنتفخة بريح غامضة،
كانت تعيش حياة مضاعفة.
وكان هذا العالم يصدر موسيقى غريبة،
مثل الماء الجاري والريح،
أو الحبوب التي يهزّها المغربل بحركة إيقاعيّة
ويديرها في غرباله.
امّحت الأشكال ولم يبق سوى حلم،
رسم أوّليّ بطيء في المجيء،
إلى اللوحة المنسيّة، ولا ينجزها الفنان
إلّا من الذكرى وحدها.
ووراء الصخور، كلبة قلقة
تنظر إلينا بعين غاضبة،
في انتظار اللحظة التي تنهش فيها من الهيكل العظمي
القطعة التي تركتها.
ومع ذلك فستكونين شبيهة بهذا الوسخ،
بهذا العفن المفزع،
يا نجمة عيوني، يا شمس طبيعتي،
أنت، يا ملاكي ونزوتي !
حقّاً ! هكذا ستكونين، يا ملكة المحاسن،
بعد القرابين الأخيرة،
عندما تمضين، تحت العشب والازدهار العميم،
في التحلّل وسْط العظام.
هكذا، يا فاتنتي ! فلتقولي للدود
الذي سينهشك بالقبلات،
إنّني حفظت الشّكل والجوهر الربّانيّ
لحبيباتي المتحلّلات !))
وحده ابنكَ تانكريدي، عفواً دعني أصرّح باسمه الحقيقيّ وأقول ابنكَ جواكّينو لانسا، سيعرفُ عمّاذا أتحدّث، سيتذكّر جثة الجنديّ، والحفلة الراقصة وما كانت تعتمل فيها من روائح وأحاديث وخطابات، وما كان معروضًا فيها من أكل ونبيذ. وحده جواكّينو سيعرفُ كيف أنّ سيّد النّار كان واثقاً من أنّ روايته سترى النّور مباشرة بعد وفاته وإن كان قد رفضها إيليو فيتّوريني، وناشرون آخرون، فهو حدّاد، والحدّادون يعرفون جيّداً ماذا يفعلون، لقد انتزع حتّى بعد وفاته أرفع الجوائز التكريميّة آنذاك، (ستريغا)، وأصبحت (الفهد) فيلما رائعاً، حضرت فيه أشهر الوجوه السينيمائيّة؛ بيرت لانكستر وآلان ديلون، وكلاوديا كارديناله.
*
(في الصورة: بيرت لانكستر وكلاوديا كارديناله
في دور أنجيليكا سيدارا وفابريتسيو سالينا
من فيلم (الفهد) 1963)
*
الفيلم كان رائعًا يا أميري العزيز، لكنّ الرّواية كانت ولم تزل أكثر روعة، قرأتُها لأكثر من مرّة باللّغة الإيطاليّة في النّسخة التي راجعَها وقدّم لها جواكّينو لانسا عام 2019، وصدرت عن دار فيلترينيلّي، وقرأتُها أيضا باللّغة العربيّة وقد ترجمها الأردنيّ عيسى النّاعوريّ ترجمةً بليغةً فصيحة عميقةً حبّبتي أكثر وأكثر في الرّواية، وجعلتني أغوص في أبعادها الخيميائيّة والإيزوتيريّة بشكل أكثر طلاقة وحرّيّة. طبعاً في النسخة الإيطاليّة وجدتُ الكثيرَ من المعلومات التي باح بها جواكّينو، سواء عن المرض الّذي اختطفك من بيننا بسرعة البرق، أو عن الوصيّة التي عثر عليها في مكتبتكَ الشّخصيّة، أو عن مراسلاتكَ مع البارون إينريكو ميرلو دي تايّافيّا، ولا يمكنني أن أنسى حديثه أيضًا عن ابن خالتكَ البارون لوشو بيكولو دي كالا نوفيلّا، لقد شغفت جدّاً بعلاقتكما العرفانيّة وبحبّكما العميق للمعرفة والأدب والشّعر وكتب الفلسفة والفلك والطبّ والرّياضيات، كما استمتعتُ كثيرًا بذلك اللّقاء الّذي كان له مع الشّاعر الكبير إيوجينيو مونتالي حينما قدّمه للجمهور في مؤتمر أدبيّ كانت تجري وقائعه في لومبارديا، وبالطّريقة التي وصفه بها جورجو باسّاني كرجُلٍ شارد وخجول للغاية كأنّه شابٌ صغير، فاجأ الحاضرين آنذاك في المؤتمر وأدهشَهم بأشعاره، وبملامحه التي تدلّ على سيّد عظيم لا يميل إلى الاستعراض مطلقاً، بل حتّى أناقة هندامه تعود لزمن آخر. نعم يا أميري الطيّب تومازي، لقد كنتَ حقًّا وابن خالتك من زمن آخر، هل تكفيني مقبرة الكلاب التي توجدُ في بيت لوشو لأؤكّد لك ذلك، إنّه شاعرٌ يؤمن بعودة الأرواح، وقد ذكرَ ذلك لأكثر من مرّة في أكثر من حديث، وهل يكفيني حديثكَ أنت عن النّجوم وكوكب الزّهرة في روايتك لأقول لكَ إنّك رجل من زمن أعرفه جيّداً! ألا يبدو لكَ أنّ الزّهور والتحليل الرياضيّ قد اجتمعا فيك إلى حدّ أنّهما صوّرا لكَ أنّ النّجوم تخضعُ لحساباتكَ، وأنّ الكوكبيْن السّيّارين اللّذيْن توصّلتَ إلى اكتشافهما وسمّيتهُما بسالينا وسفيلتو كانا يذيعان شهرة بيتكَ في الأجواء القاحلة ما بين كوكبي المرّيخ والمشترى، وأنّ حتّى رسوم الجدران الزيتيّة الموجودة في قصركَ كانت أقرب إلى النبوءة منها إلى الوهم؟! الفهود يا عزيزي، كلّ الفهود الملكيّة النبيلة تعرف ذلك، وأنا مثلكَ أعرفُ أنّ الشّمسَ التي أكلتُها ستدلّني على الكثير من الأسرار التي بها سأغوص في بحار صقليّة وجبالها وسهولها، لأقرأ المزيد والمزيد عن أدبائها وروائيّيها الأقدمين والمحدثين!
*
(في الصّور: الشابّ جواكّينو لانسا، لوشو بيكّولو (وبين يديه كلبه)، والأمير جوزيبّه تومازي دي لامبيدوزا مؤلّف رواية (الفهد) / جزء من مكتبة قصر الأمير جوزيبّه تومازي دي لامبيدوزا / ومخطوطة رواية الفهد)

*
(II)
أيّها العربيّ، صقليّة تناديكَ
*
واقفة في مقام الشّمسِ أسمع الفهدَ الأبيض الّذي في قلبي يقول وقد نسجتْ فروَهُ النّقطةُ بأناملها الذّهبيّة: صقليّة مفتاحُ إيطاليا، أرضُ الشّمسِ والعشق، أرضُ الدّمع والعذاب، أرضُ المتضادّات والمتناقضات، لا جزيرةَ بكَتْ مثلها، ولا شعبَ عانى وقاسى الأمرّين مثل شعبها، كَمْ من الدُّخَلاء اقتحموا فراديسَها بقوّة السّيف، كم أسَروا واستعبدوا من أبنائها، كم من الدّموع فاضت هنا، وكَمْ من الآهات والصّرخات بلغت عنان السّماء؟! وحدَهم الصقليّون يعرفون حقيقة ما أتساءلُ عنهُ؛ الفينيقيون كانوا هُنا، الإغريق والقرطاجيّون، العربُ والنّورمانديّون، الاسبان والفرنسيّون، وغزاة آخرون سجّلهُم التّاريخ بدماء الشّهداء والمقاومين الأوفياء. شعوب مرّت، واختلطتْ بأبناء هذه الأرض وتركتْ بصماتها في كلّ مكانٍ منها، حتّى أنّه لم يعد هناك شيء اسمه شعب صقليّ بما في الكلمة من معنى، فكلّ ما على هذه الجزيرة خليط من النّاس والشّعوب والألسن والثقافات التي جاءتْ بها أمواج البحر الأبيض المتوسّط. لأجل هذا أجدني أتساءل عن الهويّة الصقليّة وماهيتها. من هو الصقليُّ حقيقة؟ أهوَ ابن الجنوب المقمّط بالشّمس والبحر والبرتقال المرّ؟ أم هو الفتى صاحبِ التاريخ الصّعب العصيّ على التّحديد، تاريخ موشوم بنوع خاص من التميّز بقدرة الصقليّ على تحمّل ما لا يُطاق بين أحضان أرضٍ عرفتْ قسوة الإقطاع وحروب الثّأر والانتقام بين الأسرِ والعشائر الكبيرة، وأحقاد الغيرة التملكيّة التي عادة ما تطبع "الثقافات القرويّة" على حسب تعبير المؤرّخ دجارّيزو جوزيبّه. أم يا ترى هو ذاك الإنسانُ الّذي لم يبق له من تجاربه المرّة مع الشّعوب الغازية سوى ذاك الإحساس الدّفين بالحذَر من كلّ ماهو آخر مختلف تأتي به السّفن؟ من يدري لربّما هذا يبرّرُ حزن الصقليّين العميق، وإحساسهم التراجيديّ بالحياة لدرجة أنّه يُخيّلُ لكَ أن كلّ شخصٍ فيهم قد تحوّلَ إلى جزيرة معزولة، ألم يكن الأمير تومازي دي لامبيدوزا نفسه جزيرة في جزيرة؟! إنها حقيقة يشهد بها الأدب، إذ غالباً ما تجد أنّ الكاتب الصقليّ لديه نوعٌ من المشاكل المستعصية تجاه مسقط رأسه ويقرّرُ حلّها عبر كتاباته، فتكون النّتيجة إصدارات من قبيل (عائلة مالافوليا)، و(دون جوفانّي في صقلّية) و(أطراف حديث في صقليّة)، لكن سؤالي الآن وأنا أكتبُ للقارئ العربيّ عن هذه الإشكاليّة المرتبطة بالهويّة المطروحة في الأدب الصقليّ، ما الّذي يعرفه العرب عن كلّ هذا، بل ما الّذي قرأه العرب من الأدب الصقليّ، ليس بلغة وسيطة وإنّما بلغة عربيّة مباشرة؟ لا شيء، والسّؤال المُحرجُ الآخر الّذي يأتي سريعاً: لماذا؟ أين المشكلة وما سبب هذا الغياب والتّهميش؟ هل هو تقوقعُ الأديب الصقليّ على نفسه، أم تقصير المترجمين العرب في السّعي نحو شعبٍ جمع بينهم التاريخ وفتوحاته منذ أمد بعيد، أم تغافل دور النّشر العربيّة عن هذه القضيّة برمّتها؟! أو ربّما كلّ هذا مجتمعاً، وهو الأمر الّذي يذكّرني بتلك العبارة التي كثيرًا ما سمعتُها تتردّد هنا في صقليّة، وأعني بها؛ "لا تصافح أيّ شخصٍ غريبٍ لا تعرفهُ، لا تقف معه ولا تقترب منه"، وكنتُ أتفهّمُ سببها، إنّه الحذر الّذي يسِمُ الصقليّ، وكيف لا وذاكرته الوجوديّة مازالت مشحونة بالقصص الأليمة والمريرة التي أتته من البحر، لكنها في الوقت نفسه عبارة كنتُ أسمعها أيضًا في طفولتي بالمغرب الحبيب كموعظة من الآباء نحو الصّغار، واليوم وبعد مرور كلّ هذه السّنوات أجدُ العبارة على بعض ما فيها من الحماية للقاصرين، إلّا أنّها لا تخلو من مشاعر سلبيّة تجاه الآخر، بل من انفعالاتٍ تنطوي على الكثير من الخوف الّذي قد يصل في بعض الأحيان إلى التعصّب والتّمييز العنصريّ والكراهيّة. إنها بشكل أو بآخر نصيحة تكبر مع الصّغار وتجعل منهم عند البلوغ راشدين يرفضون مدّ اليد إلى الغيْر، إنها موعظة ضدّ التّرجمة، وضدّ أن يحفر كلّ إنسان في الصحراء بئراً يترقرق منها الماء النمير ليسقي عطاشى المحبّة والسّلام.
من هذا الباب والفهد الصقليّ أمامي، أجدني واقفةً أمام عتبة هذا الكتاب الجديد وأحمل في كينونتي لقبَ "غريب"، وأقيم في أرض ليست بالأرض التي وُلِدتُ فيها، وعلى الرّغم من ذلك أجدُني أمدُّ يدي وأصافحُ "الغُرباء"، ولكن ليس أيّ غرباء وإنّما الأدباء منهم: إنّهم أبناء صقلّيّة الّذين جعلتُ منهم إخوة لي في الإنسانيّة، ومن أجلهم حوّلتُ قلمي إلى محراثٍ، وورقتي هنا إلى أرض غربةٍ غربيّة، وحروفي إلى بذور ألقي بها بين الخطوط، وأنتظر أن تتفتّق سنابلها عن قمح ذهبيّ، وأزهارها عن عسلٍ مصفّى، وأشجارها عن ثمار من لؤلؤ ومرجان، ليُصبحَ كتابي هذا فردوساً بحريّاً تزقزق فيها طيور البهاء والسكينة والأمان. وإذ تسألني عزيزي القارئ ما الأدب الصقليّ؟ أقول لكَ بالتّرجمة الأدبيّة تعرفُه، بالإقامةِ في رحِم اللّغة والمرابَطة في بحار الأدب والفلسفة وعلوم النّفس والاجتماع، بل بالمزاوجةِ بين كافّة العلوم والنّتاجات الفكريّة الإنسانيّة. وما المُتَرْجِمُ الأدبيُّ يا صاحبي إذا لمْ يكن على دراية وقناعةٍ تامّتيْنِ بأنّ عملهُ لا يقتصر فقط على النّقل الحرفيّ لدلالة الألفاظ وإحالة القارئ إلى ما يقصدُه صاحبُ النصّ الأصليّ، بل هو يتجاوزُ ذلك إلى المغزى والتأثير العميق الّذي يرجو المُؤَلّفُ وقوعَه في نفس القارئ، ولذلك فهو ملزم ليس فقط بالتسلّح بالمعرفة اللّغويّة المبدئيّة بل أيضاً بالمعرفة الأدبيّة والنّقديّة والعلميّة الشّاملة حتّى للفنون البصريّة والسّمعيّة ليفيد منها في تلمّس مغزى الاتّساق الصّوتي في المخارج والإيقاعات الموجودة في النصّ المُعالجِ، وكذا تبيان الحسّ الموسيقيّ ومغزى التّكرار وأنواعه وألوانه ودلالات المجاز والكناية والأمثال الشّعبيّة والحِكم التراثيّة والقيم الدّينيّة والعادات الاجتماعيّة التي تؤثّرُ في مدى تذوّق السّامع أو القارئ الّذي سيُترجمُ لهُ النصّ الأدبيّ، وعليه فإنّ فعلَ التّرجمة هنا يقوم على تحويل شفرة لغويّة هي بالأساس مجموعة من العلامات المنطوقة أو المكتوبة إلى شفرة أخرى. ووجود المبادئ اللّغويّة العالمية والطّاقة اللّغويّة الفطريّة المشتركة بين البشر جميعاً لا ينفي أنّ هذه الشّفرات المستخدمة فعليّاً في الكلام والكتابة تختلفُ من لغة إلى أخرى وتقتضي التّحويل ابتغاء توصيل المعنى الأكثر قُرباً من معنى الانطلاقِ. وكما يكونُ المعنى إحاليّاً فإنّه أيضاً يكون أدبيّاً ويتضمّنُ عناصر بلاغيّة وبنائيّة وموسيقيّة. ممّا يعني أنّ تحويل الشّفرة اللّغويّة هو هدف البحث في علوم الترجمة، وهو أمر يتطلّبُ مقارنات مستمرّة على جميع المستويات بين اللّغات لا سيما في عِلمَيِ التداوليّة والتراكيب وعلوم اللّغويات الثّقافيّة والنّفسيّة والاجتماعيّة التي تُعتَبَر تخصّصات مشتركة مع العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة. ولكن هل الدراية الواسعة والشّاملة بمختلف تداخلات الشّفرة اللغويّة وتلاحم الوصول إلى معانيها مع مختلف مجالات المعرفة الإنسانيّة كافٍ ليضمنَ قبول الطّرف الآخر لها من حيث أنّها نتاجٌ كاملٌ قادم من لغة أخرى وبالتّالي من ثقافة بل حضارة أخرى؟ وبمعنى آخر أكثر تحديداً للمجال الجغرافيّ الّذي يعنيني هنا في هذا البحث، كيف يتلقّى القارئ العربيّ الآداب الأجنبيّة القادمة إليه من إيطاليا؟
هذا سؤالٌ اشتدّ الجدال حوله في القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين واشتعل وتوهّج بشدّة في مصر منذ توجّه محمد علي إلى علوم الترجمة والمترجمين، وبدل أن يستعين في بداياته بفرنسا أو انجلترا رغم ما كان لهما من زعامة على دول الغرب آنذاك اتّجه أول ما اتّجه إلى إيطاليا والإيطاليّين وذلك لأسباب عدّة كما يقول جمال الدّين الشيّال في كتابه (تاريخ التّرجمة والحركة الثقافيّة في عصر محمّد علي)، فقد ظلّت العلاقات التجاريّة بين مصر وجمهوريات إيطاليا متينة طوال العصور الوسطى، وكان للإيطاليين جاليات كثيرة في ثغور مصر والشّام وموانيهما، كما كانت اللّغة الإيطالية هي اللّغة الأجنبية الأكثر شيوعاً وتداولاً آنذاك، بل لقد كانت لغة المخاطبات الرّسميّة حتّى بين القنصليات غير الإيطاليّة. وعندما فكّر محمّد علي في إرسال البعثات إلى أوروبا كانت أولى بعثاته إلى مدن إيطالية مختلفة وذلك لدراسة فن سبك الحروف والطّباعة وبعض الفنون العسكريّة وبناء السّفن ونظم الحكم.
بعد فترة محمد علي، بدأ الحديث عن مدى أهمّية الترجمة من اللّغات الأجنبية إلى العربيّة وأفضالها على اللّغة العربيّة نفسها، بحيث ألبستها رداء جديداً وجعلتها أكثر ثراء مادامت قد حوّلت لها مصطلحات جديدة في شتّى العلوم وجعلتها بالتالي أكثر مواكبة للعصر الحديث وزادت من قيمتها التعبيريّة، ولا أحد يمكنه في هذا الصّدد إنكار ماظهر في بداية القرن التاسع عشر من ثغرات في اللّغة العربيّة التي كانت قد بقيت على حالها ولم تتغيّر في فترة الانحطاط والجمود، وهذا ما كان قد ذهب إليه مارون غصن حينما قال: ((ما من كاتب عصري عانى صناعة الإنشاء باللّغة العربية أو الترجمة بها ولم يشعر بعجز هذه اللغة في التعبير عن آلاف المخترعات الحديثة والأمور الخياليّة والتصوّرات التي استحدثها الزّمان))، وهو الأمر الّذي يفسّر كيف أنّ العرب شمّروا عن ساعد الجدّ فأعطوا الانطلاقة للعديد من مشاريع التّرجمة من اللغة العربية إلى لغات أجنبية أخرى لما أدركوه من فوائد جمّة تأتي بها التّرجمة في كافّة مجالات الحياة العلميّة والثقافيّة والأدبيّة، لكن تبقى اللّغة الإيطاليّة الأقلّ حظّاً في مجال الترجمة العربيّة على الرّغم من العلاقات التاريخية والتجارية والسياسية التي ربطت العرب بهذه الدّولة، لكنّ ما يعنيني من الترجمة هنا الأدبيّة منها على وجه الخصوص لا سيما وأنّ الأمر لا يخلو من ظهور بعض المترجمين والأدباء العرب الّذين أولوا اهتماماً خاصّاً إلى اللغة الإيطاليّة وآدابها، ويحضرني منهم عيسى النّاعوري، وحسن عثمان، وطه فوزي، وفؤاد كعبازي وخليفة التليسي ومصطفى آل عيال وكاظم جهاد. وإذا كان المترجمون في هذا الباب قلّة، فهل لأنّ الأمر فيه نوعاً من الرّفض للتّرجمة والسّعي نحو الآخر؟ إذا كانت المسألةُ كذلك فإنّ هذا ولا شكّ يعيدُني إلى زمن مصطفى صادق الرّافعيّ الّذي كان يؤيّد التّرجمة العلميّة فقط، بل كان لا يعترفُ بأنّ الترجمة من اللّغات الغربيّة ستعطي قدرة تعبيريّة جديدة للغة العربيّة، فقد كان يرى أنّ لغته الأمّ هي لغة مقدّسة والحفاظ عليها من اللغات الدّخيلة هو ما سيسمح بنهضة حقيقيّة للعالم العربيّ بأسره. ليس وحده الرّافعيّ من كان يرى بأنّه من الأفضل أن تبقى كلّ حضارة محافظة على خصوصياتها الرّوحيّة والدينية قبل كلّ شيء، وإنّما هناك آخرون مثل أمين الريحاني ومنصور فهمي الذي كان يرى أن الاختلاف بين الحضارة الغربية والشرقيّة هو أمر مكتسب وليس فطريّ لكنه على الأقلّ لم يكن يعتبر الغرب عدوّاً للشّرق، وإنّما كان يعتبرهما حضارتين متكاملتين، وقد أجاد ميخائيل نعيمة التعبير حينما قال إنّهُما توأما الإنسانيّة ووحدهُم المترجمون لهم القدرة على أن يجعلوا من هذا التّوأم مجتمعاً بديلاً جديداً يتكامل ويتآلف في ظلّ حضارة عالميّة الغربُ عقلُها والشّرقُ قلبُها مع الحرص على إلغاء تفاضل اللّغات فيما بينها، إذا لا توجد لغة أفضل من أخرى أو أكثر قُدسيّة منها، ممّا يعني أنه لا بدّ من نسيان جرح بابل الذي لم يكرّس سوى لتنميط اللّغة والفكر وإلغاء ونسف مهمّة التّرجمة والمترجمين من الأساس. وبالحديث عن هذه المهمّة السّامية أجدني أتساءل، هل كانت التّرجمة دائماً عملاً نبيلاً، أم أنّها كانت وماتزال نشاطاً تحكمه الميولات التوسّعيّة والإيديولوجيّة لحضارة ما تدّعي لنفسها العلم والكمال اللذين يجيزان لها التحكّم في العالم وبسط هيمنتها الإيديولوجيّة عليه؟! من هنا يأتي الحديث عن القناع الّذي عادة ما تلبسه سياسة المثاقفة بين الشّعوب والحضارات، فتكون بالتالي غزواً فكريّاً يحتلّ عقل الآخر من الدّاخل ويستغلّ حالات الضعف الذّاتي لتخريب المناعة الذّاتية للكيان المغزو ثقافياً، وفي هذا الصدد تظهر الترجمات ذات الطّابع السياسي، والدّيني والاقتصادي، وتصبح الترجمة في حد ذاتها سلاحاً فتّاكاً ضدّ الآخر المختلف أو البعيد أو الغريب. ضف إلى هذا أنه في كثير من الأحيان لا تكون الترجمةُ خالقة للقرابة وإنّما للغربة حينما تقرّر استضافة الغريب بشكل تتواشجُ فيه الثقافات لتعانق ثقافة أقلّ قوّة منها، أو لتتصادم بها فتتأجّج الخلافات وتنشب الحروب، وحتّى حينما يحدث التلاقح فهناك دائما سلطة معيّنة تراقب نتائج التقارب والتلاقي، فتحاول أن تؤسس به نظاما يؤكّد ثقافتها على حساب ثقافة الآخر، فتحدث عندئذ المواجهة الثّقافية وقد تصل إلى أقصى الحدود لتصبح في بعض الأحيان مواجهة عسكريّة لا سيما حينما يكون هناك من الطرف الآخر رفض للهيمنة والاحتكار. وهذا ما يعني في كثير من الأحيان أنّ ما قد يسمّى بالمثاقفة إنّما هو في واقع الأمر محاولة لفهم الثقافة الأخرى قبل تحقيق التّفاهم معها، ولذلك فإنّ الترجمة تصبح موقفاً من العالم الحديث، وكون العربيّ مازال بعيداً تَرجميّاً عن الثقافة والحضارة الصقليّتيْن اليوم فلربّما هذا يعني أنّه حدّد موقفه مُسبقاً من صقلّية وأعلى جداراً جديداً منيعاً يبعده أو يحجبه عنها مادام يعتبرها أرض عبور فقط لا استقرار وإقامة، لكن هناك استثناءات ومحاولات في مجال الترجمة تبقى فرديّة في كلّ الأحوال وغير كافية لتحقيق التكامل المطلوب والتفاهم المرجو بين الآخر الصقليّ وأخيه في الإنسانيّة؛ الآخر العربيّ. وحينما أقول هذا، فذلك لما لاحظتُه مؤخّراً من تطوّر ملحوظ في نتاجات التّرجمة من اللّغة الإيطاليّة إلى العربيّة مع تحسّن واضح في جودة الترجمة بعد أن كان العمل مقتصراً فقط على اللّغات الوسيطة كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وقد حظي الكاتب لويدجي بيرانديلّو بحصّة الأسد...(يتبع)
*



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءات عرفانيّة في فكر عبد الجبّار الرّفاعي
- في الشرّ وقضاياه
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصول الأخيرة
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصلان الثاني وا ...
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)
- تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصل الأول (2)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)
- تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدّين / المقدمة (1)
- ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (1)
- إنسانُ السّلام: مَنْ هُوَ وكيفَ يَتكوّن؟ تجربة صبري يوسف الإ ...
- جدليةُ الحاءِ في سرديات وفاء عبد الرزاق: رقصةُ الجديلة والنه ...
- النقطةُ الجريحةُ، والحرفُ المتشظّي الباكي في تشكيليات الدكتو ...
- وفاء عبد الرزّاق وديوانها ((من مذكرات طفل الحرب)) بين مطرقة ...
- آلِيسُ فِي بلادِ عجائبِ منال ديب: سَفَرٌ وقراءَةٌ فِي قُدْسِ ...
- وطني الفردوس
- يُوسُفِيّاتُ سَعْد الشّلَاه بَيْنَ الأدَبِ وَالأنثرُوبُولوجْ ...
- الفَجْرُ فِي الحِلّةِ أجملُ وأبهَى: قراءةٌ في جبّار الكوّاز ...
- يوتوبيا البُرْج البابليّ في رواية (كائنات محتملة) للأديب الر ...
- خِطابُ الجَسَدِ في ديوان (وَصَايَا البَحْرِ) للأديب عبد النّ ...
- الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود ( ...


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - أكلتُ الشّمسَ (قراءات في روايات صقليّة) 1